الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(والمقدمة الأولى من هذه الحجة مبنية على وتوحيد الفلاسفة، وهو نفي التركيب، وأن كل مركب فهو مفتقر إلى أجزائه، وأجزاؤه غيره، وهو في غاية الضعف، كما بسط في غير موضع.
والثانية مبنية على أن علة الافتقار هي الحدوث لا الإمكان) .
تعليق ابن تيمية
قلت: إنه إن أريد بذلك الحدوث مثلاً دليل على أن المحدث يحتاج إلى محدث، أو أن الحدوث شرط في افتقار المفعول إلى الفاعل،
فهذا صحيح.
وإن أريد بذلك أن الحدوث هو الذي جعل المحدث مفتقراً إلى الفاعل فهذا باطل.
وكذلك الإمكان إذا أريد به أنه دليل على الافتقار إلى المؤثر، أو أنه شرط في الافتقار إلى المؤثر فهذا صحيح.
وإن أريد به أنه جعل نفس الممكن مفتقراً فهذا باطل.
وعلى هذا فلا منافاة بين أن يكون كل من الإمكان والحدوث دليلاً على الافتقار إلى المؤثر، وشرطاً في الافتقار إلى المؤثر.
وإنما النزاع في مسألتين: أحدهما: أن الواجب بغيره هل يصح كونه مفعولاً لمن يقول: الفلك قديم معلول ممكن، فهذا مما ينكره جماهير العقلاء، ويقولون: لا يمكن مقارنته لفاعله أزلاً وأبداً ويقولون: الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا معدوماً تارة وموجوداً أخرى، فنفس المخلوقات مفتقرة إلى الخالق بذاتها، واحتياجها إلى المؤثر أمر ذاتي، لا يحتاج إلى علة، فليس كل حكم ثبت للذوات يحتاج إلى علة، إذ ذلك يفضي إلى تسلسل العلل، وهو باطل باتفاق العلماء، بل من الأحكام ما هو لازم للذوات لايمكن أن يكون مفارقاً للذوات ولا يفتقر إلى علة، وكون كل ما سوى الله فقيراً إليه محتاجاً إليه دائماً هو من هذا الباب.
فالفقر والاحتياج أمر لازم ذاتي لكل ما سوى الله، كما أن الغنى والصمدية أمر لازم لذات الله.
وهنا ينشأ النزاع في المسألة الثانية، وهو أن المحدث المخلوق هل افتقاره إلى الخالق المحدث وقت الإحداث فقط، أو هو دائماً مفتقر إليه؟ على قولين للنظار.
وكثير من أهل الكلام المتلقى عن جهم وأبي الهذيل يقولون: إنه
لا يفتقر إليه إلا في حال الإحداث، لا في حال البقاء، وهذا في مقابلة قول الفلاسفة الدهرية القائلين بأن افتقار الممكن إلى الواجب لا يستلزم حدوثها، بل افتقاره إليه في حال بقائه أزلاً وأبداً، وكلا القولين باطل.
وهو في أكثر كتبه ينصر خلاف ذلك، ولكن نحن نقرر أن كل ما سوى الواجب فهو محدث، وأن التأثير لا يكون إلا في حادث، وأن الحدوث والإمكان متلازمان، وهو قول جمهور العقلاء من أهل الملل والفلاسفة، وإنما أثبت ممكناً ليس بحادث طائفة من متأخري الفلاسفة كابن سينا والرازي فلزمهم إشكالات لا محيص عنها - مع أنهم في كتبهم المنطقية يوافقون أرسطو وسلفهم - وهو أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثاً.
وقد أنكر ابن رشد قولهم بأن الشيء الممكن الذي يقبل الوجود والعدم يكون قديماً أزلياً، وقال: (لم يقل بهذا أحد من الفلاسفة قبل ابن سينا.
قلت: وابن سينا ذكر في الشفاء في مواضع أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثاً، فتناقضى في ذلك تناقضاً في غير هذا الموضع.
وقد أورد هو على هذه الحجة معارضة مركبة، تستلزم فساد إحدى المقدمتين، وهي المعارضة بكونه تعالى عالماً بالعلم قادراً بالقدرة، فإن علمه إن كان واجباً لذاته وذاته واجبة أيضاً فقد وجد واجبان، وبطلت المقدمة الأولى، وإن كان ممكناً كان واجباً بغيره لوجوب ذاته، ولزم كون الأثر والمؤثر دائمين وبطلت المقدمة الثانية، ولم يجب عن هذه المعارضة، بل قال:(وأما الجواب عن كونه عالماً بالعلم قادراً بالقدرة فصعب) .
وقد اعترض الأرموي على ما ذكره في المقدمتين، أما الأولى فإن الرازي قال:(لو وجد واجبان وجوباً ذاتياً لتشاركا في الوجوب الذاتي وتباينا بالتعيين، فيلزم تركبهما مما به المشاركة والمباينة، وكل مركب مفتقر إلى غيره لافتقاره إلى جزئه، وكل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته) .
قال الأرموي: (ولقائل أن يقول: قد يكون الوجوب والتعيين وصفين عرضيين للماهية البسيطة) .
قلت: تقدم الكلام على هذا في التركيب، وذكر ما استدلوا به على امتناع كونه عرضياً، فإن الوصف العرضي يحتاج إلى سبب منفصل عن الذات، فيكون وجوب الواجب مفتقراً إلى شيء غير الواجب، وأيضاً فيكون وجوب الواجب وصفاً عرضياً.
وهو ظاهر الفساد، وأيضاً التفريق في الصفات اللازمة للحقيقة بين الذاتي والعرضي تحكم محض.
ولكن لقائل أن يقول: قول القائل: تشاركاً في الوجوب الذاتي، أتعني به تشاركهما في مطلق الوجوب، أو أن أحدهما شارك الآخر في الوجوب الذي يخصه؟.
فإن أراد الأول، قيل له: وكذلك قد اشتركا في مطلق التعين، فإن هذا واجب، وهذا واجب، وهذا معين وهذا معين، والمعينات مشتركة في مسمى التعين، كما أن الواجبات مشتركة في مسمى الوجوب، والموجودات مشتركة في مسمى الوجود، والماهيات مشتركة في مسمى الماهية، والحقائق مشتركة في مسمى الحقيقة وكذلك سائر الأسماء العامة المطلقة الكلية.
وحينئذ فلم يتباينا في مطلق التعيين، كما لم يتباينا في مطلق الوجوب.
وإن قال: اشتركا في عين الوجوب.
قيل: هذا ممتنع، كما أن اشتراكهما في عين التعين ممتنع.
وإن جاء لقائل أن يقول: هذا شارك هذا في نفس وجوبه الذي يخصه، لجاز لآخر أن يقول: إن هذا شارك هذا في نفس تعينه الذي يخصه، وإنما المستدل أخذ الوجوب مطلقاً، وأخذ التعين مقيداً وكان الواجب أن يسوي بينهما في الإطلاق والتعيين، إذ هما متلازمان فإن وجوب هذا ملازم لعينه ووجوب هذا ملازم لعينه، فيمتنع انفكاك أحدهما عن الآخر.
ولو عكس عاكس قوله لكان قوله مثل قوله، بأن يقول: اشتركا في التعين الذاتي، فإن لكل منهما تعيناً ذاتياً وتبايناً في الوجوب فإن لكل منهما وجوباً يخصه.
ومعلوم أن هذا فاسد، فكذلك نظيره.
وفي الجملة فالصفات المتلازمة لا يكون بعضها أخص من بعض، فإذا قدر إنسانان فكل منهما له إنساناً تخصه، وحيوانية تخصه، وناطقية تخصه، وهي متلازمة، لا توجد إنسانيته دون ناطقيته، ولا ناطقيته دون إنسانيته، ولا توجد واحدة منهما دون عينه المعينة، وإن وجد
إنسانية أخرى وناطقية أخرى، فتلك نظير إنسانيته وناطقيته ليست هي هي بعينها، كما أن هذا الإنسان نظير هذا الإنسان ليس هو إياه بعينه، إلا أن يراد بلفظ العين النوع، كما يقال لمن عمل مثل ما يعمل غيره: هذا عمل فلان بعينه، فالمقصود أنه ذلك النوع بعينه، ليس المقصود أنه ذلك العمل المشخص الذي قام بذات ذلك الفاعل فإنه مخالف للحس، فقد تبين أن الموجودين والواجبين ونحو ذلك لم تركب أحدهما من مشارك ومميز، بل ليس فيه إلا وصف مختص به تميز به عن غيره، وإن كانت صفاته بعضها يشابه فيها غيره وبعضها يخالف فيها غيره.
فإذا قيل: لو قدر واجبان أو موجودان إن إنسانان لكان أحدهما يشابه الآخر في الوجوب أو الوجود أو الإنسانية لكان صحيحاً، ولكان يمكن ذلك أنه يشابهه في الحقيقة كما يمكن أن يخالفه.
ثم هب أن كلاً منهم فيه ما يشارك به غيره وما يتميز به عنه، فقوله:(إنه مركب مما به الاشتراك والامتياز) إن عنى بذلك أنه موصوف بالأمرين فصحيح، وإن عنى أن هناك أجزاء تركبت ذاته منها فهذا باطل، كقول من يقول: إن الإنسان مركب من الحيوانية والناطقية، فإنه لا ريب أنه موصوف بهما.
وأما كون الإنسان المعين له أجزاء تركب منها فهذا باطل كما تقدم.
ولو سلم أن مثل هذا يسمى تركيباً فقوله: (كل مركب مفتقر إلى غيره) يدخل فيه ما ركبه المركب كالأجسام المركبة من مفرداتها من الأغذية والأدوية والأشربة ونحو ذلك، ويدخل فيه ما يقبل تفريق أجزائه كالإنسان والحيوان النبات، ويدخل فيه ما يتميز بعض جوانبه عن بعض، ويدخل فيه الموصوف بصفات لازمة له، وهذا هو الذي أراده هنا.
فيقال له: حينئذ يكون المراد أن كل ما كان له صفة لازمة له فلابد في ثبوته من الصفة اللازمة له.
وهذا حق.
وهب أنك سميت هذا تركيباً فليس ذلك ممتنعاً في واجب الوجود، بل هو الحق الذي لا يمكنه نقيضه.
قولك: (المركب مفتقر إلى غيره) معناه أن الموصوف بصفة لازمة له لا يكون موجوداً بدون صفته اللازمة له، لكن سميته مركباً،
وسميت صفته اللازمة له جزءاً وغيراً، وسميت استلزامه إياها افتقاراً، فقولك بعد هذا (كل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته) معناه: أن كل مستلزم لصفة لازمة له لا يكون موجوداً بنفسه، بل بشيء مباين له، ومعلوم أن هذا باطل.
وذلك لأن المعلوم أن ما كانت ذاته تقبل الوجود والعدم فلا يكون موجوداً بنفسه، بلا لا بد له من واجب بنفسه يبدعه، وهذا حق فهو مفتقر إلى شيء مباين له لم يكن موجوداً له يبدعه، وهذا هو الغير الذي يفتقر إليه الممكن، وكل ما افتقر إلى شيء مباين له لم يكن موجوداً بنفسه قطعاً.
أما إذا أريد بالغير الصفة اللازمة، وأريد بالافتقار التلازم، فمن أين يقال: إن كل ما استلزم صفة لازمة له لا يكون موجوداً بنفسه، بل يفتقر إلى مبدع مباين له؟.
وقد ذكرنا مثل هذا في غير موضع، وبينا أن لفظ (الجزء) و (الغير) و (الافتقار) و (التركيب) ألفاظ مجملة موهاً بها على الناس، فإذا فسر مرادهم بها ظهر فساده وليس هذا المقام مقام بسط هذا.
ونحن هذا البرهان عندنا صحيح وهو أن كل ماسوى الله ممكن، وكل ممكن فهو مفتقر إلى المؤثر، لأن المؤثر لا يؤثر إلا في حال حدوثه، لكن يقرر ذلك بمقدمات لم يذكرها الرازي هنا، كما بسط في موصع آخر.
وأما الجواب عن المعارضة بكون الرب عالماً قادراً، فجوابه: أن