الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة اثنتين وستين وخمسمائة
فيها جهز الملك العادل نور الدين الأمير أسد الدين شيركوه من دمشق لقصد ديار مصر في جيش قوي، ومعه جماعة من الأمراء، وكان كارهاً لمسير شيركوه لكثرة ما رأى من حرصه على السفر. فرحل يوم الجمعة العشرين من شهر ربيع الأول، وشيعه السلطان إلى أطراف البلاد خوفاً من مضرة الفرنج، فسار على ميمنة بلاد الفرنج. وبعث مري ملك الفرنج إلى شاور يخبره بمسير شيركوه بالعسكر إلى مصر، فأجابه يلتمس منه نجدته، وأن المقرر من المال يحمل إليه على ما كان يحمل في السنة الماضية.
فسار مري بعساكره، وقد طمع في البلاد، على الساحل حتى نزل بلبيس، فخرج إليه شاور، وأقاموا في انتظار شيركوه. فبلغه ذلك، فنكب عن الطريق وهبط في يوم السبت خامس ربيع الآخر من وادي الغزلان إلى أسكر، وخرج إلى إطفيح قبلي مصر فشن الغارة هناك.
واتصل الخبر بشاور، فرحل هو والفرنج يريدونه. ونزل شاور والفرنج بركة الحبش
في يوم الأحد سادس جمادى الآخرة، وتوجه في يوم الثلاثاء منه إلى دير الجميزة، فاندفع سائراً في بلاد الصعيد حتى بلغ شرونه، وعدى منها إلى البر الغربي. وأدرك شاور ساقته فأوقع بهم، وعدى بعساكره وجموع الفرنج. ونزل شيركوه بالجيزة في يوم الاثنين رابع عشر جمادى الآخرة تجاه مدينة مصر وأقام بها بضعاً وخمسين يوماً. وبعث الشريف أبا عبد الله الملقب بالرضي، ابن الشريف المحنك إلى الطلحيين والقرشيين يستفزهم ويدعوهم إليه، وكان قد بلغه أن شاوراً أساء إليهم، فأتوه مسرعين.
وبعث إلى شاور بأني أحلف لك أني لا أقيم ببلاد مصر ولا يؤذيك أحد من أصحابي، وأكون أنا وأنت على الفرنج وننتهز فيهم فرصةً قد أمكنت وما أظن أن يتفق للإسلام مثلها كثيراً. فأبى شاور من قبول ذلك. والتجأ شيركوه إلى دلجة، ونزل شاور في اللوق والمقس ظاهر القاهرة، وأنشأ الجسر بين الجيزة والجزيرة، وشحن المراكب والرجال لتسير من خلف عسكر شيركوه.
وكتب شيركوه إلى الإسكندرية يستنجد بها على الفرنج وشاور، فقاموا معه وأمروا عليهم رجلاً يعرف بنجم الدين بن مصال، من ولد الوزير؛ فكتبوا إليه أنهم يمدونه بالسلاح والحديد، وجهزوا إليه خزانة من السلاح مع ابن أخت الفقيه ابن عوف. فأتاه الخبر بقرب شاور فلم يثبت، وترك خيامه وأثقاله، وسار سيراً حثيثاً ونزل قدر ما أطعم دوابه، ورحل من الليل فسار غير بعيد، ثم نادى في عسكره بالرجوع، فعاد إلى دلجة.
وسار شاور والفرنج في طلب شيركوه، فنزلوا الأشمونين وتبعوا شيركوه، فأمر شيركوه أصحابه بالتعبئة. فما طلع ضوء الصباح حتى أشرفت عساكر شاور وجموع الفرنج في عدد كبير، فقدم شاور طائفة فحملت على أصحاب شيركوه، وانهزم منها عز الدين
الجاولي من أصحابه فلم ينزل إلا بالإسكندرية، وتفرق منهم عدد؛ فولي شيركوه وقد قتل من أصحابه جماعة وقتل من أهل الإسكندرية كثير.
وكان سبب الخلل في عسكر شيركوه أنه فرق أصحابه فرقتين، فرقة معه وفرقة مع ابن أخيه صلاح الدين يوسف.
ثم إنهم تجمعوا وقت الظهر ووطنوا أنفسهم على الموت، وحملوا على شاور ومن معه فقتلوا منهم مقتلةً عظيمة، وأبلى يومئذ صلاح الدين يوسف بلاءً حسنا وحمل حملات فرق بها الجموع وبدد شملها. وحمل شاور على عسكر شيركوه فكسر القلب، فتلاحقت الميمنة بمن كان في القلب؛ واستمر القتال حتى حال بين الفريقين الليل، فانهزم كثير من الفرنج وقتل منهم كثير، وكاد ملكهم أن يؤخذ، ووقع في قبضة شيركوه وأصحابه نحو السبعين أسراً.
وبات الفريقات وقد تبين الوهن في الفرنج، فسار شاور بمن معه إلى منية بني خصيب.
وكانت هذه الواقعة في موضع يعرف بالبابين، بالقرب من الأشمونين، في يوم السبت الخامس والعشرين من جمادى الآخرة.
ثم إن شيركوه سار بأصحابه على طريق الفيوم إلى الإسكندرية وانتهب البحيرة، وأخذ عسكره غلالها ومواشيها؛ فخدمه ابن الزبير، متولي ديوان الإسكندرية، وحمل إليه الأموال وقواه بالسلاح؛ وأقام متخوفاً من مسير شاور إليه، فترك بالإسكندرية صلاح الدين يوسف وخرج إلى الصعيد وجبى أموال البلاد. فخرج شاور ونزل على الإسكندرية وحاصرها أشد حصار مدة ثلاثة أشهر، ومنع عنها الميرة، فقلت بها الأقوات. هذا وشيركوه في جباية أموال الصعيد وأخذ غلاله.
ودخل عليه شهر رمضان، فلما أتمه وأهل شوال بلغه ما نزل بالإسكندرية وأهلها من البلاء وقلة الأقوات، وأنها قد قاربت أن تؤخذ، فسار من قوص ونزل على مصر يوم الخميس ثامن شوال. فبلغ شاور أن شيركوه حاصر مصر، فرحل من الإسكندرية، وأرسل شيركوه إلى صلاح الدين يأمره بتقرير الصلح؛ ورحل عن مصر إلى الشام. فبعث إلى ملك الفرنج يلتمس منه ذلك، فأجابه إليه، وقرر مع شاور أنه يحمل إلى شيركوه جميع ما غرم في هذه السفرة، ويعطي الفرنج ثلاثين ألف دينار، ويعود كل منهم إلى بلاده. ووقع الحلف بالأيمان المؤكدة على ذلك.
فلما تقرر الصلح أرسل صلاح الدين إلى ملك الفرنج يقول إن لي أصحاباً منهم القوي ومنهم الضعيف، فأما القوي فإنه يتبعنا في البر، وأما الضعيف فإنه يسير في البحر فنريد لهم مراكب. فأنفذ إليه عدة مراكب خرج فيها أصحابه.
وخرج صلاح الدين من الإسكندرية واجتمع بعمه أسد الدين شيركوه. ودخل شاور البلد، وجاءه مشايخ البلد للسلام عليه، ومري ملك الفرنج جالس معه، فلم ينظر شاور إلى الجماعة ولا أكرمهم، ولا أذن لهم في الجلوس، لأنهم كانوا قاتلوه قتالاً شديداً، فنقم عليهم ذلك. فقال له مري: أكرم قسسك. فأذن لهم في الجلوس وعاتبهم على ما فعلوا من القتال وإظهار المخالفة. فسكتوا. وكان فيهم الفقيه شمس الإسلام أبو القاسم مخلوف بن علي
المالكي، المعروف بابن جاره، شيخ الصاحب صفي الدين عبد الله بن علي بن شكر، فقال له: نحن نقاتل كل من جاء تحت الصليب كائناً من كان. فقال له مري: وحق ديني لقد صدقك هذا الشيخ. فسكت شاور وأكرمهم بعد ذلك اليوم.
وفر نجم الدين بن مصال والي الثغر إلى الشام، وقبض شاور على الأشرف بن الحباب قاضي الثغر وعاقبه، وأخذ منه مالاً جزيلاً؛ ولم يقنع بالرشيد ابن الزين الناظر فولي القاضي الأشرف أبا القاسم عبد الرحمن بن منصور بن نجا النظر عوضه؛ فبعث شاور وقبض على جميع من كان مع صلاح الدين من أهل مصر، وعلي ابن مصال. فشق ذلك على صلاح الدين، واجتمع بملك الفرنج في ذلك، فأرسل إلى شاور وما زال به حتى أفرج عنهم. فخافوا من شاور وعزموا على الرحيل إلى الشام، فخرج إليهم شاور بنفسه وجمع وجوههم وطمأنهم، وحلف لهم أنه يضاعف لهم الإحسان ولا يتعرض لهم بسوء. فمنهم من اطمأن وأقام، ومنهم من رحل إلى الشام.
ووصل الذين ساروا من ضعاف أصحاب صلاح الدين في المراكب إلى عكا، وأحاط بهم الفرنج واعتقلوهم بمعصرة القصب حتى عاد ملك الفرنج فأطلقهم.
وتسلم شاور الإسكندرية في نصف شوال. وسار شيركوه ومن معه وقد استمال شاور منهم جماعةً ومعه مري ملك الفرنج حتى نزل الجيزة وعدى إلى القاهرة من المقس. فأقام مري أياماً ورحل عائداً إلى بلاده، فخرج شاور يودعه إلى بلبيس وعاد إلى القاهرة أول ذي القعدة، فخرج إليه العاضد يتلقاه إلى الطابية، وخلع عليه.
واستقر الأمر بينه وبين الفرنج أن يكون لهم بالقاهرة شحنة؛ وأن تكون أسوارها بيد فرسانهم ليمتنع نور الدين من إرسال عسكر إليها؛ وأن يكون لهم من دخل ديار مصر في كل سنة مائة ألف دينار. قرر لهم شاور ذلك من غير علم العاضد ولا مشاورته، فإنه كان ممنوعاً من التصرف وشاور يستبد بأمور الدولة. فرحل الفرنج إلى بلادهم وتركوا بالقاهرة عدةً من مشاهير فرسانهم، ورتبوا بها ابن بارزاني والياً.
ووصل شيركوه إلى دمشق في ثامن عشر ذي القعدة وفي نفسه من مصر ما لا ينفصل، لأنه خبر متحصلها، وعرف بلادها واستخف بأهلها.
واستقر شحنة الفرنج أولاً بالقاهرة في الموضع المعروف اليوم بقصر بيسرى من الخرنشف. وبعث الكامل شجاع بن شاور إلى نور الدين مع بعض الأمراء ينهي محبته وولاءه، ويسأل الدخول في طاعته، وضمن له عن نفسه أنه يفعل هذا ويجمع الكلمة على طاعته، وبذل له مالاً يحمله إليه كل سنة، فأجابه، وحمل إلى نور الدين مالاً جزيلاً.
وأخذ شاور بعد عوده من الإسكندرية في الإكثار من سفك الدماء بغير حق، فكان يأمر بضرب الرقاب بين يديه في قاعة البستان من دار الوزارة ثم تسحب القتلى إلى خارج الدار. واشتد ظلم إخوته وأولاده وغلمانه ومن يلوذ به، وكثر تضرر الناس بهم. فكان
من تأمل أحوال الوزراء يجد الصالح بن رزيك ربى رجال الدولة، وجاء الضرغام فأفناهم، ثم جاء شاور فأتلف أموال مصر وأطمع الغز في البلاد وجرأ الفرنج علنا حتى كان ما كان مما يأتي ذكره إن شاء الله.
وفيها أحضر القاضي رشيد الدين أبو الحسين أحمد بن القاضي رشيد الدين أبي الحسن علي بن إبراهيم بن محمد بن الحسين بن الزبير الأسواني، وقد فر إلى قريب برقة، فدخل على حالة سيئة، فأمر به شاور فضربت عنقه، وصلب عند مسجد الزيني على الخليج، بالقرب من قبو الكرماني، في يوم الأربعاء العشرين من ذي العقدة.