الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكاية [أمير لا يحب البكاء]
كان السلطان منسى موسى لما حج، نزل بروض لسراج الدين هذا ببركة الحبش «105» ، خارج مصر، وبها ينزل السلطان واحتاج إلى مال فتسلّفه من سراج الدين وتسلّف منه أمراؤه أيضا وبعث معهم سراج الدين وكيله يقتضى المال فأقام بمالي فتوجه سراج الدين بنفسه لاقتضاء ماله، ومعه ابن له فلما وصل تنبكتو أضافه أبو إسحاق الساحلي، فكان من القدر موته تلك الليلة، فتكلم الناس في ذلك، واتّهموا أنه سم، فقال ولده:
إني أكلت معه ذلك الطعام بعينه فلو كان فيه سم لقتلنا جميعا لكنه انقضى أجله! ووصل الولد إلى مالّي واقتضى ماله وانصرف إلى ديار مصر.
ومن تنبكتو ركبت النيل في مركب صغير منحوت من خشبة واحدة، كنا ننزل كل ليلة بالقرى فنشتري ما نحتاج إليه من الطعام والسمن بالملح وبالعطريات وبحلى الزّجاج، ثم وصلت إلى بلد أنسيت اسمه، له أمير فاضل حاج يسمى فربا سليمان مشهور بالشجاعة والشدة، لا يتعاطى أحد النزع في قوسه، ولم أر في السودان أطول منه ولا أضخم جسما، واحتجت بهذه البلدة إلى شيء من الذّرة فجئت إليه، وذلك يوم مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم «106» ، فسلمت عليه، وسألني عن مقدمي، كان معه فقيه يكتب له فأخذت لوحا كان بين يديه وكتبت فيه: يا فقيه! قل لهذا الأمير: إنّا نحتاج إلى شيء من الذرة «107» للزاد والسلام! وناولت الفقيه اللوح يقرأ ما فيه سرّا ويكلم الأمير في ذلك بلسانه، فقرأه جهرا وفهمه الأمير، فأخذ بيدي وأدخلني إلى مشوره، وبه سلاح كثير من الدرق والقسي والرماح، ووجدت عنده كتاب المدهش لابن الجوزي «108» فجعلت أقرأ فيه، ثم أتى بمشروب لهم يسمى الدّقنو، بفتح الدال المهمل وسكون القاف وضم النون وواو، وهو ماء فيه جريش الذرة
مخطوط بيسير عسل أو لبن «109» ، وهم يشربونه عوض الماء لانهم إن شربوا الماء خالصا أضرّ بهم، وإن لم يجدوا الذّرة خلطوه بالعسل أو اللبن، ثم أتى ببطيخ أخضر فأكلنا منه، ودخل غلام خماسي «110» فدعاه، وقال لي: هذا ضيافتك، واحفظه لئيلّا يفر! فأخذته وأردت الانصراف، فقال: أقم حتى ياتي الطعام، وجاءت إلينا جارية له دمشقية عربية «111» ، فكلمتني بالعربي، فبينما نحن في ذلك سمعنا صراخا بداره، فوجه الجارية لتعرف خبر ذلك فعادت إليه فأعلمته أن بنتا له قد توفيت! فقال: إني لا أحب البكاء! فتعال نمشي إلى البحر! يعني النيل، وله على الساحل ديار، فأتى بالفرس فقال لي: اركب، فقلت: لا أركبه وأنت ماش! فمشينا جميعا، ووصلنا إلى دياره على النّيل وأتي بالطعام فأكلنا ووادعته وانصرفت ولم أر في السودان أكرم منه ولا أفضل، والغلام الذي أعطانيه باق عندي إلى الآن.
ثم سرت إلى مدينة كوكو «112» وهي مدينة كبيرة على النيل من أحسن مدن السودان وأكبرها وأخصبها، فيها الأرز الكثير واللبن والدجاج والسمك، وبها الفقّوص العناني الذي لا نظير «113» له، وتعامل أهلها في البيع والشراء بالودع، وكذلك اهل مالّي، وأقمت بها نحو شهر وأضافني بها محمد بن عمر من أهل مكناسة، وكان ظريفا مزّاحا فاضلا وتوفّى بها
الودع يستعمل كعملة وهو من أدوات الزينة وربما صلح كقناع- عن متحف افريقيا الوسطى
بعد خروجي عنها، وأضافني بها الحاج محمد الوجدي التازي وهو ممن دخل اليمن «114» ، والفقيه محمد الفيلالي امام مسجد البيضان.
ثم سافرت منها برسم تكدا «115» في البر مع قافلة كبيرة للغدامسيين، دليلهم ومقدمهم الحاج وجّين «116» بضم الواو وتشديد الجيم المعقودة، ومعناه الذئب بلسان السودان، وكان له جمل لركوبي وناقة لحمل الزاد، فلما رحلنا أول مرحلة وقفت الناقة فأخذ الحاج وجين ما كان عليها وقسمه على أصحابه فتوزّعوا حمله، وكان في الرفقة مغربي من أهل تادلة «117» فأبى أن يرفع من ذلك شيئا كما فعل غيره، وعطش غلامي يوما فطلبت منه الماء فلم يسمح به! ثم وصلنا إلى بلاد بردامة «118» وهي قبيلة من البربر، وضبطها بفتح الباء الموحدة وسكون الراء وفتح الدال المهمل والف وميم مفتوح وتاء تأنيث، ولا تسير القوافل إلّا في خفارتهم، والمرأة عندهم في ذلك أعظم شأنا من الرجل، وهم رحّالة لا يقيمون، وبيوتهم غريبة الشكل يقيمون أعوادا من الخشب ويضعون عليها الحصر، وفوق ذلك أعواد مشتبكة، وفوقها الجلود أو ثياب القطن، ونساؤهم أتم النساء جمالا وأبدعهن صوّرا، مع البياض الناصع والسّمن! ولم أر في البلاد من يبلغ مبلغهن في السّمن! وطعامهن حليب البقر وجريش الذرة يشربنه مخلوطا بالماء غير مطبوخ عند المساء والصباح، ومن أراد التزوّج منهن سكن بهن في أقرب البلاد إليهن ولا يتجاوز بهن كوكو ولا إيوالّاتن.