الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في حجر السفه
أي في حكم الحجر على السفيه والصغير والمجنون لحظهم. وهذا هو القسم الثاني من أقسام الحجر. فيحجر على السفيه والصغير والمجنون وقد اتفق الأئمة على أن هذه الأسباب موجبة للحجر. إذ المصلحة تعود عليهم لحظهم. والحجر عليهم عام في ذممهم وأموالهم. ولا يحتاج لحاكم. ولا يصح تصرفهم قبل الإذن.
قال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ} جمع طفل والطفل الصبي. ويقع على الذكر والأنثى {مِنكُمُ الْحُلُمَ} أي الاحتلام. وهو أن يرى في منامه ما ينزل به الماء الدافق الذي يكون منه الولد واتفق الفقهاء على أن الاحتلام بلوغ. وقال ابن رشد أجمع العلماء على وجوب الحجر على الأيتام الذين لم يبلغوا الحلم. والجمهور وعلى الكبار إذا ظهر منهم التبذير لأموالهم.
وقال: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى} أي اختبروهم في عقولهم وأديانهم وحفظهم أموالهم {حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ} أي بلغ اليتامى من الرجال والنساء النكاح. وهو الاحتلام المذكور في الآية قبلها وغيره مما سيأتي {فَإِنْ آنَسْتُم} أي رأيتم {مِّنْهُمْ رُشْدًا} عقلًا وصلاحًا في الدين وحفظًا للمال. وعلمًا بما يصلحه. فعلق تعالى زوال الحجر عن الصغير ودفع المال إليه باثنين: بالبلوغ والرشد. والبلوغ إما بالسن وهو اكتمال خمس عشرة سنة. أو بالاحتلام أو الإنبات. وتزيد الجارية بالحيض.
وأما الرشد فهو أن يكون مصلحًا في دينه وماله. وهو أن لا يكون مبذرًا. أولا يحسن التصرف. وهذا مذهب جمهور العلماء. وحكي الاتفاق على أن الغلام إذا بلغ غير رشيد لم يسلم إليه ماله. وإذا طرأ عليه السفه بعد الرشد يحجر عليه عند الجمهور مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. وقالوا يبتدأ بالحجر عليه ولو بعد البلوغ والرشد. قال تعالى: {فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} قال الفقهاء وغيرهم إذا بلغ الغلام مصلحًا لدينه وماله إنفك الحجر عنه. فيسلم له ماله الذي تحت يد وليه. لكن بهذين الشرطين. بلوغ الحلم وإيناس الرشد.
ثم قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوهَا} معشر الأولياء، {إِسْرَافًا} بغير حق {وَبِدَارًا} أي مبادرة {أَن يَكْبَرُواْ} أي لا تبادروا كبرهم ورشدهم حذرًا أن يبلغوا فيلزمكم تسليمها إليهم. ثم قال تعالى:{وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} عنه ولا يأكل منه شيئًا. والعفة الامتناع عما لا يحل {وَمَن كَانَ فَقِيرًا} محتاجًا إلى مال اليتيم وهو يحفظه ويتعهده {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} ويأتي حديث عمرو بن شعيب أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم فقال "كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل" قال الشيخ وغيره لوصي اليتيم أقل الأمرين من أجرة مثله أو كفايته اهـ.
ولا يلزمه عوضه إذا أيسر. لأنه عوض عن عمله فهو فيه كالأجير والمضارب {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} بعد بلوغهم
الحلم وإيناس الرشد منهم {فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ} لئلا يقع من بعضهم جحود وإنكار لما قبضه وهذا عند الجمهور أمر إرشاد. لتزول التهمة وتنقطع الخصومة. قال الشيخ وإن نوزع في الرشد فشهد به شاهدان قبلا. لأنه قد يعلم بالاستفاضة. ومع عدم البينة له اليمين على وليه أنه لا يعلم رشده {وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا} محاسبًا ومجازيًا وشاهدًا ورقيبًا على الأولياء. ويقبل قول الولي والحاكم بعد فك الحجر في النفقة والضرورة والغبطة والتلف ورد المال لأنه أمين.
(وقال: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} أي قيمه {بِالْعَدْلِ} أي بالصدق والحق. وفي الاختيارات الولاية على الصبي والمجنون والسفيه تكون لسائر الأقارب. ومع الاستقامة لا يحتاج إلا الحاكم إلا إذا امتنع من طاعة الولي. وتكون الولاية لغير الأب والجد والحاكم على اليتيم وغيره. وهو مذهب أبو حنيفة ومنصوص أحمد في الأم. وأما تخصيص الولاية بالأب والجد والحاكم فضعيف جدًا، والحاكم العاجز كالعدم.
(وقال: {وَلَا تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ} قيل النساء وقيل الأولاد. والمراد كل من ليس له عقل يفي بحفظ المال. ويدخل فيه النساء والصبيان والأيتام. وكل من كان موصوفًا بهذه الصفات. والسفه خفة العقل. ولذلك سمي الفاسق سفيهًا. لأنه لا وزن له عند أهل الدين والعلم. ويسمى الناقص العقل سفيهًا لخفة عقله. قال ابن كثير ينهى سبحانه عن تمكين
السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها الله للناس قيامًا. تقوم بها معائشهم من التجارات وغيرها.
ومن ههنا يؤخذ الحجر على السفهاء وهم أقسام. فتارة يكون الحجر للصغر. فإن الصغير مسلوب العبارة. وتارة يكون الحجر للجنون. وتارة لسوء التصرف لنقص العقل أو البدن. وتارة للفلس. ومن أعطاهم ماله ببيع أو قرض ونحوه رجع بعينه إن بقي وإن تلف لم يصمنوه وإن أتلف فقال ابن القيم يضمن الصبي والمجنون والنائم ما أتلفوه من الأموال. وهذا من الشرائع العامة التي لا تتم مصالح الأمة إلا بها. فلو لم يضمنوا جنايات أيديهم لأتلف بعضهم أموال بعض، وادعى الخطأ وعدم القصد.
(وقال {وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ} فضلًا عن أن تتصرفوا فيه {إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} من حفظه وتثميره والتصرف فيه بالغبطة قال الشيخ ولا يجوز أن يولى على مال اليتيم إلا من كان قويًا خبيرًا بما ولي عليه. أمينًا عليه. والواجب إذا لم يكن الولي بهذه الصفة أن يستبدل به. ولا يستحق الأجرة المسماة. لكن إذا عمل لليتامى استحق أجرة المثل. كالعمل في سائر العقود الفاسدة اهـ. والسفيه والمجنون في معنى اليتيم. وقال الشيخ وغيره يتصرف ولي المحجور عليه في ماله استحبابًا لقول عمر وغيره اتجروا بأموال اليتامى كيلا تأكلها الصدقة. ولوليه دفع ماله مضاربة بجزء من الربح لفعل عائشة وغيرها.
(وقال: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} الآية) أي وإن خلطتم طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم فلا بأس عليكم. وتمامها {وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} أي يعلم من قصده ونيته الإفساد أو الإصلاح {وَلَوْ شَاء اللهُ لأعْنَتَكُمْ} أي لضيق عليكم. وما أباح لكم مخالطتهم {إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيم} فيما صنع من تدبيره. أباح لكم مشاركتهم في أموالهم وخلطها بأموالكم في نفقاتكم. فتصيبوا من أموالهم عوضًا من قيامكم بأمورهم. أو تكافئوهم على ما تصيبون من أموالهم.
(وقال: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تُقْسِطُواْ} أي تعدلوا {فِي الْيَتَامَى} الآية) أي إذا كانت تحت يد أحدكم يتيمه وخاف أن لا يعطيها مهر مثلها فليعدل إلى ما سواها من النساء. قالت عائشة هي اليتيمه تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن يتزوجها بأدنى من سنة نسائها فنهوا عن ذلك. إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق.
(وفي حديث علي) عند أحمد وغيره (رفع القلم عن ثلاثة) وهو لأحمد أيضًا عن عائشة وأبي داود وابن ماجه (وفيه والصغير حتى يبلغ) ولابن ماجه أيضًا عن علي والنسائي وعطاء بن السائب عن أبي ظبيان عنه. وللطبراني عن غير واحد و (صححه الترمذي) لمجيئه من غير وجه. وإن كان فيها مقال فيعضد بعضها بعضًا. وتدل على عدم تكليف الصبي.
وفيه "والنائم حتى يستيقظ والمجنون حتى يفيق" ولا قصد لهما ما
داما متصفين بتلك الصفات.
(وعنه) أي عن علي رضي الله عنه (مرفوعًا) أنه قال صلى الله عليه وسلم (لا يتم) اليتم الانفراد. وهو فقد الصبي أباه قبل البلوغ (بعد احتلام) فإذا احتلم زال عنه اسم اليتم حقيقة وبلغ الحلم (رواه أبو داود) وفي حديث عطية "فمن كان محتلمًا" ولا نزاع على أن الاحتلام مع الإنزال من علامات البلوغ.
(وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (قال عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد) الغزوة المشهورة سنة ثلاث في شوال (وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني) أي لم يأذن لي بالخروج للقتال. وفي رواية فلم يجزني ولم يرني بلغت (وعرضت عليه يوم الخندق) وهي غزوة الأحزاب في شوال سنة خمس من الهجرة (وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني) أي أمضاني أخرج للقتال. وفي رواية فأجازني ورآني بلغت (متفق عليه) فدل الحديث وما في معناه على أن بلوغ خمس عشرة سنة من الولادة يكون بلوغًا. ويزول عنه الحجر. وهو قول الجمهور.
(وعن عطية) القرظي رضي الله عنه قال (عرضت) على النبي صلى الله عليه وسلم (يوم قريظة) سنة خمس من الهجرة. وذلك أن سعد بن معاذ لما حكم بقتلهم وسبي ذراريهم. وأنكر بعضهم البلوغ فرارًا من القتل. أمر صلى الله عليه وسلم أن يكشف عن مؤتزرهم. فمن أنبت فهو من المقاتلة فيقتل. ومن لم ينبت فهو من الذرية
يسترق قال عطية (فكان من أنبت قتل) أي من أنبت الشعر الأسود الخشن المتجعد في العانة قتل (ومن لم ينبت خلي سبيله) قال فكنت ممن لم ينبت فخلي سبيلي. رواه الخمسة وغيرهم و (صححه الترمذي) فدل الحديث على أن الإنبات من علامات البلوغ.
(وتقدم) في حكم ستر العورة (حديث: لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) وحيث علق الشارع قبول صلاة الحائض بالحيض دل على اعتباره. وأنه علم على البلوغ في حقها. وقال الموفق وغيره لا نعلم فيه خلافًا. فمتى تم لصغير خمس عشرة سنة. أو نبت حول قبله شعر خشن. أو أنزل أو عقل مجنون ورشد أو رشد سفيه زال حجرهم بلا خلاف ولا ينفك حجر أحدهم قبل شروطه بحال ولو كان شيخًا كبيرًا وهو قول جمهور العلماء للآيات والأخبار ولا يدفع إليه ماله حتى يختبر قبل بلوغه ليعلم رشده. ويختص الاختبار بالمراهق الذي يعرف المعاملة والمصلحة.
(وعن عروة) بن الزبير بن العوام أحد الفقهاء السبعة وعلماء التابعين ثقة ثبت مات سنة اثنتين أو ثلاث وتسعين (قال ابتاع عبد الله بن جعفر) بن أبي طالب بن عبد المطلب ولد بالحبشة. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وتوفي وله عشر سنين وتوفي عبد الله سنة ثمانين. قال عروة ابتاع (بيعًا فقال علي لآتين عثمان) أي قال علي بن أبي طالب لآتين عثمان بن عفان
-رضي الله عنهما فيما صنعت (فلاحجرن عليك) أي أمنعك من هذا التصرف فأرد المبيع (فاعلم) عبد الله (بن جعفر الزبير) بن العوام رضي الله عنه (فقال أنا شريكك) أي فيما ابتعت ليتم البيع ويقوى ساعد عبد الله بشركة الزبير له) (فقال عثمان: احجر على رجل شريكه الزبير) وهو بالمكانة المرموقة (رواه الشافعي) ورواه البيهقي وأبو عبيد. ولفظه قال عثمان لعلي ألا تأخذ على يد ابن أخيك وتحجر عليه. اشترى سبخة بستين ألف درهم ما يسرني أنها لي ببغلي.
وللبيهقي قال الزبير أتحجران على رجل أنا شريكه فقالا لا. وذكر غيرها عن السلف. فدلت هذه القصة ونحوها على جواز الحجر على من كان سيء التصرف. وهو مذهب الجمهور وتقدم {وَلَا تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ} فالسفهاء هم المبذرون أموالهم. ورد عليه الصلاة والسلام صدقة الذي تصدق بأحد ثوبيه. والبيضة. والمعتق عبدًا له عن دبر لا مال له غيره. وذلك أن الأموال للانتفاع بها بلا تبذير. واستفاض النهي عن إضاعة المال.
(وقال صلى الله عليه وسلم للنساء تصدقن) وذلك أنه صلى الله عليه وسلم خطب الناس ووعظهم. ثم أتى النساء فوعظهن وحثهن على الصدقة. ومعه بلال رضي الله عنه (فجعلت المرأة تلقي) أي تضع في ثوب بلال (القرط) نوع من حلي الأذن (والخاتم) حلي للأصبع معروف؛ ولمسلم الفتخ والخواتم وفي رواية الخاتم
والخرص والشيء فدل الحديث على جواز تصرف المرأة في مالها من غير توقف على إذن زوجها أو على مقدار معين من مالها لعدم استفصال الشارع وهو مذهب جماهير العلماء قال البيهقي يدل عليه الكتاب والسنة والآثار والعقل.
(وعن عمرو بن شعيب) عن أبيه عن جده رضي الله عنه (مرفوعًا) إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (كل من مال يتيمك) وذلك أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني فقير ليس لي شيء. ولي يتيم. وهو من مات أبوه ولم يبلغ. فقال "كل من مال يتيمك" وارشده صلى الله عليه وسلم إلى الأكل بالمعروف فقال (غير مسرف) أي مجاوز الحد في الأكل منه (ولا مبذر) مفرق له في كل وجه. ويفسر أحدهما بالآخر وهذا كقوله: {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ} (ولا متأثل) أي مدخر من مال اليتيم لنفسه ما يزيد على قدر ما يأكله. والتأثل اتخاذ أصل المال حتى كأنه عنده قديم (رواه الخمسة) وغيرهم (إلا الترمذي) وقال الحافظ إسناده قوي.
وولي اليتيم وكذا المجنون والسفيه حال الحجر الأب. لكمال شفقته. ثم وصيه. ثم الحاكم. وتكون لغيرهم. كما قال الشيخ. وتقدم قوله لا يجوز أن يولى على مال اليتيم إلا من كان قويًا خبيرًا بما ولي عليه. أمينًا عليه. والواجب أنه إذا لم يكن بهذه الصفة أن يستبدل به. ودل الحديث على أن للولي الفقير الأكل من مال موليه بالمعروف وهو الأقل من كفايته. أو