المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌كتابُ الجهَاد الجهاد بذل الطاقة والوسع. مصدر جاهدت - الإحكام شرح أصول الأحكام لابن قاسم - جـ ٣

[عبد الرحمن بن قاسم]

فهرس الكتاب

- ‌كتابُ الجهَاد

- ‌فصل في وجوب الطاعة

- ‌فصل في الغنيمة

- ‌فصل في الفيء

- ‌باب الأمان

- ‌باب عقد الذمة

- ‌كتابُ البَيع

- ‌فصل فيما نهي عنه

- ‌باب الشروط في البيع

- ‌باب الخيار

- ‌باب الربا

- ‌باب بيع الأصول والثمار

- ‌باب السلم

- ‌باب القرض

- ‌باب الرهن

- ‌باب الضمان

- ‌فصل في الكفالة

- ‌باب الحوالة

- ‌باب الصلح

- ‌فصل في حجر السفه

- ‌باب الوكالة

- ‌باب الشركة

- ‌فصل في المضاربة

- ‌باب المساقاة

- ‌باب الإجارة

- ‌باب السبق

- ‌باب العارية

- ‌باب الشفعة

- ‌باب الوديعة

- ‌باب إحياء الموات

- ‌باب الجعالة

- ‌باب اللُقَطة

- ‌باب اللقيط

- ‌باب الوقف

- ‌فصل في شرط الواقفوإبدال الوقف لحاجة وغير ذلك

- ‌باب الهبة

- ‌فصل في العطية

- ‌باب الوصايا

- ‌فصل في الموصى له وإليه

- ‌كتاب الفرائض

- ‌باب الفروض

- ‌باب التعصيب

- ‌باب ميراث ذوي الأرحام

- ‌باب ميراث الحمل والمفقود والخنثى والغرقي

- ‌باب ميراث أهل الملل

- ‌باب ميراث المطلقة والمقربة

- ‌باب ميراث القاتل والمبعض والولاء

- ‌باب العتق

- ‌باب الكتابة

- ‌كتاب النكاح

- ‌فصل في أركانه

- ‌فصل في اشتراط الرضى

- ‌فصل في الولي

- ‌فصل في الشهادة

- ‌فصل في الكفاءة

- ‌باب المحرمات في النكاح

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌كتابُ الجهَاد الجهاد بذل الطاقة والوسع. مصدر جاهدت

بسم الله الرحمن الرحيم

‌كتابُ الجهَاد

الجهاد بذل الطاقة والوسع. مصدر جاهدت جهادًا أي بلغت المشقة وفي الشرع بذل الجهد في قتال الكفار. ختم به العبادات لأنه أفضل تطوع البدن. وعده بعضهم ركنًا سادسًا لدين الإسلام. فلذا أوردوه بعد الأركان الخمسة وهو سنام العبادة. وذروة الإسلام. وموجب الهداية وحقيقة الإخلاص والزهد في الدنيا. ومنه ما هو واجب باليد، وما هو بالقلب والدعوة والحجة واللسان والرأي والتدبير والصناعة. فيجب على المرء بغاية ما يمكنه. وهو مشروع بالكتاب والسنة والإجماع.

قال تعالى: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم} أي عاوض عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم إذا بذلوها في سبيله {بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} وقرأ الأعمش بالجنة أي بايعهم جل وعلا بها. فأغلى أثمانهم قال عبد الله بن رواحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت.

فقال "أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا: ولنفسي أن تمنعوني مما

ص: 5

تمنعون منه أنفسكم وأموالكم" قالوا فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال "الجنة" قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل. فنزلت الآية.

{يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ} يعني الجهاد. وسبيل الله عام يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إلى الله بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد. كما في الآية (إلى قوله: {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} (فيقتلون ويقتلون) أي سواءً قتلوا أو قتلوا أو اجتمع لهم هذا وهذا قد وجبت لهم الجنة ومن الحكمة في مشروعيته حصول الثواب للمؤمنين لقوله تعالى: {يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا} .

وفي الصحيحين "تكفل الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا الجهاد، إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى منزله نائلًا ما نال من أجر أو غنيمة " وعدًا عليه) بأن لكم الجنة (حقًا) كتبه على نفسه تفضلًا وكرمًا أثبته {فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} تأكيدًا لهذا الوعد. وإخبارًا بأنه قد كتبه على نفسه الكريمة. وأنه أنزله على رسله في كتبه الكبار.

وفيها أن الأمر بالجهاد موجود في جميع الشرائع. ومكتوب على جميع أهل الملل {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ} أي: لا أحد أوفى بعهده {مِنَ اللهِ} وعد الله لا يخلف الله الميعاد {فَاسْتَبْشِرُواْ} أيها المؤمنون {بِبَيْعِكُمُ} أي بهذا البيع {الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ} البيع {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} الرابح في الآخرة.

ص: 6

(وقال: {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ} الآية) أول الآية {انْفِرُواْ} أي اخرجوا {خِفَافًا وَثِقَالاً} نشاطًا وغير نشاط. ثم رغبهم في النفقة في سبيله وبذل المهج في مرضاته فقال {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي هذا خير لكم في الدنيا والآخرة لأنكم تغرمون في النفقة قليلًا فيغنمكم الله أموال عدوكم في الدنيا مع ما يدخر لكم من الكرامة في الآخرة {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون} أن ثواب الجهاد خير لكم من القعود والتثاقل عنه.

وقال تعالى: {فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا. دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} والآيات في فضل الجهاد والحث عليه كثيرة معلومة وقال صلى الله عليه وسلم "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" صححه الحاكم فدلت الآيات والأحاديث وما في معنى ذلك على وجوب الجهاد بالمال وهو بذله فيما يقوم به من السلاح ونحوه.

وعلى وجوب الجهاد بالنفس وهو بالخروج والمبارزة للكفار. وبذل المهج في مرضاة الله. ووجوب الجهاد بالمال كما يجب بالنفس هو إحدى الروايتين عن أحمد. قال ابن القيم وغيره هو الصواب الذي لاريب فيه فإن الأمر بالجهاد بالمال شقيق الأمر بالجهاد بالنفس في القرآن وقرينه. بل جاء مقدمًا على النفس في كل موضع إلا موضعًا واحدًا. وهو الذي يدل

ص: 7

على أن الجهاد به أهم وأشهر من الجهاد بالنفس.

وفي هذا الخبر وجوبه باللسان بإقامة الحجة عليهم وبدعائهم إلى الله والزجر ونحوه مما فيه نكاية للعدو. وقال: جنس الجهاد فرض عين إما بالقلب وإما باللسان وإما بالمال وإما باليد. فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع. وأما الجهاد بالنفس ففرض كفاية والصحيح وجوبه بالمال.

(وقال) تعالى: {وَأَعِدُّواْ} أي اتخذوا {لَهُم} لوقت الحاجة {مَّا اسْتَطَعْتُم} أي مهما أمكنكم {مِّن قُوَّةٍ} أي من الآلات التي تكون لكم عليهم قوة في الحرب لمقاتلتهم. وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال على المنبر "ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي" ولا ينفي كون غيره من القوة بل إنه من أفضل المقصود وأجله. فدلت الآية على الاستعداد في الحرب بجميع ما يمكن من الآلات كآلة الرمي والسيف وغيرهما.

{وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} يعني اقتنائها وربطها للغزو في سبيل الله والربط شد الفرس وغيره بالمكان للحفظ. وربط الخيل للجهاد من أعظم ما يستعان به. وجاء في فضله أحاديث كثيرة.

وفي الصحيحين "من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا بالله وتصديقًا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة" يعني حسنات {تُرْهِبُونَ بِهِ} أي تخوفون بتلك القوة وبذلك الرباط {عَدْوَّ اللهِ} الكافر بالله {وَعَدُوَّكُمْ} المحارب

ص: 8

لكم. وذلك لأن الكفار إذا علموا أن المسلمين كانوا متأهبين للجهاد مستعدين له مستكملين لجميع الأسلحة وآلات الحرب وإعداد الخيل مربوطة للجهاد خافوهم. فلا يقصدون دخول دار الإسلام. بل يصير ذلك سببًا لدخول الكفار في الإسلام. أو بذل الجزية للمسلمين.

(وقال) تعالى {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ} أي ما بالكم إذا دعيتم إلى الخروج {فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ} أي تثاقلتم وتباطأتم وتكاسلتم وملتم {إِلَى} المقام في {الأَرْضِ} في الدعة والخفض وطيب العيش (الآية) وتمامها {أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} أي ما لكم فعلتم هكذا رضىً منكم بالدنيا بدلًا من الآخرة {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَاّ قَلِيل} ما مضى منها وما بقي عند الله قليل كزاد الراكب.

(وعن أنس) بن مالك رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لغدوة) بالفتح وهي المرة الواحدة من الغدو وهو الخروج في أول وقت من أول النهار إلى انتصافه (في سبيل الله) أي الجهاد (أو روحة) هي المرة الواحدة من الرواح وهو الخروج في أي وقت كان من زوال الشمس إلى غروبها (خير من الدنيا وما فيها. متفق عليه) هذا من باب تنزيل الغائب منزلة المحسوس تحقيقاً له في النفس. وإلا فجميع ما في الدنيا لا يساوي ذرة مما في الجنة.

وقيل إن المراد أن هذا القدر من الثواب خير من الثواب الذي

ص: 9

يحصل لمن لو حصلت له الدنيا كلها لأنفقها في طاعة الله. لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن رواحة "لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم" والمقصود تسهيل أمر الدنيا وتعظيم أمر الجهاد في سبيل الله. وأن من غدا أو راح في سبيل الله حصل له أعظم من جميع ما في الدنيا.

ولهما من حديث أبي هريرة وأبي أيوب "غدوة أو روحة في سبيل الله خير مما طلعت عليه الشمس وغربت" وفيهما "أن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض" وفي فضله أحاديث كثيرة وقال أحمد لا أعلم شيئًا من العمل بعد الفرائض أفضل من الجهاد. وقال الشيخ اتفق العلماء فيما أعلم أنه ليس في التطوعات أفضل من الجهاد.

(ولهما من حديث سهل) بن سعد الساعدي –رضي الله عنه. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها) الرباط لزوم ثغر للجهاد مقويًا للمسلمين. وفي السنن "رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه" ولمسلم عن سلمان مرفوعًا "رباط ليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه فإن مات أجري عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان" وأفضله الأشد خوفًا. لأن مقامه به أنفع وأهله به أحوج. وكذا الحراسة في سبيل الله ثوابه عظيم للأخبار وعظيم نفعه.

ص: 10

(ولمسلم عن أبي هريرة مرفوعًا) يعني إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من مات ولم يغز) بالفعل (ولم يحدث نفسه بالغزو) في سبيل الله (مات على شعبة) أي خصلة (من) خصال (النفاق) وهذا الوعيد دليل على وجوب الغزو في سبيل الله.

وهو فرض كفاية ما لم يحضر العدو. فيتعين على كل أحد.

ودليل على وجوب العزم على الجهاد.

(وعن أبي موسى) الأشعري رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قاتل) يعني في سبيل الله (لتكون كلمة الله هي العليا) أي لإظهار دين الله (فهو في سبيل الله متفق عليه) أو من كان قتاله طلب إعلاء كلمة الله وهو جواب سؤال عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".

قال ابن بطال إنما عدل النبي صلى الله عليه وسلم عن لفظ جواب السائل لأن الغضب والحمية قد يكونان لله. فعدل عن ذلك إلى لفظ جامع. فأفاد رفع الالتباس وزيادة الإفهام. وقال الجمهور لا يضر إذا حصل ضمنًا لا أصلًا ومقصودًا وقال ابن أبي جمرة: ذهب المحققون إلى أنه إذا كان الباعث إعلاء كلمة الله لم يضره ما ينضاف إليه.

(وعن أبي هريرة مرفوعًا الجهاد واجب عليكم مع كل أمير) على المسلمين (برًا كان) ولي أمر المسلمين (أو فاجرًا

ص: 11

رواه أبو داود) وغيره، وله عن أنس "ثلاث من أصل الإيمان" منها:"الجهاد ماض مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل" وفي الصحيح "إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر".

قال الشيخ وغيره فيجب الغزو مع كل أمير برًا كان أو فاجرًا. حتى عد في العقائد الواجبة الاعتقاد للأخبار. ولأن تركه مع الفاجر يفضي إلى تركه، وظهور الكفار على المسلمين.

واستئصالهم، وإعلاء كلمة الكفر. قال: وأهل السنة والجماعة يرون الجهاد مع كل أمير برًا كان أو فاجرًا.

(وله عن معاوية) رضي الله عنه (مرفوعاً) يعني إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا تنقطع الهجرة) أي الانتقال من دار الكفر والفسوق إلى دار الإسلام والإيمان (حتى تنقطع التوبة) أي قبولها "ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" وقال تعالى (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) وقال (إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون) وقال صلى الله عليه وسلم "من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله" وقال "أنا بريء من مسلم بين مشركين"

وقال الوزير وغيره: اتفقوا علي وجوب الهجرة من ديار الكفر لمن قدر على ذلك وتسن الهجرة لقادر على إظهار دينه بنحو دار كفر. وتجب على عاجز عن إظهار دينه بمحل يغلب فيه حكم الكفر والبدع المضلة إحرازاً لدينه. ولا تجب من بين أهل

ص: 12

المعاصي. لقوله "من رأى منكم منكراً فليغيره" الحديث. والعمل على هذا عند أهل العلم.

وهجران أهل المعاصي كما قال شيخ الإسلام نوعان أحدهما بمعنى الترك للمنكرات. وهو المذكور في قوله {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} وقوله {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين} والمراد به أن لا يشهد المنكرات لغير حاجة. وهذا من جنس هجر الإنسان نفسه عن فعل المنكرات. ومنه الهجرة من دار الكفر والفسوق إلى دار الإسلام فإنه هجر للمقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكنونه من فعل ما أمر الله به. ومنه {وَالرُّجْزَ فَاهْجُر} .

والنوع الثاني الهجر على وجه التأديب. وهو هجر من يظهر المنكرات يهجر حتى يتوب منها. كما هجر الثلاثة المتخلفون حتى نزلت توبتهم وهو بمنزلة التعزير. والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات وفعل المحرمات. وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم. فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه. ورجوع العامة عن مثل حاله. فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة كان مشروعًا. وإلا فالتأليف لبعض الناس أنفع من الهجر.

ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يتألف قومًا ويهجر آخرين. وإذا اجتمع في الرجل خير وشر استحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من

ص: 13

الشر. فيجتمع في الشخص موجبات الإكرام والإهانة. هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة.

(وعن عبد الله بن عمرو قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد) وفي رواية لأحمد وأبي داود. إني جئت أريد الجهاد معك (فقال أحي والداك؟ قال: نعم) وفي لفظ لأحمد وأبي داود ولقد أتيت وإن والدي يبكيان (قال: ففيهما فجاهد متفق عليه) سمى إتعاب النفس في القيام بمصالح الأبوين جهادًا من باب المشاكلة لما استأذنه في الجهاد. وفيه دليل على أنه يجب استئذانهما فيه إذا لم يتعين. وهو قول الجمهور. ولفظ أحمد وأبي داود قال "فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما".

(ولأبي داود من حديث أبي سعيد) ارجع فاستأذنهما (فإن أذنا لك وإلا فبرهما) أي بطاعتهما في عدم الخروج في الجهاد.

وذلك أن برهما فرض عين. والجهاد فرض كفاية. وإن قيل فهما مستويان فمصلحة الجهاد أعم إذ هي لحفظ الدين والدفاع عن المسلمين فقدم لذلك ولا يعتبر إذن غيرهما إلا الغريم. ولا إذنهما لواجب.

(وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل مشرك تبعه يوم

بدر) وهو بحرة الوبرة وكان تذكر فيه جرأة ونجدة ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه فلما أدركه قال لرسول

الله صلى الله عليه وسلم جئت لأتبعك وأصيب معك قال تؤمن بالله قال لا قال

ص: 14

(فارجع فلن أستعين بمشرك) وفي الثالثة قال "تؤمن بالله ورسوله" قال نعم قال: "فانطلق"(رواه مسلم) فلما أسلم أذن له.

فدل على أنها لا تجوز الاستعانة بالمشركين في القتال. وهو مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما. واختاره شيخ الإسلام وغيره.

ولأن الكافر لا يؤمن مكره وغائلته لخبث طويته. ويجوز عند الحاجة لأن عيينة الخزاعي كان كافرًا إذ ذاك. وفيه أيضًا من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو وأخذه أخبارهم. ويجوز للضرورة لما روى الزهري أنه صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود في حرب خيبر سنة سبع. وشهد صفوان حنينًا والضرورة مثل كون الكفار أكثر عددًا ويخاف منهم. وإن جوز اشترط أن يكون حسن الرأي في المسلمين.

ويحرم أن يعينهم المسلمون على عدوهم إلا خوفًا من شرهم. لقوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية. ويحرم أن يستعين مسلم بأهل الأهواء في شيء من أمور المسلمين لعظم ضررهم. قال الشيخ ولأنهم دعاة بخلاف اليهود والنصارى. وعلى ولي الأمر أن يعرف على القبيلة والجماعة العرفاء الأمناء ينظرون في أحوالهم. ويتعرف منهم أحوالهم لفعله صلى الله عليه وسلم.

وعليه أن يؤمر في كل ناحية أميرًا يقلده أمر الحرب وتدبير الجهاد. ويكون ممن له رأي ودين وخبره بالحرب ومكائد العدو

ص: 15

مع أمانة ورفق بالمسلمين. ويعقد لهم الرايات والألوية. ويتخير لهم المنازل ويحفظ مكامنها. ويبعث العيون ليتعرف حال العدو. ليأمنوا هجومهم. ولا يولي في ذلك إلا مسلمًا. قال تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} .

(وعن أبي هريرة مرفوعًا: شر ما في الرجل) من الخصال المذمومة. وفي لفظ شر ما أعطي الرجل: شح هالع و (جبن) هيبة وضعف يعتري القلب ضد الشجاعة (خالع) أي شديد كأنه يخلع فؤاده من شدة خوفه. والمخلع الرخو المفكك المفاصل. رواه أبو داود وغيره و (صححه الترمذي) وقال عمر الجبن والجرأة غرائز يضعها الله حيث يشاء.

فالجبان يفر عن أهله وولده. والجرئ يقاتل عمن لا يؤوب به إلى رحله. والمراد ما يعرض للمرء من نوازع الأفكار وضعف القلب عند الخوف. فيمنع من لا يصلح للحرب.

كشيخ هرم ومخذل يفند الناس عن القتال ويزهدهم فيه. كمن يقول الحر شديد والبرد شديد والمشقة شديدة أو لا تؤمن هزيمة الجيش. كما أنه لا يغزى مع مخذل ومرجف ومعروف بالهزيمة أو تضييع المسلمين.

وفيه الحرص على الشجاعة واختيار الشجعان. حتى

رخص الشارع في الخيلاء وهو التكبر عند القتال وإظهار الشجاعة ويري من نفسه القدرة والعظمة عند اللقاء. ومدار

ص: 16

القتال على قوة البدن والقلب والخبرة بالقتال.

(وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (في قوله) تعالى {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ} أي بعد أن تأسروهم إما أن تمنوا عليهم بإطلاقهم من غير عوض {وَإِمَّا فِدَاء} أي وإما أن تفادوهم فداء بأموال يدفعونها لكم أو رجال أسرى عندهم قال (فجعل النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالخيار) بين المن والفداء وعمل به الخلفاء بعده. قال البغوي وغيره هو الأصح والاختيار لأنه عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده.

وثبت في صحيح مسلم وغيره أن ثمانين من أهل مكة هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم من حيال التنعيم فأخذهم سلمًا فاعتقهم.

ونزلت {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ} وفي الصحيحين أنه أطلق ثمامة بن أثال. وفداء أسرى بدر قد تظاهرت به الأخبار. وفدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين من بني عقيل، صححه الترمذي. وعن ابن مسعود مرفوعًا أنه قال يوم بدر "لا يبقى أحد من الأسرى إلا أن يفدى أو تضرب عنقه" فوقع منه صلى الله عليه وسلم المن والفداء والقتل. ومن خلفائه. واستفاض.

قال ابن القيم ذكر عن ابن عباس أنه خير رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأسرى بين المن والفداء والقتل والاستعباد يفعل ما شاء. قال وهذا هو الحق الذي لا قول سواه. وقال الوزير اتفقوا على أن

ص: 17