الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصفات: إما أن يكون لجسميته، أو لما يكون حالاً في الجسمية، أو لما يكون محلاً لها، أو لما لا يكون حالاً فيها ولا محلاً لها.
وهذا القسم الأخير: إما أن يكون جسماً أو جسمانياً، أولا جسماً ولا جسمانياً وتبطل كل هذه الأقسام سوى القسم الأخير بما مر تقريره في إثبات المسلك الأول في مسألة حدوث العالم) .
تعليق ابن تيمية
قلت: وهذا هو القول بتماثل الأجسام وأن تخصيص بعضها بالصفات دون بعض يفتقر إلى مخصص، والقول بتماثل الأجسام في غاية الفساد، والرازي نفسه قد بين بطلان ذلك في غير موضع.
وهذا الذي أحال عليه ليس فيه إلا أن الجسم لا يكون اختصاصه بالحيز واجباً، بل جائزاً وبتقدير ثبوت هذا في التحيز لا يلزم مثله في سائر الصفات.
وما ذكره من الدليل لا يصح، وذلك أنه قال:(اختصاصه بذلك إن كان واجباً) : فإما أن يكون الوجوب لنفس
الجسمية، أولأمر للجسمية، أو لأمر الجسمية عرضت له، أو لأمر غير عارض لها، ولا معروض لها.
والأول يوجب اشتراك الأجسام في تلك الصفة، وإن كان لعارض: فإما أن يكون ممتنع الزوال، وهو اللازم، أو ممكن الزوال، وهو العارض، فإن العرض في اصطلاحهم أعم من العرض، فإن كان ممتنع الزوال: فإن كان الامتناع لنفس الجسمية عاد الإشكال الأول، وإن كان لغيرها أفضى للتسلسل، وإن كان لمعروض الجسمية لم يصح، لأن المعقول من الجسمية الذهاب في الجهات، فلو كان في محل لكن ذلك المحل يجب أن يكون ذاهباً في الجهات، فيكون محل الجسمية جسماً، لأنه إن لم يكن ذاهباً في الجهات لم
يكن له اختصاص بالحيز، فلا يعقل حصول الجسم المختص بالحيز في محل غير مختص بالحيز، وإذا كان محله ذاهباً في الجهات كان جسماً، وحينئذ فالقول في اختصاصه بذلك الحال فيه كالقول في الحيز لا يجوز أن يكون للجسمية أو لوازمها، بل لأمر عارض ممكن الزوال، فيكون ذلك الحيز ممكن الزوال، وهو المقصود) .
قلت: ولقائل أن يقول: هذا الدليل مبني على تماثل الأجسام، وأكثر العقلاء على خلافه، وقد قرر الرازي في موضع آخر أنها مختلفة لا متماثلة.
وهو مبني أيضاً على الكلام في الصورة والمادة، ونحو ذلك مما ليس هذا موضع بسط الكلام فيه، لكن يبين فساده ببيان موضع المنع في مقدماته.
قوله: (إن كان الامتناع لغير الجسمية أفضى إلى التسلسل) ممنوع، فإن الأجسام إذا كانت مشتركة في مسمى الجسمية، وقد اختص بعضها بصفات أخرى، لم يجب في ذلك التسلسل، كما في سائر الأمور التي تشترك في شيء وتفترق في شيء، فالمقادير والحيوانات إذا اشتركت في مسمى القدر والحيوانية، واختص بعضها عن بعض بشيء آخر لازم له، لم يلزم التسلسل، سواء قيل بتماثل الأجسام أو اختلافها، فإنه إن قيل باختلافها كانت ذات كل واحد موصوفة بصفات لازمة لها لا توجد في الآخر، كسائر الحقائق المختلفة، وإن قيل بتماثلها كتماثل أفراد النوع، فالموجب لوجود كل فرد من تلك
الأفراد هو الموجب لصفاته اللازمة له، لا تفتقر صفاته اللازمة له إلى موجب غير الموجب لذاته، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، وبين فيه فساد ما يقوله المنطقيون: من أن اختلاف أفراد النوع إنما هو بسبب المادة القابلة، ونحو ذلك، فإنهم بنوه على أن للحقيقة الموجودة في الخارج سبباً غير سبب وجودها، وهذا غلط لا يستريب فيه من فهمه، مع أنه لاحاجة بنا هنا إلى هذا، بل نقول: مجرد اشتراك الاثنين في كون كل منهما جسماً أو متحيزاً أو موصوفاً أو مقدراً أو غير ذلك، لا يمنع اختصاص أحدهما بصفات لازمة له، وليس إذا احتاج اختصاصه بالحيز إلى سبب غير الجسمية المشتركة يلزم أن يكون ذلك المخصص له مخصص آخر، بل المشاهد خلاف ذلك، فإن اختصاص الأجسام المشهودة بأحيازها ليس للجسمية المشتركة، بل لأمر يخصها، هو من لوازمها، بمعنى أن المقتضي لذاتها هو المقتضى لذلك اللازم.
وأيضاً، فقوله:(إن كان الامتناع لمعروض الجسمية فهو محال) ممنوع.
وقوله: (لأن المعقول من الجسمية الامتداد في الجهات فمحله لا بد أن يكون له ذهاب في الجهات) .
يقال له: محل الامتداد في الجهات هو الممتد في الجهات، كما أن محل التحيز هو المتحيز، ومحل الطول والعرض والعمق هو الطويل
العريض العميق، ومحل المقدار هو المقدر، وكذلك محل السواد والبياض هو الأسود والأبيض.
وهذا في كل ما يوصف بصفة، فمحل الصفة هو الموصوف، وهكذا جميع مسميات المصادر وغيرها من الأعراض محلها الأعيان القائمة بنفسها، فإذا كانت الجسمية هي الامتداد في الجهات التي هي الطول والعرض والعمق مثلاً، كان محلها هو الشيء الممتد في الجهات الذي هو الطويل العريض العميق وحينئذ فمحلها له اختصاص بالحيز، ويكون ذلك المعروض للجسمية الذي هو محل لها الممتد في الجهات هو المقتضي لاختصاصه بما اختص به من الصفات اللازمة، وهو مستلزم لذلك، كما هو مستلزم للامتداد في الجهات، فجنس الجسم مستلزم لجنس الامتداد، وجنس الأعراض والصفات، فالجسم المعين هو مستلزم للامتداد المعين في الجهات المعينة، ومستلزم للصفات المعينة التي يقال: إنها لازمة له، حتى إنه متى قدر عدم تلك اللوازم فقد تبطل حقيقته، فالموجب لها هو الموجب لحقيقته، وهذا مطرد في كل ما يقدر من المواصفات المستلزمة لصفاتها، كالحيوانية والناطقية للإنسان، وكذلك الإغتذاء والنمو للحيوان والنبات مثلاً، فإن كون النبات نامياً متغذياً هو صفة لازمة له، لعموم كونه جسماً، ولا لسبب غير حقيقته التي يختص بها، بل حقيقته مستلزمة
لنموه وأغتذائه، وهذه الصفات أقرب إلى أن تكون داخلة في حقيقته من كونه ممتداً في الجهات، وإن كان ذلك أيضاً لازماً له، فإنا نعلم أن النار والثلج والتراب والخبز والإنسان والشمس والفلك وغير ذلك كلها مشتركة في أنها متحيزة ممتدة في الجهات، كما أنها مشتركة في أنها موصوفة بصفات قائمة بها، وفي أنها حاملة لتلك الصفات، وما به افترقت وامتاز بعضها عن بعض أعظم مما فيه اشتركت، فالصفات الفارقة بينها الموجبة لاختلافها ومباينة بعضها لبعض أعظم مما يوجب تشابهها ومناسبة بعضها لبعض، فمن يقول بتماثل الجواهر والأجسام يقول: إن الحقيقة هي ما اشتركت فيه من التحيزية
والمقدارية وتوابعها، وسائر الصفات عارضة لها، تفتقر إلى سبب غير الذات.
ومن يقول باختلافها يقول: بل المقدارية للجسم والتحيزية للمتحيز، كالموصوفية للموصوف، واللونية للملون، والعرضية للعرض، والقيام بالنفس للقائمات بأنفسها، ونحو ذلك، ومعلوم أن الموجودين إذا اشتركا في أن هذا قائم بنفسه وهذا قائم بنفسه: لم يكن أحدهما مثلاً للآخر، وإذا اشتركا في أن هذا لون وهذا لون، وهذا طعم وهذا طعم، وهذا عرض وهذا عرض: لم يكن أحدهما مثلاً للآخر، وإذا اشتركا في أن لهذا مقداراً ولهذا مقداراً،