الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر انفصالي عنهم وسبب ذلك
.
واتفق في بعض الأيام أن عبدا من عبيد السلطان جلال الدين شكته زوجته إلى الوزير واعلمته أن عنده سرّية من سراري السلطان يزني بها، فبعت الوزير الشهود ودخلوا دار السّرية فوجدوا الغلام نائما معها في فراش واحد وحبسوهما، فلما أصبحت وعلمت بالخبر توجهت إلى المشور وجلست في موضع جلوسي ولم أتكلم في شيء من أمرها، فخرج إليّ بعض الخواص، فقال، يقول لك الوزير ألك حاجة فقلت: لا! وكان قصده أن أتكلم في شأن السّرّية والغلام إذ كانت عادتي أن لا تقع قضية إلا حكمت فيها، فلما وقع التغير والوحشة قصّرت في ذلك، فانصرفت إلى داري بعد ذلك. وجلست بموضع الأحكام، فإذا ببعض الوزراء، فقال لي: الوزير يقول لك: إنه وقع البارحة كيت وكيت لقضية السّرية والغلام فاحكم فيهما بالشرع، فقلت له: هذه قضية لا ينبغي أن يكون الحكم فيها الا بدار السلطان، فعدت إليها، واجتمع الناس وأحضرت السرية والغلام فأمرت بضربهما للخلوة، وأطلقت سراح المرأة وحبست الغلام وانصرفت إلى داري، فبعث الوزير إليّ جماعة من كبراء ناسه في شأن تسريح الغلام، فقلت لهم: أتشفعون في غلام زنجيّ يهتك حرمة مولاه وأنتم بالأمس خلعتم السلطان شهاب الدين وقتلتموه بسبب دخوله لدار غلام له؟ وأمرت بالغلام عند ذلك فضرب بقضبان الخيزران وهي أشد وقعا من السياط وشهّرته بالجزيرة وفي عنقه حبل.
فذهبوا إلى الوزير فأعلموه، فقام وقعد واستشاط غضبا وجمع الوزراء ووجوه العسكر وبعث عني فجئته وكانت عادتي أن أخدم له فلم أخدم. وقلت: سلام عليكم ثم قلت للحاضرين: اشهدوا عليّ أني قد عزلت نفسي عن القضاء لعجزي عنه! فكلمني الوزير فصعدت وجلست بموضع أقابله فيه وجاوبته أغلظ جواب، وأذّن مؤذن المغرب، فدخل إلى داره وهو يقول: ويقولون إنّي سلطان وها أنا ذا طلبته لأغضب عليه فغضب علي! وإنما كان اعتزازي عليهم بسبب سلطان الهند لأنهم تحققوا مكانتي عنده وإن كانوا على بعد منه، فخوفه في قلوبهم متمكّن، فلما دخل إلى داره بعث إليّ القاضي المعزول وكان جرّيء اللسان، فقال لي: إن مولانا يقول لك: كيف هتكت حرمته على رؤوس الأشهاد ولم تخدم له؟ فقلت له: إنما كنت أخدم له حين كان قلبي طيّبا عليه، فلما وقع التغيّر تركت ذلك، وتحية المسلمين إنما هي السلام «234» ، وقد سلّمت! فبعثه إلي ثانية فقال: إنما غرضك السفر عنّا فأعط صدقات النساء وديون الناس وانصرف إذا شئت، فخدمت له على هذا
القول، وذهبت إلى داري فخلّصت ممّا علي من الدّين، وكان قد أعطاني في تلك الايام فرش دار وجهازها من أواني نحاس وسواها وكان يعطيني كلّ ما أطلبه ويحبني ويكرمني، ولكنه غيّر خاطره وخوّف مني! فلما عرف أني قد خلصت الدين وعزمت على السفر ندم على ما قاله وتلكأ في الإذن لي في السفر، فحلفت بالأيمان المغلظة أن لا بدّ من سفري ونقلت ما عندي إلى مسجد على البحر وطلّقت إحدى الزوجات وكانت إحداهن حاملا فجعلت لها أجلا تسعة أشهر إن عدت فيها، وإلا فأمرها بيدها، وحملت معي زوجتي التي كانت امرأة السلطان شهاب الدين لأسلمها لأبيها بجزيرة ملوك «235» ، وزوجتي الأولى التي بنتها أخت السلطانة، وتوافقت مع الوزير عمر دهرد والوزير حسن، قائد البحر على أن أمضي إلى بلاد المعبر، وكان ملكها سلفي «236» ، فاتى منها بالعساكر لترجع الجزائر إلى حكمه وأنوب عنه فيها وجعلت بيني وبينهم علامة رفع أعلام بيض في المراكب، فإذا رأوها ثاروا في البر!! ولم أكن حدثت نفسي بهذا قط حتى وقع ما وقع من التغيّر، وكان الوزير خائفا مني، يقول للناس: لا بدّ لهذا أن يأخذ الوزارة، إما في حياتي أو بعد موتي، ويكثر السؤال عن حالي، ويقول: سمعت أن ملك الهند بعث إليه الأموال ليثور بها عليّ، وكان يخاف من سفري لئلا أتي بالجيوش من بلاد المعبر، فبعث إليّ أن أقيم حتى يجهز لي مركبا فأبيت، وشكت أخت السلطانة إليها بسفر أمها معي، فأرادت منعها فلم تقدر على ذلك! فلما رأت عزمها على السفر قالت لها: إن جميع ما عندك من الحلي هو من مال البندر، فإن كان لك شهود بأن جلال الدين وهبه لك وإلّا فردّيه! وكان حليا له خطر، فردّته إليهم، وأتاني الوزراء والوجوه وأنا بالمسجد وطلبوا مني الرجوع، فقلت لهم: لولا أني حلفت لعدت، فقالوا: تذهب إلى بعض الجزائر ليبرّ قسمك وتعود، فقلت لهم: نعم، إرضاء لهم.
فلما كانت اللّيلة التي سافرت فيها أتيت لوداع الوزير فعانقني وبكى حتى قطرت دموعه على قدمي، وبات تلك اللّيلة يحترس الجزيرة بنفسه خوفا أن يثور عليه أصهاري وأصحابي! ثم سافرت ووصلت إلى جزيرة الوزير عليّ، فأصابت زوجتي أوجاع عظيمة وأحبت الرجوع، فطلّقتها وتركتها هنالك، وكتبت للوزير بذلك لانها أمّ زوجة ولده، وطلقت التي كنت ضربت لها الأجل، وبعثت عن جارية كنت أحبها، وسرنا في تلك الجزائر من إقليم إلى إقليم!!