الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر سلطان تكدّا
وفي أيام إقامتي بها توجّه القاضي أبو ابراهيم، والخطيب محمد والمدرس أبو حفص، والشيخ سعيد بن علي إلى سلطان تكدّا، وهو بربري يسمى إزار «130» ، بكسر الهمزة وزاي والف وراء، وكان على مسيرة يوم منها، ووقعت بينه وبين التكركرى «131» ، وهو من سلاطين البربر أيضا، منازعة فذهبوا إلى الاصلاح بينهما فأردت أن القاه، فاكتريت دليلا وتوجهت إليه، وأعلمه المذكورون بقدومي فجاء إليّ راكبا فرسا دون سرج وتلك عادتهم، وقد جعل عوض السرج طنفسة حمراء بديعة وعليه ملحفة وسراويل وعمامة كلّها زرق، ومعه أولاد أخته وهم الذين يرثون ملكه، فقمنا إليه، وصافحناه، وسأل عن حالي ومقدمي فأعلم بذلك، وأنزلني ببيت من بيوت اليناطبين، وهم كالوصفان «132» عندنا، وبعث برأس غنم مشوي في السفود، وقعب من حليب البقر، وكان في جوارنا بيت أمه وأخته فجاءتا إلينا وسلّمتا علينا وكانت أمه تبعث لنا الحليب بعد العتمة وهو وقت حلبهم ويشربونه ذلك الوقت وبالغدو، وأما الطعام فلا يأكلونه ولا يعرفونه، وأقمت عندهم ستّة أيام، وفي كل يوم يبعث بكبشين مشويين عند الصباح والمساء، وأحسن إلي بناقة وعشرين مثاقيل من الذهب وانصرفت عنه وعدت إلى تكدا.
ذكر وصول الأمر الكريم إلي
ولما عدت إلى تكدا وصل غلام الحاج محمد بن سعيد السّجلماسي بأمر مولانا أمير
المؤمنين وناصر الدين المتوكّل على رب العالمين «133» أمرا لي بالوصول إلى حضرته العلية فقبّلته، وأمتثلته على الفور، واشتريت جملين لركوبي بسبعة وثلاثين مثقالا وثلث، وقصدت السّفر إلى توات «134» ، ورفعت زاد سبعين ليلة إذ لا يوجد الطعام فيما بين تكدا وتوات، إنما يوجد اللحم واللبن والسمن يشتري بالأثواب، وخرجت من تكدّا يوم الخميس الحادي عشر لشعبان سنة أربع وخمسين «135» في رفقة كبيرة فيهم جعفر التواتي، وهو من الفضلاء، ومعنا الفقيه محمد بن عبد الله قاضي تكدّا، وفي الرفقة نحو ستمائة خادم «136» فوصلنا إلى كاهر من بلاد السلطان الكركرى، وهي أرض كثيرة الأعشاب يشتري بها الناس من برابرها الغنم ويقدّدون لحمها ويحمله أهل توات إلى بلادهم.
ودخلنا منها إلى برية لا عمارة بها ولا ماء، وهي مسيرة ثلاثة أيام، ثم سرنا بعد ذلك خمسة عشر يوما في بريّة لا عمارة بها إلا أن بها الماء، ووصلنا إلى الموضع «137» الذي يفترق به طريق غات الآخذ إلى ديار مصر، وطريق توات، وهنالك أحساء ماء يجري على الحديد، فإذا غسل به الثوب الأبيض اسودّ لونه! وسرنا من هنالك عشرة أيام ووصلنا إلى بلاد هكّار «138» ، وهم طائفة من البربر ملثمون لا خير عندهم، ولقينا أحد كبرائهم فحبس القافلة حتى غرموا له أثوابا وسواها! وكان وصولنا إلى بلادهم في شهر رمضان، وهم لا يغيرون فيه ولا يعترضون القوافل، واذا وجد سرّاقها المتاع بالطريق في رمضان لم يعرضوا له، وكذلك جميع من بهذه الطريق من البرابر.
دينار مريني من عهد السلطان أبي عنان ولي نعمة ابن بطوطة
وسرنا في بلاد هكّار شهرا، وهي قليلة النبات كثيرة الحجارة، طريقها وعر، ووصلنا يوم عيد الفطر «139» إلى بلاد برابر أهل لثام كهؤلاء فأخبرونا باخبار بلادنا واعلمونا أن اولاد خراج «140» وابن يغمور «141» خالفوا وسكنوا (تسابيت) من توات «142» ، فخاف أهل القافلة من ذلك، ثم وصلنا إلى بودا «143» ، بضم الباء الموحدة، وهي من أكبر قرى توات، وأرضها رمال وسباخ وتمرها كثير ليس بطيب، لكن أهلها يفضلونه على تمر سجلماسة، ولا زرع بها ولا سمن ولا زيت وانما يجلب لها ذلك من بلاد المغرب، واكل أهلها التمر والجراد، وهو كثير عندهم يختزنوه كما يختزن التمر ويقتاتون به ويخرجون إلى صيده قبل طلوع الشمس فانه لا يطير اذا ذاك لأجل البرد! وأقمنا ببودا أياما، ثم سافرنا في قافلة ووصلنا في أواسط ذي القعدة «144» إلى مدينة سجلماسة، وخرجت منها في ثاني ذي الحجة «145» ، وذلك أول البرد الشديد، ونزل بالطريق ثلج كثير. ولقد رأيت الطرق الصّعبة والثلج الكثير ببخاري وسمرقند وخراسان وبلاد الأتراك فلم أر أصعب من طريق أمّ جنيبة! «146» .
ووصلنا ليلة عيد الأضحى إلى دار الطمع «147» ، فأقمت هنالك يوم الأضحى، ثم
خرجت فوصلت إلى حضرة فاس حضرة مولانا أمير المومنين أيده الله فقبلت يده الكريمة «148» وتيمّنت بمشاهدة وجهه المبارك وأقمت في كنف إحسانه بعد طول الرحلة، والله تعالى يشكر ما أولانيه من جزيل إحسانه وسابغ امتنانه ويديم أيامه ويمتع المسلمين بطول بقائه.
وهاهنا انتهت الرحلة المسماة (تحفة النظار في غرائب الامصار وعجائب الأسفار) وكان الفراغ من تقييدها في ثالث ذي الحجة عام ستة وخمسين وسبع مائة «149» والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.
قال ابن جزي: انتهى ما لخّصته من تقييد «150» الشيخ أبي عبد الله محمد ابن بطوطة، اكرمه الله، ولا يخفى على ذي عقل أن هذا الشيخ هو رحّال العصر، ومن قال:
رحّال هذه الملة لم يبعد، ولم يجعل بلاد الدّنيا للرحلة واتّخذ حضرة فاس قرارا ومستوطنا بعد طول جولاته، إلا لما تحقق أن مولانا أيده الله أعظم ملوكها شأنا وأعمهم فضائل، وأكثرهم إحسانا وأشدهم بالواردين عليه عناية، وأتمهم بمن ينتمي إلى طلب العلم حماية، فيجب على مثلي أن يحمد الله تعالى لأن وفقه في أول حاله وترحاله لاستئيطان هذه الحضرة التي اختارها هذا الشيخ بعد رحلة خمسة وعشرين عاما، إنها لنعمة لا يقدر قدرها ولا يوفى شكرها، والله تعالى يرزقنا الإعانة على خدمة مولانا أمير المومنين ويبقى علينا ظلّ حرمته ورحمته ويجزيه عنا معشر الغرباء المنقطعين إليه أفضل جزاء المحسنين.
اللهمّ- وكما فضلته على الملوك بفضيلتي العلم والدين وخصصته بالحلم والعقل الرصين، فمدّ لملكه أسباب التأييد والتمكين وعرفه عوارف النصر العزيز والفتح المبين واجعل الملك، في عقبه إلى يوم الدين وأره قرّة العين في نفسه وبنيه وملكه ورعيته يا أرحم الراحمين وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا ونبيّنا محمد خاتم النبيين وأمام المرسلين والحمد لله رب العالمين.
وكان الفراغ من كتبها في صفر عام سبعة وخمسين وسبع مائة «151» عرف الله من كتبها.
منظر عام لمدينة فاس حيث انتسخت الرحلة