الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرطل منه أرطالهم بدرهمين ونصف درهم نقرة. فإذا تأملت ذلك تبين لك أن بلاد المغرب أرخص البلاد أسعارا وأكثرها خيرات وأعظمها مرافق فوائد.
ولقد زاد الله بلاد المغرب شرفا إلى شرفها وفضلا إلى فضلها بإمامة مولانا أمير المومنين «108» الذي مد ظلال الأمن في أقطارها وأطلع شمس العدل في أرجائها وأفاض سحاب الإحسان في باديتها وحاضرتها وطهّرها من المفسدين وأقام بها رسوم الدنيا والدين وأنا أذكر ما عاينته وتحققته من عدله وحلمه وشجاعته واشتغاله بالعلم، وتفقهه وصدقته الجارية ورفع المظالم.
ذكر بعض فضائل مولانا أيده الله
أما عدله فأشهر من أن يسطر في كتاب، فمن ذلك جلوسه للمشتكين من رعيته وتخصيصه يوم الجمعة للمساكين منهم، وتقسيمه ذلك اليوم بين الرجال والنساء، وتقديمه النساء لضعفهن فتقرأ قصصهنّ بعد صلاة الجمعة إلى العصر ومن وصلت نوبتها نودي باسمها ووقفت بين يديه الكريمتين يكلمها دون واسطة، فإن كانت متظلمة عجل إنصافها أو طالبة إحسان وقع إسعافها، ثم إذا صليت العصر قرئت قصص الرجال وفعل مثل ذلك فيها.
ويحضر المجلس الفقهاء والقضاة فيرد اليهم ما تعلق بالاحكام الشرعية، وهذا شيء لم أر في الملوك من يفعله على هذا التّمام ويظهر فيه مثل هذا العدل، فان ملك الهند عيّن بعض أمرائه لأخذ القصص من الناس وتلخيصها ورفعها إليه دون حضور أربابها بين يديه! وأما حلمه فقد شاهدت منه العجائب فإنه أيده الله عفا عن الكثير ممن تعرض لقتال عساكره والمخالفة عليه، وعن أهل الجرائم الكبار التي لا يعفو عن جرائمهم إلا من وثق بربه وعلم علم اليقين معنى قوله تعالى: والعافين عن الناس «109» .
قال ابن جزي: من أعجب ما شاهدته من حلم مولانا أيده الله أني منذ قدومي على بابه الكريم في آخر عام ثلاثة وخمسين «110» إلى هذا العهد وهو أوائل عام سبعة وخمسين
«111» ، لم أشاهد أحدا أمر بقتله إلا من قتله الشرع في حدّ من حدود الله تعالى: قصاص أو حرابة، هذا على اتساع المملكة وانفساح البلاد واختلاف الطوائف «112» ، ولم يسمع بمثل ذلك فيما تقدم من الأعصار، ولا فيما تباعد من الأقطار.
وأما شجاعته فقد علم ما كان منه في المواطن الكريمة من الثبات والإقدام مثل يوم قتال بني عبد الوادي «103» وغيرهم، لقد سمعت خبر ذلك اليوم ببلاد السودان وذكر ذلك عند سلطانهم، فقال: هكذا وإلا فلا! قال ابن جزي، لم يزل الملوك الأقدمون تتفاخر بقتل الآساد وهزائم الاعادي، ومولانا أيده الله كان قتل الأسد عليه أهون من قتل الشاة على الاسد، فإنه لما خرج الأسد على الجيش بوادي النّجارين من المعمورة «104» حوز سلا وتحامته الأبطال وفرت أمامه الفرسان والرجال برز إليه مولانا أيده الله غير محتفل به ولا متهيّب منه فطعنه بالرمح ما بين عينيه طعنة خرّ بها صريعا لليدين والفم «105» ، وأما هزائم الأعادي فإنما اتفقت للملوك بثبوت جيوشهم وإقدام فرسانهم فيكون حظ الملوك الثبوت والتحريض على القتال، وأما مولانا أيده الله فإنه أقدم على عدوه منفردا بنفسه الكريمة بعد علمه بفرار الناس وتحققه أنه لم يبق معه من يقاتل فعند ذلك وقع الرّعب في قلوب الأعداء وانهزموا أمامه فكان من العجائب فرار الامم أمام واحد! وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء «106» ، والعاقبة للمتقين، وما هو إلا ثمرة ما يمتنّ به، أعلى الله مقامه، من التوكل على الله والتفويض اليه.
وأما اشتغاله بالعلم فها هو أيده الله تعالى يعقد مجالس العلم في كلّ يوم بعد صلاة الصبح، ويحضر لذلك أعلام الفقهاء ونجباء الطلبة بمسجد قصره الكريم، «107» فيقرأ بين يديه تفسير القرآن العظيم وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفروع مذهب مالك رضي الله عنه، وكتب المتصوّفة وفي كل علم منها له القدح المعلى، يجلو مشكلاته بنور فهمه ويلقي نكته الرائقة من حفظه، وهذا شأن الائمة المهتدين والخلفاء الراشدين، ولم أر من ملوك الدنيا من بلغت عنايته بالعلم إلى هذه النهاية، فقد رأيت ملك الهند يتذاكر بين يديه بعد صلاة الصبح في العلوم المعقولات خاصة، ورأيت ملك الجاوة يتذاكر بين يديه بعد صلاة الجمعة في الفروع على مذهب الشافعي خاصة، وكنت أعجب من ملازمة ملك تركستان لصلاتي العشاء الآخرة والصبح في الجماعة، حتّى رأيت ملازمة مولانا- أيده الله- في العلوم كلّها في الجماعة، ولقيام رمضان والله يختص برحمته من يشاء «108» .
قال ابن جزي: لو أن عالما ليس له شغل إلا بالعلم ليلا ونهارا لم يكن يصل إلى أدنى مراتب مولانا أيده الله في العلوم مع اشتغاله بأمور الأئمة وتدبيره لسياسة الأقاليم النائية ومباشرته من حال ملكه ما لم يباشره أحد من الملوك ونظره بنفسه في شكايات المظلومين، ومع ذلك كله فلا تقع بمجلسه الكريم مسألة علم في أيّ علم كان، إلا جلا مشكلها، وباحث في دقائقها، واستخرج غوامضها واستدرك على علماء مجلسه ما فاتهم من مغلقاتها، ثم سما- أيده الله- إلى العلم الشريف التصوفي ففهم إشارات القوم وتخلق بأخلاقهم، وظهرت آثار ذلك في تواضعه مع رفعته، وشفقته على رعيته ورفقه في أمره كله، وأعطى للآداب حظا جزيلا من نفسه فاستعمل أبدعها منزعا وأعظمها موقعا، وصارت عنه الرسالة الكريمة والقصيدة اللتان بعثهما إلى الروضة الشريفة المقدسة الطاهرة: روضة سيد المرسلين وشفيع المذنبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتبهما بخط يده الذي يخجل الرّوض حسنا، وذلك شيء لم يتعاط أحد من ملوك الزمان إنشاءه ولا رام إدراكه «109» .
ومن تأمل التّوقيعات الصادرة عنه «110» أيده الله تعالى وأحاط علما بمحصولها، لاح له فضل ما وهب الله لمولانا من البلاغة التي فطره عليها، وجمع له بين الطبيعي والمكتسب منها.
وأما صدقاته الجارية وما أمر به من عمارة الزوايا بجميع بلاده لإطعام الطعام للوارد والصادر فذلك ما لم يفعله احد من الملوك غير السلطان أتابك أحمد «111» ، وقد زاد عليه مولانا أيده الله بالتصدق على المساكين بالطعام كل يوم والتصدق بالزرع على المتستّرين من أهل البيوت! قال ابن جزي: اخترع مولانا أيده اله في الكرم والصدقات أمورا لم تخطر في الأوهام ولا اهتدت اليها السلاطين، فمنها إجراء الصدقة على المساكين بكل بلد من بلاده على الدّوام، ومنها تعيين الصدقة الوافرة للمسجونين في جميع البلاد أيضا، ومنها كون تلك الصدقات خبزا مخبوزا متيسرا للانتفاع به، ومنها كسوة المساكين والضعفاء والعجائز والمشايخ والملازمين للمساجد بجميع بلاده، ومنها تعيين الضحايا لهؤلاء الأصناف في عيد الأضحى، ومنها التصدق بما يجتمع في مجابي أبواب بلاده يوم سبعة وعشرين من رمضان إكراما لذلك اليوم، وقياما بحقه، ومنها إطعام الناس في جميع البلاد ليلة المولد الكريم 11»
واجتماعهم لاقامة رسمه، ومنها إعذار اليتامى من الصبيان وكسوتهم يوم عاشوراء «113» ، ومنها صدقته على الزّمنى والضعفاء بأزواج الحرث «114» : يقيمون بها
أودهم، ومنها صدقته على المساكين بحضرته بالطّنافس الوثيرة والقطائف الجياد يفترشونها عند رقادهم، وتلك مكرمة لا يعلم لها نظير، ومنها بناء المارستانات في كل بلد من بلاده، وتعيين الأوقاف الكثيرة لمؤن المرضى وتعيين الأطباء لمعالجتهم والتصرف في طبّهم «115» ، إلى غير ذلك مما أبدع فيه من أنواع المكارم وضروب المآثر كافى الله أياديه وشكر نعمه.
وأما رفعه للمظالم عن الرعية فمنها الرتب التي كانت توخذ بالطرقات، أمر أيده الله بمحو رسمها وكان لها مجبى عظيم فلم يلتفت إليه، وما عند الله خير وأبقى «116» ، وأما كفه أيدي الظلام فأمر مشهور، وقد سمعته أيده الله- يقول لعماله: لا تظلموا الرعية! ويؤكد عليهم في ذلك الوصية.
قال ابن جزي: ولو لم يكن من رفق مولانا أيده الله برعيته إلا رفعه التّضييف الذي كانت عمّال الزكاة وولاة البلاد تأخذه من الرّعايا، لكفى ذلك أثرا في العدل ظاهرا، ونورا في الرفق باهرا، فكيف وقد رفع من المظالم وبسط من المرافق ما لا يحيط به الحصر.
وقد صدر في أيام تصنيف هذا من أمره الكريم في الرفق بالمسجونين ورفع الوظائف الثّقيلة التي كانت توخذ منهم ما هو اللائق بإحسانهم والمعهود من رأفته، وشمل الأمر بذلك جميع الاقطار، وكذلك صدر من التنكيل بمن ثبت جوره من القضاة والحكام ما فيه زاجر الظّلمة وردع المعتدين! وأما فعله في معاونة أهل الاندلس على الجهاد ومحافظته على إمداد الثغور بالاموال والاقوات والسلاح وفتّه في عضد العدو بإعداد العدد وإظهار القوة فذلك أمر شهير لم يغب علمه عن أهل المغرب والمشرق ولا سبق إليه أحد من الملوك «117» .
قال ابن جزي: حسب المتشوف إلى علم ما عند مولانا أيده الله من سداد النظر للمسلمين ودفاع القوم الكافرين ما فعله في فداء مدينة طرابلس إفريقية فإنها لما استولى العدوّ عليها ومد يد العدوان إليها ورأى أيده الله أن بعث الجيوش إلى نصرتها لا يتأتى لبعد الاقطار كتب إلى خدّامه ببلاد افريقية أن يفدوها بالمال، ففديت بخمسين الف دينار من الذهب العين، فلما بلغه خبر ذلك، قال: الحمد لله الذي استرجعها من أيدي الكفار بهذا النزر اليسير، وأمر للحين ببعث ذلك العدد إلى افريقية، وعادت المدينة إلى الإسلام على يديه «118» ، ولم يخطر في الأوهام أن أحدا تكون عنده خمسة قناطير «119» من الذهب نزرا يسيرا حتى جاء بها مولانا أيده الله مكرمة بعيدة، ومأثرة فائقة قلّ في الملوك أمثالها وعز عليهم مثالها.
ومما شاع من أفعال مولانا أيده الله في الجهاد إنشاؤه الأجفان بجميع السواحل «120» واستكثاره من عدد البحر، وهذا في زمان الصلح والمهادنة إعدادا لأيام
القرّة «121» وأخذا بالحزم في قطع أطماع الكفار، واكد ذلك بتوجّهه- أيده الله بنفسه- إلى جبال جاناتة «122» في العام الفارط، ليباشر قطع الخشب للانشاء، ويظهر قدر ما له بذلك من الاعتناء، ويتولّى بذاته أعمال الجهاد مترجّيا ثواب الله تعالى وموقنا بحسن الجزاء.
رجع، ومن أعظم حسناته، أيده الله عمارة المسجد الجديد بالمدينة «123» البيضاء دار ملكه العلي، وهو الذي امتاز بالحسن واتقان البناء وإشراق النور وبديع التّرتيب، وعمارة المدرسة الكبرى «124» بالموضع المعروف بالقصر «125» مما يجاور قصبة فاس ولا نظير لها في المعمور اتساعا وحسنا وإبداعا وكثرة ماء وحسن وضع، ولم أر في مدارس الشام ومصر والعراق وخرسان ما يشبهها.
وعمارة الزاوية العظمى «126» على غدير الحمّص «127» خارج المدينة البيضاء، فلا
مدرسة أبي عنان
مثل لها أيضا في عجب وضعها وبديع صنعها، وأبدع زاوية رأيتها بالمشرق زاوية سرياقص التي بناها الملك الناصر «128» ، وهذه أبدع منها واشد احكاما وإتقانا والله سبحانه ينفع مولانا أيده الله بمقاصده الشريفة ويكافىء فضائله المنيفة ويديم للاسلام والمسلمين أيامه وينصر ألويته المظفرة وأعلامه «129» .
ولنعد إلى ذكر الرحلة فنقول: ولما حصلت لي مشاهدة هذا المقام الكريم وعمّني فضل إحسانه العميم قصدت زيارة قبر الوالدة فوصلت إلى بلدي طنجة وزرتها
…
الزاوية العظمى كما تخيّلها سعيد لحميني فكيف تتخيلها أنت من خلال وصف ابن الحاج النميري؟
طنجة العاصمة الدبلوماسية للمغرب بالأمس القريب- رسم المتحف الوطني في قيينا-