الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة ست وعشرين وخمسمائة
في يوم الثلاثاء سادس عشر المحرم ركب أبو علي أحمد بن الأفضل إلى رأس الطابية ليعرق فرساً في الميدان بالبستان الكبير خارج باب الفتوح من القاهرة، وللعب بالكرة على عادته؛ فجاء وهو هناك عشرة من صبيان الخاص الذين تحالفوا على قتله متى ظفروا به جميعاً أو فرادى، فصاح أبو علي، عادة من يسابق بخيل: راحت، فقال العشرة: عليك، وحملوا عليه وطعنوه حتى قتل. فأدركه أستاذ من أستاذيه وألقى نفسه عليه فقتلوه معه.
واجتمع الأربعون عناناً واحداً وجاءوا إلى القصر وفيهم يانس، وكان مستوحشاً من أبي علي، فخرجوا الحافظ من الخزانة التي كان معتقلاً بها، وفكوا عنه القيد وأجلسوه في الشباك على منصة الخلافة، وقالوا: ما حركنا على هذا إلا الأمير يانس. فاجتمع الناس، وأخذ له العهد على أنه ولي عهد كفيل لمن لم يذكر اسمه.
ونهب في هذا اليوم كثير من الأسواق والدور والحوانيت؛ وصار ذلك عادة مستقرة وشيئاً معهوداً في كل فتنة.
وحمل رأس أبي علي إلى القصر. وكان قد أسقط منذ أقامه الجند ذكر إسماعيل بن جعفر الصادق الذي تنسب إليه الطائفة الإسماعيلية. وأزال من الأذان قولهم فيه: حي على خير العمل، محمد وعلي خير البشر؛ وأسقط ذكر الحافظ من الخطبة؛ واخترع لنفسه دعاءً يدعى به على المنابر وهو: السيد الأجل الأفضل، سيد ممالك أرباب
الدول، المحامي عن حوزة الدين، وناشر جناح العدل على المسلمين، الأقربين والأبعدين، ناصر إمام الحق في حالي غيبته وحضوره، والقائم في نصرته بماضي سيفه وصائب رأيه وتدبيره، أمين الله على عباده، وهادي القضاة إلى اتباع شرع الحق واعتماده، ومرشد دعاته المؤمنين إلى واضح بيانه وإرشاده، مولى النعم، رافع الجور عن الأمم، مالك فضيلتي السيف والقلم؛ أبو علي أحمد بن السيد الأجل الأفضل أبي القاسم شاهنشاه أمير الجيوش.
وكانت مدة تحكه سنة وشهراً وعشرة أيام؛ ثم حمل بعد قتله ودفن بتربة أمير الجيوش، ظاهر باب النصر.
وخلع على السعيد أبي الفتح يانس الأرمني، صاحب الباب، خلع الوزارة؛ وكان من غلمان الأفضل بن أمير الجيوش العقلاء، وله هيبة، وعنده تماسك في الأمور وحفظ للقوانين. فهدأت الدهماء وصلحت الأحوال؛ واستقرت الخلافة للحافظ؛ وحمل جميع ما كان قد نقل إلى دار الوزارة من الأموال والآلات وأعيد إلى القصر.
ولم يحدث يانس شيئا؛ إلا أنه تخوف من صبيان الخاص، وحدثته نفسه أنهم قد جسروا على الملوك، وأنه ربما غضبوا منه ففعلوا به ما فعلوه بغيره؛ وأحسوا منه بذلك فتفرقوا عنه.
فلما تأكدت الوحشة بينهم وبينه ركب في خاصته وغلمانه وأركب العسكر، والتقوا قبالة باب التبانين بين القصرين، فقتل ما يزيد عن ثلثمائة فارس من أعيانهم، فيهم قتلة أبي علي أحمد بن الأفضل. وكانوا نحو خمسمائة فارس، فكسر شوكتهم وأضعفهم فلم يبق منهم من يؤبه له ولا يعتد به، فقوي أمر يانس وعظم شأنه.
وكانت له في النفوس مكانة، فثقل على الحافظ وتخيل منه، فأحس بذلك، وصار
كل منهما يدبر على الآخر. فبدأ الوزير يانس بحاشية الخليفة، فقبض على قاضي القضاة وداعي الدعاة أبي الفخر صالح بن عبد الله بن رجاء وأبي الفتوح بن قادوس فقتلهما. وبلغه شيء يكرهه عن أستاذ من خاص الخليفة، فقبض عليه من غير مشاورة الحافظ، واعتقله بخزانة البنود، وضرب عنقه من ليلته. فاستبدت الوحشة بينه وبين الحافظ، وخشى من زيادة معناه، فقال الحافظ لطبيبه: اكفني أمره بمأكل أو مشرب. فأبى الطبيب ذلك خوفا من سوء العاقبة. ويقال إن الحافظ توصل إلى أن سم يانس في ماء المستراح، فانفتح دبره واتسع حتى ما بقي بقدر على الجلوس. فقال الطبيب: يا أمير المؤمنين، قد أمكنت الفرصة وبلغت مقصودك، فلو أن مولانا عاده في هذه المرضة اكتسبت حسن الأحدوثة؛ وهذا المرض ليس دواؤه إلا السكون ولا شيء أضر عليه من الحركة والانزعاج، وهو كما يسمع بقصد مولانا تحرك واهتم بلقائه وانزعج، وفي ذلك تلاف نفسه. فقبل ذلك وجاء لعيادته. فلما رآه يانس قام للقائه وخرج عن فراشه؛ فأطال الحافظ جلوسه عنده ومحادثته، فلم يقم حتى سقطت أمعاؤه، ومات من ليلته، في سادس عشري ذي الحجة.
وكانت وزارته تسعة أشهر وأياما. وترك ولدين كفلهما الحافظ.
وكان يانس هذا قد أهداه باديس جد عباس الوزير الآتي ذكره إن شاء الله تعالى إلى الأفضل بن أمير الجيوش فترقى في الخدم إلى أن تأمر وتقدم وولى الباب، وهي أعظم رتب الأمراء، وكنى بأبي الفتح ولقب بالسعيد؛ ثم نعت في وزارته بناصر الجيوش سيف الإسلام. وكان عظيم الهمة بعيد الغور، كثير الشر، شديد الهيبة.
وفيها استقرت حال الحافظ لدين الله وبويع له بيعة ثانية لما عمل الحمل. قال الشريف محمد بن أسعد الجواني: رأيت صغيراً في القرافة الكبرى، ويسمى قفيفة، سألت عنه، قيل هذا ولد الآمر: لما ولى الحافظ ولي عهده من يولد، استولى على الأمر، وولد هذا الولد فكتم حاله، وأخرج في قفة على وجهها سلق وكرات، وستر أمره إلى أن ركب بعد ذلك ووشى به فأخذ وقتل.
ولما تمكن الحافظ قرئ سجل بإمامته، وركب من باب العيد إلى باب الذهب بزي الخلفاء، في ثالث ربيع الأول؛ ورفع عن الناس بواقي مكس الغلة.
وأمر بأن يدعى له على المنابر بهذا الدعاء، وهو: اللهم صل على الذي شيدت به الدين بعد أن رام الأعداء دثوره، وأعززت الإسلام بأن جعلت طلوعه على الأمة وظهوره، وجعلته آية لمن تدبر الحقائق بباطن البصيرة، مولانا وسيدنا، وإمام عصرنا وزماننا، عبد المجيد أبي الميمون، وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأكرمين، صلاة دائمة إلى يوم الدين.
وفيها صرف أبو عبد الله محمد بن هبة الله بن ميسر عن قضاء القضاة، في أول ربيع الأول، وقرر مكانه سراج الدين أبو الثريا نجم بن جعفر، وأضيفت إليه الدعوة، فقيل له قاضي القضاة وداعي الدعاة، وذلك وقت العشاء الآخرة من ليلة الخميس لثلاث عشرة بقيت من جمادى الآخرة.
ولما مات يانس تولى الحافظ الأمر بنفسه ولم يستوزر أحداً وأحسن السيرة.
ويقال إن يانس لما قتل القاضي أبا الفخر سلم الحكم إلى سراج الدين أبي الثريا نجم بن جعفر.
وفيها جهز الحافظ الأمير المنتضى أبا الفوارس وثاب بن مسافر الغنوي رسولاً في الرابع من ذي القعدة بجواب شمس الملوك، صاحب دمشق، وأصحبه الخلع السنية وأسفاط
الثياب والخيل المسومة ومالاً متوفراً. فوصل إلى دمشق وتلقى أحسن تلق، وقبلت الألطاف منه، وقرئ كتابه. وأقام إلى أن أعيد من القابلة.
وفيها خرج أبو عبد الله الحسين بن نزار بن المستنصر، وكان قد توجه إلى المغرب مستخفيا وجمع هناك جموعاً كثيرة وعاد. فبعث الحافظ إلى مقدمي عسكره يستميلهم. فلما وصل دير الزجاج والحمام اغتالوه وقتلوه فانفض جمعه.