الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والخلق يتضمن الحدوث والتقدير ففيه معنى الإبداع والتقدير وإذا علمت أن الممكن لا بد له من مرجح يجب به وإلا لم يكن موجوداً بل يبقى معدوماً على أصح القولين، أو متردداً بين الوجود والعدم على الآخر فالمحدث لا بد له من فاعل يستغن به المفعول فيكون به وإلا بقي مفتقراً إلى غيره وإذا قدر محدثه أيضاً فهو أيضاً محدث لم يستغن به لأن ذلك المحدث مفتقر إلى غيره فالمفتقر إليه مفتقر إلى ذلك الغير، الذي هو الأول مفتقر إليه بطريق الأولى، فلا توجد الحوادث إلا بفاعل غني عن غيره وكل محدث مفتقر إلى غيره فلا توجد الحوادث إلا بفاعل قديم غير محدث فهذه طرق متعددة يثبت بها الموجود الواجب بنفسه القديم.
فصل
ويمكن تصوير هذه المادة في الغنى والفقر، وفي الخلق وعدم الخلق، والقدرة وعدم القدرة، والكمال والنقصان، والحياة والموت، والعلم والجهل، وغير ذلك بأن يقال: كل موجود فإما أن يكون غنياً بنفسه عما سواه، وإما أن يكون مفتقراً إلى ما سواه، والمفتقر إلى ما سواه لا يوجد إلا بغنى عما سواه، فيلزم وجوده الغني عما سواه على التقديرين.
والحوادث مفتقرة إلى غيرها، فثبت أن من الموجودات ما هو غني بنفسه ومنها ما هو مفتقر إلى ما سواه ومثل أن يقال: كل موجود فإما أن يكون مخلوقاً وإما ألا يكون مخلوقاً، والمخلوق لا يكون مخلوقاً إلا بخالق ليس بمخلوق.
وقد علم أن الحوادث لا تكون إلا مخلوقة، فثبت أن في الموجودات ما هو حادث مخلوق، ومنها ما هو خالق لتلك الحوادث ليس بمخلوق، وهو المطلوب.
ومثل أن يقال: الموجودإما أن يكون قادراً بنفسه، وإما ألا يكون قادراً بنفسه، وما ليس بقادر بنفسه لا يكون قادراً إلا بإقدار القادر بنفسه، والحوادث المشهودة كانت معدومة، والمعدوم لا يكون موجوداً بنفسه فضلاً عن أن يكون قادراً بنفسه، فثبت أن في الموجودات ما هو محدث ومنها ما هو موجود قادر بنفسه، والقادر بنفسه لا يكون إلا قديماً أزلياً واجباً بنفسه، فثبت انقسام الموجودات إلى هذا وهذا، وهو المطلوب.
ومثل أن يقال: الموجودإما أن يكون كاملاً ليس فيه نقص يحتاج إلى غيره.
وإما أن يكون ناقصاً يحتاج في كماله إلى غيره، ومعلوم أن الحوادث المشهودة ليس لها من نفسها وجود، فضلاً عن أن تكون كاملة بنفسها، وأنها بعد وجودها مفتقرة إلى من يكمل نقصها، فثبت أن الموجودات فيها كامل ليس فيه نقص يحتاج فيه إلى غيره، وما ليس فيه
نقص، لا يكون إلا كاملاً قديماً أزلياً واجباً بنفسه، فثبت انقسام الموجودات إلى هذا وهذا، وهو المطلوب.
ومثل أن يقال: الموجودإما عالم بنفسه، وإما محتاج في العلم إلى من يعلمه، وإما أن لا يقبل العلم، ومعلوم أن الإنسان مفتقر في حصول علمه إلى من يعلمه، ليس علمه من لوازم ذاته، فإنه خرج من بطن أمه لا يعلم شيئاً ثم حدث له العلم بعد ذلك، فثبت أن في الموجود ما ليس عالماً بنفسه، بل هو مفتقر في حصول العلم له إلى من يعلمه، ومعلوم أن كل ما ليس بعالم بنفسه فلا بد له من عالم يعلمه، وذاك العلم إن كان عالماً بنفسه وإلا افتقر إلى عالم بنفسه، فلا بد له من عالم يعلمه، وذاك العالم إن كان عالماً بنفسه وإلا افتقر إلى عالم بنفسه فلا بد أن ينتهي الأمر إلى عالم بنفسه قطعاً للتسلسل الممتنع، فثبت أن في الوجود ما هو عالم بنفسه، وما ليس عالماً بنفسه بل بمن يعلمه كما قال:{اقرأ باسم ربك الذي خلق} إلى قوله: {اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم} العلق 1 - 5 وقال: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} البقرة 255.
وما كان عالماً بنفسه فإن يكون موجوداً بنفسه أولى وأحرى، فإن العلم صفة له، وإذا كانت تلك الصفة قديمة واجبة لا تفتقر إلى فاعل يفعلها في العالم بنفسه، فلا يكون الموصوف بها قديماً واجباً بطريق الأولى والأحرى.
ومثل أن يقال الموجود: إما حي بنفسه وإما حي بغيره، وإما ليس بحي.
ومعلوم أن الحي بغيره موجود، فإن الإنسان يكون في بطن أمه قبل نفخ الروح فيه ليس بحي ثم يصير حياً بعد ذلك.
فثبت وجود الحي بغيره الذي جعله حياً.
وذلك الذي جعله حياً إما أن يكون حياً بنفسه، وإما بغيره.
والحي بغيره يحتاج إلى حي، فلا بد أن ينتهي الأمر إلى حي بنفسه قطعاً للتسلسل الممتنع، فثبت أن في الوجود ما هو حي بنفسه، والحي بنفسه لا يكون إلا واجباً قديماً بنفسه، فإن ذاته إذا كانت مستلزمة لحياته، بحيث لا تكون حياته حاصلة له من غيره، فغن تكون ذاته واجبة بنفسها، لا تكون حاصلة بغيرها أولى وأحرى فغن الحياة قائمة في الموصوف الحي بها، فإذا كانت الحياة قديمة أزلية واجبة بنفسها يمتنع عدمها، فالحي الموصوف بها أن يكون حياً قديماً أزلياً واجباً بنفسه أولى وأحرى.
والتسلسل الذي يسمى التسلسل في العلل والمعلولات، والمؤثر والأثر والفاعل والمفعول، والخالق ولمخلوق هو ممتنع باتفاق العقلاء.
وبصريح المعقول، بل هو ممتنع في بديهة العقل بعد التصور، وهو الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة منه في قوله صلى الله عليه وسلم «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ فيقول: الله فيقول: من خلق الله فإذا وجد ذلك أحدكم فليستعذ بالله ولينته» فأمره بالاستعاذة منه ليقطع عنه الله الوساوس الفاسدة