المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل فيما نهي عنه - الإحكام شرح أصول الأحكام لابن قاسم - جـ ٣

[عبد الرحمن بن قاسم]

فهرس الكتاب

- ‌كتابُ الجهَاد

- ‌فصل في وجوب الطاعة

- ‌فصل في الغنيمة

- ‌فصل في الفيء

- ‌باب الأمان

- ‌باب عقد الذمة

- ‌كتابُ البَيع

- ‌فصل فيما نهي عنه

- ‌باب الشروط في البيع

- ‌باب الخيار

- ‌باب الربا

- ‌باب بيع الأصول والثمار

- ‌باب السلم

- ‌باب القرض

- ‌باب الرهن

- ‌باب الضمان

- ‌فصل في الكفالة

- ‌باب الحوالة

- ‌باب الصلح

- ‌فصل في حجر السفه

- ‌باب الوكالة

- ‌باب الشركة

- ‌فصل في المضاربة

- ‌باب المساقاة

- ‌باب الإجارة

- ‌باب السبق

- ‌باب العارية

- ‌باب الشفعة

- ‌باب الوديعة

- ‌باب إحياء الموات

- ‌باب الجعالة

- ‌باب اللُقَطة

- ‌باب اللقيط

- ‌باب الوقف

- ‌فصل في شرط الواقفوإبدال الوقف لحاجة وغير ذلك

- ‌باب الهبة

- ‌فصل في العطية

- ‌باب الوصايا

- ‌فصل في الموصى له وإليه

- ‌كتاب الفرائض

- ‌باب الفروض

- ‌باب التعصيب

- ‌باب ميراث ذوي الأرحام

- ‌باب ميراث الحمل والمفقود والخنثى والغرقي

- ‌باب ميراث أهل الملل

- ‌باب ميراث المطلقة والمقربة

- ‌باب ميراث القاتل والمبعض والولاء

- ‌باب العتق

- ‌باب الكتابة

- ‌كتاب النكاح

- ‌فصل في أركانه

- ‌فصل في اشتراط الرضى

- ‌فصل في الولي

- ‌فصل في الشهادة

- ‌فصل في الكفاءة

- ‌باب المحرمات في النكاح

الفصل: ‌فصل فيما نهي عنه

فإن كان يعلم قدر الصبرة لم يجز بيعها جزافًا. وهذا مذهب مالك وأحمد وغيرهما من السلف.

قال مالك لم يزل أهل العلم ينهون عن ذلك. قال القاضي وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من عرف مبلغ شيء فلا يبعه جزافًا حتى يبينه" ولأن البائع لا يعدل إلى البيع جزافًا مع علمه بقدر الكيل إلا للتغرير. وأجاز بعضهم بيع صبرة علما كيلها. وإن أعلمه البائع بالكيل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سميت الكيل فكل" وإن باع الأدهان ونحوها في ظروفها جملة وقد شاهدها جاز لأن أجزاءه لا تختلف فهو كالصبرة.

* * *

‌فصل فيما نهي عنه

يعني من البيوع. ووقته والبيع على بيع أخيه والتسعير والاحتكار وغير ذلك.

(قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ} أذن لها {مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ} وهو النداء الثاني الذي عقب جلوس الإمام على المنبر لأنه الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختص به الحكم {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} اهتموا في سيركم إليها. وليس المراد المشي السريع كما تقدم {وَذَرُوا الْبَيْعَ} أي اسعوا إلى ذكر الله واتركوا البيع يعني المعاملة. فإنها حينئذ حرام إذا نودي للصلاة.

ص: 111

نهى تعالى عن البيع وقت نداء الجمعة لئلا يتخذ ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضور الجمعة. والنهي يقتضي الفساد. وكالبيع الشراء لأن اسم البيع يتناولهما جميعًا. وخص لأنه من أهم ما يشتغل به المرء من أسباب المعاش. وكذا يحرم البيع قبل النداء لمن منزله بعيد في وقت وجوب السعي عليه. وهو الوقت الذي يمكنه إدراكها فيه. وتحرم المساومة والمناداة إذًا. وكذا لو تضايق وقت مكتوبة. وتقييده بالجمعة يفهم منه صحته لغيرها.

ويحرم إذا فاتته الجماعة وتعذر عليه جماعة أخرى {ذَلِكُمْ} الذي ذكرت من حضور الجمعة وترك البيع {خَيْرٌ لَّكُمْ} من المبايعة {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون} مصالح أنفسكم.

(وعن بريدة مرفوعًا) يعني إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من حبس العنب) ثمر الكرم أيام القطاف التي يقطف فيها الثمر (حتى يبيعه ممن يتخذه خمرًا) أي: عصير العنب (فقد تقحم النار على بصيرة) أي على علم بالسبب الموجب لدخول النار. وهذا وعيد شديد يوجب تحريم الفعل (حسنه الحافظ) ورواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان. ولفظه "ممن يُعلم أنه يتخذه خمرًا" وفي السنن وغيرها "لعن بائع الخمرة" ولعنت على عشرة وجوه.

وتحريم بيع العنب ممن يتخذه خمرًا مع القصد محرم إجماعًا. ويكره مع عدم القصد إذا شك في اتخاذه خمرًا وإلا جاز بلا كراهة. ويقاس على ذلك كل ما يستعان به في معصية لقوله

ص: 112

تعالى {وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وأما ما لا يفعل إلا في المعصية كالمزامير والطنابير ونحوها فلا يجوز بيعها ولا شراؤها إجماعًا. ولا يجوز بيع السلاح والكراع من الكفار والبغاة إذا كانوا يستعينون به على حرب المسلمين أو من قطاع الطريق. ولا بيع سلاح في فتنة. لنهيه صلى الله عليه وسلم عنه. ولا يجوز بيع مأكول ومشموم لمن يشرب عليها الخمر. ولا قدح لمن يشربه به. ولا جوز وبيض لقمار. ويحرم أكله ونحو ذلك.

قال الشيخ وغيره لا يصح ما قصد به الحرام. أو ظن في أحد القولين للنهي عن بيع القينات المغنِّيات. وقال ابن القيم القصود في العقود معتبرة تؤثر في صحة العقد وفساده. وفي حله وحرمته. فعصر العنب بنية أن يكون خمرًا معصية. وخلًا ودبسًا جائز. والسلاح يبيعه الرجل لمن يعرف أنه يقتل به مسلمًا حرام باطل. ولمن يعرف أنه يجاهد به في سبيل الله طاعة وقربة ا. هـ. ولا يصح بيع عبد مسلم لكافر إذا لم يعتق عليه. وإن أسلم في يده أجبر على إزالة ملكه عنه. لقوله تعالى:. {وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} .

(وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يبعْ الرجل على بيع أخيه) ولهما أيضاً "لا يبع بعضكم على بيع بعض" والبيع يشمل البيع والشراء ومعنى بيع الرجل على بيع أخيه أن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة أنا أعطيك مثلها بتسعة، وشرائه على شرائه أن يقول لمن باع سلعة بتسعة عندي فيها عشرة ليفسخ المقول

ص: 113

له العقد. ويعقد معه. ومحل ذلك إذا وقع في زمن الخيارين عند بعض أهل العلم. وقال الشيخ ولو بعده. لأنه ربما أشغله واحتج عليه بشيء.

وقال ابن رجب يحرم مطلقاً. وهو ظاهر النص. واتفق أهل العلم على كراهته. وأبطله مالك. وقال الحافظ لا خلاف في التحريم. قال الشيخ يحرم الشراء على شراء أخيه. وإذا فعل كان للمشتري الأول مطالبة البائع بالسلعة. وأخذ السلعة أو عوضها (ولا يسم) بضم السين وروي بإثبات الواو وإثبات الياء. في يبع ويسم (على سومه. متفق عليه) والمراد بعد الرضى صريحاً واستقرار الثمن. وركون أحدهما إلى الآخر. ويأخذه ليشتريه. فيقول للمستام رده لأبيعك خيراً منه بثمنه أو مثله بأرخص. أو يقول للمالك استرده لأشتريه منك بأكثر.

وإن كان تصريحاً فقال الحافظ لا خلاف في التحريم. والجمهور على أنه يصح البيع. واشترط الركون. لأنه لا بد من أمر بين لموضع التحريم في السوم. لأن السوم في السلعة التي تباع فيمن يزيد لا يحرم بالاتفاق لما في السنن "من يزيد على درهم" وفي الصحيحين في خبر المدبر "من يشتريه مني" عرضه للزيادة. ولا بعد رد لعدم المحذور. والإجارة ونحوها كالبيع لأنه ذريعة إلى التباغض والتعادي.

(وعن العالية) جدة إسرائيل وزوجة أبي إسحاق إحدى

ص: 114

التابعيات. سمعت من عائشة وغيرها. قال ابن القيم امرأة معروفة لا يعرف أحد قدح فيها (أن أم ولد زيد بن أرقم) الأنصاري (باعت غلامًا منه) أي من زيد بن أرقم (بثمانمائة إلى العطاء) وللدارقطني نسيئة (ثم اشترته) أي من زيد بن أرقم (بستمائة درهم) نقدًا وأخبرت عائشة بذلك (فقالت عائشة) –رضي الله عنها (بئسما شريت وبئسما اشتريت) أي ملكت بهذا البيع (رواه أحمد) وعمل به والدارقطني.

وقال ابن القيم محفوظ وآثار الصحابة موافقة له. مشتقة منه. مفسرة له. وتمامه "أخبريه أن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بطل. إلا أن يتوب" فدل على أنه لا يجوز لمن باع شيئًا بثمن نسيئة أن يشتريه من المشتري بدون ذلك الثمن نقدًا قبل قبض الثمن الأول. فإن كان المقصود التحيل لأخذ النقد في الحال ورد أكثر منه بعد أيام فلا ريب أن ذلك من الربا المحرم وهو صورة من صور العينة. ولذلك صرحت بأن هذا الفعل موجب لبطلان الجهاد لثبوت تحريم الربا الشامل لمثل هذه الصورة.

وقول عائشة –رضي الله عنها يدل على أنها قد علمت ذلك بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم إما على وجه العموم كالآيات والأحاديث القاضية بتحريم الربا الشامل لمثل هذه الصورة أو على الخصوص كأحاديث العينة. ولأبي داود وغيره عن ابن عمر مرفوعًا "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى

ص: 115

دينكم" قال الحافظ رجاله ثقات وقد ورد النهي عن العينة من طرق.

وهي بيع السلعة بثمن إلى أجل ثم اشتراؤها منه بأقل من ذلك سميت عينة لحصول النقد لصاحب العين لأن العين هو المال الحاضر. والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضرة تصل إليه من فوره ليصل به إلى مقصوده. ومذهب جمهور العلماء تحريمها واستدل ابن القيم وغيره أيضًا على عدم جواز العينة بقوله صلى الله عليه وسلم "يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع" قال وإن كان مرسلًا فله من المسندات ما يشهد له.

وهي الأحاديث الدالة على تحريم العينة. ولو لم يأت فيها أثر لكان محض القياس ومصالح العباد وحكمة الشريعة: تحريمها أعظم من تحريم الربا فإنها ربا مستحل بأدنى الحيل. فإنه من المعلوم أن العينة عند من يستعملها إنما يسميها بيعًا. وقد اتفقوا على تحريم الربا الصريح قبل العقد. ثم غير اسمها إلى المعاملة. وصورتها إلى التبايع الذي لا قصد لهما فيه البتة. وإنما هو حيلة ومكر وخديعة الله تعالى. فمن أسهل الحيل على من أراد فعله أن يعطيه مثلًا ألفًا إلا درهمًا باسم القرض. ويبيعه خرقة تساوي درهمًا بخمسمائة درهم.

وقوله صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات" أصل في إبطال الحيل وتحريم كل بيع بنقد دون ما باع به نسيئة. وقال ابن القيم إذا

ص: 116

كان الطريق إلى الحلال هي العقود المقصود المشروعة التي لا خداع فيها ولا تحريم. لم يصح أن يلحق بها صورة عقد لم تقصد حقيقته. وإنما قصد التوصل إلى استحلال ما حرمه الله. قال وجماع الأمر أنه إذا باعه ربويًا بثمن وهو يريد أن يشتري منه بثمنه من جنسه: فإما أن يواطئه على الشراء منه لفظًا. أو يكون العرف بينهما قد جرى بذلك. أو لا يكون. فإن كان الأول فباطل. فإن هذا لم يقصد ملك الثمن. ولا قصد هذا تمليكه. وإنما قصد تمليك المثمن بالثمن. وجعلا تسميته الثمن تلبيسًا وخداعًا. ووسيلة إلى الربا.

وإن لم تجرِ بينهما مواطأة. لكن قد علم المشتري أن البائع يرد أن يشتري منه ربويًا بربوي. فكذلك لأن علمه بذلك مواطأة. وهو يمنع قصد الثمن الذي يخرجان به من قصد الربا.

وإن قصد البائع الشراء منه بعد البيع ولم يعلم المشتري فكرهه أحمد وغيره. والمتقدمون حملوا المنع على التحريم.؟ قال الشيخ ما دام الثمن في ذمة المشتري لم يجز أن يشتري منه المبيع بأقل منه من جنسه. ولا يجوز أن يبتاع منه بالثمن ربويًا لا يباع بالأول نسأ. لأن أحكام العقد الأول لا تتم إلا بالتقابض. فإذا لم يحصل صار ذلك ذريعة إلى الربا. اهـ.

والآثار المتظاهرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم العينة وعلى الصحابة تدل على المنع من عود السلعة إلى البائع. وإن لم يتواطآ على الربا. سدًا للذريعة. وإن اشتراه بغير جنسه أو بعد

ص: 117

قبض ثمنه أو من غير مشتريه. أو اشتراه أبوه أو ابنه جاز إن لم يكن حيلة إلى التوصل إلى فعل مسألة العينة. وإن احتاج إلى نقد فاشترى ما يساوي مائة بأكثر قليلًا ليتوسع بثمنه فقيل لا بأس. وتسمى هذه الصورة مسألة التورق. قيل لأحمد إن ربح الرجل في العشرة خمسة يكره ذلك: قال إذا كان أجل إلى سنة أو أقل بقدر الربح فلا بأس به. وقال بيع النسيئة إن كان مقاربًا فلا بأس.

قال الشيخ وهذا يقتضي كراهة الربح الكثير الذي يزيد على قدر الأجل. لأنه نسيئة كبيع المضطر الذي لا يجد حاجته إلا عند شخص. وينبغي أن لا يربح عليه إلا كما يربح على غيره. وله أن يأخذ منه بالقيمة المعروفة من غير اختياره. قال ابن القيم عامة العينة إنما تقع من رجل مضطر إلى نفقة يضن بها عليه الموسر بالقرض. حتى يربح عليه في المائة ما أحب. وهذا المضطر إن أعاد السلعة إلى بائعها فهي العينة. وإن باعها لغيره فهو التورق. وإن رجعت إلى ثالث يدخل بينهما فهو محلل الربا.

والأقسام الثلاثة يعتمدها المرابون وأخفها التورق. وكان شيخنا يمنع منها وروجع فيها مرارًا فلم يرخص فيها. وقال المعنى الذي لأجله حُرم الربا موجود فيها بعينه. مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها.

(وفي حديث النعمان) ابن بشير رضي الله عنه (من اتقى الشبهات) جمع شبهة بالضم الالتباس ما يلتبس فيه الحق

ص: 118

بالباطل والحلال بالحرام (فقد استبرأ لدينه) أي طلب البراءة لدينه (وعرضه) وهو الخليقة المحمودة أي طلب ما يصونه، يقال هو نقي العرض أي بريء من أن يعاب (متفق عليه) ولفظهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الحلال بين" فما كان أصله الحل فتمسك به "والحرام بين" فما كان أصله الحرمة فتمسك بالأصل واجتنب المحرم. وهذا أصل كبير من أصول الأحكام "وبينهما أمور مشتبهات" أي تشتبه على بعض الناس دون بعض. ليس المراد أنها في ذاتها مشتبهة لا بيان لها في جملة أصول الشريعة. فإن الله لم يترك شيئًا إلا وقد جعل فيه بيانًا. ونصب عليه دليلًا. ولذا قال "لا يعلمهن كثير من الناس" فدل بفحواه أن بعض الناس يعرفها "فمن اتقى الشبهات" فلم يقدم إلا على بصيرة "استبرأ لدينه وعرضه. ومن وقع في الشبهات" اعتادها واستمر عليها أدته إلى أن "وقع في الحرام" تجاسر عليه فواقعه "كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه" فليتق الشبهات ليسلم من الوقوع في الحرام.

"ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد وإذا فسدت فسد سائر الجسد ألا وهي القلب" وفي لفظ "فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك. ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان" فقسم الأشياء إلى ثلاثة أقسام الأول الحلال البين الواضح. والثاني الحرام البين

ص: 119

الواضح. فلا يفارقهما المرء باعتراض الشك حتى يزيل عنه يقين العلم. والثالث المشتبه لخفائه فلا يدري أحلال هو أم حرام؟!. وما كان هذا سبيله ينبغي اجتنابه. لأنه إن كان في نفس الأمر حرامًا فقد برئ من التبعة. وإن كان حلالًا فقد استحق الأجر على الترك. لهذا القصد. لأن الأصل مختلف فيه حظرًا وإباحةً.

والمراد أن كل واحد من القسمين الأولين بين لا يحتاج إلى بيان. أو مما يشترك في معرفته كل أحد. وأما الثالث فأمور مشتبهة اشتبهت بغيرها. مما لم يتبين. وللترمذي "لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام" وقيل الشبهات هي ما تعارضت فيه الأدلة. أو ما اختلف فيه العلماء. وقيل قسم المكروه. وقيل المباح. وقال الحافظ لا يبعد أن يكون كل من الأوجه مرادًا. ورجح الأول. وقد يختلف باختلاف الناس.

فالعالم الفطن لا يخفى عليه تمييز الحكم. فلا يقع له ذلك إلا في الاستكثار من المباح. أو المكروه. ومن دونه تقع له الشبهة في جميع ما ذكر. بحسب اختلاف الأحوال.

ولا يخفى أن المستكثر من المكروه تصير فيه جرأة على ارتكاب المنهي في الجملة. أو يحمله اعتياده لارتكاب المنهي غير المحرم على ارتكاب المنهي المحرم أو يكون ذلك لسر فيه. وهو أن من تعاطى ما نهي عنه يصير مظلم القلب لفقدان الورع.

فيقع في الحرام. ولو لم يختر الوقوع فيه. وهذا الحديث من الأربعة التي تدور عليها الأحكام. ويؤيده حديث "لا يبلغ

ص: 120

العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به البأس" وحديث "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" وما شككت فيه فالورع اجتنابه. والشبهات تقع كثيرًا في المعاملات فعلى المرء اجتنابها. ويدخل في ذلك معاملة من كان في ماله شبهة أو خالطه ربا.

(وعن أنس) رضي الله عنه (قال غلا السعر) أي ارتفع على معتاده. والسعر القيمة أي ارتفع السعر في المدينة. وفي لفظ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (فقالوا يا رسول الله سعر لنا) أمر من التسعير. والتسعير أن يأمر ولي الأمر أو نوابه أو كل من ولي من أمور المسلمين أمر أهل السوق أن لا يبيعوا أمتعتهم إلا بسعر كذا. فيمنع من الزيادة عليه. أو النقصان لمصلحة (فقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله هو المسعر) أي: يفعل ذلك وحده بإرادته (القابض) الممسك رزقه (الباسط) الموسع على من يشاء قال تعالى: {يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} (الرزَّاق)(يبسط الرزق) ويقدره.

(وأرجو أن ألقى الله –عز وجل وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال" رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي) وابن حبان وأخرجه الدارمي والبزار وأبو يعلى وغيرهم. ولأحمد من حديث أبي هريرة جاء رجل فقال يا رسول الله سعر فقال "بل ادعو الله" ثم جاء آخر فقال يا رسول الله سعر فقال "بل الله يخفض ويرفع" ولهما شواهد حسنها الحافظ

ص: 121

وغيره دلت على تحريم التسعير. وأنه مظلمة، وإذا كان مظلمة فهو محرم.

ووجهه أن الناس مسلطون على أموالهم. والتسعير حجر عليهم. والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين. وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن. وإذا تقابل الأمران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم. وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى به مناف لقوله تعالى: {عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} وهو مذهب جمهور العلماء. ولا فرق بين حالة الغلاء والرخص ولا بين المجلوب وغيره. ومال إلى ذلك الجمهور. ولا بين القوت وغيره. وحكي تحريم التسعير في غير القوت اتفاقًا. وقال الوزير وغيره اتفقوا على كراهة التسعير.

وقال ابن القيم التسعير منه ما هو محرم. ومنه ما هو عدل جائز. فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق بشيء لا يرضونه. أو منعهم مما أباح الله لهم فهو حرام. وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل. ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل. فهو جائز. بل واجب. فالأول مثل ما روى أنس وذكر الحديث. ثم قال فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم وقد ارتفع السعر إما لقلة الشيء أو

ص: 122

لكثرة الخلق فهذا إلى الله. فإلزام الناس أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق.

والثاني مثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة. فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل. ولا معنى للتسعير إلا لإلزامهم بقيمة المثل. والتسعير ههنا إلزام بالعدل الذي ألزمهم الله به. قال ولا يجوز عند أحد من العلماء أن يقول لهم لا تبيعوا إلا بكذا ربحتم أو خسرتم من غير أن ينظر إلى ما يشترون به. قال ومنع الجمهور أن يحد لأهل السوق حدًا لا يتجاوزونه مع قيامهم بالواجب.

ومن الظلم أن يلزم الناس أن لا يبيعوا الطعام أو غيره من الأصناف إلا ناس معروفون. فلا تباع تلك السلع إلا لهم. ثم يبيعونها هم بما يريدون. فلو باع غيرهم عوقبوا. فهذا من البغي في الأرض والفساد. وهؤلاء يجب التسعير عليهم. وأن لا يبيعوا إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء.

والتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع. وحقيقته إلزامهم بالعدل. ومنعهم من الظلم قال الشيخ إذا امتنع الناس من بيع ما يجب عليهم بيعه فهنا يؤمرون بالواجب. ويعاقبون على تركه. وكذا كل من وجب عليه أن يبيع بثمن المثل فامتنع. قال ابن القيم وجماع الأمر أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير سعر عليهم تسعير عدل لا وكس ولا شطط. وإذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل.

ص: 123

(وعن معمر) ابن عبد الله ويقال معمر بن أبي معمر أسلم قديمًا وهاجر إلى الحبشة وتأخرت هجرته إلى المدينة. ثم هاجر إليها وسكنها رضي الله عنه (مرفوعًا) يعني إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا يحتكر إلا خاطئ رواه مسلم) ولأحمد من حديث معقل "من دخل في شيء من أسواق المسلمين ليغليه عليهم كان حقًا على الله أن يقعده بعظم من النار" وله من حديث أبي هريرة "من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين فهو خاطئ" ولان ماجه من حديث عمر "ضربه الله بالجذام".

جاء غير ذلك مما يدل على عدم جواز الاحتكار. وهو الشراء للتجارة وحبسه مع حاجة الناس إليه. ولا فرق بين القوت وغيره. والمحتكر هو الذي يتلقى القافلة فيشتري الطعام منهم يريد إغلاءه على الناس. وهو ظالم لعموم الناس. خاطئ والخاطئ المذنب العاصي. من خطئ إذا أثم في فعله.

والحكمة في تحريم الاحتكار دفع الضرر عن عامة الناس كما أجمع العلماء على أنه لو كان عند شخص طعام واضطر الناس إليه أجبر على بيعه. قال ابن القيم ولهذا كان لولي الأمر أن يكره المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند الضرورة إليه. مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه والناس في مخمصة أو سلاح لا يحتاج إليه والناس محتاجون إليه للجهاد أو غير ذلك.

وقال الشيخ وإذا اتفق أهل السوق على أن لا يتزايدوا في السلعة وهم محتاجون إليها ليبيعها صاحبها بدون قيمتها. فإن

ص: 124

ذلك فيه من غش الناس ما لا يخفى. وإن كان ثم من يزيد فلا بأس. وقال وإذا كان لا يبيع إلا هو بما يختار صار كأنه يكره الناس على الشراء منه فيأخذ منهم أكثر مما يجب عليهم. وقال ابن القيم وإذا احتاج الناس إلى صناعة طائفة كالفلاحة والنساجة والبنائين وغيرهم فلولي الأمر أن يلزمهم بذلك بأجرة مثلهم. قال والمقصود أن هذه الأعمال متى لم يقم بها إلا شخص صارت فرضًا معينًا عليه. فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صارت هذه الأعمال مستحقة عليهم. يجبرهم ولي الأمر عليها بعوض المثل. ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل. ولا يمكن الناس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقهم. وهذا من التسعير الواجب. فهذا تسعير في الأعمال.

وأما التسعير في الأموال فإذا احتاج الناس إلى سلاح للجهاد وآلاته فعلى أربابه أن يبيعوه بعوض المثل ولا يمكنوا من حبسه إلا بما يريدونه من الثمن. والله قد أوجب الجهاد بالنفس والمال. فكيف لا يجب على أرباب السلاح بذلة بقيمته وهذا إحدى الروايتين عن أحمد. وهو الصواب. قال ويكره أن يتمنى الغلاء. ولا يكره ادخار قوت أهله ودوابه. لفعله – صلى الله عليه وسلم. وينبغي الإشهاد على البيع إلا في قليل الخطر.

ص: 125