الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هذا والله خير، لم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر، قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه، فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ «1» ، حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر في حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهم «2» .
دلالة الحديث:
ذكرنا هذا الحديث في المبحث الأول من هذا الفصل، وتحدثنا عنه من الناحية التاريخية، عن فكرة الجمع وسببه وعلى ماذا استندوا، وكذلك عن لجنة الجمع وعن الصفات والمؤهلات التي جعلت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يخص زيد بن ثابت رضي الله عنه بهذا العمل، وبماذا امتاز هذا الجمع.
وحتى لا يكون تكرار سوف أقتصر في هذا الحديث هنا على الدلائل
(1) سورة التوبة، من الآية (128).
(2)
صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، رقم (4701).
والمسائل التي لم نتحدث عنها هنالك من خلال هذا الحديث الصحيح.
قوله: (أرسل إلي أبو بكر): قال ابن حجر: لم أقف على اسم الرسول إليه بذلك «1» . أي اسم الرجل الذي أرسله أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى زيد بن ثابت.
قوله: (قد استحر): أي اشتد وكثر، وهو استفعل من الحر، لأن المكروه غالبا يضاف إلى الحر، كما أن المحبوب يضاف إلى البرد، يقولون: أسخن الله عينه، وأقر عينه «2» .
قوله: (كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟): قال الخطابي: يحتمل أن يكون إنما لم يجمع القرآن في المصحف لما كان يترقبه صلى الله عليه وسلم من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته صلى الله عليه وسلم ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك وفاء لوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة المحمدية زادها الله شرفا، فكان ابتداء ذلك على يد الصديق رضي الله عنه بمشورة عمر «3» .
قوله: (حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري)، وقع في رواية شعيب عن الزهري:(مع خزيمة الأنصاري)«4» ، ووقع في رواية عبد الرحمن بن مهدي عن إبراهيم بن سعد:(مع خزيمة بن ثابت)«5» .
(1) فتح الباري: 9/ 14.
(2)
المصدر نفسه: 9/ 14.
(3)
المصدر نفسه: 9/ 15.
(4)
صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128)، رقم (4402): 4/ 1720.
(5)
فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام (224 هـ): 2/ 93؛ وسنن الترمذي، كتاب التفسير، رقم (3103): 5/ 26 - 265، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
وكذا أخرج الأخير ابن أبي داود من طريقين: من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري، ومن طريق يونس بن يزيد الأيلي عن الزهري (مع خزيمة بن ثابت)«1» .
قال ابن حجر: (وقول من قال: عن إبراهيم بن سعد (مع أبي خزيمة) أصح. وأن الذي وجد معه آخر سورة التوبة غير الذي وجد معه الآية التي في الأحزاب «2» ، وهي قوله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ «3» .
قال ابن حجر: (فالأول اختلف الرواة فيه عن الزهري، فمن قائل: (مع خزيمة)، ومن قائل:(مع أبي خزيمة)، ومن شك يقول:(خزيمة أو أبو خزيمة)، والأرجح أن الذي وجد معه آخر سورة التوبة: أبو خزيمة بالكنية، والذي وجد معه الآية من الأحزاب خزيمة «4» .
وأبو خزيمة قيل هو: ابن أوس بن يزيد بن أصرم، مشهور بكنيته دون اسمه، وقيل: هو الحارث بن خزيمة «5» ، وزاد أبو شامة: من بني النجار، شهد بدرا وما بعدها، توفي في خلافة عثمان «6» ، إلا أن القرطبي لم يقف على اسمه، وقال: أبو خزيمة لا يوقف على صحة اسمه، وهو مشهور بكنيته «7» .
(1) كتاب المصاحف: 1/ 174، 1/ 175 بإسناد صحيح.
(2)
فتح الباري: 9/ 18.
(3)
سورة الأحزاب، الآية (23)، وسوف أذكر روايتها كاملة في محلها من الفصل القادم إن شاء الله تعالى.
(4)
فتح الباري: 9/ 18.
(5)
فتح الباري: 9/ 18.
(6)
المرشد الوجيز لأبي شامة المقدسي: 51.
(7)
تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن): 1/ 56.
أما خزيمة: فهو ابن ثابت ذو الشهادتين «1» .
قال أبو شامة: خزيمة بن ثابت بن الفاكه من الأوس، شهد أحدا وما بعدها، وقتل يوم صفين، وقيل غير ذلك «2» ، وقد صرح الإمام البخاري به عند الحديث عن آية الأحزاب، كما جاء في الصحيح: عن خارجة بن زيد: أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (نسخت الصحف في المصاحف ففقدت آية من سورة الأحزاب، كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فلم أجدها إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين
…
) الحديث «3» .
وقوله- في أصل الحديث الثالث-: (لم أجدها مع أحد غيره) - والحديث عن الآية التي في نهاية سورة التوبة-: أي لم يجدها مكتوبة، وكان زيد بن ثابت لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة، ولا يلزم من عدم وجدانه إياها حينئذ أن لا تكون تواترت عند من لم يتلقاها من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان زيد رضي الله عنه يطلب التثبت عمن
تلقاها بغير واسطة، ولعلهم لما وجدها زيد عند أبي خزيمة تذكروها كما تذكرها زيد رضي الله عنه «4» .
قال الخطابي: هذا مما يخفى معناه، ويوهم أنه كان يكتفي في إثبات الآية
(1) فتح الباري: 9/ 18.
(2)
المرشد الوجيز لأبي شامة المقدسي: 51.
(3)
صحيح البخاري بشرح فتح الباري، كتاب الجهاد، باب قول الله عز وجل: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ
…
[سورة الأحزاب، الآية (23)]، رقم (2807): 6/ 26. وسيأتي الحديث وذكر هذه الرواية كاملة في الفصل القادم، وذلك لأن في هذه الرواية (نسخت الصحف في المصاحف). ونسخ الصحف في المصاحف هو في زمن سيدنا عثمان رضي الله عنه، وليس في زمن الصديق رضي الله عنه، فسأذكرها هناك إن شاء الله تعالى.
(4)
فتح الباري: 9/ 18.
بخبر الشخص الواحد، وليس كذلك فقد اجتمع في هذه الآية: زيد بن ثابت وأبو خزيمة وعمر رضي الله عنهم «1» .
وحكى ابن التين «2» عن الداودي قال: لم يتفرد بها أبو خزيمة، بل شاركه زيد بن ثابت، فعلى هذا تثبت برجلين «3» .
لم يعلق ابن حجر على قوليهما فيقول: وكأنه ظن أن قولهم: لا يثبت القرآن بخبر الواحد، أي الشخص الواحد، وليس كما ظن، بل المراد بخبر الواحد خلاف الخبر المتواتر، فلو بلغت رواة الخبر عددا كثيرا وفقد شيئا من شروط المتواتر لم يخرج عن كونه خبر الواحد، والحق: أن المراد بالنفي نفي وجودها مكتوبة لا نفي كونها محفوظة «4» .
وقول ابن حجر هذا أولى من قول مكي بن أبي طالب: من أن زيدا وغيره كانوا يحفظون الآية، لكنهم نسوها، فوجدوها في حفظ ذلك الرجل، فتذاكروها واستيقنوها وأثبتوها في المصحف لحفظهم لها «5» .
قال أبو شامة: إن زيدا كان يتطلب نسخ القرآن من غير ما كتب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يجد كتابة تلك الآية إلا مع ذلك الشخص، وإلا فالآية محفوظة عنده وعند غيره، وهذا المعنى أولى مما ذكره مكي وغيره «6» .
(1) ينظر: تفسير القرطبي: 1/ 56؛ وفتح الباري: 9/ 18.
(2)
ابن التين: هو عبد الواحد بن التين السفاقسي، له شرح على البخاري. ينظر: إرشاد الساري: 1/ 42.
(3)
فتح الباري، 9/ 18.
(4)
فتح الباري: 9/ 19.
(5)
الإبانة لمكي بن أبي طالب: 67.
(6)
المرشد الوجيز: 51.