الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مسألة: ]
ويقتل المتسبب مع المباشر، كحافر بئر ليقع فيه معين، فيهلك، فوقف على شفيرها فرداه فيها غير الحافر فمات.
وقال القاضي أبو عبد اللَّه بن هارون: يقتل المردي تغليبًا للمباشرة، فلو حفرها لنفسه فرداه غيره فالقود على المردي اتفاقًا، ولا شيء على الحافر.
وشبه هذه بقوله: كمكره: بالكسر ومكره بالفتح في كونهما يقتلان معًا.
وأشار لمثال من أمثلة التسبب بقوله: وكأب أو معلم أمر كل منهما ولدًا صغيرًا مراهقًا بقتل شخص، أو سيد بالجر عطفًا على أب أمر عبدًا مطلقًا يحتمل صغيرًا أو كبيرًا، فصيحًا أو أعجميًا، فيقتل الآمر وحده عند ابن القاسم في المسائل الثلاث، وعلى عاقلة الصغير نصف الدية، فإن كثر الصبيان فعلى عواقلهم، وإن لم يجب على عاقلة كل إلا أقل من الثلث، فإنها تحمله، قاله ابن يونس.
ويلغز بها، وفهم من قوله:(صغيرًا) أن الكبير يقتل دون الآمر في المسألتين، وهو كذلك، ولا قتل على الآمر ولا على عاقلته، وعليه العقوبة.
وإن لم يخف المأمور من الآمر وقتل اقتص منه فقط، ويضرب الآمر مائة ويحبس عامًا.
وعلى المكلف شريك الصبي في القتل القصاص دون الصبي، إن تمالآ على قتله، قال في المدونة: وعلى عاقلة الصبي نصف الدية.
ومفهوم كلامه: لو تعمد من غير تمالىء لم يقتل المكلف؛ لاحتمال كون رمي الصبي هو القاتل، ولو كانا مخطئين، أو المكلف مخطئًا، لم يقتل الكبير، وكذا لو كانت رمية المكلف عمدًا والصبي خطأ عند ابن القاسم.
لا شريك مخطئ، تعمد الشريك، ولا شريك مجنون، فلا يقتص من واحد من شريكهما؛ إذ لا يدري القاتل منهما، ولا قتل بشك.
واختلف هل يقتص من شريك سبع ونحوه، افترس شخصًا، ثم ضربه آخر حالة الافتراس، قاصدًا قتله، فمات بعد الجرح، ومن شريك جارح نفسه، ضربه آخر قاصدًا قتله، ومات، ومن شريك حربي، ومن شريك مرض بعد الجرح، حصل للمجروح يموت منه غالبًا ومات، أو لا يقتص من الشريك في هذه الأربع، أو إنما عليه نصف الدية، ويضرب مائة، ويحبس عامًا (1)، قولان لابن القاسم.
(1) الحبس في اللغة كما في معجم مقاييس اللغة (2/ 128): "الحاء والباء والسين. يقال حَبَسْتُه حَبْسًا. والحَبْس: ما وُقِف، يقال: أَحْبَسْتُ فرسًا في سبيل اللَّه، والحِبْسُ: مَصنعةٌ للماء، والجمع أحباس".
والسجن كما في المصدر السابق (3/ 137): "السين والجيم والنون أصل واحد، وهو الحَبْس. يقال سجنته سَجنًا. والسِّجن: المكان يُسجَن فيه الإنسان. قال اللَّه جلَّ ثناؤه في قصّة يوسف عليه السلام: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33]. فيقرأ فتحًا على المصدر، وكسرًا على الموضع (20)، وأما قولُ ابنِ مُقْبل:
ضربًا تَوَاصَى به الأبطالُ سِجِّينًا
فقيل إنَّهُ أراد سِجِّيلًا. أي شديدًا. وقد مضى ذِكرُهُ. وإِنَّما أبدل اللام نونًا. والوجه في هذا أنَّهُ قياس الأوَّل من السَّجن، وهو الحبس؛ لأنَّه إذا كان ضربًا شديدًا ثبت المضروب، كأنَّه قد حبسه".
قال القرطبي في جامعه (6/ 352، وما بعدها) في تفسير آية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)} : "التاسعة - قوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا} قال أبو علي: {تَحْبِسُونَهُمَا} صفة لـ {آخَرَانِ} واعترض بين الصفة والموصوف بقوله: {إِنْ أَنْتُمْ} . وهذه الآية أصل في حبس من وجب عليه حق؛ والحقوق على قسمين: منها ما يصلح استيفاؤه معجلًا؛ ومنها ما لا يمكن استيفاؤه إلا مؤجلًا؛ فإن خلي من عليه الحق غاب واختفى وبطل الحق وتوي فلم يكن بد من التوثق منه فإما بعوض عن الحق وهو المسمى رهنًا؛ وإما بشخص ينوب منابه في المطالبة والذمة وهو الحميل؛ وهو دون الأول؛ لأنه يجوز أن يغيب كمغيبه ويتعذر وجوده كتعذره؛ ولكن لا يمكن أكثر من هذا فإن تعذرا جميعًا لم يبق إلا التوثق بحبسه حتى تقع منه التوفية لما كان عليه من حق؛ أو تبين عسرته.
العاشرة - فإن كان الحق بدنيًا لا يقبل البدل كالحدود والقصاص ولم يتفق استيفاؤه معجلًا؛ لم يكن فيه إلا التوثق بسجنه؛ ولأجل هذه الحكمة شرع السجن روى أبو =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= داود والترمذي وغيرهما عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلًا في تهمة. وروى أبو داود عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته". قال ابن المبارك يحل عرضه يغلظ له، وعقوبته يحبس له. قال الخطابي: الحبس على ضربين؛ حبس عقوبة، وحبس استظهار، فالعقوبة لا تكون إلا في واجب، وأما ما كان في تهمة فإنما يستظهر بذلك ليستكشف به ما وراءه؛ وقد روي أنه حبس رجلًا في تهمة ساعة من نهار ثم خلى عنه. وروى معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: كان شريح إذا قضى على رجل بحق أمر بحبسه في المسجد إلى أن يقوم فإن أعطاه حقه وإلا أمر به إلى السجن".
وقال ابن القيم في الطرق الحكمية: "فصل في التهم، القسم الثاني من الدعاوى، دعاوى التهم، وهي: دعوى الجناية والأفعال المحرمة كدعوى القتل، وقطع الطريق، والسرقة، والقذف، والعدوان.
فهذا ينقسم المدعى عليه فيه إلى ثلاثة أقسام، فإن المتهم إما أن يكون بريئًا ليس من أهل تلك التهمة، أو فاجرًا من أهلها، أو مجهول الحال لا يعرف الوالي والحاكم.
فإن كان بريئًا لم تجز عقوبته اتفاقًا، واختلفوا في عقوبة المتهم له على قولين أصحهما: أنه يعاقب صيانة لتسلط أهل الشر والعدوان على أعراض البرآء.
قال مالك وأشهب رحمهما اللَّه: لا أدب على المدعي إلا أن يقصد أذية المدعى عليه وعيبه وشتمه، فيؤدب.
وقال أصبغ: يؤدب، قصد أذيته أو لم يقصد، وهل يحلف في هذه الصورة؟ فإن كان المدعى حدًا للَّه لم يحلف عليه، وإن كان حقًا لآدمي ففيه قولان، مبنيان على سماع الدعوى، فإن سمع الدعوى حلف له، وإلا لم يحلف.
والصحيح: أنه لا تسمع الدعوى في هذه الصورة، ولا يحلف المتهم لئلا يتطرق الأراذل والأشرار إلى الاستهانة بأولي الفضل والأخطار، كما تقدم من أن المسلمين يرون ذلك قبيحًا.
34 -
(فصل) القسم الثاني: أن يكون المتهم مجهول الحال، لا يعرف ببر ولا فجور، فهذا يحبس حتى ينكشف حاله عند عامة علماء الإسلام، والمنصوص عليه عند أكثر الأئمة: أنه يحبسه القاضي والوالي، هكذا نص عليه مالك وأصحابه، وهو منصوص الإمام أحمد ومحققي أصحابه، وذكره أصحاب أبي حنيفة.
وقال الإمام أحمد: قد حبس النبي صلى الله عليه وسلم في تهمة، قال أحمد: وذلك حتى يتبين للحاكم أمره، وقد روى أبو داود في سننه" وأحمد وغيرهما من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده: "أن النبي حبس في تهمة" وفي "جامع الخلال" عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن النبي حبس في تهمة يومًا وليلة". =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= والأصول المتفق عليها بين الأئمة توافق ذلك، فإنهم متفقون على أن المدعي إذا طلب المدعى عليه، الذي يسوغ إحضاره: وجب على الحاكم إحضاره إلى مجلس الحكم، حتى يفصل بينهما، ويحضره من مسافة العدوى -التي هي عند بعضهم بريد- وهو ما لا يمكن الذهاب إليه والعود في يومه، كما يقوله بعض أصحاب الشافعي وأحمد، وهو رواية عن أحمد، وعن بعضهم يحضره من مسافة القصر، وهي مسيرة يومين، كما هي الرواية الأخرى عن أحمد.
ثم إن الحاكم قد يكون مشغولًا عن تعجيل الفصل، وقد تكون عنده حكومات سابقة، فيكون المطلوب محبوسًا معوقًا من حين يطلب إلى أن يفصل بينه وبين خصمه، وهذا حبس بدون التهمة، ففي التهمة أولى، فإن الحبس الشرعي ليس هو السجن في مكان ضيق، وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه سواء كان في بيت أو مسجد، أو كان بتوكيل نفص الخصم أو وكيله عليه، وملازمته له، ولهذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم "أسيرا" كما روى أبو داود وابن ماجه، عن الهرماس بن حبيب عن أبيه عن جده، قال:"أتيت النبي بغريم لي، فقال: "ألزمه"، ثم قال لي: "يا أخا بني تميم، ما تريد أن تفعل بأسيرك" وفي رواية ابن ماجه:"ثم مر بي آخر النهار، فقال: "ما فعل أسيرك يما أخا بضي تميم" وكان هذا هو الحبس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه ولم يكن له محبس معد لحبس الخصوم ولكن لما انتشرت الرعية في زمن عمر بن الخطاب ابتاع بمكة دارًا وجعلها سجنًا يحبس فيها، ولهذا تنازع العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم: هل يتخذ الإمام حبسًا؟ على قولين: فمن قال: لا يتخذ حبسًا، قال: لم يكن لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولا لخليفته بعده حبس، ولكن يعوقه بمكان من الأمكنة، أو يقام عليه حافظ -وهو الذي يسمى الترسيم أو يأمر غريمه بملازمته كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن قال: له أن يتخذ حبسًا، قال: قد اشترى عمر بن الخطاب من صفوان بن أمية دارًا بأربعة آلاف، وجعلها حبسًا.
ولما كان حضور مجلس الحاكم من جنس الحبس تنازع العلماء: هل يحضر الخصم المطلوب بمجرد الدعوى أو لا يحضر حتى يبين المدعي أن للدعوى أصلًا، على قولين، هما روايتان عن أحمد، والأول: قول أبي حنيفة والشافعي، والثاني: قول مالك.
35 -
(فصل) ومنهم من قال: الحبس في التهم إنما هو لوالي الحرب، دون القاضي، وقد ذكر هذا طائفة من أصحاب الشافعي كأبي عبد اللَّه الزبيري، والماوردي وغيرهما وطائفة من أصحاب أحمد المصنفين في أدب القضاة وغيرهم، واختلفوا في مقدار الحبس في التهمة، هل هو مقدر؛ أو مرجعه إلى اجتهاد الوالي والحاكم -على =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قولين: ذكرهما الماوردي وأبو يعلى وغيرهما- فقال الزبيري: هو مقدر بشهر، وقال الماوردي: غير مقدر.
36 -
(فصل) القسم الثالث: أن يكون المتهم معروفًا بالفجور، كالسرقة وقطع الطريق والقتل ونحو ذلك، فإذا جاز حبس المجهول فحبس هذا أولى.
قال شيخنا ابن تيمية رحمه الله: وما علمت أحدًا من أئمة المسلمين يقول: إن المدعى عليه في جميع هذه الدعاوى يحلف، ويرسل بلا حبس ولا غيره فليس هذا -على إطلاقه- مذهبا لأحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم من الأئمة، ومن زعم أن هذا -على إطلاقه وعمومه- هو الشرع: فقد غلط غلطًا فاحشًا مخالفًا لنصوص رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولإجماع الأمة.
وبمثل هذا الغلط الفاحش تجرأ الولاة على مخالفة الشرع، وتوهموا أن الشرع لا يقوم بسياسة العالم ومصلحة الأمة، وتعدوا حدود اللَّه، وتولد من جهل الفريقين بحقيقة الشرع خروج عنه إلى أنواع من الظلم والبدع والسياسة، جعلها هؤلاء من الشرع، وجعلها هؤلاء قسيمة ومقابلة له، وزعموا أن الشرع ناقص لا يقوم بمصالح الناس، وجعل أولئك ما فهموه من العموميات والإطلاقات هو الشرع، وإن تضمن خلاف ما شهدت به الشواهد والعلامات الصحيحة.
والطائفتان مخطئتان في الشرع أقبح خطأ وأفحشه، وإنما أتوا من تقصيرهم في معرفة الشرع الذي أنزل اللَّه على رسوله، وشرعه بين عباده، كما تقدم بيانه، فإنه أنزل الكتاب بالحق ليقوم الناس بالقسط، ولم يسوغ تكذيب صادق ولا إبطال أمارة وعلامة شاهدة بالحق، بل أمر بالتثبت في خبر الفاسق، ولم يأمر برده مطلقًا، حتى تقوم أمارة على صدقه فيقبل، أو كذبه فيرد، فحكمه دائر مع الحق، والحق دائر مع حكمه أين كان، ومع من كان، وبأي دليل صحيح كان، فتوسع كثير من هؤلاء في أمور ظنوها علامات وأمارات أثبتوا بها أحكامًا، وقصر كثير من أولئك عن أدلة وعلامات ظاهرة ظنوها غير صالحة لإثبات الأحكام.
37 -
(فصل) ويسوغ ضرب هذا النوع من المتهمين، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير بتعذيب المتهم الذي غيب ماله حتى أقر به، في قصة ابن أبي الحقيق.
قال شيخنا: واختلفوا فيه: هل الذي يضربه الوالي دون القاضي، أو كلاهما أو لا يسوغ ضربه؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يضربه الوالي والقاضي.
وهذا قول طائفة من أصحاب مالك وأحمد وغيرهم، منهم أشهب بن عبد العزيز قاضي مصر، فإنه قال: يمتحن بالحبس والضرب، ويضرب بالسوط مجردًا.
والقول الثاني: أنه يضربه الوالي دون القاضي.
وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وأحمد، حكاه القاضيان. =