الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على الإطلاق ثم قال بعد هذا انفرد بالعلم والكمال والحكم والاختيار، وانفرد بالقهر والاقتدار، وانفرد بالخلق والاختراع وقال مع هذه المخصصات بأسرها يستحيل الكمال عليها وإن تكاملت صفاتها
تعليق ابن تيمية
قلت ومعلوم أن هذا تناقض، فإن نفي الاختصاص بخاصة من الخواص، ودعوى انه وجود مطلق لا يختص بوجه من الوجوه يمنع أن يختص بعلم أو قدرة أو مشيئة ونحو ذلك من الصفات، فإن العالم مختص بعلمه متميز به عن الجاهل ن والقادر مختص بقدرته متميز بها عن العاجز ن والمختار مختص بالاختيار متميز به عن المستكره، فإن أثبت شيئاً من صفات الكمال فقد أثبت اختصاصه بذلك، وإن نفى جميع الصفات ولم يثبت إلا وجوداً مطلقاً تناقض كلامه
وقيل له المطلق لا يوجد إلا في الذهن لا في الخارج ن فلا يتصور أن يكون في الخارج شيء مطلق، لا حيوان ولا إنسان مطلق ولا جسم مطلق ولا موجود مطلق، بل كل موجود فله حقيقة بها لا يشركه فيها غيره
وقيل له هذا الوجود المطلق اهو وجود المخلوقات أم غيره؟ فإن قال هو هو، بطل إثبات الخالق، وإن قال هو غيره قيل له
فوجوده مثل وجود المخلوقات أو ليس مثله ن فإن كان الأول لزم أن يكون الخالق مثل المخلوق، والمثلان يجوز ويجب ويمتنع على أحدهما ما يجوز ويجب ويمتنع على الآخر، فيلزم أن يكون الشيء الواحد واجباً غير واجب، محدثاً غير محدث، وهو جمع بين النقيضين
وإن قال وجوده مخالف لوجود المخلوقات فقد أثبت له وجوداً يختص به، لا يشركه فيه غيره، فلا يماثله غيره وهذا وجود مخصوص مقيد، لا وجود مطلق وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع
والمقصود هنا الكلام في أن كل مختص بأمر هل يفتقر إلى مخصص منفصل عنه؟ لأن الكلام كان في المسلك الثاني في حدوث الأجسام، الذي بين فساده الآمدي والأرموي وغيرهما، فإنه مبني على مقدمتين إحداهما أنها مفتقرة إلى ما يخصصها بصفاتها والثانية أن ما كان كذلك فهو محدث.
وقد بينوا فساد المقدمة الثانية كما تقدم
وأما الأولى فقررت بوجهين
أحدهما أن المختص بمقدار لا بد له من مخصص، وقد تبين فساده أيضاً
الثاني أن جواهر العالم إما ان تكون مجتمعة أو مفترقة، أو مجتمعة ومفترقة معاً، أو لا مجتمعة ولا مفترقة، أو البعض مجتمعاً والبعض مفترقاً، وخلوها عنهما، وأيضاً الجمع بينهما ممتنع واما بقية الأقسام فهي ممكنة، ومهما قدر أمكن تقدير خلافه فيكون جائزاً والجائز يفتقر إلى مخصص
وهذا أضعف الوجهين
أحدهما انه مبني على أن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة، وان كل جسم يقبل الاجتماع والافتراق، واكثر عقلاء الناس على خلاف ذلك، فإن للناس في هذا المقام أقوالاً أحدها قول من يقول إنها مركبة من الجواهر المنفردة التي لا تقبل القسمة، كما هو قول أكثر المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وموافقيهم
والثاني قول من يقول إنها مركبة من جواهر لا نهاية لها كما هو قول النظام ومتبعيه
والثالث قول من يقول إنها مركبة من المادة والصورة، وإنها تقبل الانقسام إلى غير نهاية، كما هو قول ابن سينا وأمثاله من المتفلسفة
والرابع قول من يقول إنها ليست مركبة من هذا ولا هذا، لكن تقبل الانقسام إلى جوهر لا يتجزأ، كما هو قول الشهر ستاني وغيره
والخامس قول من يقول إنها ليست مركبة لا من هذا ولا هذا ن ولا تقبل الانقسام إلى جزء لا يتجزأ ولا إلى غير غاية لكن كل جزء موجود فإنه يقبل الانقسام العقلي ولا يقبل الانقسام الفعلي ولكنه يستحيل إذا تصغر، كما تفسد وتستحيل أجزاء المادة إذا صغرت فتصير هواء ن فلا يكون في الأجزاء ما لا يتميز يمينه عن شماله، ولا يكون فيها ما يقبل الانقسام إلى غير غاية
وهؤلاء تخلصوا من هذا المحذور وهذا المحذور، فإن مثبتة الجزء الذي لا ينقسم ألزمهم الناس بأنه لا بد ان يتميز أحد جانبيه عن الآخر ن وما كان كذلك فهو يقبل الانقسام المتنازع فيه
وألزموهم انه إذا وضع بين جوهرين فإن لاقى هذا بعين ما لاقى به هذا امتنع كونه بينهما، وإن لاقى هذا بغير ما لاقى به هذا لزم انقسامه وألزموهم من هذا الجنس إلزامات لا محيد لهم عنها
ومن نفاه وقال بانه يمكن انقسام الأجسام إلى غير نهاية ألزمهم الناس أن يكون الجسم الصغير كالكبير، وان يكون ما لا يتناهى محصوراً بين حاصرين
ثم إما أن يقول هي غير متناهية مع وجودها، كما يقوله النظام، والتزم على ذلك ان الظافر لا يحاذي ما تحته من الأجزاء لئلا يقع ما لا يتناهى تحت ما يتناهى، وصار الناس يقولون عجائب الكلام طفرة النظام ن وأحوال أبي هاشم وكسب الأشعري ولهم في ذلك من الكلام ما يطول وصفه
أو يقول إن الانقسام إلى غير غاية ممكن فيها كما يقوله المتفلسفة كابن سينا وأمثاله
ولما كان كل من القولين معلوم الفساد بالضرورة قول من أثبت ما لا يتميز بعضه عن بعض، ومن أثبت ما ينقسم إلى غير نهاية ن توقف من توقف من أفاضل النظار فيه، فتوقف فيه أبو الحسين البصري وأبو المعالي الجويني في بعض كتبه وأبو عبد الله الرازي في نهايته
فهؤلاء الذين لم يثبتوا إمكان الانقسام إلى غير غاية، ولا أثبتوا ما لا يقبل امتياز بعضه عن بعض، خلصوا من هذا وهذا ن وقالوا إنه إذا صغر استحال إلى غيره، مع امتياز بعضه عن بعض لو بقي موجوداً
وبالجملة نفي هذا وهذا قول طوائف قول طوائف كثيرة من أهل النظر من الكلابية والكرامية، بل والهاشمية والنجارية والضرارية وغيرهم
والمقصود هنا ان هؤلاء الذين يقولون إن جواهر العالم إما أن تكون مجتمعة أو مفترقة إلى آخرها قولهم مبني على هذا الأصل، والتزموا على ذلك أن جميع ما يحدث من الحيوان والنبات والمعدن، وما يفسد من ذلك غنما هو لاجتماع الجواهر وافتراقها، فالحادث صفات الجواهر، لا أن عيناً من الأعيان يحدث، وانكروا استحالة الأجسام بعضها إلى بعض وقالوا: إن أجزاء المني باقية في الأنسان، وكذلك أجزاء النواة في الشجرة، ولكن زادت أجزاء بما انضم إليها من أجزاء الغذاء، كأجزاء الماء والهواء، وأن تلك الأجزاء أيضاً باقية لم تستحل ولم تعدم، بل تجتمع تارة وتفترق أخرى.
وجماهير العقلاء على مخالفة وقائلون هؤلاء وقائلون باستحالة الأجسام بعضها إلى بعض كما أطبق على ذلك علماء الشريعة وعلماء الطبيعة وغيرهم من أصناف الناس.
ولهذا يقولون: النجاسة هل تطهر بالاستحالة ام لا تطهر؟ فإذا صارت الميتة والدم ولحم الخنزير رماداً أو تراباً أو ملحاً ونحو ذلك، ففي طهارة ذلك قولان مشهوران للعلماء والقول بطهارته قول أكثر الفقهاء فإنه قول أصحاب أبي حنيفة وأهل الظاهر وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد بن حنبل واتفقوا على أن الخمر إذا استحالت وانقلبت بغير قصد الإنسان أنها تطهر.
والأطباء مع سائر الناس يعلمون أن الماء يستحيل هواء والهواء يستحيل ماء والنار تسحيل هواء والهواء يستحيل ماء كما
هو مبسوط في غير هذا الموضع إذ المقصود هنا التنبيه على أصول هذه الحجة.
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبين ما يقوله هؤلاء وهؤلاء من التركيب، وأن هؤلاء يدعون التركيب من جواهر محسوسة لا تنقسم وهي الجواهر المنفردة، وهؤلاء يدعون التركيب من جواهر معقولة لا تنقسم كما يقولون في تركب الأنواع من الأجناس والفصول وفي تركب الأجسام من المادة والصورة والمركب لا بد له من واحد لا تركيب فيه ولا تقسيم.
وقد بين ان ما يدعيه هؤلاء وهؤلاء من هذا الواحد لا حقيقة له في الخارج ن وإنما تقديره في الذهن.
وكذلك ما يدعيه هؤلاء من الجواهر العقلية المجردة التي لا تنقسم كالعقول العشرة، فقد بين في غير هذا الموضع أنها لا تتحقق إلا في الأذهان لا في الأعيان.
وتوحيد القديم الأزلي واجب الوجود، الذي مضمونه نفي الصفات عند الفريقين ينزه عن مثل هذه الآحاد والوحدات التي يثبتونها في الخارج ولا حقيقة لها إلا في الذهن ولهذا كان منتهى تحقيقهم القول بوحدة الوجود، وأن الوجود واحد، لا يميزون بين الواحد بالنوع والواحد بالشخص، فإن الواحد بالنوع كما يقال: الموجودات تشترك في مسمى الوجود والأناسي تشترك في مسمى الإنسان والحيوانات تشترك في مسمى الحيوان والأجسام تشترك في مسمى الجسم ونحو ذلك.
وهذا المشترك هو الكلي الذي لا يوجد في الخارج كليا، ولا يكون كليا إلا في الأذهان لا في الأعيان.
وبين ما دخل على المنطقيين من الغلط في دعواهم تركب الحقائق من هذه الكليات، وما دخل عليهم من الفساد في العلم الإلهي والطبيعي، وأنهم يجعلون الواحد اثنين كالجسم والأثنين واحداً كالعلم والعالم، والإرادة والقدرة ويجعلون الموجود معدوماً ن كالحقيقة الإلهية وصفاتها وأفعالها والمعدوم موجوداً كالوجود المطلق ويجعلون ما في الذهن في الخارج، كالمجردات والكليات وأمثال ذلك مما ليس هذا موضع بسطه.
الوجه الثاني انه لو سلم أن الجسم مؤلف من الجواهر المجتمعة فالقول في الاجتماع كالقول في المقدار وقوله: إن اختصاصه بذلك الاجتماع يفتقر إلى مخصص قد بين فساده كقوله إن اختصاصه بالمقدار إلى مخصص وهو مبني على أن كل مختص يفتقر إلى مخصص.
وأما المقدمة الثانية فإنها قررت بان المخصص لا بد أن يكون فاعلاً مختاراً وان يكون ما خصصه به حادثاً وقد أبطل الآمدي وغيره كلا المقدمتين.