الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلا أن ينفذ مقتله، كقطع نخاعه، أو ثقب مصيره، ويقبل وارثه الدية وعلم به، وأوصى فيها، فيدخل فيها الوصية؛ لأنه مال علم به قبل موته.
[مسألة: ]
وإن عفا مجروح عن جرحه مجانًا، أو صالح عنه بمال، سواء كان عمدًا أو خطأ، فمات بعد ذلك، فلأوليائه القسامة والقتل في العمد والدية في الخطأ؛ لأن لهم رد عفوه ونقض صلحه، والرجوع لحقهم في النفس؛ لسريان الجناية لها، وليس للجاني أن يقول للأولياء: صارت الجراحة نفسًا فردوا المال واقتلوني، ولهم إمضاء الصلح.
وإن نقضوه رجع الجاني فيما دفع للمجروح، إن كان دفع له شيئًا، ثم هو في العقل كرجل من قومه فيما أخذ منه، وللقاتل إن ادعى العفو عنه وأنكر الولي الاستخلاف على عدم العفو على المشهود، فإن حلف ولي الدم على عدم العفو فواضح، وإن نكل ردت اليمين على القاتل، وحلف يمينًا واحدة لا خمسين؛ لأن الولي إنما كان يحلف واحدة، وإذا حلفها برئ، وإن نكل قتل، وتلوم له الإمام في دعوى بينته الغائبة الشاهدة له بالعفو، ونحوه في المدونة.
وقتل القاتل بما -أي: بمثل الآلة التي- قتل به، ولو كان المقتول به نارًا على المشهور، قال اللَّه تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (1).
(1) قال القرطبي في جامعه (10/ 201، وما بعدها): "فيه أربع مسائل:
الأولى: أطبق جمهور أهل التفسير أن هذه الآية مدنية، نزلت في شأن التمثيل بحمزة في يوم أحد، ووقع ذلك في صحيح البخاري وفي كتاب السير. وذهب النحاس إلى أنها مكية، والمعنى متصل بما قبلها من المكي اتصالًا حسنًا؛ لأنها تتدرج الرتب من الذي يُدعى ويُوعظ، إلى الذي يجادل، إلى الذي يجازى على فعله. ولكن ما روى الجمهور أثبت. روى الدارقطني عن ابن عباس قال: لما انصرف المشركون عن قتلى أحد انصرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فرأى منظرًا ساءه رأى حمزة قد شُق بطنه، واصطلم أنفه، وجدعت أذناه، فقال:"لولا أن يحزن النساء أو تكون سنة بعدي لتركته حتى يبعثه اللَّه من بطون السباع والطير لأمثلن مكانه بسبعين رجلًا" ثم دعا ببردة وغطى بها =
= وجهه، فخرجت رجلاه فغطى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وجهه وجعل على رجليه من الإذخر، ثم قدمه فكبر عليه عشرًا، ثم جعل يجاء بالرجل فيوضع وحمزة مكانه، حتى صلى عليه سبعين صلاة، وكان القتلى سبعين، فلما دفنوا وفرغ منهم نزلت هذه الآية:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} -إلى قوله- {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} فصبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولم يمثل بأحد. خرجه إسماعيل بن إسحاق من حديث أبي هريرة، وحديث ابن عباس أكمل. وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: إنما نزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة ألا ينال من ظالمه إذا تمكن إلا مثل ظلامته لا يتعداه إلى غيره. وحكاه الماوردي عن ابن سيرين ومجاهد.
الثانية: واختلف أهل العلم فيمن ظلمه رجل في أخذ مال ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال، هل يجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه، فقالت فرقة: له ذلك؛ منهم ابن سيرين وإبراهيم النخعي وسفيان ومجاهد؛ واحتجت بهذه الآية وعموم لفظها. وقال مالك وفرقة معه: لا يجوز له ذلك؛ واحتجوا بقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك". رواه الدارقطني وقد تقدم هذا في البقرة مستوفى.
ووقع في مسند ابن إسحاق أن هذا الحديث إنما ورد في رجل زنى بامرأة آخر، ثم تمكن الآخر من زوجة الثاني بأن تركها عنده وسافر؛ فاستشار ذلك الرجل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الأمر فقال له:"أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك". وعلى هذا يتقوى قول مالك في أمر المال؛ لأن الخيانة لاحقة في ذلك، وهي رذيلة لا انفكاك عنها، فينبغي أن يتجنبها لنفسه؛ فإن تمكن من الانتصاف من مال لم يأتمنه عليه فيشبه أن ذلك جائز وكأن اللَّه حكم له؛ كما لو تمكن الأخذ بالحكم من الحاكم. وقد قيل: إن هذه الآية منسوخة، نسختها {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} .
الثالثة: في هذه الآية دليل على جواز التماثل في القصاص؛ فمن قتل بحديدة قتل بها. ومن قتل بحجر قتل به، ولا يتعدى قدر الواجب، وقد تقدم هذا في البقرة مستوفى. والحمد للَّه.
الرابعة: سمى اللَّه تعالى الإذايات في هذه الآية عقوبة، والعقوبة حقيقة إنما هي الثانية، وإنما فعل ذلك ليستوي اللفظان وتتناسب ديباجة القول، هذا بعكس قوله:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54] وقوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] فإن الثاني هنا هو المجاز والأول هو الحقيقة؛ قاله ابن عطية".
(1)
قال القرطبي في جامعه (2/ 356، وما بعدها): "الخامسة: قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} عموم متفق عليه، إما بالمباشرة إن أمكن، وإما بالحكام. واختلف الناس في المكافأة هل تسمى عدوانا أم لا، فمن قال: ليس في القرآن مجاز، قال: المقابلة عدوان، وهو عدوان مباح، كما أن المجاز في كلام =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= العرب كذب مباح؛ لأن قول القائل:
فقالت له العينان سمعا وطاعة
وكذلك:
امتلأ الحوض وقال قطني
وكذلك:
شكا إلى جملي طول السرى
ومعلوم أن هذه الأشياء لا تنطق. وحد الكذب: إخبار عن الشيء على خلاف ما هو به. ومن قال في القرآن مجاز سمى هذا عدوانا على طريق المجاز ومقابلة الكلام بمثله، كما قال عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وقال الآخر:
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم
ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
ومن رام تقويمي فإني مقوم
ومن رام تعويجي فإني معوج
يريد: أكافع الجاهل والمعوج، لا أنه امتدح بالجهل والاعوجاج.
السادسة: واختلف العلماء فيمن استهلك أو أفسد شيئًا من الحيوان أو العروض التي لا تكال ولا توزن، فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما وجماعة من العلماء: عليه في ذلك المثل، ولا يعدل إلى القيمة إلا عند عدم المثل، لقوله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126].
قالوا: وهذا عموم في جميع الأشياء كلها، وعضدوا هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم حبس القصعة المكسورة في بيت التي كسرتها ودفع الصحيحة وقال:"إناء بإناء وطعام بطعام" خرجه أبو داود قال: حدثنا مسدد حدثنا يحيى ح وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا خالد عن حميد عن أنس أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم قصعة فيها طعام، قال: فضربت بيدها فكسرت القصعة. قال ابن المثنى: فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى، فجعل يجمع فيها الطعام ويقول:"غارت أمكم". زاد ابن المثنى "كلوا" فأكلوا حتى جاءت قصعتها التي في بيتها. ثم رجعنا إلى لفظ حديث مسدد وقال: "كلوا" وحبس الرسول والقصعة حتى فرغوا، فدفع القصعة الصحيحة إلى الرسول وحبس المكسورة في بيته. حدثنا أبو داود قال: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان قال وحدثنا فليت العامري -قال أبو داود: وهو أفلت بن خليفة- عن جسرة =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بنت دجاجة قالت قالت عائشة رضى اللَّه عنها: ما رأيت صانعًا طعامًا مثل صفية، صنعت لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طعامًا فبعثت به، فأخذني أفكل فكسرت الإناء، فقلت: يا رسول اللَّه، ما كفارة ما صنعت؟ قال:"إناء مثل إناء وطعام مثل طعام".
قال مالك وأصحابه: عليه في الحيوان والعروض التي لا تكال ولا توزن القيمة لا المثل، بدليل تضمين النبي صلى الله عليه وسلم الذي أعتق نصف عبده قيمة نصف شريكه، ولم يضمنه مثل نصف عبده. ولا خلاف بين العلماء على تضمين المثل في المطعومات والمشروبات والموزونات، لقوله عليه السلام:"طعام بطعام".
السابعة: لا خلاف بين العلماء أن هذه الآية أصل في المماثلة في القصاص، فمن قتل بشيء قتل بمثل ما قتل به، وهو قول الجمهور، ما لم يقتله بفسق كاللوطية وإسقاء الخمر فيقتل بالسيف. وللشافعية قول: إنه يقتل بذلك، فيتخذ عود على تلك الصفة ويطعن به في دبره حتى يموت، ويسقى عن الخمر ماء حتى يموت. وقال ابن الماجشون: إن من قتل بالنار أو بالسم لا يقتل به، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يعذب بالنار، إلا اللَّه". والسم نار باطنة. وذهب الجمهور إلى أنه يقتل بذلك، لعموم الآية.
الثامنة: وأما القَوَد بالعصا فقال مالك في إحدى الروايتين: إنه إن كان في القتل بالعصا تطويل وتعذيب قتل بالسيف، رواه عنه ابن وهب، وقاله ابن القاسم. وفي الأخرى: يقتل بها وإن كان فيه ذلك، وهو قول الشافعي. وروى أشهب وابن نافع عن مالك في الحجر والعصا أنه يقتل بهما إذا كانت الضربة مجهزة، فأما أن يضرب ضربات فلا. وعليه لا يرمى بالنبل ولا بالحجارة لأنه من التعذيب، وقاله عبد الملك. قال ابن العربي:"والصحيح من أقوال علمائنا أن المماثلة واجبة، إلا أن تدخل في حد التعذيب فلتترك إلى السيف". واتفق علماؤنا على أنه إذا قطع يده ورجله وفقأ عينه بقصد التعذيب فعل به ذلك، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بقتلة الرعاء. وإن كان في مدافعة أو مضاربة قتل بالسيف. وذهبت طائفة إلى خلاف هذا كله فقالوا: لا قود إلا بالسيف، وهو مذهب أبي حنيفة والشعبي والنخعي.
واحتجوا على ذلك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا قود إلا بحديدة"، وبالنهي عن المُثْلة، وقوله:"لا يعذب بالنار إلا رب النار". والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، لما رواه الأئمة عن أنس بن مالك أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين، فسألوها: من صنع هذا بك! أفلان، أفلان؟ حتى ذكروا يهوديًا فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي فأقر، فأمر به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن ترض رأسه بالحجارة. وفي رواية: فقتله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين حجرين. وهذا نص صريح صحيح، وهو مقتضى قوله تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [االنحل: 126]. وقوله: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} . وأما ما استدلوا به من حديث جابر فحديث ضعيف عند المحدثين، لا يروى عن طريق صحيح، لو صح قلنا بموجبه، وأنه إذا قتل بحديدة قتل بها، يدل =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= على ذلك حديث أنس: أن يهوديًا رض رأس جارية بين حجرين فرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأسه بين حجرين. وأما النهي عن المثلة فنقول أيضًا بموجبها إذا لم يمثل، فإذا مثل مثلنا به، يدل على ذلك حديث العرنيين، وهو صحيح أخرجه الأئمة. وقوله:"لا يعذب بالنار إلا رب النار" صحيح إذا لم يحرق، فإن حرق حرق، يدل عليه عموم القرآن. قال الشافعي: إن طرحه في النار عمدًا طرحه في النار حتى يموت، وذكره الوقار في مختصره عن مالك، وهو قول محمد بن عبد الحكم. قال ابن المنذر: وقول كثير من أهل العلم في الرجل يخنق الرجل: عليه القود، وخالف في ذلك محمد بن الحسن فقال: لو خنقه حتى مات أو طرحه في بئر فمات، أو ألقاه من جبل أو سطح فمات، لم يكن عليه قصاص وكان على عاقلته الدية، فإن كان معروفًا بذلك -قد خنق غير واحد- فعليه القتل. قال ابن المنذر: ولما أقاد النبي صلى الله عليه وسلم من اليهودي الذي رض رأس الجارية بالحجر كان هذا في معناه، فلا معنى لقوله.
قلت: وحكى هذا القول غيره عن أبي حنيفة فقال: وقد شذ أبو حنيفة فقال فيمن قتل بخنق أو بسم أو تردية من جبل أو بئر أو بخشبة: إنه لا يقتل ولا يقتص منه، إلا إذا قتل بمحدد حديد أو حجر أو خشب أو كان معروفًا بالخنق والتردية وكان على عاقلته الدية. وهذا منه رد للكتاب والسنة، وإحداث ما لم يكن عليه أمر الأمة، وذريعة إلى رفع القصاص الذي شرعه اللَّه للنفوس، فليس عنه مناص.
التاسعة: واختلفوا فيمن حبس رجلًا وقتله آخر، فقال عطاء: يقتل القاتل ويحبس الحابس حتى يموت. وقال مالك: إن كان حبسه وهو يرى أنه يريد قتله قتلا جميعًا، وفي قول الشافعي وأبي ثور والنعمان يعاقب الحابس. واختاره ابن المنذر.
قلت: قول عطاء صحيح، وهو مقتضى التنزيل. وروى الدارقطني عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر يقتل القاتل ويحبس الذي أمسكه". رواه سفيان الثوري عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر، ورواه معمر وابن جريج عن إسماعيل مرسلًا.
العاشر: قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى} الاعتداء هو التجاوز، قال اللَّه تعالى:{وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] أي يتجاوزها، فمن ظلمك فخذ حقك منه بقدر مظلمتك، ومن شتمك فرد عليه مثل قوله، ومن أخذ عرضك فخذ عرضه، لا تتعدى إلى أبويه ولا إلى ابنه أو قريبه، وليس لك أن تكذب عليه وإن كذب عليك، فإن المعصية لا تقابل بالمعصية، فلو قال لك مثلا: يا كافر، جاز لك أن تقول له: أنت الكافر. وإن قال لك: يا زان، فقصاصك أن تقول له: يا كذاب يا شاهد زور. ولو قلت له يا زان، كنت كاذبًا وأثمت في الكذب. وإن مطلك وهو غني دون عذر فقال: يا ظالم، يا آكل أموال الناس، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لَيُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته". أما عرضه =