الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة تسع وعشرين وخمسمائة
فيها عظم أمر حسن بن الحافظ وقويت شوكته، وتأكدت العداوة بينه وبين من بقي من الأمراء والأجناد واشتد خوفهم منه، وعزموا على خلع الحافظ من الخلافة وخلع ابنه حسن من ولاية العهد وعزله عن الأمر. فاجتمعوا بين القصرين، وهم نحو العشرة آلاف ما بين فارس وراجل، وبعثوا إلى الحافظ فشكوا ما فيه من ابنه حسن وأرادوا إزالته عنهم. فعجز حسن عن مقاومتهم ولم يبق معه سوى الراجل من الجيوشية ومن يقول بقولهم من العسكر الغرباء. فتحير ولم يجد بدا من الفرار منهم إلى أبيه، فصار إليه، وكان قد نزل بالقصر الغربي، ففتح سردابا بين القصرين ووصل إلى أبيه بالقصر الشرقي من تحت الأرض، وتحصن بالقصر. فبادر الحافظ بالقبض عليه وقيده، وأرسل إلى الأمراء يخبرهم بالقبض على حسن؛ فأجمعوا على طلبه ليقتلوه. فبعث إليهم يقبح مرادهم منه أن يقتل ولده، وأنه قد أزال عنهم أمره، وضمن لهم أنه لا يتصرف أبدا؛ ووعدهم بالزيادة في الأرزاق والإقطاعات. فلم يقبلوا ذلك، وقالوا: إما نحن وإما هو. وأحضروا الأحطاب والنيران لإحراق القصر؛ وبالغوا في الجرأة على الحافظ. فلم يجد من ينتصر به عليهم لأنهم أنصاره وجنده الذين يستطيل بهم على غيرهم، فألجأته الضرورة إلى أن استمهلهم ثلاثة أيام ليتروى فيما يعمل.
فرأى أنه لا ينفك من هذه النازلة العظيمة إلا بقتل ابنه لتنحسم المباينة بينه وبين العسكر التي لا يأمن إن استمرت أن تأتي على نفسه هو، فإنهم لم يبرحوا من بين القصرين. فاستدعى طبيبيه، أبا منصور وابن قرقة، فبدأ بأبي منصور اليهودي وفاوضه في عمل سقية لابنه، فتحرج من ذلك وأنكر معرفته كل الإنكار، وحلف برأس الخليفة وعلى
التوراة أنه لم يقف على شيء من هذا. فتركه وأحضر ابن قرقة، وكان يلي الاستعمالات بدار الديباج وخزائن السلاح والسروج، وفاوضه في ذلك؛ فقال: الساعة، ولا يتقطع منها الجسد بل تفيض النفس لا غير. فأحضرها من يومه، وألزم الحافظ ابنه حسنا بمن ندبه من الصقالبة، فأكرهوه على شربها، فمات في يوم الثلاثاء ثالث عشري جمادى الآخرة.
ونقل للقوم سراً: قد كان ما أردتم فامضوا إلى دوركم. فلم يثقوا بذلك، وقالوا لا بد أن يشاهده منا من نثق به؛ وندبوا منهم امرأ يعرف بالجرأة والصر يقال له المعظم جلال الدولة محمد، ويعرف بجلب راغب الآمري، فدخل إلى حيث حسن بن
الحافظ، فإذا هو مسجى بثوب ملاءة، فكشف عن وجهه وأخرج من وسطه سكينا وغرزه في عدة مواضع من بدنه حتى تيقن أنه ميت، وانصرف إلى أصحابه وأخبرهم فتفرقوا.
وكان تاج الدولة بهرا الأرمني قد انفلت من حسن بن الحافظ وولي الغربية؛ فلما علم أن النفوس جميعها من البدو والحضر قد انحرفت عن حسن جمع مقطعي الغربية والأرمن والعربان وطلب القاهرة، ويقال كان ذلك بمباطنة من الحافظ، فما وصل إلى القاهرة حتى غابت حشوده في القرى والضياع ونهبوها.
وعندما وصل إلى القاهرة، يوم الخميس وقت العصر، الحادي عشر من جمادى الآخرة التف عليه من بها من الأمراء والأجناد وأبادوا أكثر الجيوشية والإسكندرية والفرحية ومن يقول بقولهم من الغز الغرباء. ونهب أوباش الناس ما قدروا عليه.
ولما قتل حسن وسكنت الدهماء قبض الحافظ على الطبيب ابن قرقة وقتله بخزانة البنود، وارتجع جمع أملاكه وموجوده، وكان يلي الاستعمالات بدار الديباج وخزائن السلاح والسروج. وأنعم على أبي منصور الطبيب وجعله رئيساً على اليهود وصارت له نعم جليلة.
وفيها كانت وزارة بهرام الأرمني النصراني الملقب تاج الدولة. وكان السبب في ولايته الوزارة أنه جرت فتنة بين الأجناد والسودان عندما قتل حسن بن الحافظ قوي فيها السودان على الأجناد وأخرجوهم من القاهرة، فإن السودان كانوا مع حسن دون الأجناد، فإنهم
الذين حملوا أباه الحافظ على قتله. وقدم بهرام بالحشد كما تقدم، فوجد حسناً قد مات، فمسكه الأجناد بظاهر القاهرة وأدخلوه على الحافظ لدين الله في يوم الخميس، بعد العصر، الحادي عشر من جمادى الآخرة، لتولية الوزارة؛ فخلع عليه في يوم الأحد، رابع عشره، ثم خلع عليه ثانيا يوم الخميس ثامن عشره، خلع الوزارة، ونعت بسيف الإسلام تاج الخلافة، وهو نصراني، مع كراهة الحافظ لذلك، لتسكن الفتنة، ولم يرد إليه شيئاً من الأمور الشرعية. فلم يدخل في مشكل لأنه كان عاقلا سيوساً حسن التدبير.
وتقدم كثير من حواشي الحافظ إليه ينكرون عليه ولاية بهرام مع كونه نصرانيا، وقالوا: لا يرضى المسلمون بهذا، ومن شرط الوزير أن يرقى مع الإمام المنبر في الأعياد ليزرر عليه المزررة الحاجزة بينه وبين الناس، والقضاة نواب الوزير من زمن أمير الجيوش، ويذكرون دائماً النيابة عنه في الكتب الحكمية النافذة إلى الآفاق وكتب الأنكحة. فقال: إذا رضينا نحن فمن يخالفنا؛ وهو وزير السيف؛ وأما صعود المنبر فيستنيب عنه قاضي القضاة؛ وأما ذكره في الكتب الحكمية فلا حاجة إلى ذلك ويفعل فيها ما كان يفعل قبل أمير الجيوش.
فشق على الناس وزارته، وتطاول النصارى في أيامه على المسلمين. وكان هو قد أحسن السيرة وساس الرعية، وأدى الطاعة للخليفة، وأنفق في الجند جملةً من الأموال، ودبر الأمور فاستقامت له الأحوال، وراسله الملوك، وزال ما كان في البلد من الفتن؛ فلم ينكر عليه سوى أنه نصراني.
وكان يقعد يوم الجمعة عن الصلاة فلا يحضر، بل يعدل إلى دكان بمفرده حتى يصلي الخليفة بالناس. وأقبل الأرمن يردون إلى القاهرة ومصر من كل جهة حتى صار بها منهم عالم عظيم. ووصل إليه ابن أخيه، وكان يعرف بالسبع الأحمر، فكثر القيل والقال؛ وأطلق أسيراً من الفرنج كان من أكابرهم، فأنكر الناس ذلك ورفعوا فيه النصائح للحافظ، وأكثروا من الإنكار.
وكان رضوان بن ولخشى حينئذ صاحب الباب، وهو شجاع كاتب، فبلغ بهرام أنه يهزأ به في قوله وفعله، فثقل عليه وأخذ يعمل على إخراجه من القاهرة، وولى أخاه الباساك قوص وفيها توفى الأديب أبو نصر ظافر بن القاسم بن منصور بن عبد الله الجروي الجذامي الإسكندراني، المعروف بالحداد. بمصر.