الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان له نحو أربعين سنة يسرد الصوم ولا يفطر، إلا بعد مواصلة عشر، وكانت له بقرة يفطر على حليبها، ويقوم الليل كله وكان نحيف الجسم طوالا خفيف العارضين، وعلى يديه أسلم أهل تلك الجبال ولذلك أقام بينهم.
كرامة له
أخبرني بعض أصحابه أنه استدعاهم قبل موته بيوم واحد وأوصاهم بتقوى الله وقال لهم: إني أسافر عنكم غدا إن شاء الله وخليفتي عليكم الله الذي لا إله إلا هو، فلما صلّى الظهر من الغد قبضه الله في آخر سجدة منها، ووجدوا في جانب الغار الذي كان يسكنه قبرا محفورا عليه الكفن والحنوط، فغسلوه وكفنوه وصلّوا عليه ودفنوه به رحمه الله.
كرامة له أيضا
ولما قصدت زيارة هذا الشيخ لقيني أربعة من أصحابه على مسيرة يومين من موضع سكناه، فأخبروني أن الشيخ قال للفقراء الذين معه: قد جاءكم سائح المغرب فاستقبلوه، وأنهم أتوا لذلك بأمر الشيخ ولم يكن عنده علم بشيء من أمري، وإنما كوشف به.
وسرت معهم إلى الشيخ فوصلت إلى زاويته خارج الغار ولا عمارة عندها، وأهل تلك البلاد من مسلم وكافر يقصدون زيارته، ويأتون بالهدايا والتّحف فيأكل منها الفقراء والواردون، وأما الشيخ فقد اقتصر على بقرة يفطر على حليبها بعد عشر كما قدمناه، ولمّا دخلت عليه قام إلي وعانقني وسألني عن بلادي وأسفاري، فأخبرته، فقال لي: أنت مسافر العرب! فقال له من حضر من أصحابه: والعجم يا سيدنا! فقال: والعجم، فأكرموه فاحتملوني إلى الزاوية وأضافوني ثلاثة أيام «312» .
حكاية عجيبة في ضمنها كرامات له
.
ولما كان يوم دخولي إلى الشيخ رأيت عليه فرجية مرعز، فأعجبتني وقلت في نفسي:
ليت الشيخ أعطانيها، فلما دخلت عليه للوداع، قام إلى جانب الغار وجرّد الفرجية وألبسنيها مع طاقية من رأسه ولبس مرقعة، فأخبرني الفقراء أن الشيخ لم تكن عادته أن يلبس تلك الفرجية وإنما لبسها عند قدومي، وأنه قال لهم: هذه الفرجية يطلبها المغربي، ويأخذها منه سلطان كافر ويعطيها لأخينا برهان الدين الصّاغرجي، وهي له وبرسمه كانت، فلما أخبرني
الفقراء بذلك، قلت لهم: قد حصلت لي بركة الشيخ بأن كساني لباسه وأنا لا أدخل بهذه الفرجية على سلطان كافر ولا مسلم، وانصرفت عن الشيخ.
فاتّفق لي بعد مدة طويلة أني دخلت بلاد الصين وانتهيت إلى مدينة الخنسا فافترق مني أصحابي لكثرة الزحام، وكانت الفرجية عليّ فبينا أنا في بعض الطرق إذا بالوزير في موكب عظيم فوقع بصره علي فاستدعاني، وأخذ بيدي، وسألني عن مقدمي ولم يفارقني حتى وصلت إلى دار السلطان معه، فأردت الانفصال، فمنعني وأدخلني على السلطان فسألني عن سلاطين الإسلام فأجبته ونظر إلى الفرجية فاستحسنها، فقال لي الوزير: جرّدها! فلم يمكنني خلاف ذلك، فأخذها وأمر لي بعشر خلع وفرس مجهز ونفقة، وتغيّر خاطري لذلك، ثم تذكرت قول الشيخ: إنه يأخذها سلطان كافر، فطال عجبي من ذلك! ولما كان في السنة الأخرى دخلت دار ملك الصين بخان بالق، فقصدت زاوية الشيخ برهان الدين الصاغرجى فوجدته يقرأ والفرجية عليه بعينها فعجبت من ذلك وقلّبتها بيدي، فقال لي: لم تقلّبها وأنت تعرفها؟ فقلت له: نعم هي التي أخذها لي سلطان الخنسا، فقال لي: هذه الفرجية صنعها أخي جلال الدين برسمي، وكتب إليّ أن الفرجية تصلك على يد فلان، ثم أخرج ليّ الكتاب، فقرأته وعجبت من صدق يقين الشيخ، وأعلمته بأول الحكاية، فقال لي: أخي جلال الدّين أكبر من ذلك كلّه، هو يتصرف في الكون، وقد انتقل إلى رحمة الله، ثم قال لي: بلغني أنه كان يصلي الصبح كلّ يوم بمكة وأنه يحج كلّ عام لانه كان يغيب عن الناس يومي عرفة والعيد فلا يعرف أين ذهب.
ولما وادعت الشيخ جلال الدين سافرت إلى مدينة حبنق «313» ، وضبط اسمها بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة وسكون النّون وقاف، وهي أكبر المدن وأحسنها يشقها النّهر الذي ينزل من جبال كامرو، ويسمى النهر الأزرق «314» ويسافر فيه إلى بنجالة وبلاد اللّكنوتي، وعليه النواعير والبساتين والقرى يمنة ويسرة- كما هي على نيل مصر وأهلها كفار تحت الذمة يوخذ منهم نصف ما يزدرعون ووظائف سوى ذلك.
وسافرنا في هذا النهر خمسة عشر يوما بين القرى والبساتين فكأنما نمشي في سوق من الأسواق وفيه من المراكب ما لا يحصى كثرة، وفي كلّ مركب منها طبل فإذا التقى
المركبان ضرب كلّ واحد طبله وسلّم بعضهم على بعض، وأمر السلطان فخر الدين المذكور أن لا يوخذ بذلك النهر من الفقراء نول، وأن يعطي الزاد لمن لا زاد له منهم وإذا وصل الفقير إلى مدينة أعطى نصف دينار.
وبعد خمسة عشر يوما من سفرنا في النّهر كما ذكرناه وصلنا إلى مدينة سنركاوان «315» ، وسنر بضم السين المهمل والنون وسكون الراء، وهي المدينة التي قبض أهلها على الفقير شيدا عندما لجأ إليها، ولما وصلناها وجدنا بها جنكا يريد السّفر إلى بلاد الجاوة «316» ، وبينهما أربعون ويوما، فركبنا فيه، ووصلنا بعد خمسة عشر يوما إلى بلاد البرهنكار «317» ، الذين أفواههم كأفواه الكلاب، وضبطها بفتح الباء الموحدة والراء والنون والكاف وسكون الهاء، وهذه الطائفة من الهمج لا يرجعون إلى دين الهنود ولا إلى غيره، وسكناهم في بيوت قصب مسقّفة بحشيش الأرض على شاطىء البحر، وعندهم من أشجار الموز والفوفل والتنبول كثير.
ورجالهم على مثل صوّرنا الا أن أفواههم كأفواه الكلاب! وأما نساؤهم فلسن كذلك ولهن جمال بارع ورجالهم عرايا لا يستترون إلا أن الواحد منهم يجعل ذكره وأنثييه في جعبة من القصب منقوشة معلقة من بطنه، ويستتر نساؤهم بأوراق الشجر، ومعهم جماعة من المسلمين من أهل بنجالة، والجاوة ساكنون في حارة على حدة، أخبرونا أنهم يتناكحون كالبهائم لا يستترون بذلك، ويكون للرجل منهم ثلاثون امرأة فما دون ذلك أو فوقه «318» ، وأنهم لا يزنون وإذا زنا أحد منهم فحدّ الرجل أن يصلب حتى يموت! أو ياتي صاحبه أو عبده فيصلب عوضا منه ويسرح هو، وحدّ المرأة أن يامر السلطان جميع خدامه فينكحونها واحدا بعد واحد بحضرته، حتى تموت ويرمون بها في البحر! ولأجل ذلك لا يتركون أحدا