الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنا ممن زرته في آخر عام ثمانية وخمسين وسبعمائة، فأسمعني كلامه، وأولاني برّه وإكرامه. فرأيت منه رجلا أطال شأو المجاهدات، وتوغل في ارتياد رياض الرياضات، وجعل لذاته في ترك اللّذات، وصفى باطنه من كدورات الشهوات، حتى لحق بمن هام في وادي الفناء الذي هو وجود، وغاص في بحور المحو الذي هو إثبات مشهود. وتحلّى بفرائد التفريد، وكتب في جرائد التجريد. وأنس باللوائح والطوالع، وانتعش بالبواده واللوامع. وهام بالمحادثات والمكالمات، وكلّف بالمشاهدات والمحاضرات. وتاه في بيداء السحق والمحق. وانتقل إلى بقاع الجمع من حضيض الفرق. وشرب من عين الحياة، واجتلى شموس الحقائق باهرة الآيات. واحتسى كؤوس المحبّة على بساط الوفاء، ووقف لاجتلاء كعبة الأسرار على صفاء الصفاء.
نفع الله بمنّ هذه أوصافه، وحيّا الله من اهتزّت لسماعها أعطافه. والله يجبر صدع من ردّ من الباب، إلى ظلمة الحجاب. وحسده الشيطان في الدخول مع الأحباب واستنشاق نواسم الاقتراب. فهو متبع هواه. متردّ في مهواه. قد ردّ من أمره في الحافرة، وآثر الدنيا على الآخرة. ونفسي بهذا أعني، فما أجدرني ببكاء على الذنوب وحزني، وعودي إلى التوبة التي تقرّب إلى الله وتدنّي، وخروجي عن الدنيا التي لا تنفع طالبها ولا تغني.
رجع الحديث:
وطلبت من هذا الشيخ المبارك أن يعرّفني بشيخه الذي سلك على يديه، واستند في حسن التربية إليه. فأعرض عن الجواب، واشتغل بذكر رب الأرباب. فقنعت منه بالدعاء، وفارقته مفارقة الظمآن للماء.
ثم إنه بعد ذلك أبل، وعافاه الله عزه وجلّ، فتشوّف لرؤية مولانا أمير المؤمنين أيّده الله ونصره، وشكر في اعتنائه بالصالحين وردّه وصدره. فأخلى له مجلسه، واستدعاه وأنسه. فلم يزد الشيخ على حمد الله والثناء عليه وانصرف إلى حلّه الذي اشتاق إليه، وعاد إلى انقطاعه وتخلّيه، والاشتغال بتحلّيه العائد بتجلّيه.
ولم يزل مولانا أيّده الله معتقدا فيه وفي أمثاله، معتملا في الاهتمام بأهل الله تعالى أعظم اعتماله. فالله يثيبه وينفعه، ويحيطه بالعمر الطويل ويمتعه بمنّه ويمنه.
فصل
وكان المقدّم شيخ الصوفية بهذه الزاوية المباركة عند خلاصها. ومتولى الإمامة بجامعها الأكرم المناسب لشرف اختصاصها الفقيه الصالح الزاهد أبا عبد الله محمد بن الفقيه الجليل المعظّم الأصيل رئيس المغرب وحسنة عصره المعجب به المغرب أبي محمد عبد
الله بن أبي مدين. فقال الواجب، وسلك في أموره على السنن اللاحب.
ولما حصل مفتاح الزاوية بيده، وناسبت أحوالها الحسنة حسن معتقده، واستحق ذلك الطوق جيّد ولايته، وكانت تلك الخطة بداية في تقديمه، ونهاية رعايته، رأى حفظه الله أن يشهر أحوال تلك الزاوية في الآفاق، ويشيع في المعمور عمارتها الجميلة الوفاق. ليقدم عليها الوفود، وتكرم بمعاهدها العهود. وتحطّ بها الرحال، وتستقدم ببركتها الآمال، وتستكفى بحماها الخطوب، وتستجلى بروحها الكروب. وتتيّسر للضعفاء الأقوات، وتصفو من كدرها الأوقات.
فاستدعى أهل فاس إلى الحضور بجامع القرويين في يوم أخذت به السعود مأخذها، واسترجعت الأفراح من يد الزمان أخائذها. واسترجعت في ميزان الابتهاج تباشيره، واستوضحت في وجه السرور أساريره. وطاف بكعبة الآمال طواف القدوم، وأبدى من محاسنه ما هو أبدع من الوشي المرقوم.
فجاء الناس زرافات وأفذاذا، وأغذوا إلى إجابة داعيهم اغذاذا، ولم تتسلل البشرى عنهم لوذا بل أنفذ لهم حكم السعادة إنفاذا وأسرعوا إلى الجامع الأعظم إسراع الحجج ليلا بين العلمين، وازدحموا بصحنه ازدحام الركائب ليلة النفر بالمأزمين. فما راعهم إلّا بروز الشيخ الصالح الولي أبي يعقوب يوسف عمر الإمام نفع الله به فوقف للدعاء مليا. وأفصح بالثناء على مولانا أيّده الله بديا.
ولم ينشب الناس أن أمنوا على دعائه، وأثنوا أعظم من ثنائه، وحمدوا الله ملء أرضه وسمائه. وقد كان شيوخ الزوايا مجتمعين، والفقراء السفّارة للأوامر مستمعين. وبيد قيّم الزاوية مفتاحها الضامن للفتوح، المبشّر بالخير الممنوح الذي فعله حميد، وكل بصر برؤية حديده حديد.
فلما طلع حاجب الشمس، وتعرف الأفق بالفصل منها والجنس. خرج خدمة الزاوية مع الفقراء، وأمامهم صدور الشرفاء، وأعلام الفقهاء، وغيرهم من الأعيان الحسباء، ومن انخرط في سلك الدهماء. رافعين أصواتهم بالأذكار والدعاء، مفعمة أنوفهم بالعنبر والورد والكباء. مرسلة عليهم مزن القوارير بغيوث ماء الورد مشوبا بالعبير، مفضوضة لهم نوافح المسك الأذفر. مضمخة ذيول نسيمهم بشذاه الأذكى وعرفه الأعطر.
وبرزت لذلك المشهد الكريم ربّات الحجال، والمخدرات المحمية ببيض النصال. وامتأت الطرق بالشبّان والكهول والشيب، داعين السميع المجيب، مظهرين للمحبّة التي استجليت ضرائبها المنزهة عن الضريب كالضريب. مخلصين لمولانا أمير المؤمنين المنصور الذي جاء
بالترغيب والترهيب.
ثم خرجوا على باب المحروق فغصّت الأباطح بأصناف الخلائق. وانتشروا بتلك الأرجاء انتشار النواسم في الحدائق، وتجاذبوا أهذاب المسرّات الواضحة الحقائق، والابتهاج الذي أبان لهم أوضح الطرائق، إلى أن أفضوا إلى الزاوية النّيرة الطالعة الأنوار، وقدموا منها على محل الجود والإيثار، والفضائل التي تحلّت بها عواطل الاعصار، واشتهر ذكرها في الأقطار والأمصار.
ودخلوا بابها الذي فتح للسعود أبوابا، وحلّوا بجنابها الذي فسح للخيرات جنابا، وعجبوا من صنائعها، وقيّدوا أبصارهم ببدائعها. وأطالوا بها الأذكار، واستنزلوا بأسرار قلوبهم الأنوار.
وكان فيمن حضر ذلك الحفل الشيخ الشاعر الشهير أبو إسحاق الحسناوي التونسي، فأنشد قصيدة من نظمه في مدح مولانا الخليفة الإمام، وذكر محاسن تلك الزاوية التي هي بكر الأيام. فأصاخت إليه الأسماع، وكادت تنطق بأمثال مدامحه البقاع.
وعلى أثر ذلك وصلت طيافير الطعام الملوكية، عليها المناديل الساطعة البياض، والسباني المرموقة كأنّها أزهار الرياض. من كل موشى الظاهر والباطن، ثقيل إلّا أنه متلقى بالقبول في كل المواطن، مستدير كالشمس لكن حرارتها في أوانه إذا سار لم يبرح عن سمت الرءوس يرصد أهل زمانه، كبير الساحة، تجول فيه الراحة بالراحة. مرتصّة في دواخله صفوف صحافه، لا يتحلّل فرجها الشيطان الذي حكمت التسمية بانصرافه. آت بما تشتهيه الأنفس التي حظيت باستعاده وإسعافه، معروفة حروفه بالإشباع والاتباع، آمنة أحاديثه المسلسلة من الانقطاع. متحرّك خفض على الجوار، فروى لحمه عن البزار. فأكل الناس هنيئا مريا، وأفاضوا في الدعاء الذي أطلع صبح القبول جليا، وانفضوا عن مشهد تهادت البلاد أخباره، واجتلت في صفحات الأيام آثاره. ووقت صفت من الشوائب موارده، واستحكمت بأيدي السعود معاقده.
وحين أبدى وجوهه باهرة الجمال، وصدع بأنوار البشرى الطالعة نجومها في سماء الإقبال. واستتبت أمور الزاوية أحسن استتباب، وانسكبت سحائب الجود بذراها أعظم انكساب، واتبعت قلم الحساب بكل عطاء حساب.
جزى الله مولانا على ذلكم جزاء من آتبع الحسنة بأختها. وتحلّى من الفضائل بأبدع نعتها، وجلى أحكام الفخار لوقتها، ولازال كماله منزها عن عوج النقائض وأختها.