الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الرهن
أي هذا باب يذكر فيه الرهن وأحكامه وما يتعلق به. والرَهْن بفتح فسكون. وهو لغة الثبوت والدوام والاحتباس. وهو المراد هنا. من قولهم رهن الشيء إذا دام وثبت. ومنه {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة} وشرعًا توثقة دين بعين يمكن استيفاؤه منها. أو من ثمنها. ويطلق الرهن على العين المرهونة. تسمية للمفعول باسم المصدر. وهو جائز بالكتاب والسنة والإجماع.
(قال تعالى: {وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ}) أي فارتهنوا ممن تدينونه رهونًا مقبوضة لتكون وثيقة لكم بأموالكم. والرهان جمع رهن بمعنى مرهون. والمرهون كل عين معلومة جعلت وثيقة في حق. ولو رهن ولم يسلم فلا يجبر الراهن على التسليم. فإذا سلم لزم من جهة الراهن حتى لا يجوزَ له أن يسترجعه بلا إذن مرتهن ما دام شيء من الحق باقيًا. ولا ينفذ تصرف واحد منهما فيه بغير إذن الآخر بالجملة، وقال ابن رشد اتفقوا على أن القبض شرط في الرهن للآية. والجمهور أنه من شروط الصحة. وعلى أن من شرطه أن يكون إقراره في يد المرتهن من قبل الراهن. وكذا قال البغوي وغيره اتفقوا على أن الرهن لا يتم إلا بالقبض.
واتفقوا على جواز الرهن في الحضر. ومع وجود كاتب. فإن الكل خرج مخرج الأعم الأغلب لا على سبيل الشرط للخبر
الآتي وغيره اهـ. ولأنه عقد إرفاق يفتقر إلى القبول فافتقر إلى القبض. وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو الذي عليه أكثر أهل العلم. وإن أخرجه المرتهن إلى الراهن باختياره زال لزومه.
{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} أي فإن كان الذي عليه الحق أمينًا عند صاحب الحق ولم يرتهن منه شيئًا لحسن ظنه به فليؤد إليه حقه {وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ} في أداء الحق عند حلول الأجل من غير مماطلة ولا جحود. بل يعامله المعاملة الحسنة كما أحسن ظنه فيه.
وأجمعوا على جوازه في السفر. والجمهور على جوازه في الحضر. ومع وجود كاتب. وليس بواجب إجماعًا. لأنه وثيقة بالدين فلم يجب كالضمان. وإنما ندب إليه حفظًا للأموال وسلامة من التنازع. ويصح الرهن مع الحق عند الجمهور وبعده إجماعًا. لقوله {فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} بعد قوله {وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا} فجعله بدلًا من الكتابة فيكون في محلها. ومحلها بعد وجوب الحق.
ولا يصح بدون إيجاب وقبول أو ما يدل عليهما. وتعتبر معرفة قدره وجنسه وصفته. فلا يصح إلا فيما يصح بيعه في الجملة. وكون الراهن جائز التصرف مالكًا للمرهون أو مأذونًا له فيه. قال ابن رشد لا خلاف أنه لا بد أن يكون جائز التصرف. ومن صح أن يكون راهنًا صح أن يكون مرتهنًا.
ويعتبر أن يكون بدين ثابت أو مآله إلى الثبوت.
(وعن عائشة) رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهونة عند يهودي) هو أبو الشحم كما رواه البيهقي وغيره (بثلاثين صاعًا من شعير متفق عليه) وفي لفظ اشترى طعامًا من يهودي ورهنه درعًا من حديد. وللبخاري عن أنس رهن درعًا له عند يهودي بالمدينة وأخذ منه شعيرًا لأهله. والحديث دليل على مشروعية الرهن. ولا نزاع في جوازه. ودليل أيضًا على صحة الرهن في الحضر وهو قول الجمهور. فإن التقييد في الآية بالسفر خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له. ودل على جواز معاملة الكفار فيما لم يتحقق تحريم العين المتعامل فيها. وجواز رهن السلاح عند أهل الذمة لا أهل الحرب باتفاق أهل العلم. وجواز الشراء بالثمن المؤجل وتقدم.
(وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يغلق الرهن) بفتح الياء وسكون الغين أي لا يستحقه المرتهن إذا عجز صاحبه عن فكه. يقال غلق الرهن إذا خرج عن ملك الراهن واستولى عليه المرتهن بسبب عجزه عن أداء ما رهنه فيه. وكان هذا عادة العرب فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغلق الرهن "من صاحبه الذي رهنه". وأبطل فعل الجاهلية. ثم قال (له غنمه) أي زيادته (وعليه غرمه) هلاكه ونفقته (رواه الدارقطني) ورواه الحاكم وغيره. وقال الحافظ وغيره رجاله ثقات. فدل على أن نماء الرهن المتصل والمنفصل ملحق بالرهن فيكون رهنًا معه وهو
مذهب الجمهور. ودل على أن مؤونته على الراهن. وحكاه الوزير وغيره إجماعًا.
(ويأتي قوله) صلى الله عليه وسلم في باب العارية (على اليد ما أخذت) أسنده إلى اليد على المبالغة لأنها هي المتصرفة (حتى تؤديه أي ما أخذته اليد ضمان على صاحبها يلزم رده. والحديث دليل على وجوب رد ما قبضه المرء وهو ملك لغيره من مرهون أو غيره). ولا يبرأ إلا بمصيره إلى مالكه أو من يقوم مقامه. فإن تعدي المرتهن أو فرط في الرهن ضمنه بالإجماع حكاه الوزير وغيره. وإن تلف الرهن ونحوه في يد المرتهن أو غيره بغير تعدٍ ولا تفريط فلا ضمان عليه. لأنه أمانة في يده كالوديعة.
ولا يسقط بهلاكه شيء من دينه. وإن تلف بعضه فباقيه رهن بجميع الدين. وهذا مذهب الجمهور فإن الرهن يتعلق بجملة الحق المرهون فيه. وببعضه. فهو محبوس بحق فوجب أن يكون محبوسًا بكل جزء منه. وقال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه على أن من رهن شيئًا بمال فأدى بعضه وأراد إخراج بعض الرهن أن ذلك ليس له حتى يوفيه آخر حقه. أو يبرئه. وليس له تملكه. بل متى حل الدين لزم الراهن الإيفاء وإن امتنع فيإن كان أذن للمرتهن أو العدل في بيعه باعه ووفى الدين. وإلا أجبره الحاكم على وفائه أو بيع الرهن. فإن لم يفعل باعه الحاكم ووفى الدين. وقال ابن رشد حق المرتهن في الرهن أن يمسكه حتى يؤدي الراهن ما عليه. فإن لم يأت به عند الأجل فله أن
يرفعه إلى السلطان فيبيع عليه الرهن إن لم يجبه إلى البيع. أو كان غائبًا.
وأما بيعه للمرتهن بما عليه عند الحلول فقال ابن القيم يصح وهو رواية عن أحمد. وفعله. ولم يبطله كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح ولا مفسدة ظاهرة. وغايته أنه بيع علق على شرط. وقد تدعو الحاجة إليه. ولا يحرم عليهما ما لم يحرمه الله ورسوله. ولا ريب أن هذا خير للراهن والمرتهن من الرفع للحاكم اهـ. وإن رهن عند اثنين شيئًا فوفى أحدهما. أو أرهناه شيئًا فاستوفى من أحدهما انفك في نصيبه بقسطه. وإن اختلفا في قدر الدين فقول المرتهن ما لم يزد عن قيمة الرهن. قال ابن القيم وهو الراجح في الدليل.
(وللبخاري عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله على وسلم- قال الظهر) أي ظهر الدابة (يُركب بنفقته إذا كان مرهونًا) أي يستحق المرتهن الانتفاع بالرهن في مقابلة نفقته (ولبن الدَرّ) بفتح فشد أي لبن الدابة ذات الضرع (يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا) ويُركب ويُشرب بضم أوله على البناء للمجهول. وهو خبر بمعنى الأمر. وهذا الانتفاع في مقابلة النفقة. وذلك يختص بالمرتهن (وعلى الذي يركب ويشرب النفقة) وهذا أيضًا خبر في معنى الأمر. فدل الحديث
على أن للمرتهن أن يركب ما يركب وأن يحلب ما يحلب
من الرهن بقدر نفقته متحريًا في ذلك للعدل. لأن المراد
الانتفاع في مقابلة النفقة. وما فضل عن نفقته لربه.
وما عدا ذلك يكون رهنًا معه وإن فضل من النفقة شيء رجع به على الراهن.
وقال ابن القيم دل الحديث وقواعد الشريعة وأصولها على أن الحيوان المرهون محرم في نفسه لحق الله تعالى. وللمالك فيه حق الملك. وللمرتهن حق الوثيقة. فإذا كان بيده فلم يركبه ولم يحلبه ذهب نفعه باطلًا. فكان مقتضى العدل والقياس ومصلحة الراهن والمرتهن والحيوان أن يستوفي المرتهن منفعة الركوب والحلب. ويعوض عنهما بالنفقة. فإذا استوفى المرتهن منفعته وعوض منها نفقة كان في هذا جمع بين المصلحتين وبين الحقين. وقال الوزير أجمعوا على أنه إذا أنفق المرتهن على الراهن بإذن الحاكم أو غيره مع غيبة الراهن أو امتناعه كان دينًا للمنفق على الراهن.
قال الشيخ: فإن قال الراهن لم آذن لك في النفقة. قال هي واجبة عليك. وأنا أستحق أن أطالبك بها لحفظ المرهون. قال: ومحض العدل والقياس والمصلحة وموجب الكتاب والسنة ومذهب أهل المدينة وفقهاء الحديث وأهل السنة أن من أدى عن غيره فإنه يرجع ببدله. والصواب التسوية بين الإذن وعدمه. والمحققون من الأصحاب سووا بينهما. قال تعالى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ولم يشترط إذنًا ولا عقدًا.
* * *