الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلام أبي القاسم الأنصاري
وقال أبو القاسم الأنصاري شارح الإرشاد والقاضي أبو بكر: وإن أثبت الأحوال فلم يجعل الوجود حالاً فإن العلم به علم بالذات، وعند أبي هاشم ومتبعيه الوجود من الأحوال، وهو من أثر كون الفاعل قادراً.
قال وما قاله إمام الحرمين: من أن الأئمة يتوسعون في عد الوجود من الصفات فإنما قالوا ذلك لما بيناه من ان صفة النفس عندهم تفيد ما تفيده النفس فلا فرق بين وجود الجوهر وتحيزه.
وهكذا قال الكيا: الوجود بمنزلة التحيز للجوهر، فإن التحيز للجوهر نفس الجوهر خالف أبا المعالي.
قال ومن الدليل على وجود الصانع أنه موصوف بالصفات القائمة به كالحياة والقدرة والعلم ونحوها وهذه الصفات مشروطة بوجود محلها وقد يكون الشيء موجوداً ولا يكون مختصاً بهذه الصفات ويستحيل الاختصاص بهذه الصفات من غير تحقق وجود.
قال ومما يحقق ما قلناه قيام الدليل القاطع على أنه فاعل ومن شرط الفاعل أن يكون موجوداً.
تعليق ابن تيمية
قلت: هذا الثاني هو ما ذكره أبو المعالي فإن إثبات الصانع إثبات لوجوده، وإلا فصانع منتف كنفي الصانع، وأما الأول فهو وإن كان صحيحاً لكن النتيجة أبين من المقدمات فإن العلم بأن الصانع لا يكون إلا موجوداً أبين من كون ما تقوم به الصفة لا يكون إلا
موجوداً، وكلاهما معلوم بالضرورة، لكن الفاعل الذي يبدع غيره أحق بالوجود، وكما أن الوجود من محل الصفة فإن محل الصفة قد يكون جماداً وقد يكون حيواناً وقد يكون قادراً، وقد يكون عاجزاً، والصفة وإن كانت مفتقرة إلى محل وجودي فهو من باب الأفتقار إلى المحل القابل وأما المفعول المفتقر إلى الفاعل فهو من باب الافتقار إلى الفاعل.
ومعلوم أن الحاجة إلى الفاعل فيما له فاعل أقوى من الحاجة إلى القابل فيما له قابل.
وأيضاً فإن القابل شرط في المقبول لا يجب تقدمه عليه بل يجوز اقترانهما بخلاف الفاعل فإنه لا يجوز أن يقارن المفعول، بل لا بد من تقدمه عليه.
ولهذا اتفق العقلاء على أنه لا يجوز أن يكون كل من الشيئين فاعلاً للآخر لا بمعنى كونه علة فاعلة ولا بغير ذلك من المعاني، وأما كون كل من الشيئين شرطاً للآخر فإنه يجوز، وهذا هو الدور المعي، وذاك هو الدور القبلي، وقد بسط هذا في غير
الموضع، وبين ما دخل على الفلاسفة من الغلط في مسائل الصفات من هذا الوجه حيث لم يميزوا بين الشرط والعلة الفاعلة بل قد يجعلون ذلك كله علة، إذ العلة عندهم يدخل فيها الفاعل والغاية، وهما العلتان المفصلتان اللتان بهما يكون وجود المعلول والقابل، الذي قد يسمى مادة وهيولى مع الصورة، وهما علتا حقيقة الشيء في نفسه، سواء قيل إن حقيقته غير العين الموجودة في الخارج كما يدعون ذلك أو قيل هي هي كما هو المعروف عن متكلمي أهل السنة.
والمقصود هنا أن الدليل لما دل على أنه لا بد من موجود واجب بنفسه أي لا يكون له فاعل يوجده: لا علة فاعلة، ولاما يسمى فاعلاً غير ذلك، صاروا يطلقون عليه الواجب بنفسه، ثم أخذوا ما يحتمله هذا اللفظ من المعاني، فأرادوا إثباته كلها، فصاروا ينفون الصفات وينفون أن يكون له حقيقة موصوفة بالوجود لئلا تكون الذات متعلقة بصفة، فلا تكون واجبة بنفسها.
ومعلوم أن كون الذات مستلزمة لصفة كمال يمتنع
تحققها بدونها لا يوجب افتقارها إلى فاعل أو علة فاعلة، ولكن غاية ما فيه أن تكون الذات مشروطة بالصفة والصفة مشروطة بالذات، وأن تكون الصفة إذا قيل بأنها واجبة لا تقوم إلا بموصوف فإذا قيل: هذا فيه افتقار الواجب إلى غيره لم يلزم أن يكون ذلك الغير فاعلاً ولا علة فاعلة بل إذا قدر أنه يطلق عليه غير فإنما هو شرط من المشروط وكون الذات مشروطة بالصفة اللازمة لها والصفة مشروطة بالذات لا يمنع أن يكون الجميع واجباً بنفسه لا يفتقر إلى فاعل ولا إلى علة فاعلة وقد بسط هذا في غير هذا الموضع.
والمقصود أنه إذا كان قد علم أن الصفة المشروطة بمحلها تقتضي أن يكون محلها موجوداً فالمفعول المفتقر إلى فاعل موجب يقتضي أن يكون فاعله موجوداً بطريق الأولى.
وأيضاً فيقال: الحوادث المشهودة لا بد لها من محدث إذ المحدث من حيث هو محدث وكل ما يقدر محدثاً سواء قدر متناهياً أو غير متناه لا يوجد بنفسه بل لا بد له من فاعل ليس بمحدث والعلم بذلك ضروري إذ طبيعة الحدث تقتقي الإفتقار إلى فاعل فلا بد لكل ما يقدر محدثاً من فاعل فيمتنع أن يكون فاعل كل المحدثات محدثاً فوجب أن يكون قديماً.
وأيضاً فالمحدث مفتقر إلى محدث كامل، مستقل بالفعل، إذ ما ليس مستقلاً بالفعل مفتقر إلى غيره فلا يكون هو وحده الفاعل، بل الفاعل هو وذلك الغير فلا يكون وحده فاعلاً للمحدث ثم ذلك الغير إن كان محدثاً فلا بد له من فاعل أيضاً فلا بد للمحدثات من فاعل مستقل بالفعل مستغن عن جميع محدثاته، والعقل يعلم ضرورة افتقار المحدث إلى المحدث الفاعل ويقطع به ويعلمه ضرورة أبلغ من علمه بافتقار الممكن إلى الواجب الموجب له، فلا يحتاج أن يقال في ذلك أن المحدث يتخصص بزمان دون زمان أو بقدر دون قدر ولا بد للتخصيص مكن مخصص فإن العلم بافتقار المحدث إلى المحدث أبين في العقل وأبده له.
ولهذا قال تعالى {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} الطور 35
قال جبير بن مطعم: لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها أحسست بفؤادي قد انصدع.
وقال {أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون} الواقعة 58 - 59 إذ كان كل من القسمين: وهو كونهم خلقوا من غير خالق، وكونهم خلقوا أنفسهم معلوم الانتفاء بالضرورة فإن الإنسان يعلم بالضرورة أنه لم يحدث من غير محدث وأنه لم يحدث نفسه.
فلما كان العلم بأنه لا بد له من محدث، وأن محدثه ليس هو إياه علماً ضرورياً ثبت بالضرورة أن له محدثاً خالقاً غيره، وكل ما يقدر فيه انه مخلوق فهو كذلك.