الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكاية [القاضي وصاحبته]
دخلت يوما على القاضي بإيوالّاتن بعد إذنه في الدخول، فوجدت عنده امرأة صغيرة السن بديعة الحسن، فلما رأيتها ارتبت وأردت الرجوع، فضحكت مني ولم يدركها خجل، وقال لي القاضي: لم ترجع؟ إنها صاحبتي! فعجبت من شأنهما، فإنه من الفقهاء الحجّاج وأخبرت أنه استأذن السلطان في الحج في ذلك العام مع صاحبته، لا أدري أهي هذه أم لا فلم يأذن له!.
حكاية نحوها
دخلت يوما على أبي محمد يندكان المسّوفي الذي قدمنا في صحبته فوجدته قاعدا على بساط وفي وسط داره سرير مظلّل، عليه امرأة معها رجل قاعد، وهما يتحدثان، فقلت له: ما هذه المرأة؟ فقال: هي زوجتي، فقلت: وما الرجل الذي معها. أإبنها؟ فقال: هو صاحبها! فقلت له: أترضى بهذا وأنت قد سكنت بلادنا وعرفت أمور الشرع؟! فقال لي:
مصاحبة النساء للرجال عندنا على خير وحسن طريقة لا تهمة فيها، ولسن كنساء بلادكم!! فعجبت من رعونته وانصرفت عنه، فلم أعد إليه بعدها، واستدعاني مرات فلم أجبه! ولما عزمت على السفر إلى مالي وبينها وبين إيوالّاتن مسيرة أربعة وعشرين يوما للمجدّ اكتريت دليلا من مسّوفة إذ لا حاجة إلى السفر في رفقة لأمن تلك الطريق وخرجت في ثلاثة من أصحابي.
وتلك الطريق كثيرة الأشجار، وأشجارها عادية ضخمة تستظل القافلة بظل الشجرة منها «32» . وبعضها لا أغصان لها ولا ورق، ولكن ظلّ جسدها بحيث يستظل به الانسان، وبعض تلك الأشجار قد استأسن داخلها واستنقع فيه ماء المطر فكأنها بئر! ويشرب النّاس من الماء الذي فيها، ويكون في بعضها النحل والعسل فيشتاره النّاس منها، ولقد مررت بشجرة منها فوجدت في داخلها رجلا حائكا قد نصب بها مرمته وهو ينسج فعجبت منه! قال ابن جزي: ببلاد الأندلس شجرتان من شجر القسطل في جوف كلّ واحد منهما حائك ينسج الثياب: إحداهما بسند وادي آش، والأخرى ببشّارة «33» غرناطة.
رجع، وفي أشجار هذه الغابة التي بين إيوالّاتن ومالي ما يشبه ثمرة الإجّاص والتفاح والخوخ والمشمش وليست بها، وفيها أشجار تثمر شبه الفقوص، فإذا طاب انفلق عن شيء شبه الدقيق، فيطبخونه ويأكلونه ويباع بالأسواق، ويستخرجون من هذه الأرض حبات كالفول فيقلونها ويأكلونها، وطعمها كطعم الحمص المقلوّ «34» ، وربما طحنوها وصنعوا منها شبه الاسفنج وقلوه بالغرتي «35» . والغرتي: بفتح الغين المعجم وسكون الراء وكسر التاء المثناة، وهو ثمر كالاجاص شديد الحلاوة مضر بالبيضان إذا أكلوه، ويدق عظمه فيستخرج منه زيت لهم فيه منافع، فمنها أنهم يطبخون به ويسرجون السّرج ويقلون به هذا الاسفنج ويدهنون به ويخلطونه بتراب عندهم ويسطّحون به الدور كما تسطح بالجير، وهو عندهم كثير متيسر، ويحمل من بلد إلى بلد في قرع كبار تسع القرعة منها قدر ما تسعه القلّة ببلادنا.
والقرع ببلاد السودان يعظم، ومنه يصنعون الجفان، يقطعون القرعة نصفين فيصنعون منها جفنتين وينقشونها نقشا حسنا، وإذا سافر أحدهم يتبعه عبيده وجواريه، يحملون فرشه وأوانيه التي يأكل ويشرب فيها، وهي من القرع.
والمسافر بهذه البلاد لا يحمل زادا ولا إداما ولا دينارا ولا درهما، إنما يحمل قطع الملح وحليّ الزجاج الذي يسمّيه الناس النظم «36» ، وبعض السلع العطرية، وأكثر ما يعجبهم منها القرنفل والمصطكي وتاسرغنت «37» وهو بخورهم، فإذا وصل قرية جاء نساء السودان
بأنلي واللبن والدجاج ودقيق النّبق «38» والأرز والفوني «39» ، وهو كحب الخردل، يصنع منه الكسكسو «40» والعصيدة «41» ، ودقيق اللّوبياء «42» ، فيشتري منهنّ ما أحب من ذلك، إلا أن الأرز يضر أكله بالبيضان، والفوني خير منه.
وبعد مسيرة عشرة أيام من إيوالّاتن وصلنا إلى قرية زاغري «43» ، وضبطها بفتح الزاي والغين المعجم وكسر الراء، وهي قرية كبيرة يسكنها تجار السودان ويسمون ونجراتة «44» بفتح الواو وسكون النّون، وفتح الجيم والراء والف وتاء مثنّاة وتاء تانيث، ويسكن معهم جماعة من البيضان يذهبون مذهب الإباضية «45» من الخوارج ويسمون صغنغو بفتح الصاد
المهمل والغين المعجم الاول والنون وضم الغين الثاني وواو، والسنّيون المالكيون من البيض يسمّون عندهم توري «46» بضم التاء المثناة وواو وراء مكسورة، ومن هذه القرية يجلب أنلي إلى إيوالّاتن.
ثم سرنا من زاغري فوصلنا إلى النّهر الأعظم، وهو النيل «47» وعليه بلدة كارسخو «48» ، بفتح الكاف وسكون الراء وفتح السين المهمل وضم الخاء المعجم وواو، والنّيل ينحدر منها إلى كابرة «49» ، بفتح الباء الموحدة والراء، ثم إلى زاغة «50» بفتح الزاي والغين المعجم، وللكابرة وزاغة سلطانان يؤديان الطاعة لملك مالي، وأهل زاغة قدماء في الإسلام، لهم ديانة وطلب علم، ثم ينحدر النّيل من زاغة إلى تنبكتو «51» ، ثم إلى كوكو، وسنذكرهما، ثم إلى
بلدة مولي «52» ، بضم الميم وكسر اللام من بلاد اللّيميّين «53» وهي آخر عمالة مالي، ثم إلى يوفي 5»
، واسمها بضم الياء آخر الحروف وواو وفاء مكسورة، وهي من أكبر بلاد السودان، وسلطانها من أعظم سلاطينهم، ولا يدخلها الأبيض من الناس لأنهم يقتلونه قبل الوصول إليها! ثم ينحدر «55» منها إلى بلاد النّوبة. وهم على دين النصرانية، ثم إلى دنقلة «56» ، وهي أكبر بلادهم وضبطها بضم الدال والقاف وسكون النون بينهما وفتح اللام، وسلطانها يدعى بابن كنز الدين، أسلم على أيام الملك الناصر «57» . ثم ينحدر إلى جنادل «58» ، وهي آخر عمالة السودان، وأول عمالة أسوان «59» من صعيد مصر.
ورأيت التّمساح بهذا الموضع من النّيل بالقرب من الساحل، كأنه قارب صغير، ولقد نزلت يوما إلى النّيل لقضاء حاجة، فإذا بأحد السودان قد جاء ووقف فيما بيني وبين النهر
من الآثار الهامة في شنقيط
فعجبت من سوء أدبه وقلة حيائه، وذكرت ذلك لبعض الناس فقال: إنما فعل ذلك خوفا عليك من التمساح فحال بينك وبينه! ثم سرنا من كارسخو فوصلنا إلى نهر صنصرة، بفتح الصادين المهملين والراء وسكون النون، وهو على نحو عشرة أميال من مالّي «60» ، وعادتهم أن يمنع الناس من دخولها إلا بالإذن، وكنت كتبت قبل ذلك لجماعة البيضان، وكبيرهم محمد بن الفقيه الجزولي، وشمس الدين بن النّقويش المصري «61» ، ليكتروا لي دارا، فلما وصلت إلى النهر المذكور جزت في المعدية ولم يمنعني أحد، فوصلت إلى مدينة مالّي، حضرة السودان «62» ، فنزلت عند مقربتها، ووصلت إلى محلة البيضان، وقصدت محمد ابن الفقيه فوجدته قد اكترى لي دارا إزاء داره فتوجهت اليها، وجاء صهره الفقيه المقرئ عبد الواحد «63» بشمعة وطعام، ثم جاء ابن الفقيه إليّ من الغد وشمس الدين بن النقويش وعلي الزّودي المراكشي، وهو من الطلبة، ولقيت القاضي بمالي عبد الرحمن، جاءني، وهو من السودان حاج فاضل له مكارم أخلاق، بعث إلي بقرة في ضيافته، ولقيت التّرجمان دوغا، بضم الدال وواو وغين معجم، وهو من أفاضل السودان وكبارهم وبعث إليّ بثور وبعث إليّ الفقيه عبد الواحد غرارتين من الفوني، وقرعة من الغرتي «64» ، وبعث إليّ ابن الفقيه الأرز والفونى، وبعث إليّ شمس الدين بضيافة، وقاموا بحقي أتمّ قيام، شكر الله حسن أفعالهم.
مجرى النيل عند الخوارزمي