المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في وجوب الطاعة - الإحكام شرح أصول الأحكام لابن قاسم - جـ ٣

[عبد الرحمن بن قاسم]

فهرس الكتاب

- ‌كتابُ الجهَاد

- ‌فصل في وجوب الطاعة

- ‌فصل في الغنيمة

- ‌فصل في الفيء

- ‌باب الأمان

- ‌باب عقد الذمة

- ‌كتابُ البَيع

- ‌فصل فيما نهي عنه

- ‌باب الشروط في البيع

- ‌باب الخيار

- ‌باب الربا

- ‌باب بيع الأصول والثمار

- ‌باب السلم

- ‌باب القرض

- ‌باب الرهن

- ‌باب الضمان

- ‌فصل في الكفالة

- ‌باب الحوالة

- ‌باب الصلح

- ‌فصل في حجر السفه

- ‌باب الوكالة

- ‌باب الشركة

- ‌فصل في المضاربة

- ‌باب المساقاة

- ‌باب الإجارة

- ‌باب السبق

- ‌باب العارية

- ‌باب الشفعة

- ‌باب الوديعة

- ‌باب إحياء الموات

- ‌باب الجعالة

- ‌باب اللُقَطة

- ‌باب اللقيط

- ‌باب الوقف

- ‌فصل في شرط الواقفوإبدال الوقف لحاجة وغير ذلك

- ‌باب الهبة

- ‌فصل في العطية

- ‌باب الوصايا

- ‌فصل في الموصى له وإليه

- ‌كتاب الفرائض

- ‌باب الفروض

- ‌باب التعصيب

- ‌باب ميراث ذوي الأرحام

- ‌باب ميراث الحمل والمفقود والخنثى والغرقي

- ‌باب ميراث أهل الملل

- ‌باب ميراث المطلقة والمقربة

- ‌باب ميراث القاتل والمبعض والولاء

- ‌باب العتق

- ‌باب الكتابة

- ‌كتاب النكاح

- ‌فصل في أركانه

- ‌فصل في اشتراط الرضى

- ‌فصل في الولي

- ‌فصل في الشهادة

- ‌فصل في الكفاءة

- ‌باب المحرمات في النكاح

الفصل: ‌فصل في وجوب الطاعة

الإمام مخير في الأسرى بين القتل والاسترقاق. والجمهور: وبين الفداء والمن. وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد. وقال الشيخ وغيره يعمل الإمام المصلحة في المال وغيره كما فعل صلى الله عليه وسلم بأهل مكة.

‌فصل في وجوب الطاعة

لله ورسوله ولأمير الجيش وما يلزم الجيش والمشاورة وغير ذلك.

وأصل الطاعة الانقياد. وهو امتثال الأمر فتجب طاعة الله ورسوله وتجب لأمير الجيش. ما لم يأمر بمعصية. ويجب إخلاص النية لله تعالى في الطاعات كلها.

(قال تعالى: {أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} وطاعة الله امتثال أمره فيما أمر والانقياد لذلك الأمر. وطاعة الله واجبة على كافة الخلق. وكذلك طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم واجبة أيضًا. لهذه الآية وغيرها {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} أي وأطيعوا أولي الأمر منكم أمراء المسلمين في عهده صلى الله عليه وسلم وبعده. ويندرج فيهم الخلفاء والقضاة وأمراء السرايا. أمر تعالى بطاعتهم بعد أمرهم بالعدل. تنبيهًا على أن وجوب طاعتهم ما داموا على الحق. قال علي حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة. فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا.

{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} إلى الله: إلى

ص: 18

كتابه. والرسول في حياته. وسنته بعد وفاته. {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فإن الإيمان يوجب ذلك {ذَلِكَ} أي الرد {خَيْرٌ} لكم {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} أحمد عاقبة.

(وقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} أي في أمر الحرب إذ الكلام فيه. أو فيما يصح أن يشاور فيه استظهارًا برأيهم. وتطييبًا لنفوسهم. وتمهيدًا لسنة المشاورة للأمة. والغالب أن السادات إذا لم يشاوروا في الأمور شق عليهم. وشاورهم صلى الله عليه وسلم في الذهاب إلى العير. وفي أحد. والخندق. والحديبية وغير ذلك. في الحروب وغيرها.

وسئل عن العزم فقال: "مشاورة أهل الرأي" وقالت عائشة "ما رأيت أحدًا أكثر مشاورة للرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم " وقال علي الاستشارة عين الهداية. وقد خاطر من استغنى برأيه.

والتدبر قبل العمل يؤمن من الندم. وما استنبط الصواب بمثل المشاورة. وقد يعزم الإنسان على أمر فيشاور فيه فيتبين له الصواب في قول غيره. وما أحسن ما قيل:

وشاور إذا شاورت كل مهذب

لبيب أخي حزم ترشد في الأمر

ولا تك ممن يستبد برأيه

فتعجز أو لا تستريح من الفكر

ألم تر أن الله قال لعبده

وشاورهم في الأمر حتمًا بلا نكر

{فَإِذَا عَزَمْتَ} أي إذا شاورتهم على الأمر وعزمت عليه {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} فيه. أو إذا وطنت نفسك على شيء بعد

ص: 19

المشاورة فتوكل على الله في إمضاء أمرك. على ما هو أصلح لك. واستعن بالله في أمورك. ولا تعتمد إلا عليه. والمشاورة لا تنافي التوكل. {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين} عليه في جميع أمورهم. فيهديهم إلى ما هو الأصلح لهم. في الدنيا والآخرة.

(وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} جماعة كافرة {فَاثْبُتُواْ} للقائهم وذلك لأن يوطنوا أنفسهم على لقاء العدو وقتاله. ولا يحدثوها بالتولي. وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال "أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف" ثم قال "اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم".

قال تعالى: {وَاذْكُرُواْ اللهَ كَثِيرًا} بقلوبكم وألسنتكم عند لقاء العدو {لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُون} وكونوا على رجاء الفلاح والنصر والظفر {وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ} يعني في أمر الجهاد والثبات عند لقاء العدو

{وَلَا تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} قوتكم {وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِين} وهذا تعليم من الله لعباده آداب اللقاء وطريق الشجاعة عند مواجهة العدو.

(وقال: {فَلَا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَار} الآية) أي تفروا وتتركوا أصحابكم {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً} فتقاربتم منهم ودنوتم إليهم {فَلَا تُوَلُّوهُمُ} ظهوركم. فإن المنهزم يولي دبره

{وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} ظهره {إِلَاّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ} منعطفًا يرى من نفسه الانهزام وقصده طلب العزة وهو يريد الكرة {أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ} منضمًا صائرًا إلى جماعة المسلمين يريد العود إلى القتال فلا بأس عليه. وإلا فمن ولى ظهره بدون هذه النية فقد توعده الله بأنه {بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير} .

قال الوزير وغيره اتفقوا على أنه إذا التقى الزحفان وجب على المسلمين الحاضرين الثبات وحرم عليهم الانصراف والفرار إذ قد تعين عليهم. إلا أن يكون متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة. أو يكون الواحد مع ثلاثة أو المائة مع ثلاثمائة. وقال ابن رشد لا يجوز الفرار عن الضعف إجماعًا. لقوله {فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} الآية وذكر نحو ما ذكره الوزير.

وقال مالك يجوز إن كان أعتق جوادًا أو أجود سلاحًا وأجود قوة. وسن الثبات مع عدم ظن التلف والقتال مع ظنه فهما أولى من الفرار والأسر. وكذا قال الشيخ وغيره يحرم نية الفرار من مثليهم للآيات والأخبار. وقال القتال لا يخلو إما أن يكون قتال دفع أو طلب فالأول بأن يكون العدو كثيرًا لا يطيقه المسلمون ويخافون أنهم إن انصرفوا عنهم عطفوا على من تخلف من المسلمين فهنا صرح الأصحاب بوجوب بذل مهجهم في الدفع حتى يسلموا.

ومثله لو هجم عدو على بلاد المسلمين والمقاتلة أقل من

ص: 20

النصف لكن إن انصرفوا استولوا على الحريم. والثاني لا يخلو إما أن يكون بعد المصافة أو قبلها أو بعدها حين الشروع في القتال لا يجوز الإدبار مطلقًا إلا لمتحرف أو متحيز، وقال يسن الانغماس في العدو لمنفعة المسلمين ولا نهي عنه وهو من الهلكة.

(وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله" فطاعته صلى الله عليه وسلم طاعة لله ومعصيته معصية لله ولابد. فقد أمر الله تعالى بطاعته في غير موضع من كتابه (ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني متفق عليه) ولهما عن علي أنه صلى الله عليه وسلم بعث سرية عليهم رجل من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا. وقال في أئمة الجور "تسمع وتطيع وإن أخذ مالك وضرب ظهرك فاسمع وأطع".

ولما قالوا له أفلا ننابذهم قال "لا ما أقاموا فيكم الصلاة""ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئًا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدًا من طاعة" رواهما مسلم.

ولهما عن عبادة بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثره علينا وأن لا ننازع الأمر أهله "إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان" وأجمع العلماء على طاعة السلطان والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه. لما في ذلك من حقن الدماء. ولم يستثنوا من ذلك

ص: 22

إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا تجوز طاعته.

وذكر الشيخ حديث عبادة "على المرء المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه وأثره عليه" قال فأوجب الطاعة التي عمادها الاستنفار في العسر واليسر. وهذا نص في وجوبه مع الإعسار بخلاف الحج. وهذا في قتال الطلب. وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين واجب إجماعًا، ولا يشترط له شروط بل يدفع بحسب الإمكان. والسمع والطاعة فيه أوجب وألزم.

(وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان رواه مسلم) ورواه أحمد وغيره وتمامه فتكلم أبو بكر فأعرض عنه ثم تكلم عمر فأعرض عنه. فقام سعد بن عبادة فقال إيانا تريد يا رسول الله والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها. ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فانطلقوا حتى نزلوا بدرًا ووردت عليهم روايا قريش الحديث.

وفيه دليل على أنه يشرع للإمام أن يكثر من استشارة أصحابه الموثوق بهم دينًا وعقلًا حتى قيل بوجوبه للآية. ولهذا الخبر وغيره ولأحمد والشافعي عن أبي هريرة ما رأيت أحدًا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع هذا لا ريب أن أخذ الأحكام المتعلقة بالحرب ومصالح الإسلام وأهله وأمره

ص: 23

وأمور السياسات الشرعية من سيره صلى الله عليه وسلم ومغازيه أولى من أخذها من آراء الرجال.

(ولهما عن كعب كان) يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا أراد غزوة ورَّى) بفتح الواو وتشديد الراء أي سترها (بغيرها) وجاء الاستثناء إلا في غزوة تبوك فإنه أظهر لهم مراده. وأخرجه أبو داود وغيره وزاد ويقول "الحرب خدعة" وكان توريته إذا أراد قصد جهة سأل عن طريق جهة أخرى إيهامًا أنه يريدها. وإنما يريد ذلك لأنه أتم فيما يريده من إصابة العدو. وإتيانهم على غفلة من غير تأهبهم له. ويقع بالتعريف وبالكمين ونحو ذلك.

وفيه التحريض على أخذ الحذر في الحرب. والندب إلى خداع العدو. وأن من لم يتيقظ لم يأمن أن ينعكس الأمر عليه.

والاحتياج إلى استعمال الرأي آكد من الشجاعة. وقال النووي وغيره اتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب كيفما أمكن. إلا ما يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يجوز.

(وعن بريدة) بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث الأسلمي. المتوفى بمرو سنة اثنتين وستين. رواه عنه ابنه سليمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق (قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرًا على جيش) هم الجند السائرون إلى الحرب أو غيره (أو سرية) هي القطعة من الجيش تخرج منه تغير على العدو ثم

ص: 24

ترجع إليه. زهاء الأربعمائة. سميت سرية لأنها تسري ليلًا على خفية.

(أوصاه في خاصة) أي في حق (نفسه) خصوصًا بتقوى الله تعالى. وهي كلمة جامعة يدخل فيها جميع الطاعات واجتناب المحرمات (و) أوصاه (بمن معه من المسلمين خيرًا) أي أن يفعل معهم خيرًا من الرفق بهم والإحسان إليهم وتعريفهم ما يحتاجون إليه. فدل على أنه يشرع للإمام إذا أرسل قومه إلى قتال الكفار ونحوه أن يوصيهم بتقوى الله تعالى.

وينهاهم عن المعاصي وبالأخص المتعلقة بالقتال (ثم قال اغزوا) أي اشرعوا في فعل الغزو (على اسم الله) وفي لفظ بسم الله أي مستعينين باسمه مخلصين له.

(في سبيل الله) وفي لفظ طاعة الله. وفي الحديث "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر فهو في سبيل الله (قاتلوا من كفر بالله) هذا العموم شمل جميع أهل الكفر المحاربين وغيرهم. وقد خصص من له عهد. وكذا الرهبان والنسوان. ومن لم يبلغ الحلم. لأنه لا يكون منهم قتال غالبًا. فإن حصل منهم قتال أو تدبير قوتلوا (أغزوا) كرر صلى الله عليه وسلم الأمر بالغزو: اهتمامًا بأمره.

(ولا تغلوا) بالغين المعجمة والغلول الخيانة في المغنم

مطلقًا. ويأتي تمام الكلام فيه (ولا تغدروا) بكسر الدال

وضمها. وهو ضد الوفاء. أي لا تنقضوا العهد (ولا تمثلوا)

ص: 25

من المثلة يقال مثل بالقتيل إذا قطع أنفه أو أذنه أو مذاكيره أو شيئًا من أطرافه أو غيرها. تشويهًا وعبثًا به. قال الخطابي وغيره إن مثل الكافر بالمسلم جاز للمسلم أن يمثل به وإلا فلا.

وقال الشيخ: المثلة حق للمسلم فله فعلها للاستيفاء وأخذ الثأر. وله تركها والصبر عنها أفضل. وذلك حيث لا يكون في التمثيل بهم زيادة في الجهاد. أو يكون نكالًا لهم عن نظيرها. وأما إذا كان فيه دعاء لهم إلى الإيمان وزجر لهم عن العدوان فإنه هنا نوع من إقامة الحدود. ومن الجهاد المشروع المندوب إليه (ولا تقتلوا وليدًا) هو الصبي ما لم يبلغ سن التكليف. وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعًا "نهى عن قتل النساء والصبيان" وكان صلى الله عليه وسلم يسترق النساء والصبيان إذا سباهم. وعلى قاتلهم غرم الثمن غنيمة.

فلا يجوز قتل صبي ولا امرأة. وكذا راهب وشيخ فان وزمن وأعمى لا رأي لهم ولم يقاتلوا. أو يحرضوا. وحكي الإجماع على أنه لا يجوز قتل الصبيان ولا النساء ما لم يقاتلن. إلا أن يكن ذوات رأي فيقتلن. ولأنهم يصيرون أرقاء. قال ابن رشد في الرهبان: يتركون ولا يتعرض لهم، لا بقتل ولا استعباد لقوله صلى الله عليه وسلم "ذروهم وما حبسوا أنفسهم عليه".

وقال الشيخ الراهب الذي يعاون أهل دينه بيده ولسانه. مثل أن يكون له رأي يرجعون إليه في القتال. أو نوع من التحضيض. فهذا يقتل باتفاق العلماء إذا قدر عليه. وتؤخذ منه

ص: 26

الجزية. وإن كان حبيسًا منفردًا في معبد. فكيف بمن هم كسائر النصارى في معائشهم ومخالطتهم الناس. واكتساب الأموال. وأما الأعمى ونحوه فقال الوزير وغيره اتفقوا على أنه إذا كان الأعمى والمقعد والشيخ الفاني وأهل الصوامع لهم رأي وتدبير وجب قتالهم.

وقال ابن رشد النكاية جائزة بطريق الإجماع في جميع أنواع المشركين ذكرانهم وإناثهم، شيوخهم وصبيانهم، صغارهم وكبارهم. واستثنى قوم الرهبان وقال الشيخ اتفقوا على جواز قطع الشجر وتخريب العامر عند الحاجة إليه. وليس ذلك بأولى من قتل النفوس. وما أمكن غير ذلك.

(وإذا لقيت عدوك من المشركين) ناكثي العهد وناصبي العداوة المحادين لله ورسوله (فادعهم إلى ثلاث خصال) أي إلى إحدى ثلاث خصال الدخول في الإسلام أو بذل الجزية. وفيه "أو خلال" شك من الراوي وزنهما ومعناهما واحد.

ويفسر إحداهما بالأخرى (فأيتهن ما أجابوك) أي فإلى أية الخصال أجابوك إليها أي قبلوها منك. والخطاب لأمير الجيش (فاقبل منهم) ما أجابوك إليه من الثلاث (وكف عنهم) القتال.

وبين الثلاث بقوله (ادعهم إلى الإسلام) هذا أول الخلال الثلاث وأوجب مالك وغيره الدعوة مطلقًا. قال لا يقاتل الكفار قبل أن يدعوا ولا يلتمس غرتهم إلا أن يكونوا قد بلغتهم الدعوة فيجوز أن تؤخذ غرتهم. ونصره الموفق وغيره.

ص: 27

لأن فائدة الدعوة أن يعرف العدو أن المسلمين إنما يقاتلون للدين. فإذا علم العدو ذلك كان سببًا لانقيادهم للدخول في الإسلام. وقيل لا تجب وجمهور العلماء أن الدعوة تجب لمن لم تبلغه. قاله ابن المنذر وغيره. وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بذلك. وبه تجمع الأدلة.

(فإن أجابوك فاقبل منهم) الإسلام (وكف عنهم القتال لإجابتهم ما دعوتهم إليه من الإسلام (ثم ادعهم إلى التحول) أي النقلة (من دارهم) أي منازلهم ومحالهم (إلى دار المهاجرين) مساكنهم وكل قبيلة اجتمعت في محلة سميت تلك المحلة دارًا وفيه ترغيبهم بعد إجابتهم للهجرة إلى ديار المسلمين. لأن البقاء بالبادية ربما كان سببًا لعدم معرفة الشريعة لقلة ما فيها من أهل العلم. وتقدم أنها واجبة على من أسلم. وهو في بلد الشرك إلى بلد الإسلام إذا استطاع. وتجب أو تستحب إذا ظهرت المعاصي كما نص عليه بعض أهل العلم.

(وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك) أي تحولوا من دارهم إلى دار المهاجرين (فلهم ما للمهاجرين) أي المنتقلين من بلد الشرك إلى بلد الإسلام من ثواب وفيء وغير ذلك (وعليهم ما على المهاجرين) أي من الجهاد والنفير إذا دعوا إليه.

والمهاجرون هم الذين تركوا أوطانهم وهجروها في الله تعالى. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق عليهم مما أفاء الله عليه. ولم يكن للأعراب في ذلك حظ والأعراب من قاتل منهم أخذ سهمه ومن

ص: 28

لم يخرج فلا شيء له من الفيء. ولا عتب عليه ما دام في المجاهدين كفاية.

(فإن أبوا أن يتحولوا منها) أي أن ينتقلوا من بلادهم إلى بلاد المسلمين ولم يجاهدوا. ولأبي داود "واختاروا دارهم (فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين) يعني سكان البادية من المسلمين من غير هجرة ولا غزو (يجري عليهم ما يجري على المسلمين) من أحكام الإسلام كوجوب الصلاة والزكاة والقصاص والدية ونحو ذلك (ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء) وإنما لهم من الزكوات.

والغنيمة هي ما أوجف المسلمون عليه بالخيل والركاب. والفيء هو ما أخذ من الكفار من غير قتال ولا إيجاف (إلا أن يجاهدوا مع المسلمين) فيستحقون ذلك. وظاهره أنه لا يستحق من كان بالبادية ولم يهاجر نصيبًا في الفيء والغنيمة إذا لم يجاهد. وهو مذهب الشافعي وأحمد.

(فإن هم أبوا) أي عن قبول الإسلام (فاسألهم الجزية) وهي المال الذي يعقد عليه الذمة. فعلة من الجزاء. كأنهم جزت عن قتله. وهذه الثانية من الخصال الثلاث. ودل الحديث أن

الجزية تؤخذ من كل كافر كتابي أو غيره، لقوله "إذا

لقيت عدوك" وهو عام وهو مذهب مالك والأوزاعي وغيرهما. ورجحه ابن القيم واختار شيخ الإسلام أخذها من جميع

ص: 29

الكفار. وأنه لم يبق أحد من مشركي العرب بعد. بل كانوا قد أسلموا.

قال وإذا عرفت حقيقة السنة تبين لك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين عربي وغيره. وأن أخذه للجزية كان أمرًا ظاهرًا مشهورًا. وقدوم أبي عبيدة بمال البحرين معروف. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخص العرب بحكم في الدين. لا بمنع الجزية ولا منع الاسترقاق. ولا تقديمهم في الإمامة ولا بجعل غيرهم ليس كفوا لهم في النكاح. ولا بحل ما استطابوه دون ما استطابه غيرهم. بل إنما علق الأحكام بالأسماء المذكورة في القرآن. كالمؤمن والكافر والبر والفاجر.

قال ويؤخذ من بني تغلب عوض الجزية زكاتان. مما تجب فيه الزكاة. ويجوز تغييره لاختلاف المصلحة باختلاف الأزمنة. وجعل جماعة ذلك كالخراج والجزية. قال وإنما وقعت الشبهة في المجوس لما اعتقد بعض أهل العلم أنها لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب. وقد أخذت منهم بالنص والإجماع (فإن أجابوك) أي إلى بذل الجزية (فأقبل منهم وكف عنهم) أي القتال.

(فإن أبوا) عن قبول الجزية (فاستعن بالله) عليهم فهو الذي بيده النصر والتأييد (وقاتلهم) كما قال تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ

ص: 30

الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون} وقال: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} وغيرها من الآيات الدالة على قتال المشركين إلى هذه الغاية.

(وإذا حاصرت منعت وحبست (أهل حصن) من الكفار وضيقت عليهم وأحطت بهم. والحصن كل موضع حصين لا يوصل إلى جوفه قصراًَ كان أو غيره. قال الشيخ لزمه عمل المصلحة من مصابرته والموادعة بحال والهدنة بشرطها (فأرادوك) أي طلبوا منك (أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه) الذمة عقد الصلح والمهادنة.

وإنما نهى عن ذلك لئلا ينقض الذمة من لا يعرف حقها. وينتهك حرمتها بعض من لا تمييز له من الجيش. فكأنه يقول إن وقع نقض من متعد كان نقض عهد الخلق أهون من نقض عهد الله وعهد نبيه. فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه لأن نقض ذمة الله وذمة رسوله امتدت من نقض ذمة أمير الجيش أو ذمة جميع الجيش. وإن كان نقض الكل محرماً (ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك) ولا تجعل لهم ذمة الله تعالى ولا ذمة نبيه صلى الله عليه وسلم.

(فإنكم أن تخفروا) بضم التاء. من أخفرت الرجل إذا نقضت عهده. وذمامه. أي تنقضوا (ذممكم وذمم أصحابكم)

ص: 31

يعني الجيش (أهون) أي عند الله (من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه) وإن كان نقض الذمة محرماَ مطلقاً. فخفركم ذممكم وذمم أصحابكم أهون من خفركم ذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم.

(وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله) أي على ما يحكم الله فيهم (فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك) فدل على جواز إنزالهم على حكم ولي أمر الجيش. وكذا غيره لقصة سعد لما نزل بنو قريظة على حكمه. وحكم أن يقتل رجالهم وتستحي نسائهم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أصبت حكم الله فيهم" صححه الترمذي.

فيجوز نزول العدو على حكم رجل من المسلمين. ويلزمهم ما حكم به عليهم من قتل أو أسر أو استرقاق (فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا) وعلله بأنه لا يدري أيصيب حكم الله فيهم أم لا يصيب حكم الله. فلا ينزلهم على شيء لا يدري أيقع أم لا. بل ينزلهم على حكمه (رواه مسلم) وأبو داود وغيرهما قال الشيخ وإن نزلوا على حكم رجل مسلم حر عدل مجتهد في الجهاد أو أكثر منه جاز.

ويلزمه الحكم بالأحظ لنا. من قتل أو رق أو فداء وحكمه لازم. قال وتخيير الإمام والحاكم الذي نزلوا على حكمه هو تخيير لأي مصلحة. بطلب أي الأمرين كان أرضى لله فعله. ولا يتعين فعل واحد من هذه الأمور في كل وقت. بل قد يتعين

ص: 32