الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خلد الله ظلال خِلَافَته السابغة الوارفة وأفاض على الْعَالمين سِجَال رأفته المترادفة وَيسر لَهُ النَّصْر المتين وَسَهل لَهُ الْفَتْح الْمُبين بجاه حَبِيبه وَرَسُوله مُحَمَّد الْأمين آمين
وَهَاهُنَا
مُقَدّمَة تشْتَمل على أُمُور ثَلَاثَة
يَنْبَغِي ذكرهَا أَمَام الشُّرُوع فِي الْمَقْصُود فَنَقُول بعون الله المعبود
(الْأَمر الأول)
(فِي الْكَلَام الَّذِي يَصح الاستشهاد بِهِ فِي اللُّغَة والنحو وَالصرْف)
قَالَ الأندلسي فِي شرح بديعية رَفِيقه ابْن جَابر عُلُوم الْأَدَب سِتَّة اللُّغَة وَالصرْف والنحو والمعاني وَالْبَيَان والبديع وَالثَّلَاثَة الأول لَا يستشهد عَلَيْهَا إِلَّا بِكَلَام الْعَرَب دون الثَّلَاثَة الْأَخِيرَة فَإِنَّهُ يستشهد فِيهَا بِكَلَام غَيرهم من المولدين لِأَنَّهَا رَاجِعَة إِلَى الْمعَانِي وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين الْعَرَب وَغَيرهم إِذْ هُوَ أَمر رَاجع إِلَى الْعقل وَلذَلِك قبل من أهل هَذَا الْفَنّ الاستشهاد بِكَلَام البحتري وَأبي تَمام وَأبي الطّيب وهلم جرا هـ
وَأَقُول الْكَلَام الَّذِي يستشهد بِهِ نَوْعَانِ شعر وَغَيره فَقَائِل الأول قد قسمه الْعلمَاء على طَبَقَات أَربع الطَّبَقَة الأولى الشُّعَرَاء الجاهليون وهم قبل الْإِسْلَام كامرئ الْقَيْس والأعشى
الثَّانِيَة المخضرمون وهم الَّذين أدركوا الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام كلبيد وَحسان
الثَّالِثَة المتقدمون وَيُقَال لَهُم الإسلاميون وهم الَّذين كَانُوا فِي صدر الْإِسْلَام كجرير والفرزدق الرَّابِعَة المولدون وَيُقَال لَهُم المحدثون وهم من بعدهمْ إِلَى زَمَاننَا كبشار ابْن برد وَأبي نواس
فالطبقتان الأوليان يستشهد بشعرهما إِجْمَاعًا وَأما الثَّالِثَة فَالصَّحِيح صِحَة الاستشهاد بكلامها وَقد كَانَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء وَعبد الله بن أبي إِسْحَاق وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَعبد الله بن شبْرمَة يلحنون الفرزدق والكميت وَذَا الرمة وأضرابهم كَمَا سَيَأْتِي النَّقْل عَنْهُم فِي هَذَا الشَّرْح إِن شَاءَ الله فِي عدَّة أَبْيَات أخذت عَلَيْهِم ظَاهرا وَكَانُوا يعدونهم من المولدين لأَنهم كَانُوا فِي عصرهم والمعاصرة حجاب قَالَ ابْن رَشِيق فِي الْعُمْدَة كل قديم من الشُّعَرَاء فَهُوَ مُحدث فِي زَمَانه بِالْإِضَافَة إِلَى من كَانَ قبله وَكَانَ أَبُو عَمْرو يَقُول لقد أحسن هَذَا المولد حَتَّى لقد هَمَمْت أَن آمُر صبياننا بِرِوَايَة شعره يَعْنِي بذلك شعر جرير والفرزدق فَجعله مولدا بِالْإِضَافَة إِلَى شعر الْجَاهِلِيَّة والمخضرمين وَكَانَ لَا يعد الشّعْر إِلَّا مَا كَانَ للْمُتَقَدِّمين قَالَ الْأَصْمَعِي جَلَست إِلَيْهِ عشر حجج فَمَا سمعته يحْتَج بِبَيْت إسلامي وَأما الرَّابِعَة فَالصَّحِيح أَنه لَا يستشهد بكلامها مُطلقًا وَقيل يستشهد بِكَلَام من يوثق بِهِ مِنْهُم وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيّ وَتَبعهُ الشَّارِح الْمُحَقق
فَإِنَّهُ اسْتشْهد بِشعر أبي تَمام فِي عدَّة مَوَاضِع من هَذَا الشَّرْح وَاسْتشْهدَ الزَّمَخْشَرِيّ أَيْضا فِي تَفْسِير أَوَائِل الْبَقَرَة من الْكَشَّاف بِبَيْت من شعره وَقَالَ وَهُوَ وَإِن كَانَ مُحدثا لَا يستشهد بِشعرِهِ فِي اللُّغَة فَهُوَ من عُلَمَاء الْعَرَبيَّة فأجعل مَا يَقُوله بمنزل مَا يرويهِ إِلَّا ترى إِلَى قَول الْعلمَاء الدَّلِيل عَلَيْهِ بَيت الحماسة فيقنعون بذلك لوثوقهم بروايته وإتقانه وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَن قبُول الرِّوَايَة مَبْنِيّ على الضَّبْط والوثوق وَاعْتِبَار القَوْل مَبْنِيّ على معرفَة أوضاع اللُّغَة الْعَرَبيَّة والإحاطة بقوانينها وَمن الْبَين أَن إتقان الرِّوَايَة لَا
يسْتَلْزم إتقان الدِّرَايَة وَفِي الْكَشْف أَن القَوْل رِوَايَة خَاصَّة فَهِيَ كنقل الحَدِيث بِالْمَعْنَى وَقَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ فِي القَوْل بِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة نقل الحَدِيث بِالْمَعْنَى لَيْسَ بسديد بل هُوَ بِعَمَل الرَّاوِي أشبه وَهُوَ لَا يُوجب السماع إِلَّا مِمَّن كَانَ من عُلَمَاء الْعَرَبيَّة الموثوق بهم فَالظَّاهِر أَنه لَا يُخَالف مقتضاها فَإِن استؤنس بِهِ وَلم يَجْعَل دَلِيلا لم يرد عَلَيْهِ مَا ذكر وَلَا مَا قيل من أَنه لَو فتح هَذَا الْبَاب لزم الِاسْتِدْلَال بِكُل مَا وَقع فِي كَلَام عُلَمَاء الْمُحدثين كالحريري وَأَضْرَابه وَالْحجّة فِيمَا رَوَوْهُ لَا فِيمَا رَأَوْهُ وَقد خطأوا المتنبي وَأَبا تَمام والبحتري فِي أَشْيَاء كَثِيرَة كَمَا هُوَ مسطور فِي شُرُوح تِلْكَ الدَّوَاوِين
وَفِي الاقتراح للجلال السُّيُوطِيّ أَجمعُوا على أَنه لَا يحْتَج بِكَلَام المولدين والمحدثين فِي اللُّغَة والعربية وَفِي الْكَشَّاف مَا يَقْتَضِي تَخْصِيص ذَلِك بِغَيْر أَئِمَّة اللُّغَة ورواتها فَإِنَّهُ اسْتشْهد على مَسْأَلَة بقول أبي تَمام الطَّائِي وَأول الشُّعَرَاء الْمُحدثين بشار بن برد وَقد احْتج سِيبَوَيْهٍ بِبَعْض شعره تقربا إِلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ هجاه لتَركه الِاحْتِجَاج بِشعرِهِ ذكره المرزباني وَغَيره وَنقل ثَعْلَب عَن الْأَصْمَعِي أَنه قَالَ ختم الشّعْر بإبراهيم بن هرمة وَهُوَ آخر الْحجَج
وَكَذَا عد ابْن رَشِيق فِي الْعُمْدَة طَبَقَات الشُّعَرَاء أَرْبعا قَالَ هم جاهلي قديم ومخضرم وَإِسْلَامِيٌّ ومحدث قَالَ ثمَّ صَار المحدثون طَبَقَات أولى وثانية على التدريج هَكَذَا فِي الهبوط إِلَى وقتنا هَذَا
وَجعل الطَّبَقَات بَعضهم سِتا وَقَالَ الرَّابِعَة المولدون وهم من بعد الْمُتَقَدِّمين كمن ذكر وَالْخَامِسَة المحدثون وهم من بعدهمْ كَأبي تَمام والبحتري وَالسَّادِسَة الْمُتَأَخّرُونَ وهم من بعدهمْ كَأبي الطّيب المتنبي والجيد هُوَ الأول إِذْ مَا بعد الْمُتَقَدِّمين لَا يجوز الِاسْتِدْلَال بكلامهم فهم طبقَة وَاحِدَة وَلَا فَائِدَة فِي تقسيمهم
وَأما قَائِل الثَّانِي فَهُوَ إِمَّا رَبنَا تبارك وتعالى فَكَلَامه عز اسْمه افصح كَلَام وأبلغه وَيجوز الاستشهاد بمتواتره وشاذه كَمَا بَينه ابْن جني فِي أول كِتَابه الْمُحْتَسب وأجاد القَوْل فِيهِ وَإِمَّا بعض إِحْدَى الطَّبَقَات الثَّلَاث الأول من طَبَقَات الشُّعَرَاء الَّتِي قدمناها وَأما الِاسْتِدْلَال بِحَدِيث النَّبِي
فقد جوزه ابْن مَالك وَتَبعهُ الشَّارِح الْمُحَقق فِي ذَلِك وَزَاد عَلَيْهِ بالاحتجاج بِكَلَام أهل الْبَيْت رضي الله عنهم وَقد مَنعه ابْن الضائع وَأَبُو حَيَّان وَسَنَدهمَا أَمْرَانِ أَحدهمَا أَن الْأَحَادِيث لم تنقل كَمَا سَمِعت من النَّبِي
وَإِنَّمَا رويت بِالْمَعْنَى وَثَانِيهمَا أَن أَئِمَّة النَّحْو الْمُتَقَدِّمين من المصرين لم يحتجوا بِشَيْء مِنْهُ ورد الأول على تَقْدِير تَسْلِيمه بِأَن النَّقْل بِالْمَعْنَى إِنَّمَا كَانَ فِي الصَّدْر الأول قبل بدوينه فِي الْكتب وَقبل فَسَاد اللُّغَة وغايته تَبْدِيل لفظ بِلَفْظ يَصح الِاحْتِجَاج بِهِ فَلَا فرق على أَن الْيَقِين غير شَرط بل الظَّن كَاف
ورد الثَّانِي بِأَنَّهُ لَا يلْزم من عدم استدلالهم بِالْحَدِيثِ عدم صِحَة الِاسْتِدْلَال بِهِ وَالصَّوَاب جَوَاز الِاحْتِجَاج بِالْحَدِيثِ للنحوي فِي ضبط أَلْفَاظه وَيلْحق بِهِ
مَا رُوِيَ عَن الصَّحَابَة وَأهل الْبَيْت كَمَا صنع الشَّارِح الْمُحَقق وَإِن شِئْت تَفْصِيل مَا قيل فِي الْمَنْع وَالْجَوَاز فاستمع لما ألقيه بإطناب دون إيجاز قَالَ أَبُو الْحسن بن الضائع فِي شرح الْجمل تَجْوِيز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى هُوَ السَّبَب عِنْدِي فِي ترك الْأَئِمَّة كسيبويه وَغَيره الاستشهاد على إِثْبَات اللُّغَة بِالْحَدِيثِ واعتمدوا فِي ذَلِك على الْقُرْآن وصريح النَّقْل عَن الْعَرَب وَلَوْلَا تَصْرِيح الْعلمَاء بِجَوَاز النَّقْل بِالْمَعْنَى فِي الحَدِيث لَكَانَ الأولى فِي إِثْبَات فصيح اللُّغَة كَلَام النَّبِي
لِأَنَّهُ أفْصح الْعَرَب قَالَ وَابْن خروف يستشهد بِالْحَدِيثِ كثيرا فَإِن كَانَ على وَجه الِاسْتِظْهَار والتبرك بالمروي فَحسن وَإِن كَانَ يرى أَن من قبْلَة أغفل شَيْئا وَجب عَلَيْهِ استدراكه فَلَيْسَ كَمَا رأى
وَقَالَ أَبُو حَيَّان فِي شرح التسهيل قد أَكثر هَذَا المُصَنّف من الِاسْتِدْلَال بِمَا وَقع فِي الْأَحَادِيث على إِثْبَات الْقَوَاعِد الْكُلية فِي لِسَان الْعَرَب وَمَا رَأَيْت أحدا من الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين سلك هَذِه الطَّرِيقَة غَيره على أَن الواضعين الْأَوَّلين لعلم النَّحْو المستقرئين للْأَحْكَام من لِسَان الْعَرَب كَأبي عَمْرو بن الْعَلَاء وَعِيسَى بن عمر والخليل وسيبوية من أَئِمَّة الْبَصرِيين وَالْكسَائِيّ وَالْفراء وَعلي بن الْمُبَارك الْأَحْمَر وَهِشَام الضَّرِير من أَئِمَّة الكوفين لم يَفْعَلُوا ذَلِك وتبعهم على ذَلِك المسلك الْمُتَأَخّرُونَ من الْفَرِيقَيْنِ وَغَيرهم من نحاة الأقاليم كنحاة بَغْدَاد وَأهل الأندلس وَقد جرى الْكَلَام فِي ذَلِك مَعَ بعض الْمُتَأَخِّرين الأذكياء فَقَالَ إِنَّمَا ترك الْعلمَاء ذَلِك لعدم وثوقهم أَن ذَلِك لفظ الرَّسُول
إِذْ لَو وثقوا بذلك لجرى مجْرى الْقُرْآن الْكَرِيم فِي إِثْبَات الْقَوَاعِد الْكُلية وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك لأمرين أَحدهمَا أَن الروَاة جوزوا النَّقْل بِالْمَعْنَى فتجد قصَّة وَاحِدَة قد جرت فِي زَمَانه
لم تقل بِتِلْكَ الْأَلْفَاظ جَمِيعهَا نَحْو مَا رُوِيَ من قَوْله زوجتكها بِمَا
مَعَك من الْقُرْآن ملكتكها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن خُذْهَا بِمَا مَعَك من الْقُرْآن وَغير ذَلِك من الْأَلْفَاظ الْوَارِدَة فنعلم يَقِينا أَنه
لم يلفظ بِجَمِيعِ هَذِه الْأَلْفَاظ بل لَا نجزم بِأَنَّهُ قَالَ بَعْضهَا إِذْ يحْتَمل أَنه قَالَ لفظا مرادفا لهَذِهِ الْأَلْفَاظ غَيرهَا فَأَتَت الروَاة بالمرادف وَلم تأت بِلَفْظِهِ إِذْ الْمَعْنى هُوَ الْمَطْلُوب وَلَا سِيمَا مَعَ تقادم السماع وَعدم ضَبطهَا بِالْكِتَابَةِ والاتكال على الْحِفْظ وَالضَّابِط مِنْهُم من ضبط الْمَعْنى وَأما من ضبط اللَّفْظ فبعيد جدا لَا سِيمَا فِي الْأَحَادِيث الطوَال وَقد قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ إِن قلت لكم إِنِّي أحدثكُم كَمَا سَمِعت فَلَا تصدقوني إِنَّمَا هُوَ الْمَعْنى وَمن نظر فِي الحَدِيث أدنى نظر علم الْعلم الْيَقِين أَنهم إِنَّمَا يروون بِالْمَعْنَى الْأَمر الثَّانِي أَنه وَقع اللّحن كثيرا فِيمَا رُوِيَ من الحَدِيث لِأَن كثيرا من الروَاة كَانُوا غير عرب بالطبع وَلَا يعلمُونَ لِسَان الْعَرَب بصناعة النَّحْو فَوَقع اللّحن فِي كَلَامهم وهم لَا يعلمُونَ وَدخل فِي كَلَامهم وروايتهم غير الفصيح من لِسَان الْعَرَب ونعلم قطعا من غير شكّ أَن رَسُول الله
كَانَ أفْصح الْعَرَب فَلم يكن يتَكَلَّم إِلَّا بأفصح اللُّغَات وَأحسن التراكيب وأشهرها وأجزلها وَإِذا تكلم
بلغَة غير لغته فَإِنَّمَا يتَكَلَّم بذلك مَعَ أهل تِلْكَ اللُّغَة على طَرِيق الإعجاز وَتَعْلِيم الله ذَلِك لَهُ من غير معلم وَالْمُصَنّف قد أَكثر من الِاسْتِدْلَال بِمَا ورد
فِي الْأَثر متعقبا بِزَعْمِهِ على النَّحْوِيين وَمَا أمعن النّظر فِي ذَلِك وَلَا صحب من لَهُ التَّمْيِيز وَقد قَالَ لنا قَاضِي الْقُضَاة بدر الدَّين بن جمَاعَة وَكَانَ مِمَّن أَخذ عَن ابْن مَالك قلت لَهُ يَا سَيِّدي هَذَا الحَدِيث رِوَايَة الْأَعَاجِم وَوَقع فِيهِ من روايتهم مَا نعلم أَنه لَيْسَ من لفظ الرَّسُول فَلم يجب بِشَيْء قَالَ أَبُو حَيَّان وَإِنَّمَا أمعنت الْكَلَام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة لِئَلَّا يَقُول مبتدئ مَا بَال النَّحْوِيين يستدلون بقول الْعَرَب وَفِيهِمْ الْمُسلم وَالْكَافِر وَلَا يستدلون بِمَا روى فِي الحَدِيث بِنَقْل الْعُدُول كالبخاري وَمُسلم وإضرابهما فَمن طالع مَا ذَكرْنَاهُ أدْرك السَّبَب الَّذِي لأَجله لم يسْتَدلّ النُّحَاة بِالْحَدِيثِ ا. هـ.
وتوسط الشاطبي فجوز الِاحْتِجَاج بالأحاديث الَّتِي اعتني بِنَقْل ألفاظها قَالَ فِي شرح الألفية لم نجد أحدا من النَّحْوِيين اسْتشْهد بِحَدِيث رَسُول الله
وهم يستشهدون بِكَلَام أجلاف الْعَرَب وسفهائهم الَّذين يَبُولُونَ على أَعْقَابهم وأشعارهم الَّتِي فِيهَا الْفُحْش والخنى ويتركون الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة لِأَنَّهَا تنقل بِالْمَعْنَى وتختلف رِوَايَاتهَا وألفاظها بِخِلَاف كَلَام الْعَرَب وشعرهم فَإِن رُوَاته اعتنوا بألفاظها لما يَنْبَنِي عَلَيْهِ من النَّحْو وَلَو وقفت على اجتهادهم قضيت مِنْهُ الْعجب وَكَذَا الْقُرْآن ووجوه الْقرَاءَات وَأما الحَدِيث فعلى قسمَيْنِ قسم يعتني ناقله بِمَعْنَاهُ دون لَفظه فَهَذَا لم يَقع بِهِ استشهاد أهل اللِّسَان وَقسم
عرف اعتناء ناقله بِلَفْظِهِ لمقصود خَاص كالأحاديث الَّتِي قصد بهَا بَيَان فصاحة
ككتابه لهمدان وَكتابه لِوَائِل بن حجر والأمثال النَّبَوِيَّة فَهَذَا يَصح الاستشهاد بِهِ فِي الْعَرَبيَّة وَابْن مَالك لم يفصل هَذَا التَّفْصِيل الضَّرُورِيّ الَّذِي لَا بُد مِنْهُ وَبنى الْكَلَام على الحَدِيث مُطلقًا وَلَا أعرف لَهُ سلفا إِلَّا ابْن خروف فَإِنَّهُ أَتَى بِأَحَادِيث فِي بعض الْمسَائِل حَتَّى قَالَ ابْن الضائع لَا أعرف هَل يَأْتِي بهَا مستدلا بهَا أم هِيَ لمُجَرّد التَّمْثِيل وَالْحق أَن ابْن مَالك غير مُصِيب فِي هَذَا فَكَأَنَّهُ بناه على امْتنَاع نقل الحَدِيث بِالْمَعْنَى وَهُوَ قَول ضَعِيف ا. هـ.
وَقد تبعه السُّيُوطِيّ فِي الاقتراح قَالَ فِيهِ وَأما كَلَامه صلى الله عليه وسلم َ فيستدل مِنْهُ بِمَا أثبت أَنه قَالَه على اللَّفْظ الْمَرْوِيّ وَذَلِكَ نَادِر جدا إِنَّمَا يُوجد فِي الْأَحَادِيث الْقصار على قلَّة أَيْضا فَإِن غَالب الْأَحَادِيث مَرْوِيّ بِالْمَعْنَى وَقد تداولتها الْأَعَاجِم والمولدون قبل تدوينها فرووها بِمَا أدَّت إِلَيْهِ عباراتهم فزادوا ونقصوا وَقدمُوا وأخروا وأبدلوا ألفاظا بِأَلْفَاظ وَلِهَذَا ترى الحَدِيث الْوَاحِد فِي الْقِصَّة الْوَاحِدَة مرويا على أوجه شَتَّى بعبارات مُخْتَلفَة وَمن ثمَّ أنكر على ابْن مَالك إثْبَاته الْقَوَاعِد النحوية بالألفاظ الْوَارِدَة فِي الحَدِيث ثمَّ نقل كَلَام ابْن الضائع وَأبي حَيَّان وَقَالَ مِمَّا يدل على صِحَة مَا ذَهَبا إِلَيْهِ أَن ابْن مَالك اسْتشْهد على لُغَة أكلوني البراغيث بِحَدِيث الصَّحِيحَيْنِ يتعاقبون فِيكُم مَلَائِكَة بِاللَّيْلِ وملائكة بِالنَّهَارِ وَأكْثر من ذَلِك حَتَّى صَار يسميها لُغَة يتعاقبون وَقد اسْتشْهد بِهِ السُّهيْلي ثمَّ قَالَ لكني أَنا أَقُول إِن الْوَاو
فِيهِ عَلامَة إِضْمَار لِأَنَّهُ حَدِيث مُخْتَصر رَوَاهُ الْبَزَّار مطولا فَقَالَ فِيهِ إِن لله تَعَالَى مَلَائِكَة يتعاقبون فِيكُم مَلَائِكَة بِاللَّيْلِ وملائكة بِالنَّهَارِ وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي فِي الْإِنْصَاف فِي منع أَن فِي خبر كَاد وَأما حَدِيث كَاد الْفقر أَن يكون كفرا فَإِنَّهُ من تَغْيِير الروَاة لِأَنَّهُ
أفْصح من نطق بالضاد ا. هـ.
وَقد رد هَذَا الْمَذْهَب الَّذِي ذَهَبُوا إِلَيْهِ الْبَدْر الدماميني فِي شرح التسهيل وَللَّه دره فَإِنَّهُ قد أَجَاد فِي الرَّد قَالَ وَقد أَكثر المُصَنّف من الِاسْتِدْلَال بالأحاديث النَّبَوِيَّة وشنع أَبُو حَيَّان عَلَيْهِ وَقَالَ إِن مَا اسْتندَ إِلَيْهِ من ذَلِك لَا يتم لَهُ لتطرق احْتِمَال الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى فَلَا يوثق بِأَن ذَلِك المحتج بِهِ لَفظه عليه الصلاة والسلام ُ حَتَّى تقوم بِهِ الْحجَّة وَقد أجريت ذَلِك لبَعض مَشَايِخنَا فصوب رَأْي ابْن مَالك فِيمَا فعله بِنَاء على أَن الْيَقِين لَيْسَ بمطلوب فِي
هَذَا الْبَاب وَإِنَّمَا الْمَطْلُوب غَلَبَة الظَّن الَّذِي هُوَ منَاط الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَكَذَا مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ من نقل مُفْرَدَات الْأَلْفَاظ وقوانين الْإِعْرَاب فالظن فِي ذَلِك كُله كَاف وَلَا يخفى أَنه يغلب على الظَّن أَن ذَلِك الْمَنْقُول المحتج بِهِ لم يُبدل لِأَن الأَصْل عدم التبديل لَا سِيمَا وَالتَّشْدِيد فِي الضَّبْط والتحري فِي نقل الْأَحَادِيث شَائِع بَين النقلَة والمحدثين وَمن يَقُول مِنْهُم بِجَوَاز النَّقْل بِالْمَعْنَى فَإِنَّمَا هُوَ عِنْده بِمَعْنى التجويز الْعقلِيّ الَّذِي لَا يُنَافِي وُقُوع نقيضه فَلذَلِك تراهم يتحرون فِي الضَّبْط ويتشددون مَعَ قَوْلهم بِجَوَاز النَّقْل
بِالْمَعْنَى فيغلب على الظَّن من هَذَا كُله أَنَّهَا لم تبدل وَيكون احْتِمَال التبديل فِيهَا مرجوحا فيلغى وَلَا يقْدَح فِي صِحَة الِاسْتِدْلَال بهَا ثمَّ إِن الْخلاف فِي جَوَاز النَّقْل بِالْمَعْنَى إِنَّمَا هُوَ فِيمَا لم يدون وَلَا كتب وَأما مَا دون وَحصل فِي بطُون الْكتب فَلَا يجوز تَبْدِيل أَلْفَاظه من غير خلاف بَينهم قَالَ ابْن الصّلاح بعد أَن ذكر اخْتلَافهمْ فِي نقل الحَدِيث بِالْمَعْنَى إِن هَذَا الْخلاف لَا نرَاهُ جَارِيا وَلَا أجراه النَّاس فِيمَا نعلم فِيمَا تضمنته بطُون الْكتب فَلَيْسَ لأحد أَن يُغير لفظ شَيْء من كتاب مُصَنف وَيثبت فِيهِ لفظا آخر ا. هـ.
وَتَدْوِين الْأَحَادِيث وَالْأَخْبَار بل وَكثير من المرويات وَقع فِي الصَّدْر الأول قبل فَسَاد اللُّغَة الْعَرَبيَّة حِين كَانَ كَلَام أُولَئِكَ المبدلين على تَقْدِير تبديلهم يسوغ الِاحْتِجَاج بِهِ وغايته يَوْمئِذٍ تَبْدِيل لفظ بِلَفْظ يَصح الِاحْتِجَاج بِهِ فَلَا فرق بَين الْجَمِيع فِي صِحَة الِاسْتِدْلَال ثمَّ دون ذَلِك الْمُبدل على تَقْدِير التبديل وَمنع من تَغْيِيره وَنَقله بِالْمَعْنَى كَمَا قَالَ ابْن الصّلاح فَبَقيَ حجَّة فِي بَابه وَلَا يضر توهم ذَلِك السَّابِق فِي شَيْء من استدلالهم الْمُتَأَخر وَالله أعلم بِالصَّوَابِ 1. كَلَام الدماميني وَعلم مِمَّا ذكرنَا من تَبْيِين الطَّبَقَات الَّتِي يَصح الِاحْتِجَاج بكلامها أَنه لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِشعر أَو نثر لَا يعرف قَائِله صرح بذلك ابْن الْأَنْبَارِي فِي كتاب الْإِنْصَاف فِي مسَائِل الْخلاف وَعلة ذَلِك مَخَافَة أَن يكون ذَلِك الْكَلَام مصنوعا أَو لمولد أَو لمن لَا يوثق بِكَلَامِهِ وَلِهَذَا اجتهدنا فِي تَخْرِيج أَبْيَات الشَّرْح وفحصنا عَن قائليها حَتَّى عزونا كل بَيت إِلَى قائلة إِن أمكننا ذَلِك ونسبناه إِلَى قبيلته أَو فصيلته وميزنا
الإسلامي عَن الجاهلي والصحابي عَن التَّابِعِيّ وهلم جرا وضممنا إِلَى الْبَيْت مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ
مَعْنَاهُ وَإِن كَانَ من قِطْعَة نادرة أَو قصيدة عزيزة أوردناها كَامِلَة وشرحنا غريبها ومشكلها وأوردنا سَببهَا ومنشأها كل ذَلِك بالضبط وَالتَّقْيِيد ليعم النَّفْع ويؤمن التحريف والتصحيف وليوثق بِالشَّاهِدِ لمعْرِفَة قَائِله وَيدْفَع احْتِمَال ضعفه قَالَ ابْن النّحاس فِي التعليقة أجَاز الْكُوفِيُّونَ إِظْهَار أَن بعد كي واستشهدوا بقول الشَّاعِر (الطَّوِيل)
(أردْت لكيما أَن تطير بقربتي
…
فتتركها شنا ببيداء بلقع)
قَالَ وَالْجَوَاب أَن هَذَا الْبَيْت لَا يعرف قَائِله وَلَو عرف لجَاز أَن يكون من ضَرُورَة (الشّعْر) وَقَالَ أَيْضا ذهب الْكُوفِيُّونَ إِلَى جَوَاز دُخُول اللَّام فِي خبر لَكِن وَاحْتَجُّوا بقوله (الطَّوِيل)
(ولكنني من حبها لعميد)
وَالْجَوَاب أَن هَذَا الْبَيْت لَا يعرف قَائِله وَلَا أَوله وَلم يذكر مِنْهُ إِلَّا هَذَا وَلم ينشده أحد مِمَّن وثق فِي اللُّغَة وَلَا عزي إِلَى مَشْهُور بالضبط والإتقان ا. هـ.
وَيُؤْخَذ من هَذَا أَن الشَّاهِد الْمَجْهُول قائلة وتتمته إِن صدر من ثِقَة يعْتَمد عَلَيْهِ قبل وَإِلَّا فَلَا وَلِهَذَا كَانَت أَبْيَات سِيبَوَيْهٍ أصح الشواهد اعْتمد عَلَيْهَا خلف بعد
سلف مَعَ أَن فِيهَا أبياتا عديدة جهل قائلوها وَمَا عيب بهَا ناقلوها وَقد خرج كِتَابه إِلَى النَّاس وَالْعُلَمَاء كثير والعناية بِالْعلمِ وتهذيبه وكيدة
وَنظر فِيهِ وفتش فَمَا طعن أحد من الْمُتَقَدِّمين عَلَيْهِ وَلَا أدعى أَنه أَتَى بِشعر مُنكر وَقد روى فِي كِتَابه قِطْعَة من اللُّغَة غَرِيبَة لم يدْرك أهل اللُّغَة معرفَة جَمِيع مَا فِيهَا وَلَا ردوا حرفا مِنْهَا قَالَ الْجرْمِي نظرت فِي كتاب سِيبَوَيْهٍ فَإِذا فِيهِ ألف وَخَمْسُونَ بَيْتا فإمَّا الْألف فقد عرفت أَسمَاء قائليها فأثبتها وَأما الْخَمْسُونَ فَلم أعرف أَسمَاء قائليها فأعترف بعجزه وَلم يطعن عَلَيْهِ بِشَيْء وَقد رُوِيَ هَذَا الْكَلَام لأبي عُثْمَان الْمَازِني أَيْضا وَلكَون أبياته أصح الشواهد التزمنا فِي هَذَا الشَّرْح أَن ننص على مَا وجد فِيهِ مِنْهَا بَيْتا بَيْتا ونميزها عَن غَيرهَا ليرتفع شَأْنهَا وَيظْهر رُجْحَانهَا وَرُبمَا رُوِيَ الْبَيْت الْوَاحِد من أبياته أَو غَيرهَا على أوجه مُخْتَلفَة رُبمَا لَا يكون مَوضِع الشَّاهِد فِي بَعْضهَا أَو جَمِيعهَا وَلَا ضير فِي ذَلِك لِأَن الْعَرَب كَانَ بَعضهم ينشد شعره للْآخر فيرويه على مُقْتَضى لغته الَّتِي فطره الله عَلَيْهَا وبسببه تكْثر الرِّوَايَات فِي بعض الأبيات فَلَا يُوجب ذَلِك قدحا فِيهِ وَلَا غضا مِنْهُ فَإِذا وَقع فِي هَذَا الشَّرْح من ذَلِك شَيْء نبهنا عَلَيْهِ