الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ترتب على حلها سلامة النص القرآني من التحريف «1» . وهو الأساس الذي انطلقت منه حركة الحضارة الإسلامية في التاريخ، مطمئنة إلى دستورها المنزل، وهذا من أحسن وأعظم ما فعله الصديق رضي الله عنه، فإن الله تعالى أقامه بعد النبي صلى الله عليه وسلم مقاما لا ينبغي لأحد من بعده، فقد قاتل الأعداء من مانعي الزكاة، والمرتدين، والفرس والروم، ونفذ الجيوش، وبعث البعوث والسرايا، ورد الأمر إلى نصابه، بعد الخوف من تفرقه وذهابه، وجمع القرآن العظيم من أماكنه المتفرقة، حتى تمكن القارئ من حفظه كله، وكان هذا من سر قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)«2» ، فجمع الصديق رضي الله عنه الخير وكف الشرور رضي الله عنه وأرضاه «3». ولذلك قال علي رضي الله عنه:(أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر، إن أبا بكر أول من جمع القرآن بين اللوحين)«4» .
المطلب الثاني: لجنة جمع القرآن
تشير رواية جمع القرآن السابقة إلى الصفات والمؤهلات التي جعلت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يخص زيد بن ثابت رضي الله عنه بهذا العمل الجليل، فذكرت له أربع خصال كونه شابا، فيكون أنشط لما يطلب منه، وكونه عاقلا، فيكون أوعى له، وكونه لا يتهم، فتركن النفس إليه، وكونه كان يكتب الوحي، فيكون أكثر ممارسة له «5» .
فهذا الحديث يدل على جدارة زيد بهذه الثقة، لتوافر تلك المناقب التي
(1) ينظر: تاريخ القرآن، د. عبد الصبور شاهين: 103 - 104؛ ورسم المصحف:
103.
(2)
سورة الحجر، الآية (9).
(3)
ينظر: فضائل القرآن لابن كثير: 15.
(4)
المصدر نفسه: 15، وقال: هذا إسناد صحيح؛ ينظر: كتاب المصاحف: 1/ 165.
(5)
ينظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري: 9/ 16.
ذكرها فيه الصديق، ويؤيد ورعه ودينه وأمانته، قوله:(فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن)«1» .
بدأ زيد بن ثابت صاحب العقل الخصب، والورع الشديد، والأمانة العظيمة، والحفظ الدقيق، الموافق للعرضة الأخيرة بجمع القرآن، قال الزركشي:
(وكان زيد قد شهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بها، حتى مات ولذلك اعتمده الصديق في جمعه، وولاه عثمان كتابة المصحف)«2» .
ولكن عمل عظيم مثل جمع القرآن في الصحف من القطع التي كان قد كتب عليها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، لا بد أنه احتاج إلى جهود كبيرة وهو ما يدعو إلى الاعتقاد أن بعض الصحابة قد وقف إلى جانب زيد في إنجاز هذا العمل الكبير «3» ، ولعل في مقدمة من أسهم في ذلك عمر بن الخطاب، الذي كان ضمن كتاب الوحي، كما تقدم. ويدل على ذلك ما أخرجه ابن أبي داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال:(قدم عمر، فقال: من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من القرآن فليأت به، وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شاهدان)«4» . وذلك عن أمر الصديق له في ذلك.
ويدل عليه ما أخرجه ابن أبي داود أيضا، ولكن من طريق هشام بن عروة عن أبيه، أن أبا بكر قال لعمر ولزيد:(اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه)«5» .
(1) المصدر نفسه: 9/ 16.
(2)
البرهان: 1/ 237.
(3)
فضائل القرآن لابن كثير: 16؛ وفتح الباري لابن حجر: 9/ 17، وعزاه لابن أبي داود في المصاحف؛ ينظر: المصاحف: 1/ 181.
(4)
ينظر: فتح الباري: 9/ 17.
(5)
ينظر: كتاب المصاحف: 1/ 169.
وهو حديث رجاله ثقات، مع انقطاعه، قال ابن حجر:(المراد بالشاهدين الحفظ والكتابة)«1» .
وقال السخاوي في جمال القراء: إن المراد بهما رجلان عدلان إذ يقول ما نصه: (المراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» . ولذلك قال في الحديث الذي رواه البخاري والذي ذكر سابقا: أنه لم يجد آخر سورة براءة إلا مع أبي خزيمة، أي لم يجدها مكتوبة إلا مع أبي خزيمة الأنصاري، مع أن زيدا كان يحفظها، وكان كثير من الصحابة يحفظونها، ولكنه أراد أن يجمع بين الحفظ والكتابة زيادة في التوثق، ومبالغة في الاحتياط، واتبع زيد بن ثابت وأعضاء اللجنة معه هذه الطريقة الدقيقة المحكمة لجمع القرآن «3» .
وقد استغرق إنجاز ذلك العمل ما يقرب سنة، فقد كان بين غزوة اليمامة- التي وقعت في الأشهر الأخيرة من السنة الحادية عشرة أو الأولى من السنة الثانية عشرة «4» - وبين وفاة الصديق رضي الله عنه التي كانت في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة للهجرة «5» .
ولا شك في أنه اكتمل العمل قبل وفاة الصديق إذ أن الروايات تشير إلى أن الصحف أودعت عنده بقية حياته، ثم أخذها عمر بعده، فكانت عنده محروسة معظمة مكرمة، فلما مات كانت عند حفصة أم المؤمنين، لأنها كانت وصيته من أولاده على أوقافه وتركته، حتى أخذها أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، لتكون رهن تصرفه «6» .
(1) فتح الباري: 9/ 17.
(2)
ينظر: مناهل العرفان: 1/ 252.
(3)
فتح الباري: 9/ 18؛ وينظر: مناهل العرفان: 1/ 252.
(4)
تاريخ الطبري: 3/ 343.
(5)
المصدر نفسه: 3/ 419.
(6)
ينظر: فضائل القرآن لابن كثير: 17؛ ورسم المصحف، د. غانم قدوري:
وامتاز الجمع بما يأتي:
1 -
جمع القرآن في مصحف واحد، ومرتب الآيات على الوضع الذي نقرؤه اليوم، وكانت كل سورة مستقلة في الكتابة بنفسها في صحف. ثم جمعت هذه الصحف وشدت بعضها إلى بعض.
2 -
جمعه على أدق وجوه البحث العلمي.
3 -
أنه ظفر بإجماع الأمة عليه.
4 -
حوى الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن «1» .
5 -
ثبت نص القرآن بالتواتر، وروته جموع غفيرة يؤمن تواطؤها على الكذب.
وتكفل الله بحفظه وتمت كتابته على أوثق وجه، فهو أصدق وثيقة عرفها التاريخ، لم يدخله تبديل ولا تغيير لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ «2» .
ومما ينبغي أن يعلم أن الجمع بهذه الدقة الفائقة والتثبت البالغ والاشتمال على هذه المميزات لم يكن لغير صحف أبي بكر رضي الله عنه، فهي النسخة الأصلية الموثوق بها، التي يجب الاعتماد عليها.
نعم، قد كانت هناك صحف ومصاحف لبعض الصحابة كتبوا فيها القرآن، إلا أنها لم تحظ بما حظيت به صحف أبي بكر الصديق رضي الله عنه من الدقة والميزات، فبعض الصحابة كان يكتب المنسوخ، وما ثبت برواية الآحاد وبعض التفسيرات والتأويلات، ويكتب بعض الأدعية والمأثورات «3» ، كما سيأتي
- 105 - 106.
(1)
ينظر: مناهل العرفان: 1/ 253؛ والمدخل لدراسة القرآن الكريم، لمحمد أبي شهبة:
246؛ وعلوم القرآن والتفسير: د. محسن عبد الحميد: 15؛ وتاريخ القرآن والتفسير، د. عبد الله محمود شحانة:40.
(2)
سورة يونس، الآية (64).
(3)
ينظر: المدخل لدراسة القرآن الكريم، لمحمد أبي شهبة:246.
توضيح هذه المسألة في المبحث الأخير من الرسالة.
وقال الزرقاني: وعلى هذا الدستور تم جمع القرآن بإشراف أبي بكر وعمر وأكابر الصحابة وإجماع الأمة عليه دون نكير، وكان ذلك منقبة خالدة لا يزال التاريخ يذكرها بالجميل لأبي بكر في الإشراف ولعمر في الاقتراح، ولزيد في التنفيذ، وللصحابة في المعاونة والإقرار «1» .
(1) ينظر: مناهل العرفان: 1/ 253؛ وتاريخ القرآن والتفسير، د. عبد الله محمود شحاتة:40.