الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول بيان كيفية الجمع ونتائجه
المطلب الأول: فكرة الجمع وسببه
تولى أبو بكر الصديق رضي الله عنه الخلافة بعد انتقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، في شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة «1» ، فبعد تسلمه مهام الخلافة واجه أخطارا عظيمة وأحداثا جسيمة، وكان أول ما واجهه- في خلافته- ارتداد قبائل من العرب عن الإسلام لأسباب مختلفة منها منعهم الزكاة، التي هي ركن من أركان الإسلام والأصل الذي اعتمد عليه أبو بكر رضي الله عنه فيما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه حين قال:(لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر من بعده، وكفر من كفر من العرب، وأنكر بعضهم الزكاة، عزم أبو بكر على قتالهم، فقال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف نقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله)، فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، فقال عمر بن الخطاب: فو الله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق) «2» . فكان موقفه حازما من هذه الفتنة التي أخذت تعصف بأطراف الدولة الإسلامية، وانضم كثير من المرتدين إلى مدعي النبوة مسيلمة الكذاب، وكان جيش مسيلمة قريبا من مائة ألف، فجهز الصديق لقتال هؤلاء- جميعا- الجيوش التي كان في طليعتها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيادة
(1) ينظر: تاريخ خليفة، خليفة بن الخياط: 1/ 79.
(2)
صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، رقم (1335): 2/ 507.
خالد بن الوليد، وكانوا قريبا من ثلاثة عشر ألفا، فالتقوا معهم، فانكشف الجيش الإسلامي لكثرة ما فيه من الأعراب، فنادى القراء من كبار الصحابة: يا خالد خلصنا، يقولون ميزنا من هؤلاء الأعراب، فتميزوا منهم وانفردوا، فكانوا قريبا من ثلاثة آلاف «1» ، ثم صدقوا الحملة وقاتلوا قتالا شديدا، وجعلوا يتنادون:
يا أصحاب سورة البقرة، فلم يزل ذلك دأبهم حتى فتح الله عليهم، وولى جيش الكفار فارا، وأتبعتهم السيوف المسلمة في أقفيتهم قتلا وأسرا، وقتل الله مسيلمة الكذاب وفرق شمل أصحابه، ثم رجعوا إلى الإسلام «2» . ولم تمض إلا فترة يسيرة حتى عادت شبه الجزيرة العربية كلها إلى الإسلام، لكن عددا كبيرا ممن شارك في إخماد تلك الفتنة قد قتلوا في سبيل الله، ومن بينهم عدد من حفاظ القرآن، وتشير الروايات إلى أن معركة اليمامة التي أذل الله فيها مسيلمة الكذاب وجمعه، كانت من أعظم الغزوات في حروب الردة، كما كانت أجلها خطرا، وأبعدها أثرا، قد استشهد من المسلمين يومئذ مائتان وألف، ومن بينهم ثلاثمائة وستون من المهاجرين والأنصار من أهل قصبة المدينة وحدها، حتى أوصل بعض المؤرخين عدد الحفاظ إلى الخمسمائة، كما أشار إلى ذلك ابن كثير وابن الجزري «3» . فلهذا أشار عمر رضي الله عنه على أبي بكر الصديق رضي الله عنه بأن يجمع القرآن لئلا يذهب بسبب موت من يحفظه من الصحابة بعد ذلك في مواطن القتال «4» ، ولهذا قال أبو بكر بن أبي داود بسنده عن فضالة عن الحسن: أن عمر بن الخطاب سأل عن آية من كتاب الله، فقيل: كانت مع فلان فقتل يوم اليمامة،
(1) فضائل القرآن لابن كثير: 15؛ ورسم المصحف، د. غانم قدوري:100.
(2)
ينظر: فضائل القرآن لابن كثير: 15.
(3)
انظر: فضائل القرآن لابن كثير: 15؛ والنشر في القراءات العشر: 1/ 7؛ ورسم المصحف، د. غانم قدوري:101.
(4)
ينظر: فضائل القرآن لابن كثير: 15.
فقال: إنا لله، ثم أمر بالقرآن، فكان أول من جمعه بمصحف «1». قال ابن كثير:
وهذا منقطع فإن الحسن لم يدرك عمر، ومعناه أنه أشار بجمعه فجمع «2» .
وأشهر روايات جمع القرآن في خلافة الصديق هي التي يرويها الإمام الزهري عن عبيد بن السباق، في صحيح البخاري: (أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال:
أرسل إلي أبو بكر الصديق مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني، فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى إن استحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر، قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك، وقد كنت تكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه، فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال، ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير.
فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فتتبعت القرآن أجمعه من العسيب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة، لم أجدها مع أحد غيره:
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ «3» ، حتى خاتمة
(1) كتاب المصاحف: 1/ 181؛ وسيأتي تخريج ودراسة هذا الحديث في المرويات من المبحث القادم.
(2)
فضائل القرآن لابن كثير: 16؛ وقال ابن كثير تعليقا على الأثر: (ومعناه: أنه أشار بجمعه فجمع، ولهذا كان مهيمنا على حفظه وجمعه). فضائل القرآن: 16؛ وأورده الحافظ ابن حجر في فتح الباري: 9/ 15، وعزاه لابن أبي داود؛ وينظر: المصاحف لابن أبي داود: 1/ 181.
(3)
سورة التوبة، الآية (128).
براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر في حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهما «1» .
وقد روى الإمام البخاري هذا الحديث في غير موضع من كتابه، ورواه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي من طرق عن الزهري به «2» .
وهذه الرواية تشير إلى جملة قضايا هامة في تاريخ جمع القرآن في هذه الفترة، فهي:
أولا: تبين السبب الذي دفع إلى جمع القرآن، وهو: الخوف من ذهاب شيء منه بذهاب حفظته، وهذا الموقف الذي عرضه عمر بن الخطاب رضي الله عنه بضرورة جمع القرآن، كان تجربة من نوع جديد.
ثانيا: توضح أن القرآن لم يجمع من قبل بهذه الصورة، وذلك مفهوم من تردد الصديق وزيد بن ثابت، وقولهم: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فبعد أن اطمأن الصديق وشرح الله صدره لذلك، عرض الفكرة على زيد بن ثابت، ورغب إليه أن يقوم بتنفيذها، تردد زيد أول الأمر، ولكن أبا بكر ما زال به يعالج شكوكه، ويبين له وجه المصلحة حتى اطمأن واقتنع بصواب ما ندب إليه «3» .
شرع زيد في جمع القرآن بطريقة محكمة، وضعها له أبو بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين، فيها ضمان لحياطة كتاب الله بما يليق به من تثبت بالغ وحذر دقيق، وتحريات شاملة، فلم يكتف بما حفظ في قلبه، ولا بما كتب بيده،
(1) صحيح البخاري، باب جمع القرآن، رقم (4701)؛ 4/ 1907.
(2)
ينظر: مسند الإمام أحمد، مسند العشرة المبشرة بالجنة، باب مسند أبي بكر الصديق، رقم (77)؛ وسنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب سورة التوبة، رقم (3101): 5/ 283؛ وفضائل القرآن لابن كثير: 14.
(3)
ينظر: مناهل العرفان: 1/ 250.
ولا بما سمع بأذنه، بل جعل يتتبع ويستقصي آخذا على نفسه أن يعتمد في جمعه على مصدرين اثنين:
أحدهما: ما كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثاني: ما كان محفوظا في صدور الرجال.
وبلغ من مبالغته في الحيطة والحذر، أنه لم يقبل شيئا من المكتوب حتى يشهد شاهدان عدلان أنه كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» .
فقام زيد بن ثابت رضي الله عنه بجمع تلك القطع ونسخها في مصحف، كما قال زيد في رواية البخاري:(فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال)«2» . وفي رواية: من العسب والرقاع والأضلاع، وفي رواية: من الأكتاف والأقتاب وصدور الرجال.
ويدل على ذلك أيضا: ما قاله الحارث المحاسبي في كتابه فهم السنن:
(كتابة القرآن ليست محدثة، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرقا في الرقاع والأكتاف والعسب، فإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان مجتمعا، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها القرآن منتشرا، فجمعها جامع وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء)«3» .
ومن هنا كان قرار أبي بكر فيما نرى هو أخطر قرار اتخذه في حياته، وأعظم الخطوات التي تمت في تاريخ هذه الأمة، لأنه حل أساس مشكلة أصولية
(1) ينظر: مناهل العرفان: 1/ 250؛ ومراحل كتابة القرآن الكريم وجمعه، مقال كتبه محمود شكر الجبوري في مجلة دراسات إسلامية، الصادرة عن بيت الحكمة في بغداد، العدد السادس من السنة الثانية (1422 هـ/ 2001 م):12.
(2)
ينظر: من حديث في صحيح البخاري، باب يستحب للكاتب أن يكون أمينا عاقلا، رقم (6768): 6/ 2629؛ وفضائل القرآن لابن كثير: 16 - 17.
(3)
ينظر: البرهان في علوم القرآن: 1/ 238؛ والإتقان: 1/ 129.