الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة
فيها عم البلاء بمصر جميع الرؤساء والقضاة والكتاب والسوقة من الراهب، بحيث لم يبق أحد إلا وناله مه مكروه، إما من ضرب أو نهب أو أخذ مال. وكان يجلس في قاعة الخطابة من جامع عمرو بن العاص، ويستدعي الناس للمصادرة. فطلب في بعض الأيام رجلا يعرف بابن الفرس من العدول المميزين المبجلين في الناس فأهانه وأخرق به، فخرج إلى الجامع في يوم جمعة وقام على رجليه وقال: يأهل مصر، انظروا عدل مولانا الآمر في تمكينه النصراني من المسلمين. فارتج الناس لكلامه وكادت تكون فتنة؛ فاتصل ذلك بخواص الخليفة، فأبلغوه إياه وخوفوه عاقبة ذلك، وطالعوه بما حل بالخلق.
وكان الراهب قد أخذ من شخص خادم يقال له جديحو سبعين ألف دينار بخرج من مائة ألف دينار، فصار يشكو، وكان كثير البضائع والتجارات والمقارضين، فتظلم واشتهر أمره إلى أن بلغ خبره إلى أستاذ من أستاذى القصر له من العمر نحو مائة وعشرين سنة، يقال له لامع وكان قد انقطع في منزله بالقصر بعد ما حج غير مرة، وأنشأ جلبة بعيذاب يقال لها اللامعية تحمل الحاج فاتفق جواز الآمر على مكانه فسأل عنه، فقيل له: إنه لا يستطيع النهوض إلى خدمتك. فدخل إليه وسأله عن حاله، فقال: شغلي بسمعة مولانا أشد علي من نفسي. فقال له الآمر: لأي شيء؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن الناس قد تم عليهم من الشدة ما لا أحسن أصفه وربما نسب ذلك إليك. وشرح له أمر الراهب ابن أبي نجاح وصاحبي الديوان جعفر بن عبد المنعم المعروف بابن أبي قيراط وأبي يعقوب إبراهيم السامري الكاتب، وما أخذوه من هذا الخادم. فحلف الآمر إنه ما علم أنهم بلغوا بالناس إلى هذا المبلغ، وأنه يستدعي صاحبي الديوان في كل وقت ويحلفهما على المصحف وعلى التوراة، وأن الراهب لم يجعل إلا مستوفياً لما يستخرج من الأموال وليس له
معهما حديث ألبتة. فقال له الخادم: يا أمير المؤمنين، إنهم قد اتفقوا على أذى الناس، وقد جعلك الله خليفةً في الأرض واسترعاك على عباده، وكل راع مسئول عن رعيته. فشق على الخليفة، وعمل فيه كلام الأستاذ، وخرج؛ فمات بات حتى صرف صاحبي الديوان واعتقلهما، ليستعيد منهما ما أخذاه للناس ظلماً؛ واستدعى الراهب، وكان بحضرته رجل من الأشراف، فلما حضر الراهب أنشد:
إنّ الذي شرّفت من أجله
…
يزعم هذا أنّه كاذب
فقال الآمر للراهب: يا راهب، ماذا تقول؟ فسكت. فأمر حينئذ والي مصر بأخذه إلى الشرطة وضربه بالنعال حتى يموت. فمضى به إلى شرطة مصر، وما زال يضرب بالنعال حتى مات، فجر بكعبه إلى عند كرسي الجسر مسحوباً، وسمر على لوح، وطرح في بحر النيل؛ فكان كلما وصل إلى ساحل من سواحل مصر وهو منحدر دفعوه إلى البحر؛ فلم يزل حتى خرج إلى البحر الملح، واشتهر ذكره، وسارت الركبان بهلاكه.
وكان هذا الراهب أولا من أشمون طناح، وترهب على يد أبي إسحاق بن أبي اليمن، وزير ابن عبد المسيح متولى ديوان أسفل الأرض، ثم قدم إلى القاهرة واتصل بخدمة ولي الدولة أبي البركات يحنا بن أبي الليث، كاتب المجلس. فلما قتل الوزير المأمون
اتصل بالخليفة الآمر، وبذل له في مصادرة الكتاب النصارى مائة ألف دينار، فأطلق يده فيهم؛ واسترسل أذاه حتى شملت مضرته كل أحد.
وكان يعمل له في تنيس ودمياط ملابس مخصوصة به من الصوف الأبيض المنسوج بالذهب، فيلبسها ومن فوقها غفارة ديباج، ويتطيب بعدة مثاقيل مسك في كل يوم فكانت رائحته تشتم من مسافة بعيدة. وكان يركب الحمر الفارهة بالسروج المحلاة بالذهب والفضة، ويجلس بقاعة الخطابة من جامع مصر.
ولما قتل وجد له في مقطع ثلثمائة طراحة سامان محشوة جدداً لم تستعمل، قد رصت إلى قرب السقف، وهذا من نوع واحد، فكيف ما عداه! ولما قتل وعرف الآمر ما كان يعمل في الناس من أنواع الأذى خشي من الله واستحيا من الناس؛ وكره مساءلة الفقهاء من الإسماعيلية عن ذلك وعن كفارة هذا الذنب لأنه إمام، وشرط الإمام أن يكون معصوماً. فسير إلى الفقيه سلطان بن رشا شيخ الفقيه مجلى، وكان خليفة الحكم، مع من يثق به يستفتيه في أمر الراهب وما يكفر عنه، فقال: يرد ما صار إليه من الأموال إلى أربابها. فرد عليه: إني والله ما أعرفهم ولا أقدر على ذلك؛ ولكن أعتق الرقاب وأتصدق. فقال الفقيه: الخليفة قادر على أن يعتق ويتصدق ولا يتأثر لذلك، ولكن يصوم فإنه عبادة شاقة على مثله. فقال: أصوم الدهر. فقال: لا؛ ولكن الصوم الذي وصفه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صوم يوم وفطر يوم. فقال: لا أقدر على ذلك. فقال: يصوم رجب وشعبان ورمضان. ففعل ذلك، وتحرم في صومه وبره هذه الأشهر من كل ما ينكر في الديانة.