الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد فضّل الله تعالى الصالح على العاصي بقوليه: أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن يجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم، الآية، وقوله:
وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء إلى آيات كثيرة في هذا المعنى، لكن لما وقع العصاة في المعصية ولم يجدوا سبيلا لأفعال البر فانكسرت قلوبهم بالوقوع في الحوب، جاءت الأحاديث بما طمعوا به من رحمة الله وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: شفاعتي لأهل الكبائر، وقوله في خبر عن ربنا: أنا عند ظن عبدي فليظنّ بي ما شاء فشاء العصاة لذلك بحروف الرحمة، ولذلك قال الناظم:
لعلّ رحمة ربي حين يقسمها
…
تأتي على حسب العصيان في القسم
ومع ذلك فالرحمة تلحق العاصي بالطائع، وقال بعض المشايخ من الصوفية:
إذا بدت عين من عيون الرحمة ألحقت المسيء بالمحسن! وقال تعالى: ورحمتي وسعت كل شيء.
رسالة إلى الروضة الشريفة
عن الرسالة والقصيدة اللتين بعثهما السلطان أبو عنان إلى سيد المرسلين بخط يده (354 -IV) وحتى نأخذ فكرة عن محتويات مثل هذه الرسائل نأتي هنا- في غياب خطاب أبي عنان- بنموذج مما بعث به ملك غرناطة عن نفح الطيب (ج 5 ص 354 الإحاطة 4، 556) وهو من عمل لسان الدّين ابن الخطيب إثر نظم كما نذكر بأن هذه الرسائل كانت تلقى أمام الضريح قبل خزنها.
إذا فاتني ظلّ الحمى ونعيمه
…
فحسب فؤادي أن يهبّ نسيمه
ويقنعني أنّى به متكنّف
…
فزمزمه دمعي، وجسمي حطيمه
يعود فؤادي ذكر من سكن الغضا
…
فيقعده فوق الغضا ويقيمه
ولم أر شيئا كالنّسيم إذا سرى
…
شفى سقم القلب المشوق سقيمه
نعلّل بالتذكار نفسا مشوقة
…
ندير عليها كأسه ونديمه
وما شفني بالغور قدّ مرنّح
…
ولا شاقني من وحش وجرة ريمه
ولا سهرت عيني لبرق ثنيّة
…
من الثغر يبدو موهنا فأشيمه
براني شوق للنبيّ محمد
…
يسوم فؤادي برحه ما يسومه
ألا يا رسول الله ناداك ضارع
…
على النأي محفوظ الوداد سليمه
مشوق إذا ما الليل مدّ رواقه
…
تهمّ به تحت الظّلام همومه
إذا ما حديث عنك حاءت به الصّبا
…
شجاه من الشّوق الحثيث قديمه
أيجهر بالنّجوى وأنت سميعها
…
ويشرح ما يخفي وأنت عليمه
ونعوزه السقيا، وأنت غياثه
…
وتتلفه الشّكوى، وأنت رحيمه
بنورك نور الله قد أشرق الهدى
…
فأقماره وضّاحة ونجومه
لك انهلّ فضل الله بالأرض ساكبا
…
فأنواؤه ملتفّة وغيومه
ومن فوق أطباق السماء بك اقتدى
…
خليل الّذي أوطاكها وكليمه
لك الخلق الأرضى الذي جلّ ذكره
…
ومجدك في الذكر العظيم عظيمه
يجلّ مدى علياك عن مدح مادح
…
فموسر درّ القول فيك عديمه
ولي يا رسول الله فيك وراثة
…
ومجدك لا ينسى الذمام كريمه
وعندي إلى أنصار دينك نسبة
…
هي الفخر لا يخشى انتقالا مقيمه
وكان بودّي أن أزور مبوّأ
…
بك افتخرت أطلاله ورسومه
وقد يجهد الإنسان طرف اعتزامه
…
ويعوزه من بعد ذاك مرومه
وعذري في تسويف عزمي ظاهر
…
إذا ضاق عذر العزم عمّن يلومه
عدتني بأقصى الغرب عن تربك العدا
…
جلالقة الثغر الغريب ورومه
أجاهد منهم في سبيلك أمة
…
هي البحر يعيي أمرها من يرومه
فلولا اعتناء منك يا ملجأ الورى
…
لريع حماه واستبيح حريمه
فلا تقطع الحبل الذي قد وصلته
…
فمجدك موفور النوال عميمه
وأنت لنا الغيث الذي نستدرّه
…
وأنت لنا الظلّ الذي نستديمه
ولمّا نأت داري وأعوز مطمعى
…
وأقلقني شوق يشبّ جحيمه
بعثت بها جهد المقلّ معوّلا
…
على مجدك الأعلى الذي جلّ خيمه
وكلت بها همي وصدق قريحتي
…
فساعدني هاء الرويّ وميمه
فلا تنسى يا خير من وطئ الثرى
…
فمثلك لا ينسى لديه خدمه
عليك صلاة الله ماذّر شارق
…
وما راق من وجه الصباح وسمه
«إلى رسول الحق إلى كافة الخلق، وغمام الرحمة الصادق البرق، الحائز في ميدان
اصطفاء الرحمن قصب السّبق، خاتم الأنبياء، وإمام ملائكة السماء، ومن وجبت له النبوّة وآدم بين الطين والماء، شفيع أرباب الذنوب، وطيب أدواء القلوب، والوسيلة إلى علّام الغيوب، نبي الهدى الذي طهر قلبه، وغفر ذنبه، وختم به الرسالة ربه، وجرى في النفوس مجرى الأنفاس حبّه، الشفيع المشفع يوم العرض، المحمود في ملإ السماء والأرض، صاحب اللواء المنشور يوم النشور، والمؤتمن على سرّ الكتاب المسطور، ومخرج الناس من الظلمات إلى النور، المؤيد بكفاية الله وعصمته، الموفور حظّه من عنايته ونعمته، الظل الخفاق على أمّته، من لو حازت الشمس بعض كماله ما عدمت إشراقا، أو كان للآباء رحمة قلبه ذابت نفوسهم إشفاقا، فائدة الكون ومعناه، وسر الوجود الذي يبهر الوجود سناه، وصفيّ حضرة القدس الذي لا ينام قلبه إذا نامت عيناه، البشير الذي سبقت له البشرى، ورأى من آيات ربّه الكبرى، ونزل فيه سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى
من الأنوار من عنصر نوره مستمدّة، والآثار تخلق وآثاره مستجدّة، من طوي بساط الوحي لفقده، وسدّ باب الرسالة والنبوّة من بعده، وأوتي جوامع الكلم فوقفت البلغاء حسرى دون حدّه، الذي انتقلض في الغرر الكريمة نوره، وأضاءت لميلاده مصانع الشام وقصوره، وطفقت الملائكة تجيئه وفودها ونزوره، وأخبرت الكتب المنزلة على الأنبياء وصفاته، وأخذ عهد الإيمان به على من اتصلت بمبعثه منهم أيام حياته، المفزع الأمنع يوم الفزع الأكبر، والسند المعتمد عليه في أهوال المحشر، ذو المعجزات التي أثبتتها المشاهدة والحس، وأقرّ بها الجنّ والإنس، من جماد يتكلّم، وجذع لفراقه يتألّم، وقمر له ينشقّ، وحجر يشهد أن ما جاء به هو الحق، وشمس بدعائه عن مسيرها تحبس، وماء من بين أصابعه يتبجّس، وغمام باستسقائه يصوب، وطويّ بصق في أجاجها فأصبح ماؤها وهو العذب المشروب، المخصوص بمناقب الكمال وكما المناقب، المسمى بالحاشر العاقب، ذو المجد البعيد المرامي والمراقب، أكرم من رفعت إليه وسيلة المعترف المغترب، ونجحت لديه قربة البعيد المقترب، سيد الرسل محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، الذي فاز بطاعته المحسنون، واستنقذ بشفاعته المذنبون، وسعد باتباعه الذي لا خوف عليهم ولا هم يخزنون صلى الله وسلّم ما لمع برق، وهمع ودق، وطلعت شمس، ونسخ اليوم أمس:
«من عتيق شفاعته، وعبد طاعته، المعتصم بسببه، المؤمن بالله ثم به، المستشفي بذكره كلّما تألم، المفتتح بالصلاة عليه كلّما تكلّم، الذي إن ذكر تمثل طلوعه بين أصحابه وآله، وإن هبّ النسيم العاطر وجد فيه طيب خلاله، وإن سمع الأذان تذكر صوت بلاله، وإن ذكر القرآن تردّد جبريل بين معاهده وخلاله، لاثم تربه، ومؤمل قربه، ورهين طاعته وحبّه، المتوسل به إلى رضى الله ربّه، يوسف بن إسماعيل بن نصر:
«كتبه إليك يا رسول الله والدمع ماح، وخيل الوجد ذات جماح، عن شوق يزداد كلّما
نقص الصبر، وانكسار لا يتاح له إلّا بدنوّ مزارك الجبر، وكيف لا يعني مشوقك الأمر، وتوطأ على كبده الجمر، وقد مطلت الأيام ابلقدوم على تربك المقدسة اللحد، ووعدت الآمال ودانت بإخلاف الوعد، وانصرفت الرفاق والعين بنور ضريحك ما اكتحلت، والركائب إليك ما رحلت، والعزائم قالت وما فعلت، والنواظر في تلك المشاهد الكريمة لم تسرح، وطيور الآمال عن وكور العجز لم تبرح، فيالها من معاهد فاز من حيّاها، ومشاهد ما أعطر ريّاها، بلاد نيطت بها عليك التمائم «1» ، وأشرقت بنورك منها النجود والتهائم، ونزل في حجراتها عليك الملك، وانجلى بضياء فرقانك فيها الحلك، مدارس الآيات والسور، ومطالع المعجزات السافرة الغرر، حيث قضيت الفروض وحتمت، وافتتحت سورة الرحمن وختمت، ابتدئت الملّة الحنيفيّة وتممت، ونسخت الآيات وأحكمت:
وتطيّب بريّا معاهدك الطاهرة وبيوتك، وتقف وقوف الخضوع والخشوع تجاه تابوتك، وتقول بلسان التملّق، عند التشتيت بأسبابك والتعلّق، منكسرة الطرف، حذرا بهرجها من عدم الصرف: يا غياث الأمة، وغمام الرحمة، ارحم غربتي وانقطاعي، وتغمد بطولك قصر باعي، وقوّ على هيبتك خور طباعي، فكم جزت من لج مهول، وحبت من حزون وسهول، وقابلع بالقبول نيابتي، وعجّل بالرضى إجابتي، ومعلوم من كمال تلك الشّيم، وسجاياتيك الديم، أن لا يخيب قصد من حط بفنائها، ولا يظمأ وارد أكبّ على إنائها.
«اللهم يا من جعلته أول الأنبياء بالمعنى وآخرهم بالصورة، وأعطيته لواء الحمد يسير آدم فمن دونه تحت ظلاله المنشورة، وملكت أمته ما زوي له من زوايا البسيطة المعمورة، وجعلتني من أمته المجبولة على حبّه المفطورة، وشوّقتني إلى معهاده المبرورة، ومشاهده المزورة، ووكلت لساني بالصلاة عليه، وقلبي بالحنين إليه، ورغبتي بالتماس مالديه، فلا تقطع منه أسبابي، ولا تحرمني من حبّة ثوابي، وتداركني بشفاعته يوم أخذ كتابي.
«هذه يا رسول الله وسيلة من بعدت داره، وشطّ مزاره، ولم يجعل بيده اختياره. فإن لم تكن «3» للقبول أهلا فأنت للأغضاء والسماح أهل، وإن كانت ألفاظها وعرة فجنابك للقاصدين سهل، وإن كان الحب يتوارث كما أخبرت، والعروق تدس حسبما إليه أشرت، فلي بانتسابي إلى سعد عميد أنصارك مزية، ووسيلة أثيرة حفية، فإن لم يكن لي عمل ترتضيه فلي نيّة، فلا تنسي ومن بهذه الجزيرة المفتتحة بسيف كلمتك، على أيدي خيار أمتك، فإنّما نحن بها وديعة تحت بعض أقفالك، نعوذ بوجه ربّك من إغفالك، ونستنتشق من ريح عنايتك نفحة، ونرتقب من محيّا قبولك لمحة، ندافع عدوّا طغى وبغى، وبلغ من مضايقتنا ما ابتغى، فمواقف التمحيص قد أعيتض من كتب وورّخ، والبحر قد أصمت من استصرخ، والطاغية في العدوان مستبصر، والعدو ملحق والولي مقصر، ويجاهك ندفع ما لا نطيق، وبعنايتك نعالج سقيم الدين فيفيف، فلا تفردنا ولا تهملنا، وناد ربّك فينا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا
(البقرة: 276) ، وطوائف أمتك حيث كانوا عناية منك تكفيهم، وربك يقول لك وقوله الحق وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ
(الأنفال: 23) والصلاة والسلام عليك يا خير مضن طاف وسعى، وأجاب داعيا إذا دعا، وصلى الله على جميع أحزابك وآلك، صلاة تليق بجلالك، وتحق لكمالك، وعلى ضجيعيك وصديقيك، وحبيبتك ورفيقيك، وخليفتك في أمتك، وفاروقك المستخلف بعده على جلتك، وصهرك ذي النورين المخصوص ببرك ونحلتك، وابن عمك سيفك المسلول على حلتك، بدر سمائك ووالد أهلتك، والسلام الكريم عليك وعليهم كثيرا أثيرا ورحمة الله تعالى وبركاته، وكتب بحضرة جزيرة الأندلس غرناطة، صانها الله تعالى ووقاها، ودفع عنها ببركتك كيد عداها» انتهت الرسالة.
وكتب أيضا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على لسان مخدومه السلطان الغني بالله محمد ابن السلطان أبي الحجاج- رحم الله تعالى الجميع- ما صورته (الإحاطة 4، 536)
دعاك بأقصى المغربين غريب
…
وأنت، على بعد المزار، قريب
مدلّ بأسباب الرجاء وطرفه
…
غضيض على حكم الحياء مريب
يكلف قرص البدر حمل تحية
…
إذا ما هوى والشمس حين تغيب
لترجع من تلك المعالم غدوة
…
وقد ذاع من ردّ التحية طيب
ويستودع الريح الشمال شمائلا
…
من الحبّ لم يعلم بهن رقيب
ويطيب في جيب الجيوب جوابها
…
إذا ما أطلّت والصباح جنيب
ويستفهم الكفّ الخضيب ودمعه
…
غراما بحنّاء النجيع خضيب
ويتبع آثار المطيّ مشيّعا
…
وقد زمزم الحادي وحنّ نجيب
إذا أثر الأخفاف لاحت محاربا
…
يخرّ عليها راكعا وينيب
ويلقي ركاب الحجّ وهي قوافل
…
طلاح وقد لبّى النداء لبيب
فلا قول إلا أنّه وتوجّع
…
ولا حول إلا زفرة ونحيب
غليل ولكن من قبولك منهل
…
عليل ولكن من رضاك طبيب
ألا ليت شعري والأمانيّ ضلّة
…
وقد تخطىء الآمال ثمّ تصيب
أينجد نجد بعد شحط مزاره
…
ويكثب بعد البعد منه كثيب
وتقضى ديوني بعد ما مطل المدى
…
وينفذ بيعي والمبيع معيب
وهل أقتضي دهري فيسمح طائعا
…
وأدعو بحظي مسمعا فيجيب
ويا ليت شعري هل لحومي مورد
…
لديك؟ وهل لي في رضاك نصيب؟
ولكنّك المولى الجواد وجاره
…
على أيّ حال كان ليس يخيب
وكيف يضيق الذّرع يوما بقاصد
…
وذاك الجناب المستجار رحيب
وما هاجني إلا تألّق بارق
…
يلوح بفود الليل منه مشيب
ذكرت به ركب الحجاز وجيزة
…
أهاب بها نحو الحبيب مهيب
فبتّ وجفني من لآليء دمعه
…
غنيّ وصبري للشجون سليب
ترنحني الذكرى ويهفو بي الجوى
…
كما مال غضن في الرياض رطيب
وأحضر تعليلا لشوقي بالمنى
…
ويطرق وجد غالب فأغيب
مرامي، لو أعطي الأمانيّ، زورة
…
يبثّ غرام عندها ووجيب
فقول حبيب إذ يقول تشوّقا
…
عسى وظن يدنو إليّ حبيب
تعجبت من سيفي وقد جاور الغضا
…
بقلبي فلم يسبكه منه مذيب
وأعجب أن لا يورق الرمح في يدي
…
ومن فوقه غيث المشوق سكيب
فيا سرح ذاك الحيّ لو أخلف الحيا
…
لأغناك من صوب الدموع صبيب
ويا هاجر الجوّ الجديب تلبّثا
…
فعهدي رطب الجانبين خصيب
ويا قادح الزند الشّحاح ترفّقا
…
عليك فشوقي الخارجيّ شبيب
أيا خاتم الرسل المكين مكانه
…
حديث الغريب الدار فيك غريب
فؤادي على جمر البعاد مقلّب
…
يماح عليه للدموع قليب
فو الله ما يزداد إلا تلهّبا
…
أأبصرت ماء ثارض عنه لهيب
فليلته ليل السّليم ويومها
…
إذا شدّ للشوق العصاب عصيب
هواي هدى فيك اهتديت بنوره
…
ومنتسبي للصحب منك نسيب
وحسبي على أني لصحبك منتم
…
وللخزرجييّين الكرام نسيب
عدت عن مغانيك المشوقة للعدا
…
عقارب لا يخفي لهنّ دبيب
حراص على إطفاء نور قدحته
…
فمستلب من دونه وسليب
فكم من شهيد في رضاك مجدّل
…
يظلله نسر ويندب ذيب
تمرّ الرياح الغفل فوق كلومهم
…
فتعبق من أنفاسها وتطيب
بنصرك عنك الشغل من غير منّة
…
وهل يتساوى مشهد ومغيب
فإن صحّ منك الحظّ طاوعت المنى
…
ويبعد مرمى السهم وهو مصيب
ولولاك لم يعجم من الروم عودها
…
فعود الصليب الأعجميّ صليب
وقد كانت الأحوال، لولا مراغب
…
ضمنت ووعد بالظهور، تريب
فما شئت من نصر عزيز وأنعم
…
أثاب بهنّ المؤمنين مثيب
منابر عزّ أذّن الفتح فوقها
…
وأفصح للعضب الطرير خطيب
نقود إلى هيجائها كلّ صائل
…
كما ريع مكحول اللحاظ ربيب
ونجتاب من سرد اليقين مدراعا
…
يكفّتها من يجتني ويثيب
إذا اضطرب الخطّيّ حول غديرها
…
يروقك منها لجّة وقضيب
فعذرا وإغضاء ولا تنس صارخا
…
بعزّك يرجو أن يجيب مجيب
وجاهك بعد الله نرجو، وإنّه
…
لحظّ مليء بالوفاء رغيب
عليك صلاة الله ما طيّب الفضا
…
عليك مطيل بالثناء مطيب
وما اهتزّ قدّ للغصون مرنّح
…
وما افترّ ثغر للبروق شنيب
«إلى حجّة الله تعالى المؤيدة ببراهين أنواره، وفائدة الكون ونكتة أدواره، وصفوة نوع
البشر ومنتهى أطواره، إلى المجتبي وموجود الوجود لم يغن بمطلق الوجود عديمه، المصطفى من ذرية آدم قبل أن يكسو العظام أديمه، المحتوم في القدم، وظلمات العدم، عند صدق القدم، تفضيله وتقديمه، إلى وديعة النور المنتقل في الجباه الكريمة والغرر، ودرة الأنبياء التي لها الفضل على الدّرر، وغمام الرحمة الهامية الدّرر، إلى مختار الله تعالى المخصوص باجتبائه، وحبيبه الذي لم المزية على أحبائه، وذرية أنبياء الله تعالى آبائه، إلى الذي شرح صدره وغسله، ثم بعثه واسطة بينه وبين العباد وأرسله، وأتمّ عليه إنعامه الذي أجزله، وأنزل عليه من الهدى والنور ما أنزله، إلى بشرى المسيح والذبيح، ومن لهم التّجر الربيح، المنصور بالرعب والريح، المخصوص بالنسب الصريح، إلى الذي جعله في المحول غماما، وللأنبياء إماما، وشقّ صدره لتلقّي روح أمره غلاما، وأعلم به في التوراة والإنجيل إعلاما، وعلم المؤمنين صلاة عليه وسلاما، إلى الشفيع الذي لا تردّ في العصاة شفاعته، والوجيه الذي قرنت بطاعة الله تعالى طاعته، والرؤوف الرحيم الذي خلصت إلى الله تعالى في أهل الجرائم ضراعته، صاحب الآيات التي لا يسع ردها، والمعجزات التي أربى على الألف عدها، فمن قمر شقّ، وجذع حن له وحق، وبنان يتفجّر بالماء، فيقوم بريّ الظماء، وطعام يشبع الجمع الكثير يسيره، وغمام يظلّل به مقامه ومسيره، خطيب المقام المحمود إذا كان العرض، وأول من تنشقّ عنه الأرض، ووسيلة الله تعالى التي لولاها ما أقرض القرض، ولا عرف النفل والفرض، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف المحمود الخلال من ذي، الشاهد بصدقه صحف الأنبياء وكتب الأرسال، وآياته التي أثلجت القلوب ببرد اليقين السلسال، صلى الله وسلّم ما ذرّ شارق، وأومض بارق، وفرق بين اليوم الشامس والليل الدامس فارق، صلاة تتأرج على شذا الزّهر، وتتبلّج عن سنا الكواكب الزّهر، وتتردد بين السر والجهر، وتستغرق ساعات اليوم وأيام الشهر، وتدوم بدوام الدهر:
«من عبد هداه، ومستقري مواقع نداه، ومزاحم أبناء أنصاره في منتداه، وبعض سهامه المفوقة إلى نحور عداه، مؤمّل العتق من النار بشفاعته، ومحرز طاعة الجبّار بطاعته، الآمن باتصال رعيه من إهمال الله تعالى وإضاعته، متخذ الصلاة عليه وسائل نجاة، وذخائر في الشدائد مرتجاة، متاجر بضائعها غير مزجاة، الذي ملأ بحبّه جوانح صدره، وجعل فكره هالة لبدره، وأوجب حقّه على قدر العبد لا على قدره، محمد بن يوسف بن نصر الأنصاري الخزرجي، نسيب بعد سعد بن عبادة من أصحابه، وبوارق سحابه، وسيوف نصرته، وأقطاب دار هجرته، ظلّله الله تعالى يوم الفزع الأكبر من رضاك عنه بظلال الأمان، كما أنار قلبه من هدايتك بأنوار الهدى والإيمان، وجعله من أهل السياحة في فضاء حبّك والهيمان:
«كتبه إليك يا رسول الله- واليراع تقتضي الهيبة صفرة لونه، والمداد يكاد أن يحول سواد جونه، وورقة الكتاب يخفق فؤادها حرصا على حفظ اسمك الكريم وصونه، والدمع
يقطر فتنقط به الحروف وتفصل الأسطر، وتوهّم المثول بمثواك المقدس لا يمر بالخاطر سواه ولا يخطر، عن قلب بالبعد عنك قريح، وجفن بالبكاء جريح، وتأوّه عن تبريح، كلّما هبّ من أرضك نسيم ريح، وانكسار ليس له إلا جبرك، واغتراب لا يؤنس فيه إلا قربك، وإن يقض فقبرك، وكيف لا يسلم في مثلها الأسى، ويوحش الصباح والمسا، ويرجف جبل الصبر بعدما رسا، لولا لعلّ وعسى، فقد سارت الركبان إليك ولم يقض مسير، وحومت الأسراب عليك والجناح كسير، ووعدت الآمال فأخلفت، وحلفت العزائم فلم تف بما حلفت، ولم تحصل النفس من تلك المعاهد ذات الشرف الأثيل، إلّا على التمثيل، ولا من المعالم الملتمسة التنوير، إلّا على التصوير، مهبط وحي الله تعالى ومتنزل أسمائه، ومتردّد ملائكة سمائه، ومدافن أوليائه، وملاحد أصحاب خيرة أنبيائه، رزقني الله تعالى الرضى بقضائه، والصّبر على جاحم البعد ورمضائه- من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى دار ملك الإسلام بالأندلس قاصية سيلك، ومسحبة رجلك يا رسول الله وخيلك، أنأى مطارح دعوتك ومساحب ذيلك، حيث مصافّ الجهاد في سبيل الله وسبيلك قد ظللها القتام، وشهبان الأسنّة أطلعها منه الإعتام، وأسواق بيع النفوس من الله تعالى قد تعدد بها الأيامى والأيتام، حيث الجراح قد تحلت بعسجد نجيعها النحور، والشهداء تحفّ بها الحور، والأمم الغريبة قد قطعها عن المدد البحور، حيث المباسم المفترّة، تجلوها المصارع البرّة، فتحييها بالعراء ثغور الأزاهر، وتندبها صوادح الأدواح برنّات تلك المزاهر، وتحلّي السحاب أشلاءها المعطّلة من ظلّها بالجواهر، وحيث الإسلام من عدوّه المكابد بمنزلة قطرة من عارض غمام، وحصاة من ثبير أو شمام، وقد سدت الطريق، وأسلم الفراق الفريق، وأغصّ الرّيق، ويئس من الساحل الغريق، إلا أن الإسلام بهذه الجهة المتمسكة بحبل الله تعالى وحبلك، المهتدية بأدلّة سبلك، سالم والحمد لله تعالى من الانصداع، محروس فيه وجود الطوائف المضلّة، وإلا ما يخص الكفر من هذه العلّة، والاستظهار على جمع الكثرة من جموعه بجمع القلة.
«ولهذه الأيام يا رسول الله أقام الله تعالى أوده برّا بوجهك الوجيه ورعيا، وإنجازا لوعدك وهو الذي لا يحلف وعدا ولا يخيب سعيا، وفتح لنا فتوحا أشعرتنا برضاه عن وطننا الغريب، وبشّرتنا منه تعالى بغفر التقصير ورفع التثريب، ونصرنا وله المنّة على عبدة الصليب، وجعل لألفنا الرّديني ولا منا السّردي حكم التغليب، وإذا كانت الموالي التي طوّقت الأعناق مننها، وقررت العوائد الحسان سيرها وسننها، تبادر إليها نوّابها الصرحاء وخدامها النصحاء بالبشائر، والمسرات التي تشاع في العشائر، وتجلو لديها نتائج أيديها، وغايات مباديها، وتتاحفها وتهاديها، بمجاني جناتها وأزاهر غواديها، وتطرف محاضرها بطرف بواديها، فبابها يا رسول الله أولى بذلك وأحقّ، ولك الحق الحق، والحرّ منّا عبدك المسترق، حسبما سجّله الرق، وفي رضاك من كل من يلتمس رضاه المطمع، ومثواك المجمع، وملوك
الإسلام في الحقيقة عبيد سدّتك المؤملة، وخول مثابتك المحسنة بالحسنات المجملة، وشهب تعشو إلى بدورك المكملة، وبعض سيوفك المقلّدة في سبيل الله تعالى المحملة، وحرسه مهادك، وسلاح جهادك، وبروق عهادك.
«وإن مكفول احترامك الذي لا يخفر، وربيّ إنعامك الذي لا يكفر، وملتحف جاهك الذي يمحى ذنبه بشفاعتك إن شاء الله تعالى ويغفر، يطالع روضة الجنّة المفتحة أبوابها بمثواك، ويفاتح صوان القدس الذي أجنّك وحواك، وينثر بضائع الصلاة عليك بين يدي الضريح الذي طواك، ويعرض جنى ما غرست ويذرت، ومصداق ما بشرت به لما بشرت وأنذرت، وما انتهى إليه طلق جهادك، ومبّ عهادك، لتقرّ عين نصحك التي أنام العيون الساهرة هجوعها، وأشبع البطون وروّاها ظمئوها في الله تعالى وجوعها، وإن كانت الأمور بمرأى من عين عنايتك، وغيبها متعرف بين إفصاحك وكنايتك، ومجمله يا رسول الله صلى الله عليك، وبلّغ وسيلتي إليك، وهو أن الله سبحانك لمّا عرف عرفني لطفه الخفي في التمحيص، المقتضي عدم المحيص، ثم في التخصيص، المغني بعيانه عن التنصيص، وفّق ببركاتك السارية رحماتها في القلوب، ووسائل محبتك العائدة بنيل المطلوب، إلى استفادة عظة واعتبار، واغتنام إقبال بعد إدبار، ومزيد استبصار، واستعانة بالله تعالى وانتصار، فسكن هبوب الكفر بعد إعصار، وحلّ مخنّق الإسلام بعد حصار، وجرت على سنن السنّة بحسب الاستطاعة والمنّة السيرة، وجبرت بجاهك القلوب الكسيرة، وسهّلت المآرب العسيرة، ورفع بيد العزة الضّيم، وكشف بنور البصيرة الغيم، وظهر القليل على الكثير، وباء الكفر بخطّة التعثير، واستوى الدين الحنيف على المهاد الوثير، فاهتبلنا يا رسول الله غرة العدوّ وانتهزناها وشمنا صوارم عزة الغدوّ وهززناها، وأزحنا علل الجيوش وجهزّناها.
«فكان ممّا ساعد عليه القدر، والخطب المبتدر، والورد الذي حسن بعده الصّدر، أنّنا عاجلنا مدينة برغه «1» ، وقد جرّعت الأختين مالقة ورندة، من مدائن دينك، ومزابن ميادينك، أكواس الفراق، وأذكرت مثل من بالعراق، وسدت طرق التزاور عن الطّاق، وأسألت المسيل بالنجيع المراق، في مراصد المراد والمراق، ومنعت المراسلة مع هدير الحمام، لابل مع طيف المنام عن الإلمام، فيسّر الله تعالى اقتحامها، وألحمت بيض الشفار في زرق الكفار إلحامها، وأزال بشر السيوف من بين تلك الحروف إقحامها، فانطلق المسرى، واستبشرت القواعد الحسرى، وعدمت بطريقها المخيف مصارع الصرعى ومثاقف الأسرى، والحمد لله على فتحه الأسنى ومنحه الأسرى، ولا إله إلا هو منفّل قيصر وكسرى، وفاتح مغلقاتهما المنيعة قسرا؛ واستولى الإسلام منها على قرار جنات، وأم بنات، وقاعدة حصون، وشجرة غصون، طهرت
مساجدها المغتصبة المكرهة، وفجع بحفظها الفيل الأفيل وأبرهة، وانطلقت بذكر الله الألسنة المدرهة، وفاز بسبق ميدانها جيادك الفرهة، هذا وطاغية الروم على توفّر جموعه، وهول مرئيه ومسموعه، قريب جواره، بحيث يتصل خواره، وقد حرك إليها الحنين حواره.
«ثمّ نازل المسلمون بعدها شجا الإسلام الذي أعيا النطاسيّ علاجه، وكرك «2» هذا القطر الذي لا تطاول أعلامه ولا تصاول أعلاجه، وركاب الغارات التي تطوى المراحل إلى مكايدة المسلمين طي البرود، وحجر الحيات التي لا تخلع على اختلاف الفصول جلود الزرود، ومنغّص الورود في العذب المورود، ومقضّ المضاجع، وحلم الهاجع، ومجهّر الحطب الفاجىء الفاجع، ومستدرك فاتكة الراجع، قبل هبوب الطائر الساجع، حصن اشر «3» حماه الله تعالى دعاء لا خبرا، كما جعله للمتفكرين في قدرته معتبرا، فأحاطوا به إحاطة القلادة بالجيد، وأذلوا عزته بعزّة ذي العرش المجيد، وحفت به الرايات يسمها وضسمك، ويلوح في صفحاتها اسم الله تعالى واسمك، فلا ترى إلّا نفوسا تتزاحم على مورد الشهادة أسرابها، وليوثا بصدق في الله تعالى ضرابها، وأرسل الله عليها رجزا إسرائيليا من جراد السهام، تشذ آياته عن الأفهام، وسدد إلى الجبل النفوس القابلة للإلهام، من بعد الاستغلاق والاستبهام، وقد عبثت جوارح صخوره في قنائص الهام، وأعيا صعبه على الجيش اللهام، فأخذ مسائغه النقض والنقب، ورغا فوق هله السّقب «4» ، ونصبت المعارج والمراقي، وقرعت المناكب والتراقي، واغتنم الصادقون مع الله تعالى الحظ الباقي، وقال الشهيد السابق: يا فوز استباقي، ودخل البلد فألحم السيف، واستلب البحت والزيف، ثم استخلصت القصبة فعلت أعلامك في أبراجها المشيدة، وظفر ناشد دينك منها بالنشيدة «5» ، وشكر الله تعالى في قصدها مساعي النصائح الرشيدة، وعمل ما يرضيك يا رسول الله في سدّ ثلمها، وصون مستلمها، ومداواة ألمها، حرصا على الاقتداء في مثلها بأعمالك، والاهتداء بمشكاة كمالك، ورتب فها الحماة تشجي العدوّ، وتصل في مرضاة الله تعالى ومرضاتك برواحها الغدوّ.
«ثم كان الغزو إلى مدينة إطريرة «6» بنت حاضرة الكفر إشبيلية التي أظلّتها بالجناح السائر، وأنامتها في ضمان الأمان للحسام الباتر، وقد وتر الإسلام من هذه المومسة البائسة
بوتر الواتر، وأحفظ منها بأذى الوقاح المهاتر، لما جرّته على أسراه من عمل الخاتل الخاتر، حسب المنقول لا بل المتواتر، فطوى إليها المسلمون المدى النازح، ولم تشك المطيّ الروازح، وصدق الجدّ جدها المازح، وخفقت فوق أوكارها أجنحة الأعلام، وغشيتها أفواج الملائكة الموسومة وظلال الغمام، وصابت من السهام ودق الرّهام، وكاد يكفي السهام على الأرض ارتجاج أجوائها بكلمة الإسلام، وقد صمّ خاطب عروس الشهادة عن الملام، وسمح بالعزيز المصون مبايع الملك العلّام، وتكلم لسان الحديد الصامت وصمت إلا بذكر الله لسان الكلام، ووفت الأوتار بالأوتار، ووصل بالحطّيّ ذرع الأبيض البتّار، وسلطت النار على أربابها، وأذن الله تعالى في تبار تلك الأمة وتبابها، فنزلوا على حكم السيف آلافا، بعد أن أتلفوا بالسلاح إتلافا، واستوعب المقاتلة كتافا، وقرنوا في الجدل أكتافا أكتافا، وحملت العقائل والخرائد، والولدان والولائد، إركابا من فوق الظهور وإردافا، وأقلت منها أفلاك الحمول بدورا تضيء من ليالي المحاق أسدافا، وامتلأت الأيدي من المواهب والغنائم، بما لا يصوّره حلم النائم، وتركت العوافي تتداعى إلى تلك الولائم، وتفتنّ من مطاعمها في الملائم، وشنّت الغارات على حمص فجللت خارجها مغارا، وكست كبار الروم بها صغارا، وأجحرت أبطالها إجحارا، واستاقت من النّعم ما لا يقبل الحصر استبحارا.
«ولم يكن إلا أن عدل القسم، استقل بالقفول العزيز الرسم، ووضح من التوفيق الوسم، فكانت الحركة إلى قاعدة جيّان قيعة الظل الأبرد، ونسيجة المنوال المفرد، وكناس الغيد الخرّد، وكرسي الإمارة، وبحر العمارة، ومهوى هوى الغيث الهتون، وحزب التين والزيتون، حيث خندق الجنّة تدنو لأهل النار مجانيه، وتشرق بشواطئ الأنهار إشراق الأزهار زهر مبانيه، والقلعة التي تختّمت بنان شرفاتها بخواتيم النجوم، وهمت من دون سحابها البيض سحائب الغيث السّجوم والعقيلة التي أبدى الإسلام يوم طلاقها، وهجوم فراقها، سمّة الوجوم لذلك الهجوم، فرمتها البلاد المسلمة بأفلاذ أكبادها الوداعة، وأجابت منادي دعوتك الصادقة الصادعة، وحبتها بالفادحة الفادعة، فغصّت الرّبى والوهاد بالتكبير والتهليل، وتجاوبت الخيل بالصّهيل، وانهالت الجموع المجاهدة في الله تعالى انهيال الكثيب المهيل، وفهمت نفوس العباد المجاهدة في الله تعالى حقّ الجهاد معاني التيسير من ربّها والتسهيل، وسفرت الرايات عن المرأى الجميل، وأربت المحلات المسلمة على التأميل، ولمّا صبحتها النواصي المقبلة الغرر، والأعلام المكتتبة الطّرر، برز حاميتها مصحرين «7» ، وللحوزة المستباحة منتصرين، فكاثرهم من سرعان الأبطال رجل الدّبا «8» ، ونبت الوهاد والرّبى، فأقحموهم من وراء السور، وأسرعت أقلام الرماح في بسط عددهم المكسور، وتركت
صرعاهم ولائم للنسور، ثم اقتحموا ربض المدينة الأعظم فقرعوه، وجدّلوا من دافع عن أسواره وصرعوه، وأكواس الحتوف جرّعوه، ولم يتصل أولى الناس بأخراهم، ويحمد بمخيم النصر العزيز سراهم، حتى خذل «9» الكافر الصبر وأسلم الجلد، ونزل على المسلمين النصر فدخل البلد، وطاح في السيل الجارف الوالد منه والولد، وأتهم المطرف والمتلد، فكان هولا بعد الشناعة، وبعثا كقيام الساعة، أعجل المجانيق عن الركوع والسجود، والسلالم عن مطاولة النجود، والأيدي عن ردم الخنادق والأغوار، والأكبش عن مناطحة الأسوار، والنفوط عن إصعاق الفجار، وعمد الحديد، ومعاول البأس الشديد، عن نقب الأبراج ونقض الأحجار، فهيلت الكثبان، وأبيد الشيب والشبان، وكسرت الصّلبان، وفجع بهدم الكنائس الرهبان، وأهبطت النواقيس من مراقيها العالية وصروحها المتعالية، وخلعت ألسنتها الكاذبة، ونقل ما استطاعته الأيدي المجاذبة، وعجزت عن الأسلاب «10» ذوات الظهور، وجلل الإسلام شعار العزّ والظهور، بما خلت عن مثله سوالف الدهور والأعوام والشهور، وأعرست الشهداء ومن النفوس المبيعة من الله تعالى نحل الصدقات والمهور. ومن بعد ذلك هدم السور، ومحيت عن محيطه المحكم السطور، وكاد يسير ذلك الجبل الذي اقتعدته المدينة ويدك ذلك الطور، ومن بعد ما خرب الوجار، عقرب الأشجار، وعفّر المنار، وسلطت على بنات التراب والماء النار، وارتحل عنها المسلمون وقد عمتها المصائب، وأصمى لبّتها السهم الصائب، وجللتها القشاعم العصائب، فالذئاب في الليل البهيم تعسل، والضباع من الحدّب البعيد تنسل، وقد ضاقت الجدل عن المخانق، وبيع العرض الثمين بالدانق، وسكبت أسورة الأسوار، وسوّيت الهضاب بالأغوار، واكتسحت الأحواز القاصية سرايا الغوار، وحجبت بالدخان مطالع الأنوار، وتخلفت قاعتها عبرة للمعتبرين وعظة للناظرين، وآية للمستبصرين، ونادى لسان الحمية، يا لثارات الإسكندرية، فأسمع آذان المقيمين والمسافرين، وأحقّ الله الحقّ بكلماته وقطع دابر الكافرين.
«ثم كان الحركة إلى أختها الكبرى، ولدتها الحزينة عليها العبرى، مدينة أبدة «11» ذات العمران المستبحر، والربض الخرق المصحر، والمباني الشّمّ الأنوف، وعقائل المصانع الجمة الحلي والشنوف، والغاب الأنوف، بلدة التجر، والعسكر المجر، وأفق الضّلال الفاجر الكذب على الله تعالى الكاذب الفجر، فخذل الله تعالى حاميتها التي تعيي الحسبان عدّها، وسجر بحورها التي لا يرام مدّها، وحقّت عليها كلمة الله تعالى التي لا يستاع ردّها، فدخلت لأول وهلة، واستوعب جمّها والمنة لله تعالى في نهلة، ولم يكف السيف من عليهنا ولا مهلة، فلمّا تناولهنا العفا والتخريب، واسباحها الفتح القريب، وأسند عن عواليها حديث النصر الحسن
الغريب، وأقعدت أبراجها من بعد القيام والانتصاب، وأضرعت مسايفها «12» لهول المصاب، انصرف عنها المسلمون بالفتح الذي عظم صيته، والعز الذي سما طرفه واشرأب ليته، والعزم الذي حمد مسراه ومبيته، والحمد لله ناظم الأمر وقد راب شتيته، وجابر الكسر وقد أفات الجبر مفيته.
«ثم كان الغزو إلى أم البلاد، ومثوى الطارف والتلاد، قرطبة، وما قرطبة؟ المدينة التي على عمل أهلها في القديم بهذا الإقليم كان العمل، والكرسي الذي بعصاه رعي الهمل، والمصر الذي له في خطة المعمور الناقة والجمل، والأفق الذي هو لشمس الخلافة العبشمية «13» الحمل، فخيم الإسلام بعقوتها «14» المستباحة، وأجاز نهرها المعيي على السّباحة، وعم دوحها الأشب بوارا، وأدار المحلّات بسورها سوارا، وأخذ بمخنّفها حصارا، وأعمل النصر بشجر بصلها «15» اجتناء ما شاء واهتصارا، وجدّل من أبطالها من لم يرض انجحارا، فأعمل إلى المسلمين إصحارا، حتى فرغ بعض جهاتها غلابا جهارا، ورفعت الأعلام إعلاما بعز الإسلام وإظهارا، فلولا استهلاك الغوادي، وأن أتى الوادي، لأفضت إلى فتح الفتوح تلك المبادي، ولقضى تفثه «16» العاكف والبادي، فاقتضى الرأي ولذنب الزمان في اغتصاب الكفر إياها متاب، تعمل ببشراه بفضل الله تعالى أقتاد وأقتاب، ولكل أجل كتاب- أن يراض صعبها حتى يعود ذلولا، وتعفى معاهدها الآهلة فتترك طلولا، فإذا فجع الله تعالى بمارج النار طوائفها المارجة، وأباد بخارجها الطائرة والدارجة، خطب السيف منها أمّ خارجة «17» ، فعند ذلك أطلقنا بها ألسنة النار ومفارق الهضاب بالهشيم قد شابت، والغلات المستغلات قد دعا بها القصل فما ارتابت، وكأن صحيفة نهرها لما أضرمت النار في «18» ظهرها ذابت، وحييته فرّت أمام الحريق فانسابت، وتخلفت لغمائم الدخان عمائم تلويها برءوس الجبال أيدي الرياح، وتنشرها بعد الركود أيدي الاجتياح، وأغريت بأقطارها الشاسعة، وجهاتها الواسعة، جنود الجوع، وتوعدت بالرجوع، فسلب أهلها لتوقع الهجوم
منزور الهجوع، فأعلامها خاشعة خاضعة، وولدانها لثديّ البؤس راضعة، والله سبحانه يوفد بخبر فتحها القريب ركاب البشرى، وينشر رحمته قبلنا نشرا.
«ثم تنوّعت يا رسول الله لهذا العهد أحوال العدوّ تنوّعا يوهم إفاقته من الغمرة، وكادت فتنته تؤذن بخمود الجمرة، وتوقّع، وحذر ذلك السمّ الناقع، وخفيف الخرق الذي يحار فيه الراقع، فتعرفنا عوائد الله سبحانه ببركة هدايتك، وموصول عنايتك، فأنزل النصر والسكينة، ومكّن العقائد المكينة، فثابت العزائم وهبّت، واطّردت عوائد الإقدام واستتبت، وما راع العدو إلا خيل الله تعالى تجوس خلاله، وشمس الحق توجب ظلاله، وهداك الذي هديت يدحض ضلاله، ونازلنا حصني قنبيل والحائر «19» ، وهما معقلان متجاوران يتناجى منهما الساكن سرارا، وقد اتخذا بين النجوم قرارا، وفصل بينهما حسام النهر يروق غرارا، والتفّ معصمه في حلّة العصب وقد جعل الجسر سوارا، فخذل الصليب بذلك الثغر من تولّاه، وارتفعت أعلام الإسلام بأعلاه، وتبرجت عروس الفتح المبين بمجلاه، والحمد لله تعالى على ما أولاه.
ثم تحركنا على تفئة «20» تعدّي ثغر الموسطة على عدوّه المساور في المضاجع، ومصبحه بالفاجىء الفاجع، فنازلنا حصن روطة الآخذ بالكظم، المعترض بالشّجا اعتراض العظم، وقد شحنه العدو مددا بئيسا، ولم يأل اختياره رأيا ولا تلبيسا، فأعيا داؤه، واستقلت بالمدافعة أعداؤه، ولمّا أتلع إليه جيد المنجنيف، وقد برك عليه بروك الفنيق، وشد عصام العزم الوثيق، لجأ أهله إلى التماس العهود والمواثيق، وقد غصوا بالريق، وكاد يذهب بأبصارهم لمعان البريق، فسكناه من حامية الماهدين بمن يحمي ذماره، ويقرر اعتماره، واستولى أهل الثعور إلى هذا الحد على معاقل كانت مستغلقة ففتحوها، وشرعوا أرشية الرماح إلى قلب قلوبها فمتحوها.
«ولم تكد الجيوش المجاهدة تنفض عن الأعراف متراكم الغبار، وترحي عن آباط خيلها شدّ حزم المغار، حتى عاودت النفوس شوقها، واستتبعت ذوقها، وخطبت التي لا فوقها، وذهبت بها الآمال إلى الغاية القاصية، والمدارك المتصاعبة على الأفكار المتعاصية، فقصدنا الجزيرة الخضراء باب هذا الوطن الذي من طرق وادعه، ومطلع الحق الذي صدع الباطل صادعه، وثنية الفتح التي برق منها لامعه، ومشرف الهجوم الذي لم تكن لتعثر على غيره مطامعه، وفرضة المجاز التي لا تنكر، ومجمع البحرين في بعض ما يذكر، حيث يتقارب الشطّان، ويتوازى الخطّان، وكاد أن تلتقي حلقنا البطان، وقد كان الكفر قدّر قدر هذه الفرصة التي
طرق منها حماه، ورماه الفتح الأول بما رماه، وعلم أن لا تتصل أيدي المسلمين بإخوانهم إلّا من تلقائها، وأنّه لا يعدم المكروه مع بقائها، فأجلب عليها برجله وخيله، وسد أفق البحر بأساطيله، ومراكب أباطيله، بقطع ليله، وتداعى المسلمون بالعدوتين إلى استنقاذها من لهواته، أو إمساكها من دون مهواته، فعجز الحول، ووقع بملكه إياها القول، واحتازها قهرا وقد صابرت الضيق ما يناهز ثلاثين شهرا، وأطرق الإسلام بعدها إطراق الواجم، واسودّت الوجوه لخبرها الهاجم، وبكتها حتى دموع الغيث الساجم، وانقطع المدد إلا من رحمة من ينفّس الكروب، ويغري بالإدالة الشروق والغروب. وبما شكنا بشبا الله تعالى نحوها، وأغصصنا بجيوش الماء وجيوش الأرض تكاثر نجم السماء برها وبحرها، ونازلناها نذيقها شديد النزال، ونجحّها بصدق الوعيد في سبيل الاعتزال، رأينا بأوا لا يظاهر إلا بالله تعالي ولا يطال، وممنّعة يتحاماها الأبطال، وجنابا روّضة الغيث الهطال، أما أسواقها فهي التي أخذت النجد والغور، واستعدّت بجدال الجلاد عن البلاد فارتكبت الدّور «21» ، تحوز بحرا من العمارة ثانيا، وتشكّك أن يكون الإنس لها بانيا، وأمّا أبراجها فصفوف وصفوف، تزين صفحات المسايف منها أنوف، وآذان لها من موامغ الصخر شنوف، وأما خندقها فصخر مجلوب، وسور مقلوب، فصدقها المسلمون القتال بحسب محلّها من نفوسهم، واقتران اغتصابها ببوسهم، وأفول شموسهم، فرشقوها من النبال بظلالة تحجب الشمس فلا يشرق سناها، وعرجوا في المراقي البعيدة يفرعون مبناها، ونفوسها أنقابا، وحصونها عقابا، ودخلوا مدينة إلبنة «22» بنتها غلابا، وأحسبوا السيوف استلالا والأيدي اكتسابا «23» ، واستوعب القتل مقاتلتها السابغة الجبن، البالغة المنن، فأخذهم الهول المتفاقم، وجدّلوا كأنّهم الأراقم، لم تفلت منهم عين تطرف، ولا لسان يلبي من يستطيع الخبر أو يستشرف.
«ثم سمت الهمم الإيمانية إلى المدينة الكبرى فداروا سوارا على سورها، وتجاسروا على اقتحام أودية الفناء من فوق جسورها، وأدنوا إليها بالضّروب من حيل الحروب، بروجا مشيدة، ومجانيق توثق حبالها منها نشيدة، وخفقت بنصر الله تعالى عذبات الأعلام، وأهدت الملائكة مدد السلام، فخذل الله تعالى كفّارها، وأكهم «24» شفارها، وقلّم بيد قدرته أظفارها، فالتمسوا الأمان للخروج، ونزلوا على مراقي العروج، إلى الأباطح والمروج، من سمائها ذات البروج، فكان بروزهم إلى العراء من الأرض، تذكرة بيون العرض، وقد جلل المقاتلة الصّغار،
وتعلّق بالأمان النساء والصّغار، وبودرت المدينة بالتطهير ونطقت المآذن العالية بالأذان الشهير، والذكر الجهير، وطرحت كفّارها التماثيل عن المسجد الكبير، وأزرى بألسنة النواقيس لسان التهليل والتكبير، وأنزلت عن الصروح أجرامها، يعيى الهندام «25» مرامها، وألفي منبر الإسلام بها مجفوّا فأنست غربته، وأعيد إليه قربه وقربته، وتلا واعظ الجمع المشهود، قول منجز الوعود ومورق العود وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ، وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ، وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ، ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ
فكان الدمع يغرق الآماق، والوجد يستأصل الأرماق، وارتفعت الرغبات، وعلت السيئات، وجيء بأسرى المسلمين يرسفون في القيود الثقال، وينسلون من أحداب الاعتقال، ففكت عن سوقهم أساود الحديد، وعن أعناقهم فلكات البأس الشّديد، وظلّلوا بجناح اللطف العريض المديد، وترتبت في المقاعد الحامية، وأزهرت بذكر الله تعالى المآذن السامية، وعادت المدينة لأحسن أحوالها، وسكنت من بعد أهوالها، وعادت الجالية إلى أموالها، ورجع إلى القطر شبابه، وردّ على دار الإسلام بابه، واتصلت بأهل لا إله إلّا الله أسبابه، فهي اليوم في بلاد الإسلام قلاده النحر، وحاضرة البرّ والبحر، أبقى الله تعالى عليها وعلى ما وراءها من بيوت أمتك، ودائع الله في ذمتك، بكلمة دينك الصالحة الباقية؛ وعدنا والصلاة عليك شعار البروز والقفول، وهجّيرا الشروق والأفول، والجهاد يا رسول الله الشأن المعتمد، ما امتدّ بالأجل الأمد، والمستعان الفرد الصمد.
«ولهذا العهد يا رسول الله صلى الله عليك، وبلّغ وسيلتي إليك، بلغ من هذا القطر المرتدي بجاهك الذي لا يذل من ادّرعه، ولا يضل من اهتدى بالسبيل الذي شرعه، إلى أن لا طفنضا ملك الروم بأربعة من البلاد كان الكفر قد اغتصبها، ورفع التماثيل بيوت الله تعالى ونصبها، فانجاب عنها بنورك الحلك، ودار بإدالتها إلى دعوتك الفلك، وعاد إلى مكاتبها القرآن الذي نزل به على قلبك الملك، فوجبت مطالعة مقرّك النبويّ بأحوال هذه الأمة المكفولة في حجرك، المفضلة بإدارة تجرك، المهتدية بأنوار فجرك، وهل هو إلا ثمرات سعيك، ونتائج رعيك، وبركة حبّك، ورضاك الكفيل برضي ربّك، وغمام رعدك، وإنجاز وعدك، وشعاع من نور سعدك، وبذر يجنى ريعه من بعدك، ونصر رايتك، وبرهان آيتك، وأثر حمايتك ورعايتك.
«واستنبت هذه الرسالة مائحة بحر الندى الممنوح ومفاتحة باب الهدى بفتح الفتوح، وفارعة المظاهر والصروح، وملقية الرحل بمتنزل الملائكة والروح، لتمدّ إلى قبولك يد استمناح، وتطير إليك من الشوق الحثيث بجناح، ثم تقف موقف الانكسار، وإن تجرها آمنا من
الخسار، وتقدم بأنس القربة، وتحجم بوحشة الغربة، وتتأخّر بالهيبة، وتجهش لطول الغيبة، وتقول: ارحم بعد داري، وضعف اقتداري، وانتزاح أوطاني، وخلوّ أعطاني، وقلة زادي، وفراغ مزادي، وتقبّل وسيلة اعترافي، وتغمّد هفوة اقترافي، وعجّل بالرضى انصراف متحملي لانصرافي، فكم جبت من بحر زاخر، وقفر بالركاب ساخر، وحاش لله تعالى أن يخيب قاصدك، أو تتخاني مقاصدك، أو تطردني موائدك، أن تضيقض عني عوائدك، ثم تمدّ مقتضية مزيد رحمتك، مستدعية دعاء من حضر من أمتّك، وأصحبتها يا رسول الله عرضا من النواقيس التي كانت بهذه البلاد المفتتحة تعيق الإقامة والأذان، وتسمع الأسماع الضالة والآذان، ممّا قبل الحركة، وسالم المعركة، ومكّن من نقله الأيدي المشتركة، واستحق بالقدوم عليك والإسلام بين يديك السابقة في الأزل البركة، وما سواها فكانت جبالا عجز عن نقلها الهتدام، فنسخ وجودها الإعدام، وهي يا رسول الله جنى من جنانك، ورطب من أفنانك، وأثر ظهر علينا من مسحة حنانك.
«هذه هي الحال والانتحال، والعائق أن تشدّ إليك الرحال، ويعمل الترحال، إلى أن نلقاك في عرصات القيامة شفيعا، ونحلّ بجاهك إن شاء الله تعالى محلّا رفيعا، ونقدم في زمرة الشهداء الدامية كلومهم من أجلك، الناهلة غللهم في سجلك، ونبتهل إلى الله تعالى الذي أطلعك في سماء الهداية سراجا، وأعلى لك في السبع الطباق معراجا، وأم الأنبياء منك بالنبي الخاتم، وقفى على آثار نجومها المشرقة بقمرك العاتم، أن لا يقطع عن هذه الأمة الغريبة أسبابك، ولا يسدّ في وجوهها أبوابك، ويوقفها لاتباع هذاك، ويثبت أقدامها على جهاد عداك، وكيف تعدم ترفيها، أو تخشى بخسا وأنت موفّيها، أو يعذبها الله تعالى وأنت فيها؟
وصلاة الله وسلامه تحط بفنائك رحال طيبها، وتهدر في ناديك شقائق خطيبها، ما أذكر الصباح الطّلق هداك، والغمام السّكب نداك، وما حنّ مشتاق إلى لثم ضريحك، وبليت نسمات الأسحار عمّا استرقت من ريحك، وكتب في كذا» انتهت الرسالة، وفيها ما لا خفاء به من براعة لسان الدين، رحمه الله تعالى وقدّس روحه الطاهرة، آمين.
ومن المهم أن نعرف أن رسالة السلطان أبي عنان وقصيدته كذلك تركت صدى كبيرا في المشرق الأمر الذي يفسره أن صاحب كتاب كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون تحدث عن كتاب يحمل اسم الدرة السنية والرسالة النبوية، وقال عنها: أنها رسالة لأبي عنان فارس ملك المغرب
…