الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة أربع وعشرين وخمسمائة
في ربيع الأول ولد للآمر ولد سماه أبا القاسم الطيب، فجعل ولي عهده؛ وأمر فزينت القاهرة ومصر، وعملت الملاهي في الإيوانات وأبواب القصور، وكسيت العساكر، وزينت القصور. وأخرج الآمر من خزائنه وذخائره قماشاً ومصاغاً ما بين آلات وأواني من ذهب وفضة وجوهر، فزين بها؛ وعلق الإيوان جميعه بالستور والسلاح. واستمر الحال على هذا أربعة عشر يوماً.
وأحضر الكبش الذي يعق به عن المولود، وعليه جل من ديباج، وفي عنقه قلائد الفضة، فذبح بحضرة الخليفة الآمر. وجيء بالمولود فشرف قاضي القضاة ابن ميسر بحمله؛ ونثرت الدنانير على رءوس الناس. ومدت الأسمطة العظيمة بعد ما كتب إلى الفيوم والقيلوبية والشرقية فأحضرت منها الفواكه، وملئ القصر منها ومن غيرها من ملاذ النفوس، وبخر بالعنبر والعود والند حتى امتلأ الجو من دخانه.
فيها تواترت الأخبار بتخويف الآمر من اغتيال النزارية وتحذيره منهم؛ وإعلامه بأنه قد خرج منهم قوم من المشرق يريدون قتله؛ فتحرز احترازاً كبيرا بحيث إنه كان لا يصل أحد من قطر من الأقطار إلا ويفتش ويستقصى عنه. وأقام عدةً من ثقاته يتلقون القوافل ليتعرفوا أحوال الواصلين ويكشفوا عنهم كشفاً جليا. وكلما اشتد الأمر كثر الخوف. واتصل به أن جماعةً من النزارية حصلوا بالقاهرة ومصر، فاحترز وتحيل في قبضهم فلم يقدر لما أراده الله؛ وفشا في الناس أمرهم، وكانوا عشرة فخافوا أن يظفر بهم، فاجتمعوا في بيت وقالوا إنه قد فشا أمرنا ولا نأمن أن يظفر بنا؛ واشتوروا. فقال أحدهم: الرأي أن تقتلوا رجلاً منكم وتلقوا برأسه بين القصرين لتنظروا إن عرفها الآمر
وكان عمره يوم قتل أربعاً وثلاثين سنة وتسعة أشهر واثنين وعشرين يوما، ومدة خلافته تسع وعشرون سنة وثمانية أشهر وخمسة عشر يوما؛ وما زال محكوما عليه حتى قتل الأفضل، فتزايد أمره عما كان عليه أيام الأفضل. فلما قبض على وزيره المأمون استبد بالأمور، وتصرف في سائر أحوال المملكة، وأكثر من الركوب، ورتب لركوبه ثلاثة أيام من كل أسبوع وهي يوم الجمعة ويوم السبت ويوم الثلاثاء، فإذا لم يتهيأ له الركوب في أحد هذه الأيام ركب في يوم غيره. فكان يمضي أبداً في يومي الثلاثاء والسبت إلى النزهة في بستان البعل والتاج والخمس وجوه وقبة الهواء، من ظاهر القاهرة، أو إلى دار الملك بمصر، أو بالهودج الذي أنشأه بجزيرة مصر التي يقال لها اليوم الروضة.
وكان يتجول في أيام النيل في القصر بخدمه ويسكن في اللؤلؤة المطلة على خليج القاهرة. وكان الناس يوم ركوبه يخرجون من القاهرة ومصر بمعايشهم ويجلسون للنظر إليه، فيكون كيوم العيد. وصار الناس مدة أيامه التي استبد فيها في لهو وعيش رغد لكثرة عطائه وعطاء حواشيه وأستاذيه، لا سيما غلامه بزغش ورفيقه هزار الملوك جوامرد، حتى إنه لا يكاد يوجد في مصر والقاهرة من يشكو زمانه لبسطهم الرزق بين الناس وتوسعهم في العطاء. ثم تنكد عيش الناس بقيام الراهب وكثرة مصادراته، وشره حينئذ الآمر في أخذ أموال الناس، فقبحت سيرته، وكثر ظلمه واغتصابه لأملاك كثيرة من أملاك الناس، مع ما فيه من التجرؤ على سفك الدماء وارتكاب المحذورات واستحسان القبائح.
وفي أيامه ملك الفرنج كثيرا من المعاقل والحصون بسواحل البلاد الشامية؛ فملكت عكا في شعبان سنة سبع وتسعين، وعرقة في رجب سنة اثنتين وخمسمائة؛ واستولوا على مدينة طرابلس الشام بالسيف في يوم الاثنين لإحدى عشرة خلت من ذي الحجة سنة اثنتين
فتتيقنوا أن حلاكم قد ذكرت له، فتعملوا الحيلة في فراركم من مصر؛ وإن لم يعرفها فتطمئنوا حينئذ وتعرفوا أن القوم في غفلة. فقالوا: ما يتسع لنا قتل واحد منا ينقص عددنا وما بذاك أمرنا. فقال: أليس هذا من مصلحتنا ومصلحة من تلزمنا طاعته؛ وما دللتكم إلا على نفسي. وأسرع بسكين فذبح بها نفسه فمات، وأخذوا رأسه ورموها في الليل بين القصرين، وأصبحوا ينظرون ما سبق، فلما رئيت الرأس واجتمع الناس عليها لم يقل أحد إنه عرفها، فحملت إلى الوالي، فأحضر عرفاء الأسواق على أرباب المعايش وأوقفهم عليها فلم يعرفها أحد. فأحضر أصحاب الأرباع بالحارات فلم يعرفوها. ففرح النزارية واطمأنوا بالإقاقة في مصر لقضاء مرادهم.
وكان الآمر كثير الفرج محبا للهو؛ فركب في يوم الثلاثاء الرابع من ذي القعدة يريد أن يجيء إلى الهودج الذي بناه بجزيرة مصر لمحبوبته البدرية؛ ومن العادة في الركوب أن يشاع في أرباب الخدم بالموكب جهة قصد الخليفة حتى لا يتفرقوا عنه، فعلم النزارية أين يقصد فجاءوا إلى الجزيرة المذكورة ودخلوا فرناً قبالة الطالع من الجسر إلى البر، ودفعوا إلى الفران دراهم ليعمل لهم فطيراً بسمن وعسل، فبينما هم في أكله وإذا بالخليفة الآمر قد عبر من كرسي الجسر بمصر وجاز عليه وقد تفرق عنه الركابية ومن يصونه بسبب ضيق الجسر. فلما طلع من ذا الجسر يريد العبور إلى الجزيرة وثبوا عليه وثبة رجل واحد وضربوه بالسكاكين، وواحد منهم صار خلفه على كفل الدابة وضربه عدة ضربات. فأدركهم الناس وقتلوهم، وكانوا تسعة، وحمل الآمر في عشاري إلى اللؤلؤة، وكانت أيام النيل، فمات من يومه؛ وحمل من اللؤلؤة وهو ميت إلى القصر.
وخمسمائة؛ وملكوا بانياس وجبيل بالأمان لثمان بقين من ذي الحجة منها. وملكوا قلعة تبنين في سنة إحدى عشرة وخمسمائة؛ وتسلموا مدينة صور في سنة ثمان عشرة وخمسمائة.
وكثرت المرافعات في أيامه. واستخدم عدة من الكتاب الظلمة الأشرار؛ وضمن أشياء لم تجر العادة بتضمينها، وأخذ رسوماً لم تكن فيما تقدم.
وعمل دكة عليها خركاة في بركة الحبش؛ وعمر في بركة الحبش مكاناً سماه تنيس وموضعاً آخر سماه دمياط. وجدد قصر القرافة، وعمل تحته مصطبة للصوفية، فكان يجلس في أعلاه ويرقص أهل الطريقة قدامه، والشمع موقود والمجامر تعبق بالبخور، والأسمطة تمد بكل صنف لذيذ من الأطعمة والحلوى. وفرق في ليلة عند تواجد ابن الجوهري الواعظ وتمزيق رقعته على من حضر وعلى الفقراء ألف نصفية، ونثر عليهم من الطاق ألف دينار تخاطفوها.
وبنى الهودج لمحبوبته العالية البدرية في جزيرة الروضة. ولهذه البدرية وابن مياح، من بني عمها، مع الآمر أحاديث صارت كأحاديث البطال وشبهها قد ذكرتها عند جزيرة الروضة من هذا الكتاب.
وكان المنفق في مطابخه وأسمطته شيء كثير، فكان عدة ما يذبح له في كل شهر خمسة آلاف رأس من الضأن خاصة، سوى ما يذبح مما سوى ذلك، وثمن الرأس منها ثلاثة دنانير.
وكان أسمر شديد السمرة؛ يحفظ القرآن، وخطه ضعيفاً. وكانت نفسه تحدثه
بالسفر إلى الشرق والغارة على بغداد، وأعد لذلك سروجاً مجوفة القرابيص وبطنها بصفائح من قصدير ليحمل فيها الماء، وعمل لها فماً فيه صفارة فإذا دعت الحاجة إلى الماء شرب منه الفارس، فكان كل سرج منها سبعة أرطال من ماء، وعمل عدة من حجال الخيل من الديباج؛ وقال في ذلك:
دع الّلوم عني، لست مني بموثق
…
فلا بدّ لي من صدمة المتحقّق
وأسقى جيادي من فراتٍ ودجلةٍ
…
وأجمع شمل الدين بعد التفرّق
ومن شعره أيضا:
أما والذي حجّت إلى ركن بيته
…
جراهيم ركبانٌ مقلدةٌ شهبا
لأقتحمنّ الحرب حتّى يقال لي
…
ملكت زمام الحرب، فاعتزل الحربا
وينزل روح الله عيسى بن مريم
…
فيرضى بنا صحباً ونرضى به صحباً
وكانت وزارة الأفضل بن أمير الجيوش، وكان حاجراً عليه ليس له معه أمر ولا نهي، ولا تعود له كلمة إلى أن قتل، ثم وزر له المأمون محمد بن فاتك البطائحي، فصار له في وزارته أمر ونهي، وعادت الأسمطة على ما كانت عليه قديما؛ وكان الأفضل قد نقلها فصارت تعمل أيام الأعياد والمواسم في دار الملك بمصر حيث كان يسكن. فلما قتل المأمون استبد ولم يستوزر أحداً، ودامت له الدنيا.
وقضاته: ابن ذكا النابلسي؛ تم ولى أبو الفضل الجليس نعمة بن بشير، فطلب الإقامة؛ فولى بعده الرشيد أبو عبد الله محمد بن قاسم بن زيد الصقلي، ومات؛ فاستقر بعده الجليس نعمة بن بشير النابلسي مرة ثانية؛ ثم صرف بأبي الفتح مسلم بن
الرسعني؛ وعزل بأبي الحجاج يوسف بن أبي أيوب المغربي؛ فلما مات استقر من بعده أبو عبد الله محمد بن هبة الله بن ميسر القيسراني، وقتل الآمر وهو قاض.
وكتاب الإنشاء في أيامه: سناء الملك أبو محمد بن محمد الزيدي الحسيني؛ والشيخ الأجل أبو الحسن بن أبي أسامة الحلبي؛ والشيخ تاج الرئاسة أبو القاسم ابن الصيرفي؛ وابن أبي الدم اليهودي.
وكان نقش خاتمه: الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين.
وفي أيامه نزع السعر، فبلغ القمح كل أردب بدينار. وكان الناس قد ألفوا الرخاء في أيام الأفضل والمأمون، وبعد عهدهم بالغلاء، فقلقوا لذلك.
ومن نوادر الآمر أنه عاشر الخلفاء الفاطميين وهو العاشر في النسب أيضا، ولم يل عشرة على نسق واحد ليس بينه أخ ولا عم ولا ابن عم غير الآمر.
وعرض عليه فصل في التوحيد من جملته: وهو المحذر بقوارع التهديد، من يوم الوعد والوعيد؛ فقال: إذا حذر من الوعد كما يحذر من الوعيد، فما الفرق بينهما؟ وأمر أن يقال: المحذر بقوارع التهديد من هول يوم الوعيد. واستدرك في فصل آخر في ذكر علي، رضي الله عنه، قوله: وهو السابق إلى دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجابته؛ فقال: إن قوله السابق غير مستقيم، لأنه إن أراد التخصيص فذلك غير صحيح، إذ كانت خديجة سبقت إلى الإسلام، والسابق منهم جائز أن يكون واحداً وأن يكون جماعة؛ والله تعالى يقول:" والسَّابِقُونَ السَّابقُونَ "؛ وليس في ذلك دليل على تخصيص واحد بالتقدم على الباقين؛ وذكر مثالا فقال: خيل الحلبة إذا أقبلت منها عشرة لا يخرج فيها واحد عن واحد قيل لها السبق، وقيل لكل واحد منها سابق. وأمر أن يقال: أول سابق إلى دعوة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإجابته.