المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الثالث 357/ 3/ 68 - عن سهل بن أبي حثمة - الإعلام بفوائد عمدة الأحكام - جـ ٩

[ابن الملقن]

الفصل: ‌ ‌الحديث الثالث 357/ 3/ 68 - عن سهل بن أبي حثمة

‌الحديث الثالث

357/ 3/ 68 - عن سهل بن أبي حثمة قال: "انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر، وهي يومئذ صلح، فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل -وهو يتشحط في دمه قتيلًا- فدفنه، ثم [أتى] (1) المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي - صلي الله عليه وسلم -، فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال (2) كبر، كبر -وهو أحدث القوم- فسكت. فتكلما، فقال: أتحلفون وتستحقون قاتلكم، أو صاحبكم؟ قالوا: وكيف نحلف، ولم نشهد، ولم نر؟ قال: فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا [فقالوا] (3): كيف نأخذ بأيمان قوم كفار؟ فعقله النبي - صلي الله عليه وسلم - من عنده"(4).

(1) في ن هـ وإحكام الأحكام (قدم).

(2)

في المرجع السابق زيادة (النبي صلى الله عليه وسلم).

(3)

في المرجع السابق (قالوا).

(4)

البخاري (2702)، ومسلم (1669)، والنسائي (8/ 8، 12)، وأبو داود (4520، 4521، 4523)، والحميدي (403)، وابن الجارود (798، 800)، والبغوي (2545، 2546)، والبيهقي (8/ 118، 119)، والترمذي (1422)، والدارقطني (3/ 110) والموطأ (2/ 877، 878).

ص: 57

وفي حديث حمّاد بن زيد: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برُمَّته، قالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم؟ قالوا: يا رسول الله، قومٌ كفار.

وفي حديث سعيد بن عبيد: "فكره رسول الله أن يبطل دمه، فوداه بمائة من إبل الصدقة".

الكلام عليه من وجوه:

وهو قاعدة عظيمة من قواعد الأحكام، وأصل في القسامة وأحكامها، وهي بفتح القاف وتخفيف السين مشتقة من القسم أو الإِقسام، وهي اليمين التي يحلف بها المدعي للدم عند اللوث. قاله أصحابنا وابن فارس (1) والجوهري (2).

وقال الأزهري (3): هي اسم للأولياء الذين يحلفون على استحقاق دم المقتول.

نقل الرافعي عن (4) الأئمة أن القسامة في اللغة: اسم للأولياء، وفي لسان الفقهاء: اسم للأيمان. وهذا النقل عن أهل اللغة ليس قولهم كلهم بل بعضهم كما ذكرنا. والصحيح أنها اسم للأيمان.

ثم موضع جريان القسامة أن يوجد قتيل لا يوجد قاتله، ولا

(1) مجمل اللغة (752) باب القاف والسين وما يثلثهما.

(2)

مختار الصحاح (ق س م).

(3)

تهذيب اللغة (8/ 423) مادة (ق، س، م).

(4)

في الأصل زيادة (القسامة)، وما أثبت من ن هـ.

ص: 58

تقوم عليه بينة، ويدعي أهل القتيل قتله على واحد أو جماعة، مع قرينة تشعر بصدق الولي، ويقال له اللوث، فيحلف على ما يدعيه كما سيأتي.

الوجه الأول: في التعريف براويه وبالأسماء الواقعة فيه.

أما سهل: فسلف التعريف به في باب صلاة الخوف واضحًا.

وأما عبد الله بن سهل: فهو أنصاري حارثي، كنيته أبو ليلى، وهو أخو عبد الرحمن -الآتي- قتيل اليهود بخيبر، خرج إليها يمتار تمرًا بعد العصر، فوُجد مقتولًا قبل الليل. قيل: إنه وُجد في عين قد كسرت عنقه مطروحًا فيها.

وفي الصحيح: "أنه طرح في فقير أو عين". والفقير: البئر القريبة القعر، الواسعة الفم. وقيل: الحفيرة: التي تكون حول النخل.

وأما محيصة: فهو بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر الياء المثناة تحت مشددة على المشهور، ويجوز إسكانها في لغة. وظاهر كلام الشيخ تقي الدين في "شرحه" (1) أنها راجحة. وقال النووي في "شرحه" (2): اللغتان مشهورتان، وأشهرهما التشديد، وخالف القرطبي فقال في "مفهمه"(3) المشهور التخفيف، وهو ابن مسعود بن كعب بن عامر بن عدي بن كعب بن مجدعة بن

(1) إحكام الأحكام (4/ 306).

(2)

شرح مسلم (11/ 143).

(3)

المفهم (5/ 8).

ص: 59

حارثة بن الحارث بن الخزرج، أنصاري، حارثي، يُعدّ من أهل المدينة، وكنيته أبو سعيد. له صحبة وغزوات وأحاديث، أسلم قبل الهجرة قبل أخيه حويصة، وكان حويصة أسنّ منه، وكان محيصة أنجب وأفضل. وأسلم حويصة على يد أخيه محيصة، وبعث رسول الله - صلي الله عليه وسلم - محيصة إلى فدك يدعوهم إلى الإِسلام.

وأما حويصة: فهو بضم الحاء المهملة وفتح الواو وفي الياء التشديد والتخفيف -كما سلف بما فيه-، وكنيته أبو سعيد أيضًا، وهو شقيق محيصة، وكان سبب إسلامه ما ذكره ابن إسحاق في "مغازيه" عن ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس في قصة كعب بن الأشرف اليهودي الذي كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعره ويتبعه ويحرِّض عليه العرب، وهو رجل من بني نَبْهَان من طيء، فلما قتل كعب قال عليه الصلاة والسلام:"من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه"، فوثب مُحَيْصَة بن مسعود على ابن سُيَيْنَة -رجل من تجّار يهود كان يُلابسهم ويبايعهم- فقتله، وكان حُوَيِّصةُ أخوه إذ ذاك لم يسلم، وكان أسن من مُحَيّصَة، فلما قتله جعل حُوَيِّصةُ يضربه، ويقول: أيْ عدُوَّ الله، أقتلته؟ أما واللهِ لَرُبَّ شحمٍ في بطنك من ماله. قال محيصة: فقلت له: أما والله لقد أمرني بقتله مَنْ لو أمرني بقتلك لضربْتُ عنقك، قال: واللَّهِ لو أمرك بقتلي لقتلتني، قال: نعم، والله لو أمرني بقتلك لقتلتك، قال: والله إن دينًا بلغ بك هذا لعجب، فأسلم حويصة -وكان ذلك أوَّل إسلامه-، فقال محيصة:

ص: 60

يلوم ابْنُ أُمِّي لو أُمرتُ بقتله

لَطَبَّقتُ ذِفَرَاهُ بأَبْيَضَ قَاضِبِ

حُسامٍ كَلَوْنِ الملح [أُخْلِصَ](1) صقلُهُ

متى ما أُصوبه فليس بكاذب

وما سرني أني قتلْتُكَ طائعًا

وأنَّ لنا ما بين بُصرى ومأْرب

شهد أُحدًا والخندق وسائر المشاهد مع النبي - صلي الله عليه وسلم -.

وأما عبد الرحمن بن سهل: فهو عبد الرحمن بن عمرو بن سهل الأنصاري، ثم الخطمي المدني؛ وهو من بني حارثة. شهد أُحدًا وما بعدها. روى عن عثمان وغيره، وعنه ابنه عمرو وغيره. له حديثان. قال أبو عمر: يقال إنه شهد بدرًا، وكان له فهم وعلم، وهو القائل لأبي بكر لما أعطى الجدة أم الأم دون أم الأب: يا خليفة رسول الله أعطيت الذي لو ماتت لم يرثها وتركت الذي لو ماتت ورثها، فجعله أبو بكر بينهما.

قلت: واستعمله عمر على البصرة حين مات عتبة بن غزوان.

وأما حمّاد بن زيد فهو عالم أهل البصرة في زمنه أبو إسماعيل حمّاد بن زيد بن درهم الأزدي، البصري، الأزرق، الضرير، الحمصي، مولى جرير بن حازم. سمع خلقًا من التابعين وغيرهم،

(1) في الأصل ون هـ (أبيض)، وما أثبت من المغازي وسيرة ابن هشام (2/ 441).

ص: 61

وعنه خلائق من الأئمة والعلماء. قال ابن مهدي: أئمة الناس في زمانهم أربعة: الثوري، ومالك، والأوزاعي، وحماد بن زيد. وقال أحمد: هو أحب إليَّ من حمّاد بن سلمة. وقال أبو زرعة: هو أثبت منه بكثير وأصح حديثًا وأتقن. وُلد سنة ثمان وتسعين، ومات سنة تسع وسبعين ومائة، بعد موت مالك بأشهر، وهو ابن إحدى وثمانين سنة، وصلَّى عليه والي البصرة إسحاق بن سليمان بن علي الهاشمي.

وأما سعيد بن عبيد: فهو الطائي الكوفي أبو الهذيل. روى عن بشير بن يسار وسعيد بن جبير وجماعة، وعنه وكيع وجماعة. وثقه أحمد وابن معين والنسائي.

وقال أبو حاتم: يكتب حديثه.

واعلم أنه وقع في شرح الشيخ تقي الدين (1): سعد بن عبيد، بدل: سعيد، وهو من النساخ، وصوابه سعيد -كما ذكرت-. ووقع في "شرح الفاكهي" على الخطأ أيضًا. ولما رأى بعض الشراح ذلك ترجمه سعيد بن عبيد الزهري -السالف- في باب أفضل الصيام وغيره، فاجتنبه. ووقع في بعض نسخ الكتاب: سعيد بن عبيد، بدل: سعيد بن زيد. فعقد له بعض من تكلم على رجاله ترجمة، وهذا وهم آخر فاحذره، ووهم الصعبي شارح هذا الكتاب وهمًا آخر، فكتب فيما شاهدته من خطه: سعد بن عبيد، ثم ضرب على عبيد وكتب: ابن زيد، فاجتنب ذلك [كله](2).

(1) في النسخة التي بين يدي (سعيد).

(2)

في هـ ساقطة.

ص: 62

الوجه الثاني: في بيان ما فيه من الأمكنة والألفاظ:

أما خيبر: فتقدم ذكرها في الحديث الخامس من باب الرهن وغيره.

وقوله: "فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال: كبر، كبر" كذا في الصحيح. وفيه أيضًا: "فذهب محيصة ليتكلم فقال: كبر، كبر" يريد السن، فتكلم حويصة ثم تكلم محيصة.

ومعنى "كبر كبر" ليتكلم الأكبر، وأكَّده بالتكرير تنبيهًا على شرف السن. وقد روعي في الإِمامة وولاية النكاح ندبًا أيضًا، والمراد بكبر السن: القِدم في الإِسلام والسبق إليه والعلم به وممارسة أعماله وأحواله والفقه فيه. ولو كان الشيخ عريًا عن ذلك واتصف الشاب به قدم عليه.

وقد قدم وفد على عمر بن عبد العزيز، فتقدَّم شاب للكلام، فقال له عمر: كبر، كبر؛ فقال: يا أمير المؤمنين لو كان الأمر بالسن لكان هنا من هو أولى بالخلافة منك. فقال: تكلم، فتكلم، فأبلغ وأوجز.

وكلام عبد الرحمن على رواية الكتاب لم يكن حقيقة دعوى يترتب عليها الحكم، إذ لو كان دعوى لما قدم حويصة ومحيصة عليه لأنه أخوه، وهما ابنا عمه لا حق لهما في المطالبة به مع وجوده، وإنما هو بيان وشرح للواقعة والأكبر أفقه وأعلم بذلك خصوصًا في مخاطبة الكفار (1)، فإذا أراد حقيقة الدعوى تكلم صاحبها. قاله النووي في "شرحه" (2) قال: ويحتمل أن عبد الرحمن وكلهما في الدعوى

(1) ليس هذا محله لأنهما خاطبا النبي - صلي الله عليه وسلم -.

(2)

شرح مسلم (11/ 146).

ص: 63

ومساعدته أو أمر بتوكيله حيث أمر بالتفويض في المطالبة إلى الأكبر، واستبعد غيره ممن أدركناه هذا الاحتمال، وقال: لو كان ثم توكيل لنقل، والأحسن أنه عليه الصلاة والسلام لم يعلم أن عبد الرحمن أخص منهما بالكلام، وأن أخاه هو المقتول، وأنهم أتوا بسبب ذلك، وإنما لما جاؤوه مجتمعين فهم من حالهم أنهم أتوه في أمر يشملهم ولم يعلم السبب الذي جاء بهم. فلما رأى أصغر الأخوين بدأ بالكلام نبه على أن الأكبر أولى بذلك.

وقول النووي (1): إنه لم يكن المراد بالكلام حقيقة الدعوى.

قد يرده قوله عليه الصلاة والسلام بعد ذلك بنحو صفحة أن فيه جواز الدعوى في الدماء من غير حضور الخصم (2). إلا أن يقال أن الظاهر وقوع دعوى بعد هذا، فلا يرد ذلك عليه.

وقوله عليه الصلاة والسلام: "أتحلفون وتستحقون قاتلكم، أو صاحبكم" إن قلت: كيف عرضت اليمين على الثلاثة، وإنما اليمين للوارث خاصة وهو عبد الرحمن دونهما؟ فالجواب كما قاله النووي في "شرحه"(3) أنه كان معلومًا عندهم أن اليمين تختص بالوارث، فأطلق الخطاب لهم؛ والمراد من يختص به اليمين، واحتمل ذلك لكونه معلومًا عند المخاطبين؛ كما سمع كلام الجميع في قتله وكيفية ما جرى له، وإن كانت حقيقة الدعوى وقت الحاجة مختصة بالوارث.

(1)(11/ 146).

(2)

أي كلام النووي (11/ 148).

(3)

شرح مسلم (11/ 146).

ص: 64

قلت: [و](1) هو جواب حسن، لكن ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام:"يقسم خمسون منكم على رجل منهم" يخدشه، نعم هو مؤول كما سيأتي، [ولم](2) تأوله المالكية، بل قالوا به، وأنه إذا كان ولي الدم وأحد يستعين بعصبته في الأيمان فيحلفون معه وإن لم يكن لهم ولاية.

ومعنى "تستحقون قاتلكم، أو صاحبكم": يثبت حقكم على من حلفتم عليه، وهل ذلك الحق قصاص أو دية فيه خلاف بين العلماء -كما سيأتي-.

وقوله: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم" لابد من تأويله، لأن اليمين إنما تجب على الوارث خاصة لا على غيره من القبيلة وتأويله عند أصحابنا أن معناه يؤخذ منكم خمسين يمينًا، والحالف لها هو الوارث.

وقوله: "فتبرئكم يهود" هو مرفوع لا يصرف، لأنه اسم للقبيلة والطائفة، ففيه التأنيث والعلمية.

ومعنى "تبرئكم يهود بخمسين يمينًا": أي تبرأ إليكم من دعواكم بذلك. وقيل: معناه يخلصونكم من اليمين بأن يحلفوا، فإذا حلفوا انتهت الخصومة ولم يثبت عليهم شيء وخلصتم أنتم من اليمين.

"الرُّمّة" بضم الراء وتشديد الميم المفتوحة، أصلها: الحبل الذي يكون في عنق البعير أو الأسير ليسلم به من يقوده به، شُبِّه به

(1) زيادة من هـ.

(2)

في الأصل (وبه) وما أثبت من هـ.

ص: 65

القاتل لتسليمه إلى ولي المقتول للقتل، والجمع: رمم ورمام.

وأما الرِّمة بالكسر: فالعظم البالي. يقال: رمم العظم وأرم: إذا بلي. والرميم: الشيء التالف المتفتِّت كالورق المهشَّم؛ ومنه قوله تعالى: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)} (1).

وقولهم: "كيف نأخذ بأيمان قوم كفار" هو استبعاد لصدقهم وتقريب لإِقدامهم على الكذب وجرأتهم على الأيمان الفاجرة.

ومعنى "عقله": [أعطى](2) عقله، أي ديته: وسُمِّيت الدية عقلًا لأن الإِبل كانت تعقل بفناء المستحقين.

"ووداه" بتخفيف الدال: أي دفع ديّته.

ومعنى "كره أن يبطل دمه"، أي يجعله هدرًا.

الوجه الثاني: في أحكامه:

الأول: إثبات القسامة، وهو كما قال القاضي عياض: أصل من أصول الشرع وقاعدة من قواعد الأحكام، وركن من أركان مصالح العباد، وبه أخذ العلماء كافة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار الحجازيين والشاميين والكوفيين وغيرهم، وإن اختلفوا في كيفية الأخذ به. وروي عن جماعة إبطال القسامة، وأنه لا حكم لها ولا عمل بها، منهم: سالم بن عبد الله، والحكم بن عتبة، وقتادة، وأبو قلابة، ومسلم بن خالد، وابن علية، والبخاري. . . . وغيرهم.

(1) سورة الذاريات: آية 42.

(2)

في الأصل أي وما أثبت من هـ.

ص: 66

وعن عمر بن عبد العزيز روايتان كالمذهبين، وكذا عن سلمان بن يسار، والصحيح عنه العمل به كما قال القرطبي (1).

واختلف قول مالك في جواز القسامة في القتل خطأ، كذا حكاه القاضي عياض، ونوقش في ذلك، وأنه إنما اختلف في قوله في قتل الخطأ مع قول الميت: فلان قتلني، لا فيما إذا كان اللوث غير ذلك.

واختلف القائلون بها فيما إذا كان القتل عمدًا هل يجب القصاص بها؟

فقال معظم الحجازيين: يجب، وهو قول الزهري، وربيعة، وأبي الزناد، ومالك وأصحابه، والليث، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وداود. وهو قول الشافعي في القديم.

وروي عن ابن الزُّبير وعمر بن عبد العزيز. قال أبو الزناد: قتلنا بها وأصحاب رسول الله - صلي الله عليه وسلم - متوافرون، إني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان. والذي قال بهذا جعل له شرطين:

أحدهما: ما يقتضي القصاص في الدعوى.

والثاني: المكافأة في القتل، وشبهوا القتل بها باليمين المراودة في استحقاق ما ادعى به.

وقال الكوفيون والشافعي في أصح قوليه: لا يجب بها القصاص، وإنما تجب الدية.

(1) المفهم (5/ 18).

ص: 67

وروي عن الصديق، والفاروق، وابن عباس، ومعاوية، والحسن البصري، والشعبي، والنخعي، وعثمان البتي، والحسن بن صالح، وإسحاق؛ واستدل لذلك بقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيح:"إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب" فإنه يدل على أن المستحق دية لا قود، ولأنه لم يتعرض للقصاص؛ لكن الاستدلال بقوله عليه الصلاة والسلام فيما مضى فيدفع "برمته" أقوى من الاستدلال بقوله:"وتستحقون دم صاحبكم"، لأن قولنا "يدفع برمته"[مستعمل](1) في دفع القاتل للأولياء للقتل، و [لو](2) أن الواجب الدية لبعد استعمال هذا اللفظ [فيها](3)، وهو [في](4) استعماله في تسليم القاتل أظهر، والاستدلال بقوله:"دم صاحبكم" كما ثبت في الصحيح من رواية الكتاب: "تستحقون قاتلكم، أو صاحبكم" لأن هذا اللفظ الأخير لابد فيه من إضمار، فيحتمل أن يضمر:"دية صاحبكم". [إضمارًا](5) ظاهرًا، وإنما بعد التصريح بالدم، فيحتاج إلى تأويل اللفظ، بإضمار بدل "دم صاحبكم"، والإِضمار على خلاف الأصل، ولو احتيج إلى الإِضمار لكان حمله على ما يقتضي إراقة الدم أقرب، والمسألة مستشنعة عند المخالفين لهذا المذهب،

(1) في إحكام الأحكام (يستعمل).

(2)

زيادة من هـ وإحكام الأحكام.

(3)

في هـ (فيه).

(4)

في هـ ساقطة.

(5)

في إحكام الأحكام (احتمالًا).

ص: 68

أو بعضهم، فربما أشار بعضهم إلى احتمال أن يكون المراد بقوله:"دم صاحبكم" هو القتيل لا القاتل، ويرده قوله:"دم صاحبكم أو قاتلكم".

ثم اختلفوا فيمن يحلف في القسامة، فقال مالك والشافعي والجمهور: يحلف الورثة ويجب الحق بحلفهم خمسين يمينًا، واحتجوا بهذا الحديث الصحيح، وفيه التصريح بالابتداء بالمدعى وهو ثابت من طرق كثيرة صحاح لا يندفع، وقال مالك: الذي أجمعت عليه الأمة قديمًا وحديثًا أن المدَّعين يبدؤون في القسامة، ولأن جنبة المدعي صارت قوية باللوث. قال القاضي (1): وضعف هؤلاء رواية من روى الابتداء بيمين المدعى عليهم.

قال أهل الحديث: هذه الرواية وهم من الراوي، لأنه أسقط الابتداء بيمين المدعى عليهم، ولم يذكر رد اليمين، ولأن من روى الابتداء بالمدعين معه زيادة علم ورواياتها صحاح من طرق كثيرة مشهورة توجب العمل بها ولا يعارضها رواية من نسي. قال: وكل من لم يوجب القصاص واقتصر على الدية بدأ بيمين المدعى عليهم إلا الشافعي وأحمد، فقالا بقول الجمهور، وأنه يبدأ بيمين المدعي، فإن نكل ردت على المدعى عليه.

وأجمع العلماء: على أنه لا يجب قصاص ولا دية بمجرد الدعوى حتى يقترن بها شبهة يغلب الظن بالحكم بها.

واختلفوا في هذه الشبهة المعتبرة الموجبة للقسامة؛ لها سبع صور:

(1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 395).

ص: 69

الأولى: أن يقول المقتول في حياته دمي عند فلان. وهو قتلني أو ضربني وإن لم يكن به أثرًا وفعل بي هذا من إنفاذ مقاتلي أو جرحني، ويذكر العمد، فهذا موجب للقسامة عند مالك والليث، وادعى مالك: أنه مما أجمع عليه الأئمة [حديثًا وقديمًا](1). قال القاضي (2): ولم يقل بهذا من فقهاء الأمصار غيرهما ولا روي عن غيرهما، وخالفا في ذلك العلماء كافة، فلم ير أحد غيرهما في هذا قسامة، واشترط بعض المالكية وجود الأثر والجرح في كونه قسامة. واحتج مالك في ذلك بقصة بني إسرائيل، وقوله تعالى:{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} (3)، قالوا: فحي الرجل وأخبر بقاتله.

واحتج أصحابه: بأن تلك حالة تطلب فيها غفلة الناس، فلو شرطنا الشهادة وأبطلنا قول المجروح أدى ذلك إلى إبطال الدماء غالبًا. قالوا: ولأنها حالة يتحرى فيها المجروح الصدق، ويتجنب الكذب والمعاصي، ويتزوَّد البر والتقوى، فوجب قبول قوله.

وقال الباجي (4): إن قيل ذلك -أعني ما سلف من قصة بني إسرائيل- أنه قيل: إنما الآية في إحيائه، وإذا صار حيًا لم يكن كلامه آية؛ وهذا مبني على أن شرع من قبلنا شرع لنا إلا ما ثبت نسخه.

(1) ن هـ (تقديم وتأخير).

(2)

ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 397).

(3)

سورة البقرة: آية 73.

(4)

المنتقى (7/ 56).

ص: 70

قال أبو عمر (1): هذه غفلة شديدة، لأن هذه الآية لا تصح إلا لنبي، أو بحضرة نبي، وقتيل بني إسرائيل لم يقسم عليه أحد بيمين واحدة ولا خمسين، وقد أجمعوا أن شرعة المسلمين وسنتهم في الدماء والأموال لا يقضى فيها بالدعاوى المجردة، وأن المقتول لو قال عند موته: دمي عند فلان، ولي على فلان درهم فما فوقه لم يقبل قوله في الدرهم.

واختلفت المالكية: في أنه هل يكتفى في الشهادة على قوله بشاهد أم لابد من اثنين؟ حكاه القاضي عنهم، ونقل غيره أن المشهور الثاني.

واختلفوا أيضًا إذا لم يقم على الضرب أو الجرح إلا شاهد واحد.

فقال ابن القاسم: يقسم معه. وقال غيره: لا يقسم حتى يثبت أصل الجرح أو الضرب.

الثانية: اللوث من غير بيِّنة على معاينة القتل، وبهذا قال مالك والليث والشافعي: ومن اللوث شهادة العدل وحده. وكذا قال جماعة ليسوا عدولًا، وفي الواحد غير العدل خلاف عن مالك، وجعل الليث وربيعة ويحيى بن سعيد شهادة العبيد والصبيان والذميين لوثًا.

وقال بعض المالكية: شهادة الصبيان والنساء لوث وأباه أكثرهم.

(1) الاستذكار (25/ 326).

ص: 71

الثالثة: إذا شهد عدلان بالجرح فعاش بعده أيامًا ثم مات قبل أن يفيق منه، قال مالك والليث: هو لوث، أي إذا لم ينفذ مقاتله عند مالك.

وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا قسامة هنا، بل يجب القصاص بشهادة [العدلين](1).

[الرابعة](2): يوجد المتهم عند المقتول، أو قريبًا منه، أو آت من جهته ومعه آلة القتل، وعليه أثر من لطخ دم وغيره، وليس هناك سبع ولا غيره. مما يمكن إحالة القتل عليه أو تفرق جماعة عن قتيل، فهذا لوث موجب للقسامة عند مالك والشافعي.

[الخامسة](3): أن تقتتل طائفتان فيوجد بينهما قتيل، ففيه القسامة عند مالك والشافعي. وعن مالك رواية: أنه لا قسامة، بل فيه دية على الطائفة الأخرى إن كان من الطائفتين، وإن كان من غيرهما فعلى الطائفتين ديته.

وقال أحمد وإسحاق: ديته على الفئة المنازعة، فإن عينوا رجلًا ففيه القسامة.

[السادسة](4): أن يوجد الميت في زحمة الناس. قال الشافعي: تثبت فيه القسامة وتجب بها الدية.

(1) في هـ (عدلين).

(2)

في الأصل (العاشرة) وما أثبت من هـ.

(3)

في ن هـ (الخامسة).

(4)

ن هـ (سادسة).

ص: 72

وقال مالك: هو هدر.

وقال الثوري وإسحاق: تجب ديته في بيت المال. وروى مثله عن عمر وعلي.

[السابعة](1): أن يوجد في محلة قوم أو قبيلتهم أو مسجدهم.

فقال مالك والليث والشافعي وأحمد وداود وغيرهم: لا تثبت بمجرد هذا قسامة، بل القتيل هدر، لأنه [لا](2) يقتل الرجل الرجل ويلقيه في محلة طائفة ليست لهم ليلطخهم به.

قال الشافعي: إلا أن يكون في محلة أو قرية صغيرة.

[لا عداية](3) لا يساكنهم غيرهم فيكون كالقصة التي جرت بخيبر، فحكم عليه الصلاة والسلام بالقسامة لورثة القتيل لما كان بين الأنصار وبين اليهود من العداوة، ولم يكن هناك سواهم.

وعن أحمد نحو قول الشافعي، وتأوله بعضهم على مذهب مالك.

وقال أبو حنيفة والثوري ومعظم الكوفيين: وجود القتيل في المحلة والقرية يوجب القسامة، ولا تثبت القسامة عندهم في شيء من الصور السبعة إلا بهذا، لأنها عندهم في الصورة التي حكم بها النبي - صلي الله عليه وسلم - فيها بالقسامة، ولا قسامة عندهم إلا إذا وجد القتيل وبه أثر.

(1) ن هـ (سابعة).

(2)

زيادة من هـ وفي المفهم (قد).

(3)

هكذا في المخطوط والمراد به (العداوة) كما في المفهم (5/ 6) وسياق الكلام بعده.

ص: 73

قالوا: فإن وجد القتيل في مسجد حلف أهل المحلة ووجبت الدية في بيت المال، وذلك إذا ادعوا على أهل المحلة.

وقال الأوزاعي: وجود القتيل في المحلة يوجب القسامة، وإن لم يكن عليه أثر، ونحوه عن داود، وقال: لا أقضي بالقسامة في شيء إلا في الدعوى في العمد دون الخطأ على أهل القرية الكبيرة أو المدينة وهم أعداء المقتول.

الثاني: من أحكام الحديث اشتراط وجود الدم في إيجاب القسامة صريحًا، والجراحة ظاهرًا لوجود عبد الله بن سهل يتخبَّط في دمه قتيلًا، وحكمه عليه الصلاة والسلام بالقسامة بسببه وقد قدمنا في الصورة الأولى عن بعض المالكية اشتراط الأثر والجرح.

وقال أصحابنا: لا يشترط وجود دم ولا جراحة، فإن القتل قد يحصل بالخنق، وعصر الخصية، والقبض على مجرى النفس؛ فيقوم أثرهما مقام الجراحة.

وقال أبو حنيفة: إن لم تكن جراحة ولا دم فلا قسامة، وإن وجدت الجراحة ثبتت القسامة، وإن وجد الدم دونها؛ فإن خرج من أنفه فلا قسامة، وإن خرج من أذنه أو فمه ثبتت.

قال الرافعي: وهو وإن شرط الجراحة أو الدم في القسامة فلا يجعل الخلو عنها مبطلًا للوث، واللوث غير معتبر عنده، وليست القسامة عنده كهي عندنا.

الثالث: فضيلة السنن عند التساوي في الفضائل، وقد سلف واضحًا.

ص: 74

الرابع: البداءة في القسامة بيمين المدعي، وهو مذهب أهل الحجاز، ونقل عن أبي حنيفة خلافه. وهو مخالف لما اقتضاه الحديث، وقدم المدعي هاهنا باليمين على -خلاف قياس الخصومات- بما انضاف إلى دعواه من شهادة اللوث، مع عظم قدر الدماء، ولينبّه على أنه ليس كل واحد من هذين المعنيين بعلة مستقلة، بل كل واحد جزء علة.

الخامس: تعدد الأيمان في القسامة، وأنها خمسون، والحكمة في تعددها أن تصديق المدعي على خلاف الظاهر، فأكد بالعدد لتعظيم شأن الدم، فلو كانت الدعوى في غير محل اللوث وتوجهت اليمين على المدعى عليه، ففي تعددها خمسين، قولان للشافعي أظهرها نعم لتعظيم شأن الدم. ونقل مقابله عن أبي حنيفة لأنها يمين في جانب المدعى عليه لقطع الخصومة، فلا تغلظ بالعدد كسائر الدعاوى.

السادس: أن المدعي في محل القسامة إذا نكل غلظت اليمين، فالتعداد على المدعى عليه. وهو أصح الطريقين عند الشافعية، لقوله عليه الصلاة والسلام:"فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا" جعل أيمان المدعى عليهم بعد أيمان المدعين.

والطريق الثاني: طرد القولين المذكورين في المسألة قبلها لأن نكوله يبطل اللوث، فكأنه لا لوث.

السابع: صحة يمين الكافر، والفاسق أولى بالصحة منه.

ومشهور مذهب مالك أن الكافر إنما يحلف بالله الذي لا إله إلَّا هو سواء كان يهوديًا، أو نصرانيًا، أو غيرهما من الأديان كما يحلف

ص: 75

المسلم، وعنه أن اليهودي يحلف بالله الذي أنزل التوراة على موسى، والنصراني بالله الذي أنزل الإِنجيل على عيسى، ويحلف في المواضع التي يعتقد [تحريمها](1) الناس أن القسامة يجب بها القصاص، وقد سلف ما فيه.

التاسع: أن القسامة إنما تكون على واحد، لقوله عليه الصلاة والسلام:"يقسم خمسون منكم على رجل منهم". وبه قال مالك وأحمد، لأنه لو قتل أكثرُ من واحد، لم يتعين أن يقسم على واحد منهم، وخالف فيه المغيرة بن عبد الرحمن من أصحاب مالك.

وقال أشهب وغيره: يحلف الأولياء على ما شاؤوا، ولا يقتلون إلَّا واحدًا.

وقال الشافعي: إن ادعوا على جماعة حلفوا عليهم [وثبتت عليهم الدية على الصحيح عند الشافعي، وعلى قول يجب القصاص عليهم](2)، وإن حلفوا على واحد استحقوا عليه وحده.

العاشر: أنه لو تعدد المدَّعون في محل القسامة، حلف كل واحد منهم خمسين يمينًا، لقوله عليه الصلاة والسلام:"يقسم خمسون منكم على رجل منهم"، ومعناه: يقسم كل واحد من الخمسين القَسم المشروع في ذلك، وهو خمسون يمينًا، وهو أحد قولي الشافعي،

(1) في هـ والمفهم (5/ 15)(تعظيمها).

(2)

في ن هـ ساقطة.

ص: 76

وأصحَّهما: أنها توزع عليهم بحسب الإِرث، ويوزع الكسر، فلو كان الوارث ثلاثة مثلًا حلف كل واحد سبعة عشر، ثم الحالفون هم ورثة الدم، فلا يحلف غيرهم من الأقارب، وسواء كان الوارث ذكرًا أم أنثى، وسواء كان القتل عمدًا أم خطأ؛ وهذا مذهب الشافعي، وبه قال أبو ثور وابن المنذر، ووافق مالك فيما إذا كان القتل خطأ،

أما إذا كان عمدًا فقال: يحلف الأقارب خمسين يمينًا ولا يحلف النساء ولا الصبيان، ووافقه ربيعة والليث والأوزاعي وأحمد وداود وأهل الظاهر،

واحتج الشافعي بقوله: "أتحلفون وتستحقون قاتلكم، أو صاحبكم"، فجعل الحالف هو المستحق للدية أو القصاص، ومعلوم أن غير الوارث لا يستحق شيئًا فدل على أن المراد حلف من يستحق الدية.

الحادي عشر: قد يؤخذ من قوله: "يقسم خمسون منكم" ما إذا كانوا أكثر من خمسين أنه لا يحلف منهم إلا القدر المذكور.

وقد اختلف عن مالك في ذلك هل يحلف كلهم يمينًا [. . .](1) أو يقتصر منهم على خمسين.

قال القرطبي (2): هذا هو الأولى، لأن "من" للتبعيض والخطاب لجميع الأولياء، فأفاد ذلك أنه إذا حلف منهم خمسون أجزأ.

(1) في هـ زيادة (يمينًا).

(2)

المفهم (5/ 11) وفي المطبوع للتبيين وأشار في الحاشية (أنها للتبعيض).

ص: 77

الثاني عشر: جريان القسامة في قتل الحر، فإن الحديث ورد به، وفي إلحاق العبد به قولان للشافعي مأخذهما شرف الحرية أو الدماء، والأصح نعم، ونقل عن أبي حنيفة أيضًا.

الثالث عشر: جريانها في النفس الكاملة، وهل يجري فيما دون النفس من الأطراف والجراحات؟ مذهب مالك: لا.

وفي مذهب الشافعي قولان كما حكاه الشيخ تقي الدين (1)، والذي نعرفه من مذهبه الجزم في الطرف والجراحات كمذهب مالك. وحكى الروياني وجهًا في الأطراف، وغلط قائله ومنشأ الخلاف أن وصف كونها نفسًا له أثرٌ أم لا، وكون هذا الحكم على خلاف القياس يقوي الاقتصار على مورده.

الرابع عشر: جواز الحكم على الغائب وسماع الدعوى في الدماء من غير حضور الخصم، وقد سلف ما فيه.

الخامس عشر: جواز اليمين بالظن الراجح وإن لم يوجد القطع، وإنما عرض عليه الصلاة والسلام اليمين إن وجد فيهم هذا الشرط؛ ولهذا قالوا: كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟.

السادس عشر: إن الحكم بين المسلم والكافر يكون بحكم الإِسلام في الاحتساب بيمينه، والاكتفاء بها، وأن يمين المشرك مسموعة على المسلمين، كيمين المسلم عليه. قال الشيخ تقي الدين (2): ومن نقل من الناس عن مالك أن أيمانهم لا تسمع على

(1) انظر: إحكام الأحكام (4/ 314).

(2)

إحكام الأحكام (4/ 317).

ص: 78

المسلمين كشهادتهم، فقد أخطأ قطعًا في هذا الإطلاق، بل هو خلاف الإِجماع الذي لا يعرف غيره؛ لأنه في الخصومات إذا اقتضت توجيه اليمين على المدعى عليه حلف، وإن كان كافرًا.

السابع عشر: نظر الإِمام في المصالح العامة والاهتمام بإصلاح ذات البين.

الثامن عشر: جواز دفع الدية إلى أولياء المقتول من بيت المال، ويجعل قول الراوي:"فوداه من عنده"، أي من بيت المال المعدّ للمصالح مع احتمال أنها من خالص ماله عليه الصلاة والسلام.

واستدل به الإِمام أبو إسحاق المروزي -من أصحابنا- على جواز صرفها من إبل الزكاة، أي ويجوز صرفها في مثل هذا لأنه من المصالح العامة، وجعل بعضهم ذكر إبل الصدقة غلطًا من الرواة لأنها مستحقة لأصناف الزكاة. وحمله الجمهور من أصحابنا وغيرهم على أنه اشتراها من أهل الصدقات بعد أن ملكوها ثم دفعها إلى أهل القتيل تبرعًا وهو المختار، وقريب منه أنه تسلفها من مال الصدقة ليؤدِّيها من مال الفيء.

وحكى القاضي: عن بعض العلماء أنه يجوز صرف الزكاة في المصالح العامة، وتأول هذا الحديث وتأوله بعضهم على أن أولياء المقتول كانوا محتاجين ممن تباح لهم الزكاة، وأبطلها النووي في "شرحه لمسلم" (1) بأن قال: هذا قدر كبير لا يدفع

(1)(11/ 148).

ص: 79

إلى الواحد الخامل من الزكاة بخلاف أشراف القبائل، ولأنه سماه دية.

وتأوله بعضهم على أنه دفعه من سهم المؤلفة من الزكاة ائتلافًا لليهود، ولعلهم يسلمون، وضعفه النووي أيضًا بأن الزكاة لا يجوز صرفها إلى كافر، ويحتمل أن يكون أولياء القتيل مستحقين للصدقات، فأعطاها إياهم في صورة الدية تسكينًا لنفرتهم وجبرًا لهم مع أنهم يستحقون لها. ذكره القرطبي (1).

ورأيت من يجيب بجوابين آخرين،

أحدهما: لعله أراد بالصدقة الفيء لأنه مرصد للمصالح.

ثانيها: لعل ذلك كان قبل نزول بيان مصارف الصدقة في سورة براءة، لأنها من آخر ما نزل من القرآن.

التاسع عشر: أن الدية من الإِبل.

العشرون: أن من وجبت عليه يمين في دعوى فنكل أن المدعي لا يستحق شيئًا حتى يرد عليه؛ وهو قول مالك والشافعي. ويُروى عن عمر وعثمان وجماعة من السلف، لقوله عليه الصلاة والسلام:"فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا". وقال الكوفيون وأحمد: ويقضى بالنكول دون رد اليمين. وقال ابن أبي ليلى: يؤخذ باليمين.

(1) المفهم (5/ 16).

ص: 80

خاتمة: أول من قضى بالقسامة -على ما حكاه ابن قتيبة في "معارفه"- الوليد بن المغيرة في الجاهلية، فأقرها عليه الصلاة والسلام في الإِسلام. وفي "مصنف عبد الرزاق"(1) أن أول من كانت فيه القسامة في الإِسلام عبد الله بن سهل، وذكر ابن زبالة أنه عليه الصلاة والسلام قضى بذلك في مسجد بني حارثة من الأوس.

(1)(10/ 30، 31).

ص: 81