المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بأس أن يتخارج (الشريكان) فيقتسمان يأخذ هذا عينًا وهذا دينًا - الإحكام شرح أصول الأحكام لابن قاسم - جـ ٣

[عبد الرحمن بن قاسم]

فهرس الكتاب

- ‌كتابُ الجهَاد

- ‌فصل في وجوب الطاعة

- ‌فصل في الغنيمة

- ‌فصل في الفيء

- ‌باب الأمان

- ‌باب عقد الذمة

- ‌كتابُ البَيع

- ‌فصل فيما نهي عنه

- ‌باب الشروط في البيع

- ‌باب الخيار

- ‌باب الربا

- ‌باب بيع الأصول والثمار

- ‌باب السلم

- ‌باب القرض

- ‌باب الرهن

- ‌باب الضمان

- ‌فصل في الكفالة

- ‌باب الحوالة

- ‌باب الصلح

- ‌فصل في حجر السفه

- ‌باب الوكالة

- ‌باب الشركة

- ‌فصل في المضاربة

- ‌باب المساقاة

- ‌باب الإجارة

- ‌باب السبق

- ‌باب العارية

- ‌باب الشفعة

- ‌باب الوديعة

- ‌باب إحياء الموات

- ‌باب الجعالة

- ‌باب اللُقَطة

- ‌باب اللقيط

- ‌باب الوقف

- ‌فصل في شرط الواقفوإبدال الوقف لحاجة وغير ذلك

- ‌باب الهبة

- ‌فصل في العطية

- ‌باب الوصايا

- ‌فصل في الموصى له وإليه

- ‌كتاب الفرائض

- ‌باب الفروض

- ‌باب التعصيب

- ‌باب ميراث ذوي الأرحام

- ‌باب ميراث الحمل والمفقود والخنثى والغرقي

- ‌باب ميراث أهل الملل

- ‌باب ميراث المطلقة والمقربة

- ‌باب ميراث القاتل والمبعض والولاء

- ‌باب العتق

- ‌باب الكتابة

- ‌كتاب النكاح

- ‌فصل في أركانه

- ‌فصل في اشتراط الرضى

- ‌فصل في الولي

- ‌فصل في الشهادة

- ‌فصل في الكفاءة

- ‌باب المحرمات في النكاح

الفصل: بأس أن يتخارج (الشريكان) فيقتسمان يأخذ هذا عينًا وهذا دينًا

بأس أن يتخارج (الشريكان) فيقتسمان يأخذ هذا عينًا وهذا دينًا (وأهل الميراث) أي ويتخارج أهل الميراث يعني يصطلحان (فيأخذ هذا عينًا) أي مالًا حاضرًا (وهذا دينًا) نقدًا أو غيره. سميت مخارجة لأن الشريك يعطي شريكه ما يصالح عليه ويخرج نفسه من الشركة أو الميراث (فإن توى لأحدهما) أي هلك له عين أو دين مما اقتسماه أو اصطلحا عليه (لم يرجع على صاحبه) أي لم يرجع من هلك له شيء على من لم يهلك له لاقتسامهم أو اصطلاحهم. فدل على أن المحتال إذا رضي بحوالة فهلك له شيء لم يرجع على المحيل.

* * *

‌باب الصلح

أي هذا باب يذكر فيه الصلح وأحكام الجواز وما يتعلق بها. والصلح اسم مصدر صالحه مصالحة وصِلاحًا بالكسر.

وهو لغة قطع المنازعة. وشرعًا معاقدة يتوصل بها إلى إصلاح بين متخاصمين. وهو خمسة أنواع بين المسلمين وأهل الحرب وبين أهل عدل وبغي. وبين زوجين خيف شقاقهما. أو خافت إعراضه. وبين متخاصمين في غير مال. والخامس الصلح لقطع الخصومة إذا وقعت المزاحمة في الأموال. وهو الذي يذكره الفقهاء هنا في باب الصلح. وهو قسمان: صلح على إقرار. أو على إنكار. والحقوق نوعان: حق لله وحق

ص: 210

للآدمي. وحق الله لا مدخل للصلح فيه. كالحدود والصلاة والزكاة. وإنما الصلح بين العبد وربه في إقامتها لا في إهمالها. ولهذا لا يقبل في الحدود. وإذا بلغت السلطان فلعن الله الشافع والمشفع. وأما حقوق الآدميين فهي التي تقبل الصلح والإسقاط والمعاوضة عليها. والصلح ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.

(قال تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}) أول الآية ({وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}) أمر تعالى بالإصلاح بين الفئتين الباغيتين بعضهم على بعض. حتى أمر بقتال الباغية {حَتَّى تَفِيءَ} أي ترجع {إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} أي إلى الحق {فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} بحملهما على الإنصاف والرضى بحكم الله. ثم قال {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} فلا تعصوه {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون} .

وقال: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} وقال {وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} وقال: {لَاّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} ثوابًا جزيلًا. وللترمذي وغيره وصححه "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قلنا بلى! قال "إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة" وقال لأبي أيوب "ألا أدلك على تجارة"؟ قال بلى. قال "تسعى في إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا" والأخبار في ذلك كثيرة.

ص: 211

(وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الصلح جائز" ليس بحكم لازم يقضي به. إن لم يرض به الخصم (بين المسلمين) شمل كل صلح قبل اتضاح حق وبعده. وتخصيصه المسلمين خرج مخرج الغالب. لأن الصلح جائز بين الكافر والمسلم وبين الكفار (إلا صلحًا حرم حلالاً) بأن يشترط شرطًا مفسدًا للصلح فيحرم عليه ما يحل له بالصلح. كمصالحة إحدى الزوجات لزوجها أن لا يبيت عند ضرتها. أو أن لا يطأها ونحو ذلك.

(أو) إلا صلحًا (أحل حرامًا) كأن يصالحه على نصرة ظالم أو باغ. أو على حل مال لا يحل له إلا بالصلح ونحو ذلك لم يصح الصلح. وقال ابن القيم كالصلح الذي يتضمن تحريم بضع حلال. أو إحلال بضع حرام. أو إرقاق حر. أو نقل نسب. أو ولاء عن محل إلى محل. أو أكل ربا أو إسقاط واجب. أو تعطيل حد. أو ظلم ثالث وما أشبه ذلك. فكل هذا صلح جائر مردود.

فالصلح الجائز بين المسلمين هو الذي يعتمد فيه رضي

الله ورضي الخصمين. فهذا أعدل الصلح وأحقه. رواه

أبو داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم وغيرهم. و (صححه الترمذي) ونوقش على تصحيحه. لأن في سنده كثير بن

عبد الله. واعتذر له الحافظ وغيره بأنه اعتبر بكثرة

ص: 212

طرقه. فرواه أبو داود من طريق كثير بن زيد عن الوليد بن رباح. وقال الحاكم على شرطهما. وصححه ابن حبان وحسنه الترمذي. وأخرجه الحاكم من حديث أنس وعائشة. وأحمد من حديث سليمان بن بلال. وكتب به عمر إلى أبي موسى. ولا ريب أن الطرق الكثيرة من جهات متفاوتة يشد بعضها بعضًا. فتصلح للاحتجاج بها.

أما الصلح على الإقرار فجوازه ظاهر النصوص. وأما الصلح على الإنكار ففيه تفصيل. فإن كان المدعي يعلم أن له حقًا عند خصمه جاز له قبض ما صوالح عليه. وإن كان خصمه منكرًا. وإن كان يدعي باطلًا فإنه يحرم عليه الدعوى. وأخذ ما صولح به. والمدعى عليه إن كان عنده حق يعلمه وإنما ينكر لغرض وجب عليه تسليم ما صولح به عليه. واتفقوا على أنه لا يحل أن يصالحه على بعض حقه. وهو يعلمه. وإن كان يعلم أن له عنده حقًا جاز له إعطاء جزء من ماله في دفع شجار غريم وأذيته. وحرم على المدعي أخذه. وبهذا تجتمع الأدلة.

قال ابن القيم قول من منع الصلح على الإنكار أنه يتضمن المعاوضة عما لا تصح المعاوضة عليه. وهو إنما افتدى نفسه من الدعوى واليمن. وتكليف إقامة البينة. وليس هذا مخالفًا لقواعد الشرع. بل حكمة الشرع وأصوله وقواعده ومصالح المكلفين تقتضي ذلك.

ص: 213

(ولأبي داود) وغيره (عن أم سلمة) رضي الله عنها (مرفوعًا قال اذهبا) وذلك أنه جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست. ليس بينهما بينة فقال "إنكم تختصمون إليَّ وإنما أنا بشر ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض. وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع. فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه. فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها اسطامًا في عنقه يوم القيامة" فبكى الرجلان. وقال كل واحد منهما حقي لأخي. فقال "أما إذا قلتما فاذهبا"(فاقتسما) يعني تلك المواريث التي كانت بينهما. وقد درست (ثم توَخَيا) بفتح الواو والخاء أي اقصدا (الحق) فيما تصنعان من القسمة.

(ثم استهما) أي ليأخذ كل واحد منكما ما تخرجه القرعة من القسمة. ليتميز سهم كل واحد منكما عن الآخر (ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه) أي ليسأل كل واحد منكما صاحبه أن يجعله في حل من قِبَله بإبراء ذمته. فدل على صحة الصلح بمعلوم عن مجهول. ولكن لا بد مع ذلك من التحليل. ودل على صحة التحليل من المعين المعلوم. وهو إجماع. وأن من حلل خصمه من مظلمة لا رجوع له في ذلك. أما المعلوم فلا نزاع فيه. وأما المجهول الذي يتعذر علمه من دين أو عين بمعلوم فيصح لهذا الخبر وغيره. ولئلا يفضي إلى ضياع المال. أو بقاء شغل الذمة. وإن لم يتعذر علمه فكبراءة من مجهول.

ص: 214

فيصح على المشهور قطعًا للنزاع. وما لا يتعذر علمه كشركة باقية صالح الورثة الزوجة عن حصتها منها. فقال شريح هذا هو الريبة ولأن الصلح إنما جاز مع الجهالة للحاجة إليه لإبراء الذمم. وإزالة الخصام. فمع إمكان العلم لا حاجة إليه.

(وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم غرماء عبد الله) وذلك أنه قتل يوم أحد شهيدًا وعليه دين. فاشتد الغرماء في حقوقهم. فجاء ابنه جابر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشفع له إليهم (أن يقبلوا ثمر حائطه) عن الدين الذي لهم عليه (ويحللوه رواه البخاري) ثم قال لجابر "جد لهم فأوف الذي لهم" وفي لفظ "فطاف في النخل ودعا في ثمرها بالبركة" فجددتها فقضيتهم. وبقي لنا من ثمرها. وفي لفظ سبعة عشر وسقًا. فدل الحديث على جواز المصالحة بالبعض. لأن الإنسان لا يمنع من إسقاط بعض حقه.

ويصح ولو بمجهول عن معلوم. لأنه يغتفر في القضاء من المعاوضة ما لا يغتفر ابتداء. وقال ابن القيم يصح الإسقاط والتأجيل وهو الصواب. بناء على تأجيل القرض والعارية. وهو مذهب أهل المدينة. واختاره شيخنا. وقال وإن صالحه ببعضه حالًا مع الإقرار والإنكار جاز. وهو قول ابن عباس. وإحدى الروايتين عن أحمد. واختاره شيخنا. فإن هذا عكس الربا. فإن الربا يتضمن الزيادة في أحد العوضين في مقابلة الأجل. وهذا يتضمن براءة ذمته من بعض العوض في مقابلة سقوط الأجل. فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل.

ص: 215

فانتفع به كل واحد منهما. ولم يكن هنا ربا لا حقيقة ولا لغة ولا عرفًا. والذين حرموا ذلك إنما قاسوه على الربا. ولا يخفي الفرق الواضح بينهما اهـ.

وقول بعضهم إن لم يكن بلفظ الصلح. فالصلح معناه قطع المنازعة. فإن أوفاه من جنس حقه فوفاء. أو من غير جنسه فمعاوضة. أو إبراء من بعضه فإسقاط. أو وهبه له فهبة. فالخلاف في التسمية. والمعنى متفق. ولم يخرج بذلك عن كونه صلحًا. وهذا الحديث وحديث أم سلمة مخصص للعمومات المتقدمة القاضية بوجوب معرفة مقدار كل واحد من البدلين المتساويين جنسًا وقدرًا. فيجوز القضاء مع الجهالة إذا وقع الرضا والتحليل.

(ولهما عن عبد الله بن كعب) ابن مالك الأنصاري السلمي المدني وكان قائد أبيه حين عمي ومات سنة سبع وتسعين (أن أباه) كعب بن مالك رضي الله عنه (تقاضى ابن أبي حدرد) الأسلمي رضي الله عنهما (دينًا) كان له أي لكعب على ابن أبي حدرد. فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهما ونادى كعبًا (فأشار إليه) يعني النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة (أن ضع الشطر) من دينك" قال كعب قد فعلت يا رسول الله. قال "قم فاقضه" ولأن الإنسان لا يمنع من إسقاط حقه. كما لا يمنع من استيفائه بلا نزاع.

ويحتمل أن يكون نزاعهما في مقدار الدين. فيكون الصلح

ص: 216

عن إنكار. ويحتمل أن يكون في التقاضي. والأمر على جهة الوجوب. ومحل صحة الإسقاط ونحوه. أن لا يمنع من عليه الحق ربه بدون الإسقاط ونحوه. لأن منعه أكل المال الغير بالباطل. إلا إن أنكر من عليه الحق ولا بينة فإنه يصح الصلح مما ذكر ونحوه. ومتى اصطلحا ثم بعد ذلك ظهرت بينة فاختار الشيخ نقض الصلح. لأنه إنما صالح مكرهًا في الحقيقة. إذ لو علم البينة لم يسمح بشيء من حقه.

(ومن حديث عمرو بن شعيب) عن أبيه عن جده رضي الله عنه (في قتل العمد) وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من قتل متعمدًا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا أخذوا الدية وذلك عقل العمد" ولقصة ربيع في الصحيحين وغيرهما (وما صولحوا عليه) أي زائدًا عن دية العمل. وهي كما في الحديث (ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة) ثم قال: (وذلك عقل العمل) يعني الذي قدره الشارع. وما صولحوا عليه من الزيادة (فهو لهم) وذلك لتشديد العقل. والحديث رواه أحمد وابن ماجه وغيرهما من طرق يشد بعضها بعضًا. و (حسنه الترمذي) والحديث دليل على جواز الصلح في الدماء بأكثر من الدية. وفي الاختيارات ويصح عن دية الخطأ. وعن قيمة المتلف غير المثلي بأكثر منها من جنسها.

(وعن أبي حميد الساعدي مرفوعًا) أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب

ص: 217

نفس منه) أي سماحه بها (رواه الحاكم) في صحيحه وابن حبان وغيرهما. وفي معناه أحاديث كثيرة: منها ما في الصحيحين "لا يحلبن أحد ماشية أحد بغير إذنه" ولأبي داود وغيره "لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لا لاعبًا ولا جادًا" وهذه الأحاديث وما في معناها دالة على تحريم مال المسلم إلا بطيبة من نفسه. وإن قل. وتقدم "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام" وهو شامل.

(وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من كانت عنده مظلمة) أي من كانت عليه مظلمة (لأخيه من عرض) العرض موضع المدح والذم سواء كان في النفس أو السلف. أو من يلزمه أمره (أو شيء) هو من عطف العام على الخاص.

فيدخل فيه المال بأصنافه. والجراحات حتى اللطمة ونحوها (فليتحلله) أي ليسأله أن يجعله في حل (منه اليوم) أي في دار الدنيا. وفيها دينار ودرهم (قبل أن لا يكون دينار ولا درهم) أي يوم القيامة (إن كان له عمل صالح) عمله في دار الدنيا وقت العمل (أخذ منه بقدر مظلمته) أي أخذ من عمله الصالح في الآخرة.

(وإن لم تكن له حسنات) يؤخذ منها يوم القيامة بقدر مظلمة الظالم للمظلوم (أخذ من سيئات صاحبه) أي صاحب المظلمة (فحمل عليه) أي على الظالم. وفي رواية لمالك "فطرحت عليه (رواه البخاري)، ولمسلم "المفلس من

ص: 218

أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وقد شتم هذا وسفك دم هذا وأكل مال هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه وطرح في النار" وإذا حلله في حياته من ظلمه فلا رجوع فيه فيما مضى بالاتفاق. وفيما سيأتي فيه خلاف.

فصل في الجوار

وأحكامه وما يتعلق به وما يصح فيه من الصلح والجوار مصدر جاوره قرب من مسكنه.

(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يمنع) بالجزم وفي لفظ لا يمنعن (جار جاره أن يغرز خشبه) بصيغة الجمع. وللبيهقي عن ابن عباس: أن يدعم جذوعه (في جداره) أي جدار جاره المالك للجدار. ثم يقول أبو هريرة وذلك أيام إمارته على المدينة زمن مروان مالي أراكم عنها معرضين. والله لأرمين بها بين أكتافكم (متفق عليه) أراد بذلك المبالغة. والأحاديث تدل على أنه لا يحل للجار أن يمنع جاره من غرز الخشب في جدار جاره. ويجبره الحاكم إذا امتنع. لأنه حق ثابت لجاره. وهو مذهب أحمد وأهل الحديث وغيرهم. قال البيهقي لم نجد في السنة الصحيحة ما يعارض هذا الحكم. إلا عمومات لا يستنكر أن يخصها.

ص: 219

وقضى به عمر رضي الله عنه في زمن وفور الصحابة.

وقال الشافعي لم يخالفه أحد من الصحابة. وإطلاق الأحاديث قاض بعدم اعتبار تضرر المالك. إلا أنه يجب على من يريد الغرز أن يتوق الضرر مهما أمكن. فإن لم يمكن إلا بإضرار وجب على الغارز إصلاحه. وذلك ما يقع عند فتح الجدار لغرز الخشب. وأما اعتبار حاجة الغارز إلى الغرز فأمر لا بد منه. وإن صالح عن شيء من ذلك بعوض معلوم صح.

(ولابن ماجه عن ابن عباس مرفوعًا لا ضرر ولا ضرار) ورواه عن عبادة. وروي أيضًا من حديث أبي سعيد وغيره. قال ابن كثير هو حديث مشهور. ولأبي داود وغيره "من ضار ضار الله به. ومن شاق شاق الله به" ويشهد له كليات وجزئيات. وهو لا شك قاعدة من قواعد الدين. يدل على تحريم الضرار على أي صفة كان من غير فرق بين الجار وغيره. وفي حق الجار أشد لعظم حقه. والضرر قيل فعل الواحد.

والضرار فعل الإثنين فصاعدًا. وقيل الضرار أن تضره من غير أن تنتفع. والضرر أن تضره وتنتفع أنت به وقيل غير ذلك.

وقال الوزير اتفقوا على أن للرجل التصرف في ملكه ما لم يضر بجاره والمضارة مبناها على القصد والإرادة. أو على فعل ضرر عليه. فمتى قصد الإضرار ولو بالمناخ. أو فعل الإضرار من غير استحقاق فهو مضار. وأما إذا فعل الضرر المستحق للحاجة إليه والانتفاع به لا لقصد الإضرار فليس بمضار. ومنه

ص: 220

قوله لصاحب النخلة لما طلب المعاوضة عنها بعدة طرق فلم يفعل "إنما أنت مضار" ثم أمر بقلعها. فدل على أن الضرر محرم لا يجوز تمكين صاحبه منه.

قال (وللرجل أن يضع خشبه في حائط جاره) فدل أيضًا على جواز وضع الخشب في جدار الجار. وإذا جاز الغرز جاز الوضع بطريق الأولى. لأنه أخف منه. قال الشيخ إذا كان الجدار مختصًا بشخص لم يكن له أن يمنع جاره من الانتفاع مما يحتاج إليه الجار. ولا يضر بصاحب الجدار. ويجب على الجار تمكين جاره من إجراء مائه في أرضه. إذا احتاج إلى ذلك ولم يكن على صاحب الأرض ضرر في أصح القولين في مذهب أحمد. وحكم به عمر –رضي الله عنه. وإن صالحه على أن يجري ماء على أرضه صح. قال في الإنصاف بلا نزاع. لكن يشترط معرفة الذي يجري فيه من ملكه.

ويجوز شراء ممر في ملكه. وموضع في حائطه يجعله بابا. وبقعة يحفرها بئرًا. وعلو بيت يبني عليه بنيانًا موصوفًا. ويصح فعله صلحًا أبدًا. قال والعمل عليه في كل مصر وعصر. قال الشيخ وإذا كان المسجد معدًا للصلاة ففي جواز البناء عليه نزاع بين العلماء. وليس لأحد أن يبني فوق الوقف ما يضر به اتفاقًا. وكذا إن لم يضر به عند الجمهور. وفي الاختيارات ليس للإنسان أن يتصرف في ملكه بما يؤذي به جاره من بناء حمام وحانوت طباخ ودقاق. وهو مذهب أحمد. قال ومن كانت له

ص: 221

ساحة يلقي فيها التراب والحيوانات ويتضرر الجيران بذلك فإنه يجب على صاحبها أن يدفع ضرر الجيران: إما بعمارتها أو إعطائها لمن يعمرها. أو يمنع أن يلقى فيها ما يضر بالجيران اهـ.

وإن كان سطح أحدهما أعلى من سطح الآخر فليس لصاحب العلو الصعود على وجه يشرف على جاره. إلا أن يبني سترة تستره. وفي الاختيارات يلزم الأعلى التستر بما يمنع مشارفة الأسفل وإن استويا وطلب أحدهما بناء الستر أجبر الآخر معه مع الحاجة إلى السترة اهـ.

وإن انهدم جدارهما أو خيف ضرره فطلب أحدهما أن يعمره الآخر معه أجبر عليه. أو احتاج النهر أو الدولاب أو القناة المشتركة لعمارة أجبر الشريك عليه. إزالة لضرر شريكه. قال الشيخ إذا احتاج الملك المشترك إلى عمارة لا بد منها فعلى أحد الشريكين أن يعمر مع شريكه إذا طلب ذلك منه في أصح القولين اهـ.

وإن حصل غصن شجرته في هواء غيره أو قراره أزاله فإن أبى لواه إن أمكن وإلا فله قلعه إزالة للضرر.

(ولهما من حديث أبي هريرة) رضي الله عنه يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (وإذا اختلفتم في الطريق) التي هي مجرى عامة المسلمين بأحمالهم ومواشيهم وفي لفظ "الميتاء" قيل أعظم الطرق أو الطريق الواسعة (فاجعلوه) أي اجعلوا سعة الطريق

(سبعة أذرع) وهذا محمول على الطريق التي هي

ص: 222

مجرى العامة إذا تشاجر من له أرض يتصل بها مع من له فيها حق جعل عرضها سبعة أذرع بالذراع المتعارف في ذلك البلد. بخلاف بنيات الطريق. فإن الرجل إذا جعل في بعض أرضه طريقًا مسبلة للمارين كان تقديرها إلى خيرته.

والحكمة في ورود الشرع بتقدير الطريق سبعة أذرع أن تسلكها الأحمال والأثقال دخولًا وخروجًا. وتسع ما لابد منه. فما لا تسع السبعة يجعل بقدر ما تسع لوجود العلة. قال الوزير وغيره اتفقوا على أن الطريق لا يجوز تضييقها. وقال الشيخ لا يجوز لأحد أن يخرج شيئًا في طريق المسلمين من أنواع أجزاء البناء حتى أنه ينهى عن تجصيص الحائط إلا أن يدخل رب الحائط في حده بقدر غلظ الجص. فلا يجوز إخراج الدكة مطلقًا أذن فيه الأمام أو لا. قال الموفق لا نعلم فيه خلافًا.

ويجوز إخراج الساباط بلا ضرر اختاره الشيخ. وقال الذي يضر بالمارة مثل أن يحتاج الراكب أن يحني رأسه إذا مر هناك وإن غفل عن نفسه رمى عمامته أو شج رأسه. ولا يمكن أن يمر هناك جمل عال أو محمل فمثل هذا الساباط لا يجوز إحداثه على طريق المارة باتفاق المسلمين. بل يجب على صاحبه إزالته. فإن لم يفعل كان على ولاة الأمور إلزامه بإزالته حتى يزول الضرر.

حتى لو كان الطريق منخفضًا ثم ارتفع على طول الزمان وجب إزالته إذا كان الأمر على ما ذكر.

ص: 223

(وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع للعباس) بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم (ميزابًا على طريق) رواه أحمد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. قال كان للعباس ميزاب على طريق عمر رضي الله عنه فلبس ثيابه يوم الجمعة فأصابه منه ماء بدم.

وذلك أنه ذبح للعباس فرخان فلما وافى عمر الميزاب صب ماء بدم الفرخين. فأمر عمر بقلعه. فأتاه العباس فقال إنه للموضع الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر للعباس وأنا أعزم عليك لما صعدت على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل ذلك العباس.

والحديث دليل على جواز إخراج الميازيب إلى الطرق. لكن بشرط أن لا تكون محدثة. وتضر بالمسلمين. وقال الشيخ إخراج الميازيب إلى الدرب هو السنة. واختاره وقدمه في النظم وغيره. ويمنع في الطريق الغرس والبناء والحفر ومرور أحمال الشوك. ووضع الحطب والذبح فيها. وطرح القمامة والرماد وقشر الموز وغير ذلك. مما فيه ضرر على المارة.

باب الحجر

في الأصل التضييق والمنع. ومنه سمي الحرام والعقل حجرًا. وفي الشرع منع إنسان من تصرفه في ماله وهو ضربان حجر لحق الغير كعلى مفلس. وحجر لحق نفس المحجور. كعلى نحو صغير. والأصل في مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع.

ص: 224

قال تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} يعني وإن كان الذي عليه الدين معسرًا {فَنَظِرَةٌ} أمر في صيغة الخبر تقديره فعليه نظرة {إِلَى مَيْسَرَةٍ} أي إلى اليسار والسعة. وأمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء. ثم ندب إلى الوضع عنه فقال: {وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون} وفي الحديث "من سره أن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله فلييسر على معسر أو ليضع عنه" وفي رواية "من نفس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة" وفي الحديث القدسي "أنا أحق من ييسر أدخل الجنة" وفي فضل التيسير على المعسر وإنظاره أحاديث كثيرة.

ودلت الآية وغيرها على أن المعسر الذي لا يقدر على الوفاء شيء من دينه لا يطالب به ويجب إنظاره ويحرم حبسه وملازمته. وإن ادعى العسرة وكان الحق ثبت عليه في غير مقابلة مال أخذه. كأرش جناية ومهر وضمان. ولم يعرف له مال حلف وخلي سبيله قال علي رضي الله عنه حبس الرجل بعد معرفة ما عليه من الحق ظلم. قال ابن القيم هذا الحكم عليه جمهور الأمة فيما إذا كان عليه دين عن غير عوض مالي.

قال والذي يدل عليه الكتاب والسنة وقواعد الشرع أنه لا يحبس في شيء من ذلك. إلا أن يظهر بقرينة أنه قادر مماطل. سواء كان دينه عن عوض أو عن غير عوض. وسواء لزمه باختياره أو بغير اختياره.

ص: 225

فإن الحبس عقوبة والعقوبة إنما تسوغ بعد تحقق سببها. ولا تسوغ بالشبهة. بل سقوطها بالشبهة أقرب إلى قواعد الشريعة. وقال الشيخ من عرف بالقدرة فادعى إعسارًا وأمكن عادة قبل. لتعلق حق العبد بماله. وإذا كان دينه عن عوض كثمن وقرض وادعى الإفلاس. وقد علم له مال متقدم فكمن أصابته فاقة. حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه. قال ابن القيم هذا صريح في أنه لا يقبل في بينة الإعسار أقل من ثلاثة رجال وهو الصواب الذي يتعين القول به. وإذا كان في باب أخذ الزكاة وحل المسألة يعتبر العدد المذكور ففي باب دعوى الإعسار المسقط لأداء الديون ونفقة الأقارب والزوجات أولى وأحرى.

(وعن عمرو بن الشريد) بفتح الشين ابن سويد الثقفي (عن أبيه) رضي الله عنه سمي شريدًا لأنه شرد من المغيرة لما قتل رفقته الثقفيين وقيل صحب قومًا فقتلهم فسمي الشريد (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي الواجد ظلم) كقوله "مطل الغني ظلم" ولي بفتح فشد. مصدر لوى يلوي. أضيف إلى فاعله. وهو الواجد من الوجد بالضم يعني القدرة. أي مطل الغني القادر على وفاء دينه ظلم (يحل عرضه) بأن يقول مطلني. ويغلظ القول عليه. ويشدد في هتك عرضه. وحرمته (وعقوبته) أي حبسه (رواه الخمسة إلا الترمذي) وحسنه الحافظ. وصححه ابن حبان. وعلقه البخاري.

ص: 226

وهو دليل على تحريم مطل الواجد. بل أصل متفق عليه: أن كل من ترك واجبًا استحق العقوبة. فمن عليه مال يجب عليه أداؤه كوديعة أو مضاربة أو مال لبيت المال فللقاضي التغليظ عليه وحبسه تأديبًا له. فإن أبى عزره مرة بعد أخرى.

وأجاز الجمهور الحجر على القادر المماطل. وبيع الحاكم ماله. لقيامه مقامه. ودفعًا لضرر رب الدين. وهو داخل تحت لفظ عقوبته. وفي الاختيارات. ومن كان قادرًا على وفاء دينه وامتنع أجبر على وفائه بالضرب والحبس. ونص على ذلك الأئمة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. وقال أبو العباس ولا أعلم فيه نزاعًا. لكن لا يزاد كل يوم على أكثر من التعزير إن قيل يتقدر.

وقال ولا يجب حبسه بمكان معين. فيجوز حبسه في دار ولو في دار نفسه. بحيث لا يمكن من الخروج. ولو كان قادرًا على أداء الدين وامتنع. ورأى الحاكم منعه من فضول الأكل. والنكاح. فله ذلك. إذ أن التعزير لا يختص بنوع معين. وإنما يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم في نوعه. وقدره إذا لم يتعد حدود الله. وللحاكم أن يبيع عليه ماله. ويقضي دينه. ولا يلزمه إحضاره. وإذا كان الذي عليه الحق قادرًا على الوفاء ومطل صاحب الحق حتى أحوجه إلى الشكاية. فما غرمه بسبب ذلك.

فهو على الظالم المبطل. إذا كان غرمه على الوجه المعتاد. وقال من غرم مالًا بسبب كذب عليه عند ولي الأمر فله تضمين

ص: 227

الكاذب عليه بما غرمه اهـ. والجمهور أنه يفسق بمطله.

ومفهوم أن مطل المعسر لا يحل عرضه ولا عقوبته. وهو معنى قوله {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} ولا يطالب مدين بدين مؤجل.

(وعن كعب بن مالك) رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ) بن جبل رضي الله عنه (ما له) أي منعه من التصرف في ماله من نحو بيع وغيره لأجل غرمائه (وباعه في دين كان عليه رواه الدارقطني) والبيهقي والحاكم. وصححه. وقال ابن الصلاح هو حديث ثابت. وعن عبد الرحمن بن كعب. قال كان معاذ بن جبل شابًا سخيًا. وكان لا يمسك شيئًا. فلم يزل يدان حتى أغرق ماله كله في الدين فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه ليكلم غرماءه. فلو تركوا لأحد لتركوا لمعاذ لأجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فباع لهم ماله. حتى قام معاذ بغير شيء. رواه سعيد مرسلًا ونحوه في صحيح مسلم. قال أصيب رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه. ويأتي.

فدل الحديث وما في معناه على جواز الحجر على المديون. وأنه يجوز للحاكم بيع ماله لقضاء دينه. والحجر على المديون وإعطاء الغرماء ثابت أيضًا من فعل عمر. ولم ينقل أنه أنكر ذلك عليه أحد من الصحابة. وقال الوزير وغيره اتفقوا على أن الحجر على المفلس إذا طلب الغرماء ذلك وأحاطت الديون بماله مستحق على الحاكم. وله منعه من التصرف. حتى لا يضر بالغرماء. وبيع ماله إذا امتنع المفلس من بيعه ويقسمه بين

ص: 228

غرمائه بالحصص. ويخرجه الحاكم من الحبس. ويحول بينه وبين غرمائه إلا أبا حنيفة فقال يحبس حتى يقضي الدين.

وقال ابن القيم إذا استغرقت الديون ما له لم يصح تبرعه بما يضر بأرباب الديون. سواء حجر عليه الحاكم أو لم يحجر عليه. هذا مذهب مالك واختيار شيخنا. وهو الصحيح. وهو الذي لا يليق بأصول المذهب غيره. بل هو مقتضى أصول الشرع وقواعده. لأن حق الغرماء قد تعلق بماله. ولهذا يحجر عليه الحاكم. ولولا تعلق حق الغرماء بماله لم يسع الحاكم الحجر عليه. فصار كالمريض مرض الموت. وفي تمكين هذا المدين من التبرع إبطال حقوق الغرماء. والشريعة لا تأتي بمثل هذا. فإنما جاءت بحفظ حقوق أرباب الحقوق بكل طريق. وسد الطرق المفضية إلى إضاعتها.

(ولمسلم عن أبي سعيد) الخدري رضي الله عنه (قال أصيب رجل في ثمار ابتاعها) أي اشتراها (فكثر دينه) من أجل مصيبته في تلك الثمار. ولم يقدر على الوفاء (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقوا عليه) ليحصل له من الصدقة ما يفي بدينه (فلم يبلغ ذلك) أي ما تصدقوا به عليه (وفاء دينه) فيستوفي كل منهم حقه (فقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (لغرمائه) أصحاب الدين (خذوا ما وجدتم) أي عند غريمكم لا غير (وليس لكم إلا ذلك) فهذا الحديث صريح في أنه ليس لهم إلا أخذ ما وجدوه. وليس لهم حبسه. ولا ملازمته.

ص: 229

قال ابن القيم ولم يحبس صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان. ولا يحبس في الدين ولو كان في مقابلة عوض. إلا أن يظهر بقرينة أنه قادر مماطل. لأن الحبس عقوبة. والعقوبة إنما تسوغ بعد تحقق سببها. وهي من جنس الحدود. ولا يجوز إيقاعها بالشبهة. بل يتثبت الحاكم. ويتأمل حال الخصم. ويسأل عنه. فإن تبين له مطله وظلمه ضربه إلى أن يوفي. أو حبسه. ولو أنكر غريمه إعساره. فإن عقوبة المعذور شرعًا ظلم. وإن لم يتبين له من حاله شيء أخره حتى يتبين له حاله. وظاهر الحديث أن الزيادة ساقطة عنه. ولو أيسر بعد ذلك لم يطالب بها. وفيه دليل على انتظار الغلة ونحوها. وأن التمكن من ذلك لا يعد مطلًا.

(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أدرك متاعه) وفي لفظ ماله. وظاهره سواء كان ببيع أو قرض أو غير ذلك (بعينه) لم يتغير بصفة ولا زيادة ولا نقص (عند رجل قد أفلس) أي صار إلى حالة لا يملك فيها فلسًا (فهو أحق به) أي بمتاعه من غيره من الغرماء (متفق عليه) وفي لفظ قال في الرجل الذي يعدم "إذا وجد عنده المتاع ولم يفرقه أنه لصاحبه الذي باعه" رواه مسلم. ولأحمد عن الحسن عن سمرة مرفوعًا "من وجد متاعه عند مفلس بعينه فهو أحق به" حسنه الحافظ. ولها شواهد.

وقوله "بعينه" دليل على أن شرط الاستحقاق أن يكون

ص: 230

المال باقيًا بعينه لم يتغير. ولم يتبدل "فهو أحق به" كائنًا من كان. وارثًا أو غريمًا. وهذا مذهب جمهور العلماء. وقضى به عثمان. وقال ابن المنذر لا نعلم له مخالفًا في الصحابة. وكذا روي عن علي ولم يعرف لهما مخالف في الصحابة. والحديث إذا صح فليس إلا التسليم له. وكل حديث أصل برأسه ومعتبر حكمه في نفسه. فلا يجوز أن يعترض عليه بسائر الأصول المخالفة له. أو يجترئ على إبطاله بعدم النظير له. وقلة الانتباه في نوعه. والمراد ما لم يكن اقتضى من ثمنه شيئًا كما يأتي وهو مذهب الجمهور. فإن تغيرت العين في ذاتها بالنقص مثلًا. أو في صفة من صفاتها فهو أسوة الغرماء ويلتحق بالبيع القرض وغيره.

(ولأبي داود أو مات) أي وجد ماله عند رجل أفلس أو مات فهو أحق به. وقال الحافظ يتعين المصير إليه. لأنها زيادة مقبولة من ثقة. فدل على أن صاحب السلعة أحق بها. ولا يلزمه القبول لو أراد الورثة أن يعطوه ثمنها. وقال أيضًا حديث حسن يحتج بمثله. أخرجه أيضًا أحمد وأبو داود وابن ماجه.

وصححه الحاكم ورجحه الشافعي على المرسل. قال وجزم ابن العربي بأن الزيادة التي في مرسل مالك من قول الراوي. يعني قوله فإن مات فهو أسوة الغرماء.

وذكر ابن القيم أنه موصول عن الزهري من طرق. ولا يكون مدرجًا إلا بحجة. وخبر (أو مات) قال ابن عبد البر

ص: 231

يرويه المعتمر وهو غير معروف بحمل العلم. ثم هو غير معمول به لجعله المتاع لصاحبه بمجرد موت المشتري. والأمر بخلاف ذلك عند جميع العلماء. وهو مذهب مالك وأحمد وغيرهما فالله أعلم.

(ولأحمد) وأبي داود وغيرهما (ولم يكن اقتضى من ماله شيئًا) وفي لفظ "ولم يقض الذي باعه من ماله شيئًا" فوجد متاعه بعينه (فهو له) وفي رواية "أحق به" أي من سائر الغرماء. وهذا مذهب الجمهور. فإن اقتضى من ماله شيئًا فهو أسوة الغرماء. كما هو لفظ حديث أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة وغيره عند أبي داود وغيره. وإن كان قضى من ثمنها. شيئًا فهو أسوة الغرماء فيها. والمراد مما تقدم قبل الحجر عليه. أو بعده. لمن جهل الحجر عليه. لأنه معذور بجهل حاله وإلا فلا رجوع له في عينه. لأنه دخل على بصيرة. ويرجع بذلك بعد فك الحجر عنه. وكذا إن تصرف في ذمته بشراء أو ضمان أو نحوهما. أو أقر بدين أو جناية توجب قودًا أو مالًا صح. ويطالب به بعد فك الحجر عنه. ولا يفك الحجر عنه إلا الحاكم. وإن وفى ما عليه انفك بدونه.

* * *

ص: 232