الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أول لها هو جنس الحوادث، فجنس وجودها أزلي، وعدم كل من أعيانها أزلي، ولا منافاة بين هذا وهذا إلا أن يثبت وجوب البداية، وهو محل النزاع.
إيراد أحد المتكلمين الدليل على وجه آخر
وبهذا يظهر الجواب عما ذكره بعضهم في تقرير هذا الوجه، فإن بعضهم لما رأى ما أوردوه على ما ذكره الرازي حرر الدليل على وجه آخر فقال: القول بكون كل من الحركات الجزئية مسبوقاً بأخرى لا إلى أول يستلزم المحال فيكون محالاً.
بيان الأول: أن كل واحد منه من حيث إنه حادث يقتضي أن يكون مسبوقاً بعدم أزلي، لأن كل حادث مسبوق بعدم أزلي، فهذا يقتضي أن تكون تلك العدمات مجتمعة في الأزل، ومن حيث إنه ما من جنس يفرض إلا وجب أن يكون فرد منها موجوداً يقتضي ألا تكون تلك العدمات مجتمعة في الأزل، وإلا لزم أن يكون السابق مقارناً للمسبوق، ولا شك أن اجتماعهما في الأزل وعدم اجتماعهما فيه متناقضان، فالمستلزم له محال.
فيقال لمن احتج بهذا الوجه: العدم الأزلي السابق على كل من الحوادث إن جعلته شيئاً ثابتاً في الأزل متميزاً عن عدم الحادث الآخر فهذا ممنوع، فإن العدم الأزلي لا امتياز فيه أصلاً ولا يعقل حتى يقال: إن هناك أعداماً، ولكن إذا حدث حادث علم أنه انقضى عدمه الداخل في ذلك النوع الشامل لها، وليس شمول جنس الموجودات لها
كشمول جنس العدم للمعدومات، فإن الموجودات لها امتياز في الخارج، فشخص هذا الموجود متميز في الخارج عن شخص الآخر وأما العدم فليس بشيء أصلاً في الخارج، ولا امتياز فيه بوجه من الوجوه.
ولكن هذا الدليل قد بني على قول من يقول: المعدوم شيء ولا يبعد أن يكون الرازي أخذ هذا الوجه من المعتزلة القائلين بهذا فإنهم يثبتون المعدوم شيئاً، فيكون هذا الحادث في حال عدمه شيئاً وهذا الحادث في حال عدمه شيئاً، وحينئذ فللحوادث أعدام متميزة ثابتة في الأزل.
وهؤلاء القائلون بهذا يقولون ذلك في كل معدوم ممكن، سواء حدث أو لم يحدث، فإذا قال القائل:(للحوادث أعدام أزلية ثابتة في الأزل متميزة) لم يتوجه إلا على قول هؤلاء، وهذا القول قد عرف فساده.
وبتقدير تسليمه فيجاب عنه بما ذكره هؤلاء، وهو أن اجتماعه في الأزل بمعنى غير انتفاء البداية ممتنع، وعدم البداية ليس أمراً موجوداً حتى يعقل فيه اجتماع.
وعلى هذا فيقال: لا نسلم أن الأزل شيء مستقر أو شيء موجود، وليس للأزل حد محدود حتى يعقل فيه اجتماع، بل الأزل عبارة عن عدم الابتداء، وما لا ابتداء له فهو أزلي، وما لا انتهاء له فهو أبدي
وما من حين يقدر موجوداً إلا وليس هو الأزل، ففي كل حين بعضهما موجود وبعضها معدوم، فوجود البعض مقارن لقدم البعض دائماً وحينئذ فاجتماعها في الأزل معناه اشتراكهما في أن كل واحد ليس له أول، وعدم اجتماعها فيه معناه أنه لم يزل في كل حين واحد منها موجوداً، وعدمه زائلاً، ولا تناقض بين اشتراكها في عدم الابتداء، ووجود أشخاصها دائم، إلا إذا قيل: يمتنع جنس الحوادث الدائمة.
وقد اعترض المستدل بهذا على ما ذكره الآمدي والأرموي في الوجه الأول.
قال: فإن قلت: الأزلي الحركة الكلية، بمعنى أن كل فرد منها مسبوق بالآخر، لا إلى أول، لا أفرادها الموجودة التي تقتضي المسبوقية بالغير.
ثم قال: قلت: فحينئذ ما هو المحكوم عليه بالأزلي غير موجود في الخارح، لامتناع وجود الحركة الكلية في الخارج، وما هو موجود منها في الخارج فهو ليس بأزلي.
ولقائل أن يقول: هذا غلط نشأ من الإجمال الذي لفظ الكلي.
وذلك أنه إنما يمتنع وجود الكلي في الخارج مطلقاً، إذا كان مجرداً عن أفراده، كوجود إنسان مطلق، وحيوان مطلق، وحركة مطلقة، لا تختص بمتحرك.
ولا بجهة ولون مطلق، لا يكون أبيض ولا أسود، ولا غير ذلك من الألوان المعينة.
فإذا قدر حركة مطلقة لا تختص بمتحرك معين كا ن وجودها في الخارج ممتنعاً.
وأما الحركات المتعاقبة، فوجود الكلي فيها هو وجود تلك الأفراد، كما إذا وجد عدة أناسى فوجود
الإنسان الكلي هو وجود أشخاصه، ولا يحتاج أن يثبت للكلي في الخارج وجوداً غير وجود أشخاصه، بل نفس وجود أشخاصه هو وجوده.
ومعلوم إنه إذا أريد بوجود الكلي في الخارج وجود أشخاصه لا ينازع فيه أحد من العقلاء، وإن كانوا قد يتنازعون في أن الكلي المطلق لا بشرط، وهو الطبيعي: هل هو موجود في الخارج، أم لا؟ وحيئنذ فمرادهم بوجود الحركة الكلية في الخارج هو وجود أفرادها المتعاقبة شيئاً بعد شيء، فكل فرد مسبوق بالغير، وليس هذا الجنس المتعاقب الذي يوجد بعضهم شيئاً فشيئاً بمسبوق بالغير.
وإن شئت قلت: لا نسلم أن الكلي لا يوجد في الخارج، ولكن نسلم أنه لا يوجد في الخارج كلياً، وهذا هو الكلي الطبيعي، وهو المطلق لا بشرط، كمسمى الإنسان لا بشرط، فإنه يوجد في الخارج، لكن معيناً مشخصاً، وتوجد أفراده إما مجتمعة وإما متعاقبة، كتعاقب الحوادث المستقبلة، فوجود الحركات المعينة كوجود سائر الأشياء المعينة، ووجود مسمى الحركة كوجود سائر المسميات الكلية، والمحكوم عليه بالأزلية هو النوع الذي لا يوجد إلا شيئاً فشيئاً، لا يوجد مجتمعاً.
فإن قال القائل (مسمى الحركة ليس بموجود في الخارج على وجه الاجتماع، كما يوجد من أفراد الإنسان) فقد صدق، وإن قال (إنه لا يوجد شيئاً فشيئاً) فهذا ممنوع.
وم قال ذلك لزمه أن لا يوجد في الخارج حركة أصلاً، لا متناهية ولا غير متناهية، وهذا مخالف للحس والعقل.
وقد تفطن ابن سينا لهذا الموضع، وتكلم في وجود الحركة
بكلام له، وقد نقله عنه الرازي وغيره، وقد تكلمنا عليه وبينا فساده فيما سيأتي إن شاء الله.
قال الآمدي: (وباقي الوجوه في الدلالة ما ذكرناه في امتناع حوادث غير متناهية في إثبات واجب الوجود، وقد ذكرت فلا حاجة إلى إعادتها) .
وهو قد ذكر قبل ذلك في امتناع ما لا يتناهى أربعة طرق، فزيفها واختار طريقاً خامساً، الأول: التطبيق، وهو أن يقدر جملة (فلو كا ما قبلها لا نهاية له، فلو فرضنا زيادة متناهية على الجملة المفروضة، ولتكن الزيادة عشرة مثلا، فالجملة الأولى: إما أن تكون مساوية لنفسها مع فرض الزيادة عليها، أو أزيد، أو أنقص.
والقول المساواة والزيادة محال، فإن الشيء لا يكون مع غيره كهو لا مع غيره، ولا أزيد.
وإن كانت الجملة الأولى ناقصة بالنظر إلى الجملة الثانية، فمن المعلوم أن التفاوت بينهما إنما هو بأمر متناه، وعند ذلك
فالزيادة لا بد أن يكون لها نسبة إلى الباقي بجهة من جهات النسب على نحو زيادة المتناهي على المتناهي.
ومحال أن يحصل بين ما ليس بمتناهيين النسبة الواقعة بين المتناهيين.
وأيضاً فإنه إذا كانت إحدى الجملتين أزيد من الأخرى بأمر متناه، فليطبق بين الطرفين الآخرين، بأن تأخذ من الطرف الأخير من إحدى الجملتين عدواً مفروضاً، ومن الأخرى مثله، وهلم جراً، فإما أن يتسلسل الأمر إلى غير النهاية، فيلزم منه مساواة الانقص للأزيد في كلا طرفيه: وهو محال.
وإن قصرت الجملة الناقصة في الطرف الذي لانهاية له فقد تناهت، والزائدة إنما زادت على الناقصة بأمر متناه، وكل ما زاد على المتناهي بأمر متناه فهو متناه) .
قال: (وهذا لا يستقيم لا على قواعد الفلاسفة، وعلى قواعد المتكلمين) .
أما الفلاسفة فإنهم قضوا بأن كل ما له ترتيب وضعي كالأبعاد والامتدادات، أو الترتيب الطبيعي وآحاده موجودة معاً كالعلل والمعلولات، فالقول بعدم النهاية فيه مستحيل، وما سوى وذلك فالقول بعدم النهاية فيه غير مستحيل، وسواء كانت آحاده موجودة معاً كالنفوس بعد مفارقة الأبدان أو هي على التعاقب والتجدد كالأزمنة والحركات الدورية، فإن ما ذكروه - وإن استمر لهم فيما قضوا فيه بالنهاية - فهو لازم لهم فيما قضوا فيه بعدم النهاية.
وعند ذلك فلا بد من بطلان أحد الأمرين: إما الدليل إن كان اعتقادهم عدم النهاية حقاً، وإما اعتقاد عدم النهاية إن كان الدليل حقاً، لاستحالة الجمع) .
قال: (وليس لما يذكره الفيلسوف من جهة الفرق بين العلل والمعلولات والأزمنة والحركات قدح في الجمع، وهو قوله: إن ما لا ترتيب له وضعاً، ولا آحاده موجودة معاً - وإن كان ترتيبه
طبيعياً - فلا يمكن فرض جواز قبوله الانطباق، وفرض الزيادة والنقصان فيه، بخلاف مقابله، لأن المحصل يعلم أن الاعتماد على هذا الخيال في تناهي ذوات الأضلاع، وفيما له الترتيب الطبيعي وآحاده موجودة معاً، ليس إلا من جهة إفضائه إلى وقوع الزيادة والنقصان بين ما ليس بمتناهيين، وذلك إنما يمكن بفرض زيادة على ما فرض الوقوف عنده من نقطة ما من البعد المفروض أو وحدة ما من العدد المفروض، وعند ذلك فلا يخفى إمكان فرض الوقوف على جملة من أعداد الحركات والنفوس الإنسانية المفارقة لأبدانها، وجواز فرض الزيادة عليها بالتوهم مما هو من نوعها، وإذ ذاك فالحدود المستعملة في القياس المذكور في محل الاستدلال بعينها مستعملة في صورة الإلزام، مع اتحاد صورة القياسية من غير فرق.
وأيضاً، فليس كل جملتين تفاوتتا بأمر متناه تكونان متناهيتين فإن عقود الحساب مثلاً لا نهاية لأعدادها، وإن كانت الأوائل أكثر من الثواني بأمر متناه وهذه الأمور - وإن كانت تقديرية ذهنية - فلا خفاء أن وضع القياس المذكور فيها على نحو وضعه في