الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أقول: لقد بينت في الفصل الأول من الرسالة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اتخذ له كتابا من خيرة صحابته، وبينت الرأي الراجح في عددهم وأشهرهم لكتابة الوحي، والنبي عليه الصلاة والسلام لم ينه عن كتابة الحديث في البداية إلا لتوجيه العناية الكلية إلى القرآن الكريم وحده فالرسول عليه الصلاة والسلام لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلا بعد تحفيظه كله في الصدور، وكتابته في السطور- كما ذكرت هذا سابقا-. ففكرة تدوين مقاطع الوحي كانت بالمدينة، فلا نجد في متناول يد بلاشير ما يستند إليه من أدنى دليل فيما يذهب إليه إلا مجرد تكهن وتخمين.
وإن حقائق التاريخ ووقائعه تؤكد مسايرة كتابة الوحي وحفظه في العهد المكي كما كان في العهد المدني «1» .
الشبهة الرابعة وردها:
قال المستشرق جولد سهر «2» في بداية بحثه في كتابه (مذاهب التفسير الإسلامي): (لا يوجد كتاب تشريعي اعترفت به طائفة دينية اعترافا عقديا على أنه نص منزل أو موحى به يقدم نصه في أقدم عصور تداوله مثل هذه الصورة من الاضطراب وعدم الثبات كما نجد في النص القرآني)«3» .
جولد سهر الذي نصب نفسه قاضيا وأصدر حكمه المزعوم بالاضطراب المنقطع النظير في القرآن والذي لم يوجد مثله في أي كتاب تشريعي آخر، نقول: أين رأى جولد سهر عن كتب الشرائع السابقة في
(1) ينظر: مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية: 1/ 40.
(2)
أجناس جولد سهر: مستشرق يهودي مجري عرف بعدائه للإسلام وخطورة كتاباته عنه، كتب عن القرآن الكريم والحديث، من كتبه مذاهب التفسير الإسلامي، مات سنة 1921 م. ينظر: الأعلام للزركلي، ط 4: 1/ 14.
(3)
مذاهب التفسير الإسلامي لجولد سهر: 4.
نصوصها الأصلية حتى تصح له المقارنة والحكم على الاضطراب بالقرآن، فالتوراة والإنجيل والكتب المتداولة اليوم لدى اليهود والنصارى نسخ مختلفة ومحرفة في نصوصها، فتاريخ التوراة والإنجيل وصحة نسبتهما أبعد ما يكون من الصحة والوثوق، وهذا أمر لا يخفى على المعنيين بدراستهما، لذا فلا نسلم لجولد سهر إجراء مثل هذه المقارنة بين نصر القرآن الذي لا يرقى إلى صحته شك كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «1» ، وبين التوراة والإنجيل المتداولة لدى اليهود والنصارى والتي لا شك في تحريفها وعدم صحتها، والفضل بما شهدت به الأعداء، فهذا موريس بوكاي الذي ينتهي من المقارنة بين نص القرآن وبين نص التوراة والإنجيل إلى القول:(صحة القرآن التي لا تقبل الجدل تعطي النص مكانة خاصة بين كتب التنزيل ولا يشترك مع نص القرآن في هذه الصحة لا العهد القديم ولا العهد الجديد)«2» .
ويمضي موكاي قائلا: (أما ما يخص العهد القديم، فإن تعدد كتاب نفس الرواية بالإضافة إلى تعدد المراجعات لبعض الكتب على عدة فترات قبل العصر المسيحي، هو من أسباب الخطأ والتناقض، وأما فيما يخص الإنجيل، فلا يستطيع أحد أن يجزم أنها تحتوي على رواية أمينة لرسالة المسيح .. ويختلف الأمر بالنسبة إلى القرآن، فهو فور تنزيله، وأولا بأول كان النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من حوله يتلونه عن ظهر قلب، وكان الكتبة من صحبه يدونونه، إذا فالقرآن يتمتع منذ البداية بعنصري الصحة- الحفظ والتدوين- هذين اللذين لا تتمتع بهما الأناجيل
…
) «3» .
يقول جولد سهر: إن معنى الاضطراب وعدم الثبات في النص، يعنيان
(1) سورة الحجر، الآية (9).
(2)
دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة لموريس بوكاي: 151.
(3)
دراسة الكتب المقدسة لموريس بوكاي: 151 - 152.
أن النص ورد على صور مختلفة أو متضاربة لا يعرف الثبات منها، فأين موجود هذا الاضطراب وعدم الثبات؟ أفي القرآن أم في التوراة والإنجيل؟ فكما يقال:
فمن فمك أدينك، فهل تحتوي التوراة والإنجيل نصا أمينا غير محرف وغير مضطرب، إنها كلها محرفة وكلها مضطربة. وقد اطلعت على نسخة مكونة من العهد القديم والعهد الجديد، وقرأت فيها بعض النصوص، فلا يليق هذا الكلام أن ينسب إلى رب العالمين أو إلى نبي من الأنبياء «1» .
أما القرآن الكريم فنصه موحد منذ نزوله على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وليس فيه شيء من الاضطراب البتة، أما القراءات المشهورة التي أشار إليها المستشرق سهر، فهي متواترة ومقطوع بصحة نسبتها إلى مصدرها الأصلي، وهو النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، والذي كان على بينة من اختلافها في النص الواحد، على أن هذا الاختلاف لا يتناول كلمة كلمة وآية آية «2» ، وقد تناولت مسألة القراءات في المبحث الأول من الفصل الثالث، فلا داعي لتكراره والحديث عنه هنا بأكثر من الذي أشرنا إليه، فليس هناك أي تضارب أو اضطراب في النص بسبب القراءات، بل إن هذه القراءات قد شدت المسلمين على الحفاظ على النص القرآني الموحد أكثر فأكثر.
(1) ينظر على سبيل المثال: الكتاب المقدمة (كتاب الحياة) الذي يشمل العهد القديم والعهد الجديد- أي التوراة والإنجيل-: 455، إذ ورد فيها: (وأولع سليمان بنساء غريبات كثيرات
…
وكلهن من بنات الأمم نهى الرب بني إسرائيل عن الزواج منهن
…
ولكن سليمان التصق بهن لفرط محبته لهن فكانت له سبع مائة زوجة
…
) هل هذا الكلام يليق أن ينسب إلى نبي من الأنبياء؟!!!
(2)
ينظر: كتاب نكت الانتصار للباقلاني، باب اعتراضهم على القرآن بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
(أنزل القرآن على سبعة أحرف): 110؛ وينظر: المستشرقون والقرآن الكريم، رسالة دكتوراه لمحمد بهاء الدين:173.