الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة تسع عشرة وخمسمائة
فيها قبض الخليفة الآمر على وزيره المأمون في ليلة السبت لأربع خلون من شهر رمضان، وقبض على إخوته الخمسة مع ثلاثين رجلاً من أهله وخواصه، واعتقله. فوجد له سبعون سرجا من ذهب مرضع ومائتا صندوق مملوءة كسوة بدنه. ووجد لأخيه المؤتمن أربعون سرجا بحلى ذهب وثلثمائة صندوق فيها كسوة بدنه، ومائتا سلة ما بين بلور محكم وصيني لا يقدر على مثلها، ومائة برنية مملوءة كافور قنصوري؛ ومائة سفط مملوءة عوداً؛ ومن ملابس النساء ما لا يحد. حمل جميع ذلك إلى القصر، وصلبه مع إخوته في سنة اثنتين وعشرين.
ويقال إن سبب القبض عليه أنه بعث إلى الأمير جعفر بن المستعلى، أخي الآمر، يعزيه بقتل أخيه الخليفة ووعده أنه يعتمد مكانه في الخلافة؛ فلما تعذر ذلك بينهما بلغ الشيخ الأجل، أبا الحسن علي بن أبي أسامة، كاتب الدست، وكان خصيصا بالآمر قريبا منه، وكان المأمون يؤذيه كثيرا. فبلغ الخليفة الحال، وبلغه أيضا أن بلغ نجيب الدولة أبا الحسن إلى اليمن وأمره أن يضرب السكة ويكتب عليها: الإمام المختار محمد بن نزار.
ويقال إنه سم مبضعاً ودفعه لفصاد الخليفة، فأعلم الفصاد الخليفة بالمبضع.
ومولده في سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، وقيل في سنة تسع. وكان من ذوي الآراء والمعرفة التامة بتدبير الدول، كريما، واسع الصدر، سفاكا للدماء، شديد التحرز، كثير التطلع إلى أحوال الناس من الجند والعامة؛ فكثر الواشون والسعاة بالناس في أيامه
ويقال إن أباه كان من جواسيس الأفضل بالعراق، وأنه مات ولم يخلف شيئا، فتزوجت أمه وتركته فقيرا، فاتصل بإنسان يعلم البناء بمصر، ثم صار يحمل الأمتعة بالسوق بمصر، وأنه دخل مع الحمالين يوما إلى دار الأفضل فرآه خفيفاً رشيقاً حسن الحركة حلو الكلام، فأعجب به، فاستخدمه مع الفراشين بعد ما عرف بأنه ابن فلان، فلم يزل يتقدم عنده حتى كبرت منزلته، وعلت درجته.
وهذا ليس بصحيح فإنه من أجناد المشارقة، وقد تقدم أن أباه مات في زمن الأفضل بعد ما ترقت أحول ولده، وأنه كان ممن يعد من أماثل أهل الدولة. ورثى بعدة قصائد. وتقدم أن المأمون كان ممن يخدم المستنصر وأنه الذي لقبه بالمأمون. على أن المشارقة زادوا في التشنيع وذكروا أنه كان يرش الماء بين القصرين، وكل ذلك غير صحيح.
وكان المأمون شديد المهابة في النفوس وعنده فطنة تامة وتحرز وبحث عن أخبار الناس وأحوالهم، حتى إنه لا يتحدث أحد من سكان القاهرة ومصر بحديث في ليل أو نهار إلا ويبيت خبره عند المأمون، ولا سيما أخبار الولاة وعمالهم. ومشت في أيامه أحوال البلاد وعمرت، وساس الرعايا والأجناد وأحسن سياسته، إلا أنه اتهم بأنه هو أقام أولئك الذين قتلوا الأفضل وأعدهم له وأمرهم بقتله ليجعل له بذلك يداً عند الخليفة الآمر، ولأنه كان يخاف أن يموت الأفضل فيلقى من الآمر ما يكرهه لأنه كان أكبر الناس منزلةً عند الأفضل ومتحكما في جميع أموره. وكان مع ذلك محببا إلى الناس لكثرة ما يقضيه من حوائجهم ويتقرب به من الإحسان إليهم، ويأخذ نفسه بالتدبير الجيد والسيرة الحسنة، بحيث لو قدر موته لزار الناس قبره تبركاً به.
واتهم أيضا بأنه هو الذي قتل أولاد الأفضل وأولاد أخيه الأوحد وأولاد أخيه المظفر، وكانوا نحو مائة ذكر ما بين كبير وصغير، فقتلوا بأجمعهم، ولم يبق منهم سوى صغير
نحيف يسمى أحمد أبا علي ويلقب بكتفيات، فيقال إنه احتقره لما كان يرى فيه من العي والانقطاع؛ فكان منه ما يأتي خبره إن شاء الله تعالى.
واتهم أيضاً بقتل الأمير حسام الملك أفتكين، صاحب الباب، في أيام الأفضل لتخوفه منه؛ وذلك أن حسام الملك دخل مرة على الآمر للسلام، فلما خرج قال الآمر: والله إنك لأمير حسن؛ فإنه كان جميلا تام القامة وفيه عجب وتيه. فبلغ ذلك المأمون فقامت قيامته وأخذ في العمل عليه حتى أخرجه في العساكر التي يقال إن عدتها عشرون ألفاً، فكان من خبره على عسقلان مع الفرنج ما كان، وقتل من أصحابه يومئذ ما يزيد على عشرة آلاف، وعاد حسام الملك فبعثه إلى الإسكندرية ودس عليه من قتله.
قال ابن الطوير: ولما دفن الأفضل استعمل الآمر هذا الرجل، وكان يخاطب بالقائد من خدمة الأفضل في الوساطة دون الوزارة، ونعته بجلال الإسلام. واستمر على ذلك، ثم كمل له الوزارة وخلع عليه خلعة الوزارة إلا الطيلسان المقور، فباشرها، وكان متيقظاً قد حذق الأمور ودربها من صحبة الأفضل وطول خدمته إياه. وكان بالدار التي بالسيوفيين بالقاهرة، وهي اليوم مدرسة للحنفية، وأخذ يصب على تغلب الأفضل مع الآمر، فصار يتغلب على الآمر في واحدة بعد واحدة من الجفاء والإقدام، والآمر يملى له ويحتمله، حتى استوحش كل منهما من الآخر.
وكان له أخ ينعت بالمؤتمن أبي تراب حيدرة، فرأى من الرأي أن يولي أخاه جانباً عظيما من ديار مصر ويجعل معه عسكر النجدة ردءاً إذا قصده الخليفة بضرر، فإنهما دام أخوه يكون حاميا له، فيكون هو من داخل وأخوه من خارج. وجرد معه مائة فارس من شدة الأجناد وكبرائهم، وأضاف إليهم أمثالهم، مثل علي بن السلار وتاج الملوك قايماز وسيف الملك الجمل ودرى الحرون وحسام الملك بسيل، وكل واحد من هؤلاء جيش بمفرده؛ والخليفة يعلم ذلك ولا يرده عليه. وزاد في معناه حتى قيل إن الخليفة اطلع على أنه ادعى الخلافة وأنه من ولد نزار من جارية خرجت من القصر وهي حامل عندما خرج نزار
إلى الإسكندرية فانزعج الخليفة لذلك. ثم إنه سير إلى اليمن الموفق علي بن نجيب الدولة، وكان من أهل الأدب فصيحاً داهية، ليحقق لنسبه هناك ويدعو الناس إلى بيعته، فلما قيل للآمر هذا، ما شك فيه، وأخذ يتحيل في الإيقاع به بعد عود أخيه من ولايات الإسكندرية والغربية والبحيرة والجزيرتين والدقهلية والمرتاحية؛ فاختلق الآمر قضية يلتمسها من الإسكندرية وهو مقيم بها، فسير أستاذاً من ثقاته، ظاهره فيما ندبه إليه وباطنه في العلم على المأمون وأخيه، وقال له: أحرص على اجتماعك بعلي ابن السلار في المسايرة وسلم عليه عنا، وقل له وقل له إننا ما زلنا نلتفت إليه وندخره لمهماتنا ونتحقق فيه الموافاة لنا، وإنا بحمد الله قادرون على المكافأة بالخير أكثر من غيرنا، وقد تلونت أحوال المأمون وبالغ في عقوقنا بأشياء لا يتسع لها ذكرنا. ومقصودنا أن تكتم عنا ما نقول لك.
فلما بلغه الأستاذ ذلك عن الآمر قال: السمع والطاعة لمولانا، وأنا مملوكه وأذل نفسي في خدمته. فقال الأستاذ: هكذا والله قال عنك. قال ابن السلار: فما يأمر به؟ قال: تحد رجالك بأجمعهم في الانفصال عن المؤتمن، أنت ومن تثق به.
فلما تقرر ذلك اتفق علي بن السلار وهو وقايماز ودرى الحرون، وكانوا أمراء الجماعة فتفرقوا عنه وتبعهم الباقون، فانفرد المؤتمن واستوحش وكاتب أخاه المأمون بذلك؛
فما اتسع له أن يتتبع الأمراء ولا ينكر عليهم ليرجعوا إلى أخيه، لعلمه بتغير الخليفة عليه، مخافة أن يفسد أمره ظاهرا وباطنا. فحضر إلى الخليفة يوم سلام، على عادة الوزراء، وتقدم وقال: يا مولانا، صلوات الله عليك، وصل كتاب أخي يتذمم من طول مقامه خارج القاهرة وأسفه على ما يفوته من خدمة مولانا بالمباشرة، ويسأل الفسحة له في العودة إلى بابه الكريم فقال: مرحبا وأهلا، وهذا كان رأينا، ونحن مشتاقون إليه، وإنما قصدنا رضاك فيما رتبته له. يقدم على بركة الله. فكوتب عن الخليفة بالعود وأن يرتب في ولاياته من يرضاه. فامتثل ذلك.
ودخل القاهرة؛ فجلس الخليفة له في غير وقت الجلوس، فمثل بين يديه، وأكرمه وأدناه، وخلع عليه بالتشريف المفخم.
فلما دخل شهر رمضان، وفيه السماط كل ليلة بقاعة الذهب، ويحضر الوزير وإخوته وأصحابه؛ فحضر المأمون وأخوه المؤتمن السماط أول ليلة، فأكرمهما الآمر بما أخرجه لهما مما كانت يده فيه، وأرسل رسالة إلى المؤتمن ليستأنس بحضوره السماط مع أخيه؛ فلم يتسع لهما مع هذه المكارمة الانقطاع.
وحضرا ثاني ليلة فزاد في إكرامهما، ثم أمر بأن يدخل المأمون لمؤاكلته خاصة دون أخيه، فدخل إليه؛ ولم يتقدمه أحد من الوزراء بمثل ذلك، يعنى بهذه المنزلة. وخرج هو وأخوه وأكد عليهما ألا ينقطعا، وخلع عليهما من داخل الدار من الثياب الدارية. ثم حضرا ثالث ليلة، فاستدعى المأمون إلى الخليفة، فلما جلس معه على المائدة قال قد جفونا المؤتمن، واستدعاه، فدخل، وصارا في قبضته. وكان قد رتب لهما من يأخذهما؛ فعند خروجهما للمضي قبض عليهما واعتقلهما عنده في خزانة، وسير بالحوطة على دورهما. ثم أمر بإحضار الشيخ الأجل أبي الحسن بن أبي أسامة، كاتب الدست، لينشيء شيئاً في شأنهما يقرؤه على المنبر غداً، فوجد الشيخ أبو الحسن بمصر لعيادة مريض؛ فتقدم إلى والي القاهرة في الليل بأن يمضي إلى مصر لإحضاره. فظن والي القاهرة أنه طلب لغير ذلك، وكان يقال له سعد الدولة الأحدب، فمضى إليه وأزعجه من مكانه، وسبه أقبح سب، وأراد إحضاره إلى القاهرة ماشياً. فأحضره إلى الخليفة وهو ميت لا حراك به،
فقال له ما هذا؟ فأخبره بقضيته مع الوالي، فغضب على الوالي وأمر بخلع أخفافه من رجليه وصفعه بهما، حتى تقطعا على قفاه، وصرفه من الولاية. وأطلع الشيخ أبا الحسن على قضية المأمون وأخيه؛ فقال يا مولانا: هما نشو أيامك ومماليك دولتك. فقال لبعض الأستاذين خذ هذا الشيخ وصوبه إلى المذكورين لينظرهما في اعتقالهما وينقطع رجاؤه منهما. فأدخله إليهما، فرآهما مكبلين في الحديد، وعليهما احتياط عظيم، فأنشأ للوقت سجلاً كان من استفتاحه: أما بعد؛ فإن محمد بن فاتك استنجح فما نجح، واستصلح فما صلح؛ وجهل رفع قدره فغدا لهبوط، وقابل الإحسان إليه بدواعي القنوط. وكل ذلك في تلك الليلة.
فلما أصبح الصباح جلس الخليفة في الشباك بالإيوان، ونصب كرسي الدعوة أمامه، وطلع قاضي القضاة عليه وقرأه بعد اجتماع الأمراء وأرباب الرتب والعوام؛ فلم ينتطح فيها عنزان.
ويقال إن الخليفة كان يقول: أعظم ذنوبه عندي ما جرى منه في حق صور وإخراجها من يد الإسلام إلى الكفر.
وبقيا في الاعتقال، هما وأميران اتهما، في خزانة البنود. وسير لإحضار الذي كان أنفذه المأمون إلى اليمن ليقتلهم جميعا. وتفرغ الآمر لنفسه، ولم يبق له فعل ولا مزاج، وبقي بغير وزير.
وأقيم صاحبا ديوان الاستخراج بما يجب من زكاة ومقس أحدهما مسلم يقال له
جعفر بن عبد المنعم بن أبي قيراط والآخر سامري يقال له أبو يعقوب إبراهيم، وأقيم معهما مستوف لهاتين المعاملتين وكان راهبا؛ فكانوا يستخرجون ذلك من أربابه، ويدخل صاحبا الديوان إلى الآمر في كل وقت ومعهما المصحف والتوراة فيحلفان له أنهما لا يتعرضان إلا لمن يجب عليه لبيت المال حق. فيحملها في ذلك على الصدق، وربما اشتطا على الناس وزاد عليهم ما لا يجب زيادته، فتأذى بسببهما جماعة والآمر لا يطلع على ذلك ولا أشاربه. واستمرا على ذلك مديدة.