الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التي يلقيها الشيطان بغير اختياره ويؤذيه بها، حتى قد يتمنى الموت، أو حتى يختار أن يحترق ولا يجدها، وهي الوسوسة التي سأله عنه الصحابة فقالوا: يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حمة أو يخر من السماء إلى الأرض خيراً له من أن يتكلم به فقال: ذلك صريح الإيمان، وفي رواية: ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به.
فقال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة.
وأراد بذلك أن كراهته هذه الوسوسة ونفيها هو محض الإيمان وصريحة.
فصل
واعلم أن علم الإنسان بأن كل محدث لا بد له من محدث أو كل ممكن لا بد له من واجب أو كل فقير فلا بد له من غني، أو كل مخلوق فلا بد له من خالق، أو كل معلوم فلا بد له من يعلم، أو كل أثر فلا بد له من مؤثر، ونحو ذلك من القضايا الكلية والأخبار العامة هو علم كلي بقضية كلية، وهو حق في نفسه، لكن علمه بأن هذا المحدث المعين لا بد له من محدث، وهذا الممكن المعين لا بد له من واجب، هو أيضاً معلوم له مع كون القضية معينة مخصوصة جزئية، وليس علمه بهذه القضايا المعينة المخصوصة
موقوفاً على العلم بتلك القضية العامة الكلية، بل هذه القضايا المعينة المخصوصة موقوفاً على العلم بتلك القضية العامة الكلية، بل هذه القضايا المعينة قد تسبق إلى فطرته، قبل أن يستشعر تلك القضايا الكلية وهذا كعلمه بأن الكتابة لا بد من كاتب، والبناء لا بد له من بأن فإنه إذا رأى كتابه معينة علم انه لا بد لها من كاتب.
وإذا رأى بنياناً علم أنه لا بد له من بأن وإن لم يستشعر في ذلك الحال كل كتابه كانت أو تكون، أو يمكن أن تكون، ولهذا تجد الصبي ونحوه يعلم هذه القضايا المعينة الجزئية، وإن كان عقله لا يستحضر القضية الكلية العامة، وهذا كما أن الإنسان يعلم أن هذا المعين لا يكون أسود أبيض، ولا يكون في مكانين، وإن لم يستحضر أن كل سواد وكل بياض فأنهما لا يجتمعان، وأن كل جسمين فإنهما لا يكونان في مكان واحد، وهكذا إذا رأى درهماً ونصف درهم، علم أن هذا الكل أعظم من هذا الجزء، وإن لم يستحضر أن كل كل فإنه يجب أن يكون أعظم من جزئه.
وكذلك إذا قيل: هذا العدد الأول مساو لهذا العدد الثاني، وهذا العدد الثاني مساو لهذا العدد الثالث، فإنه يعلم أن الأول مساو لمساوي الثاني وهو مساو للثالث، وإن لم يستحضر أن كل مساو لمساو فهو مساو.
وكذلك إذا علم أن الشخص موجود علم أنه ليس بمعدوم، وإذا علم انه ليس بمعدوم علم أنه موجود، ويعلم انه لا يجتمع وجوده وعدمه بل يتناقضان، وأن لم يستحضر قضية كلية عامة أنه لا يجتمع نفي كل شيء وإثباته ووجوده وعدمه، وهكذا عامة القضايا الكلية.
فإنه قد يكون علم الإنسان بالحكم في أعيانها المشخصة الجزئية أبده للعقل من الحكم الكلي، ولا تكون معرفته بحكم المعينات موقوفه على تلك القضايا الكليات، ولهذا كان علم الإنسان أنه هو لم يحدث نفسه، لا يتوقف على علمه بان كل إنسان لم يحدث نفسه، ولا على أن كل حادث لم يحدث نفسه، بل هذه القضايا العامة الكلية صادقة، وتلك القضية المعينة صادقة، والعلم بها فطري ضروري لا يحتاج أن يستدل عليه، وإن كان قد يمكن الاستدلال على بعض المعينات بالقضية الكلية، ويستفاد العلم بالقضية الكلية بواسطة العلم بالمعينات، لكن المقصود أن هذا الاستدلال ليس شرطاً في العلم، بل العلم بالمعينات قد يعلم كما تعلم الكليات وأعظم، بل قد يجزم بالمعينات من لا يجزم بالكليات، ولهذا لا تجد أحداً يشك في أن هذه الكتابة لا بد لها من كاتب، وهذا البناء لا بد له من باب، بل يعلم هذا ضرورة.
وإن كان العلم بان كل حادث لا بد له من محدث فاعل
قد اعتقده طوائف من النظار نظرياً حتى أقاموا عليه دليلاً: إما بقياس الشمول، وإما بقياس التمثيل.
فالأول قول من يقول: كل محدث لا بد له من محدث والثاني قول من يقول هذا محدث فيفتقر إلى محدث قياساً على البناء والكتابة.
ثم القائلون بأن كل محدث لا بد له من محدث، منهم من يثبت هذا بالاستدلال على أن الحادث مختص والتخصيص لا بد له من مخصص ثم من الناس من يثبت هذا بأن المخصوص ممكن، والممكن لا بد له من مرجح لوجوده، ثم من الناس من يثبت هذا بأن نسبة الممكن إلى الوجود والعدم سواء، فلا بد من ترجيح أحد الجانبين.
وكثير من الناس يجعل المقدمة الأولى في هذه القضايا ضرورية، بل يجعلها أبين من الثانية، التي استدل بها عليها، وهذا الاضطراب غنما يقع في القضايا الكلية العامة.
وأما كون هذا البناء لا بد له من بان، وهذه الكتابة لا بد لها من كاتب، وهذا الثوب المخيط لا بد له من خياط وهذه الآثار التي في الأرض من آثار الأقدام لا بد لها من مؤثر وهذه الضربة لا بد لها من ضارب، وهذه الصياغة لا بد لها من صائغ، وهذا
الكلام المنظوم المسموع لا بد له من متكلم وهذا الضرب والرمي والطعن لا بد له من ضارب ورام وطاعن.
فهذه القضايا المعينة الجزئية لا يشك فيها أحد من العقلاء، ولا يفتقر في العلم بها إلى دليل، وإن كان ذكر نظائرها حجة لها، وذكر القضية التي تتناولها وغيرها حجة ثانية فيستدل عليها بقياس التمثيل وبقياس الشمول لكن هي في نفسها معلومة للعقلاء بالضرورة، مع قطع نظرهم عن قضية كلية، كما يعلم الإنسان أحوال نفسه المعينة، فإنه يعلم أنه لم يحدث نفسه، وإن لم يستحضر أن كل حادث لا يحدث بنفسه.
ولهذا كانت فطرة الخلق مجبولة على أنهم شاهدوا شيئاً من الحوادث المتجددة، كالرعد والبرق والزلازل ذكروا الله وسبحوه لأنهم يعلمون أن ذلك المتجدد لم يتجدد بنفسه بل له محدث أحدثه وإن كانوا يعلمون هذا في سائر المحدثات لكن ما اعتادوا حدوثه صار مألوفا لهم بخلاف المتجدد الغريب، وإلا فعامة ما يذكرون الله ويسبحونه عنده من الغريب المتجددة قد شهدوا من آيات الله المعتادة ما هو أعظم منه ولو لم يكن إلا خلق الإنسان فإنه من أعظم الآيات، فكل أحد يعلم أنه هو لم