الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني جمعه في السطور
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: أدوات الكتابة
لقد ظل الاهتمام بحفظ القرآن الكريم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مرافقا ومسايرا الاهتمام بكتابته، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤه على صحابته، ويقرءونه فيما بينهم، وكان عليه الصلاة والسلام يأمر بكتابة ما ينزل عليه من القرآن فور نزوله حتى تظاهر الكتابة في السطور، جمع القرآن في الصدور.
والأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بكتابته والترغيب فيها كثيرة، منها: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه .. )«1» ، نفهم من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز كتابة القرآن، بل أمر بها، ولكن قد لا تتوافر لديهم وقت النزول تلك المادة المطلوبة للكتابة، ولهذا تنوعت أدوات الكتابة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم «2» ، وهذا يدل على مدى المشقة التي كان يتحملها الصحابة رضي الله عنهم في كتابة القرآن، وقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب أنه قال: لما نزلت: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «3» ، قال
(1) صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم، حديث رقم (3004): 4/ 2298؛ وينظر: نكت الانتصار لنقل القرآن للباقلاني:
355.
(2)
ينظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي: 1/ 233؛ والإتقان للسيوطي: 1/ 126؛ وتاريخ القرآن للزنجاني: 44؛ وعلوم القرآن والتفسير: 12؛ ومباحث في علوم القرآن، لمناع: 123؛ وموجز البيان في مباحث القرآن للشيخ كمال الدين الطائي:
47.
(3)
سورة النساء، الآية (95).
النبي صلى الله عليه وسلم: ادع لي زيدا وليجيء باللوح والدواة والكتف، أو الكتف والدواة، ثم قال: اكتب: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ، وخلف ظهر النبي صلى الله عليه وسلم عمرو ابن أم مكتوم الأعمى، فقال: يا رسول الله فما تأمرني؟ فإني رجل ضرير البصر، فنزلت مكانها: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ «1» .
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه شيء من القرآن يدعو بعض من يكتب عنه، وكانوا يكتبونه على: العسب، واللخاف، والرقاع، والكرانيف، وقطع الأديم، وعظام الأكتاف، والأضلاع، والأقتاب «2» .
قال الخطابي «3» : (العسب)، بضم العين والسين: جمع عسيب، وهو جريد النخل، كانوا يكشفون الخوص ويكتبون في الطرف العريض. و (اللخاف)، بكسر اللام: جمع لخفة، وهي صفائح الحجارة الرقيقة و (الرقاع): جمع رقعة وتكون من جلد أو ورق. و (الكرانيف)، جمع كرنافة، وهي أصول السعف الغلاظ، و (قطع الأديم): هي الجلد، و (عظام الأكتاف) عظام أكتاف الإبل.
و (الأقتاب) جمع قتب. وهو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه «4» .
وقال الحارث المحاسبي في كتاب (فهم السنن): كتابة القرآن ليست
(1) ينظر: صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم (4704): 4/ 1909؛ ينظر: من الرسالة حول ذكر اسم ابن أم مكتوم: 80.
(2)
ينظر: الإتقان 1/ 127؛ وتحفة الأحوذي: 8/ 408؛ وتاريخ القرآن للدكتور عبد الصبور شاهين: 47.
(3)
الخطابي: هو حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي أبو سلمان، محدث فقيه، ثقة، متثبتا من أوعية العلم، من آثاره: بيان إعجاز القرآن، ومعالم السنن، وشرح البخاري (ت 388 هـ). ينظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 17/ 23؛ ومعجم المفسرين من صدر الإسلام حتى العصر الحاضر لعادل نويهض: 1/ 163.
(4)
ينظر: البرهان: 1/ 233؛ ومختار الصحاح: 567.
بمحدثة، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرقا في الرقاع، والأكتاف، والعسب، والقرطاس «1» .
غير أن هذا التنوع لا يعني أن الكتابة على تلك المواد الخشنة كانت تشمل أكثر القرآن الكريم، فهنالك أدلة كثيرة تدل على أن المواد اللينة من ورق، أو جلد، بل حتى الحرير كانت من ضمن المواد الأصلية التي كتب عليها القرآن الكريم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
روى الإمام الترمذي وأحمد بن حنبل عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال:
(كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع)«2» ، والرقاع يكون من جلد أو ورق.
وكانت العرب قبل الإسلام وبعده تعرف من وسائل الكتابة أدواتها اللينة كالجلد والورق ولا سيما إذا تصورنا أن مكة كانت مركزا تجاريا مهما تقوم التجارة فيها على توثيق العقود وتدوين الحسابات، ومن الأدلة الأخرى أيضا:
لقد كتبت صحيفة قريش في مقاطعة بني هاشم وصحيفة صلح الحديبية ورسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء لدعوتهم إلى الإسلام على مواد لينة كما تقتضي بذلك الأخبار الموثقة «3» .
وكيف لا تنتشر هذه الأدوات اللينة بين المسلمين وقد جاوروا أهل الكتاب، وكانت بأيديهم كتب يتدارسونها، وقد تكررت إشارات القرآن إلى هذه الكتب، كما خاطب القرآن العرب بأسماء هذه الأدوات اللينة كالصحف
(1) ينظر: البرهان: 1/ 238؛ والإتقان: 1/ 129.
(2)
سنن الترمذي، كتاب المناقب، باب في فضل الشام واليمن، حديث رقم (3654):
5/ 734؛ ومسند الإمام أحمد، حديث زيد بن ثابت، حديث رقم (21647):
5/ 184؛ وينظر: الإتقان: 1/ 126؛ والمرشد الوجيز: 44.
(3)
ينظر: السيرة النبوية لابن هشام: 2/ 14، و: 3/ 331.
والقراطيس كما في قوله تعالى: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19)«1» ، وقوله تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)«2» ، وقوله تعالى: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً «3» .
وذكر القرآن أيضا القلم والسجل والورق، كل ذلك موجه إلى العرب الذين لصقت بهم صفة الأمية خلال التاريخ، فلا ريب أنها لم تكن أمية جهل بالقراءة والكتابة، وإنما هي وثنية كانوا يدينون بها «4» .
إضافة إلى أنه لو صح أن معظم القرآن الكريم قد كتب على المواد الخشنة لكانت تلك المواد تحتاج في الهجرة إلى حمل قافلة، لأن القرآن الذي نزل بمكة يعد ثلثي القرآن، ولم تحدثنا أخبار الهجرة أن مثل هذه القافلة قد جيء بها إلى المدينة قبل النبي صلى الله عليه وسلم أو بعده «5» .
وقد ورد في قصة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أن أوائل سورة (طه) كانت مكتوبة في رقعة في بيت فاطمة بنت الخطاب أخت عمر، ولم تكن هذه الصحيفة إلا واحدة من صحف كثيرة متداولة بين المسلمين في مكة يقرءون
(1) سورة الأعلى، الآيتان (18 - 19).
(2)
سورة الأنعام، الآية (7).
(3)
سورة الأنعام، من الآية (91).
(4)
تاريخ القرآن، د. عبد الصبور شاهين:67.
(5)
ينظر: علوم القرآن والتفسير للدكتور محسن عبد الحميد: ص 12 - 13، نقلا عن تاريخ القرآن بين تساهل المسلمين وشبهات المستشرقين للدكتور إسماعيل أحمد الطحاوي، بحث منشور في حولية كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر، العدد 3، 1404 هـ.
فيها القرآن «1» .
وجاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنهم أنه قال: لما خطب النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة قام إليه رجل من اليمن يقال له أبو شاه، وطلب إليه أن يكتبوا الخطبة، فقال صلى الله عليه وسلم:(اكتبوا لأبي شاه)«2» .
وهنا يبرز سؤال، أو ربما يسأل سائل ويقول: لماذا لم يجمع القرآن في مصحف واحد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتضم المواد المشار إليها والتي استعملت في الكتابة بعضها إلى بعض؟ إن ذلك يرجع إلى ما كان يترقبه النبي صلى الله عليه وسلم من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يقرر ترتيب الآيات، فيقول:(ضعوا الآية كذا في موضع كذا)«3» .
وإن ذلك لم يكن خاضعا للاجتهاد منه عليه الصلاة والسلام لأن جبريل عليه السلام كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن مرة في رمضان من كل عام، وفي العام الذي توفي فيه صلى الله عليه وسلم عارضه به مرتين «4» . وهكذا انقضى العهد النبوي السعيد والقرآن مجموع على هذا النمط، والصحابة رضي الله عنهم الذين كانوا
يكتبون القرآن لم يلتزموا بتوالي السور وترتيبها، وذلك لأن أحدهم كان إذا حفظ سورة أنزلت
(1) ينظر: السيرة النبوية لابن هشام 1/ 367 - 368؛ والصديق أبو بكر، لمحمد حسنين هيكل:309.
(2)
ينظر: صحيح البخاري، كتاب اللقطة، رقم الحديث (2302): 2/ 857؛ وصحيح مسلم، كتاب الحج، رقم الحديث (1355): 2/ 988؛ وجامع بيان العلم وفضله 1/ 84.
(3)
ينظر: من حديث يرويه الإمام أحمد في مسنده: 5/ 158؛ وينظر: الإتقان للسيوطي:
1/ 126؛ ومناهل العرفان: 1/ 248.
(4)
من حديث صحيح البخاري، باب علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3426): 3/ 1326؛ وينظر: مسند الإمام أحمد، مسند ابن عباس رضي الله عنهما، حديث رقم (2494): 1/ 275.
على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كتبها، ثم خرج في سرية مثلا ونزلت في وقت غيابه سورة أخرى، فإنه كان إذا رجع يأخذ في حفظ ما ينزل بعد رجوعه وكتابته، فيستدرك ما كان يفوته في غيابه «1» .
وهكذا فقد ظل القرآن يكتب في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم على القطع المتفرقة، دون أن يجمع ويكتب على الصورة التي نجدها للمصحف اليوم، وتأكيدا لما ذكرنا، فقد روى الطبري في تفسيره عن محمد بن شهاب الزهري أنه قال:(قبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جمع في شيء، وإنما كان في الكرانيف والعسب)«2» .
وقد ذكر ابن عبد البر ووافقه ابن حجر والسيوطي أن القرآن كان مكتوبا ومجموعا، ولكن في الصحف والألواح والعسب، قال في الاستيعاب:
(وكان القرآن مجموعا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يكن في مصحف واحد، بل كان في صدور الرجال وفي العسب واللخاف والرق وأكتاف الإبل وما إلى ذلك)«3» .
وقال ابن حجر: (إن القرآن كان كله قد كتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الصحف والألواح والعسب، لكن غير مجموع في موضع واحد، ولا مرتب)«4» .
وجاء في الإتقان: (وإنما لم يجمع في مصحف منظم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن القرآن كان ينزل مفرقا، ولأن السورة ربما نزل بعضها ثم تأخر نزول
(1) ينظر: مناهل العرفان 1/ 247؛ ومجلة الوعي الإسلامي، العدد 309 سنة 1410 هـ (جمع القرآن الكريم وافتراءات المستشرقين)، مقال للأستاذ حسن عزوزي: 16 - 17.
(2)
جامع البيان (تفسير الطبري) 1/ 18. والحديث إسناده حسن؛ ينظر تخريجه في المبحث الثالث من هذا الفصل: 86.
(3)
الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر: 1/ 533.
(4)
فتح الباري: 9/ 15.