الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة ست وستين وخمسمائة
فيها رفع صلاح الدين جميع المكوس بديار مصر وأبطلها.
وفيها أمر بهدم المعونة بمصر فهدمت، وعمرها مدرسة للشافعية؛ ولم يكن قبل ذلك بديار مصر مدرسة لأحد من الفقهاء فإن الدولة كانت إسماعيلية. وهذه المدرسة بجوار جامع عمرو بن العاص وعرفت أخيراً بالمدرسة الشريفية؛ وهي أول مدرسة عمرت بمصر لإلقاء العلم. وأنشأ دار الغزل به مدرسةً للمالكية بجوار الجامع أيضا، وتعرف اليوم هذه المدرسة بالقمحية.
وفيها عزل صلاح الدين قضاء مصر من الشيعة، وولي قاضي القضاة صدر الدين عبد الملك بن درباس الهدباني الشافعي، وجعل إليه الحكم في جميع بلاد مصر بعدما أحضره من المحلة، وخلع عليه في يوم الجمعة تاسع عشر جمادى الآخرة؛ فعزل من كان بها من القضاة واستناب عنه قضاةً شافعية. ومن حينئذ اشتهر مذهب الشافعي ومذهب مالك بديار
مصر وتظاهر الناس بهما، واختفى مذهب الشيعة من الإمامية الإسماعيلية. وبطل من حينئذ مجلس الدعوة بالجامع الأزهر وغيره.
وفيها ابتدأ صلاح الدين في غزو الفرنج، فجمع الجنود والعساكر، وخرج في أحسن زي إلى بلاد عسقلان والرملة فشن الغارات عليها، وهجم ربض مدينة غزة، وواقع ملك الفرنج على الداروم ففل جمعه وقتل منه كثيراً من الفرنج، ونجا ملكهم بحشاشته. وعاد صلاح الدين مظفراً غانماً.
ثم خرج في النصف من ربيع الأول ومعه مراكب مفصلة على الجمال، فسار إلى أيلة، وكان بها قلعة منيعة قد ملكها الفرنج، فألقى المراكب المحمولة معه بعد إقامتها وإصلاحها في البحر، وشحنها بالرجال والسلاح، وضايق قلعة أيلة في البر والبحر حتى افتتحها في العشرين من ربيع الآخر، وقتل من بها من الفرنج، وسلمها لثقات من أصحابه أقامهم فيها وقواهم بالسلاح والميرة ونحو ذلك.
ووردت عليه قافلة أهله فسار بهم إلى القاهرة ودخل في سادس عشري جمادى الأولى. ثم سار إلى الإسكندرية لمشاهدة سورها وترتيب أمورها، فدخلها وأمر بإصلاح السور والأبراج؛ فعمر ما تهدم منه.
وفيها اشترى الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب منازل العز بمصر، في النصف من شعبان، وجعلها مدرسة للشافعية، وأوقف عليها عدة أماكن، منها الروضة تجاه مصر.
وفيها خرج الأمير شمس الدولة توران شاه إلى بلاد الصعيد، وأوقع بالعربان، وغنم منها غنائم تجل عن الوصف، وعاد إلى القاهرة.
وفيها ابتدأ صلاح الدين بعمارة السور الجديد على القاهرة.
وفيها كثر بمصر عسكر صلاح الدين وأقاربه وأصحابه، وانكفت أمراء المصريين عن التصرف ومنعوا من كل شيء، فبسطوا ألسنتهم بالقول ضد ما عليه صلاح الدين وأصحابه من الفعل في محو آثار الدولة الفاطمية وإزالة رسومها، وخلع العاضد وقتله. والدعاء للخليفة العباسي. فلما رأى أمره قد قوي وأوتاد دولته قد تمكنت من البلاد عزم على إظهار ما يخفيه؛ فواعد أمراء النشابين على أن يمضوا إلى بيوت الأمراء المصريين في الليل، ويقف كل أمير منهم بجنده على باب أمير من أمراء مصر، فإذا خرج للخدمة قبض عليه واحتاط على داره وما فيها وأخذها لنفسه.
فأصبحوا واقفين على منازل الأمراء المصريين بأجنادهم، فما هو إلا أن يخرج الأمير من منزله ليصير إلى الخدمة على عادته فإذا بالأمير الشامي الذي قد عين له وقد قبض عليه وأوثقه، وهجم بمن معه على داره فملكها بجميع ما تحتوي عليه، وما يتعلق بصاحبها وينسب إليه من أهل ومال وخيول وعبيد وجوار، وماله من إقطاع. فلم ينتشر الضوء حتى علت الأصوات وارتفعت الضجات وثار الصياح من كل جانب، وصار الأمراء الشاميون في سائر نعم أمراء مصر، وأصبح الأمراء المصريون أسرى معتقلين في أيدي أعاديهم. فال أمرهم إلى أن صار الأمير منهم بواباً على الدار التي كان يسكنها، وصار آخر منهم سائس فرس كان يركبها، وصار آخر وكيل القبض في بلد كانت إقطاعاً له؛ ونحو ذلك من أنواع الهوان.
وبلغ ذلك العاضد فشق عليه وأرسل إلى صلاح الدين يسأله عن سبب القبض على الأمراء، فبعث إليه بأن هؤلاء الأمراء كانوا عصاةً لأمرك والمصلحة قتلهم وإقامة غيرهم ممن يمتثل أمرك. فسكت.
وتقوى صلاح الدين وعظم أمره، وذهب من كان يخشاه ويخافه، وأخرج أكثر إقطاعات الأجناد بمصر، وزاد الأمير شمس الدولة على إقطاعه ناحية بوش ودهشور والمنوفية وغير ذلك. وانحل أمر العاضد.
فيها قبض صلاح الدين على جميع بلاد العاضد ومنع عنه سائر مواده، بحيث لم يبق له شيئاً؛ وقبض على القصور وسلمها إلى الطواشي بهاء الدين قراقوش الأسدي، وهو يومئذ زمام القصور من بعد قتل مؤتمن الخلافة، وصار له في القصر موضع، فلا يدخل شيء من الأشياء إلى القصر ولا يخرج منه إلا بمرأى منه ومسمع. وضيق على أهل القصر حتى قبض في هذه الأيام على جميع ما فيها، وصار العاضد معتقلاً تحت أيديهم.
وفيها أمر صلاح الدين بتغيير شعار الفاطميين، وأبطل ذكر العاضد من الخطبة. وكان الخطيب يدعو للإمام أبي محمد، فتخاله العامة والروافض العاضد وهو يريد أبا محمد الحسن المستضئ بأمر الله أمير المؤمنين الخليفة. ثم أعلن بالعزم على إقامة الخطبة العباسية.
وفيها مات الشيخ الموفق يوسف بن محمد أبو الحجاج، ابن الخلال، كاتب الدست
وفي يوم الجمعة سلخ ذي الحجة عزم صلاح الدين على الإعلان بالأمر وكشف الغطاء فأحجم الخطباء عن ذلك تقيةً وحذراً، فانتدب لذلك رجل من أهل المغرب يقال له اليسع ابن عيسى بن حزم بن عبد الله بن اليسع أبو يحيى الغافقي الأندلسي، فقصد المنبر مستعداً من الحديد بما يدفع عن نفسه إن أراده أحد بسوء؛ فخطب ودعا للخليفة أبي محمد الحسن المستضئ بأمر الله أمير المؤمنين، وذكر نسبه إلى العباس. وقيل بل كان ذلك في السنة الآتية.