الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السابع
361/ 7/ 68 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها. فاختصموا إلى رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، فقضى رسول الله - صلي الله عليه وسلم - أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معهم، فقام حمل بن النابغة الهذلي فقال: يا رسول الله، كيف أغرم من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل؟ فمثل ذلك يطل. فقال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "إنما هو من إخوان الكهان" من أجل سجعه الذي سجع (1).
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: الضاربة من المرأتين؛ يقال أنها أم عفيف (2) بنت
(1) البخاري (5758)، ومسلم (1681)، وأحمد (2/ 236)، ومالك (2/ 651)، وأبو داود (4576، 4577، 4579)، والنسائي (8/ 47، 48)، وفي الكبرى له (702، 7023)، والترمذي (1410)، وابن ماجه (2639)، والدارمي (2/ 197)، وابن الجارود (1/ 294)، والبيهقي في السنن (8/ 195، 197)، وعبد الرزاق (10/ 56).
(2)
في سنن أبي داود عن ابن عباس (أم غطيف).
مسروح، والمضروبة مليكة بنت [عويم](1)، ذكره ابن بشكوال عن عبد الغني، وفي حديثه: فقال العلاء بن مسروح: يا رسول الله، [لا يغرم من لا شرب ولا أكل] (2). . . . الحديث. قال: وقيل: إن المتكلم بذلك حمل بن مالك بن النابغة وأنه كان له امرأتان: مليكة وأم عفيف.
قلت: وهو الصحيح، أعني أن المتكلم بذلك حمل بن مالك بن النابغة لثبوته كذلك في الصحيح.
وقال الخطيب (3): إحداهما مليكة والأخرى غطيفة. ويقال: أم غطيف.
قال: وروي أن إحداهما أم عطيف والأخرى أم مكلف. قال: وذكر أن الضاربة هي أم عفيف بنت مسروح، والمضروبة مليكة بنت ساعدة الهذلي.
وقال ابن أبي شيبة (4): مليكة ابنة عويمر من بني لحيان. وكذا قال أبو عمر (5). وقال الحافظ أبو موسى: عويم بلا راء كما سلف عن ابن بشكوال، ورأيت بخط الصعبي في كلامه على رجال هذا الكتاب -بنت عون بنون بدل الميم- وما أبعد أن يكون تصحيفًا.
(1) ذكر ابن بشكوال (عويمر)(220).
(2)
في المرجع السابق (أنغرم من لا أكل ولا شرب). وهو في معجم الطبراني (17/ 141) والخطيب في المبهمات.
(3)
المبهمات ص 514.
(4)
مصنف ابن أبي شيبة (10/ 55).
(5)
الاستيعاب (4/ 1914).
ثانيها: "حمل" بفتح الحاء المهملة والميم: هو ابن مالك بن النابغة، وفي رواية المصنف نسبته إلى جده، والنابغة من نبغ إذا علا وارتفع، وهو هذلي من هذيل بن مدركة بن الياس، وكنيته أبو فضلة. له صحبة، نزل البصرة وله بها دار، وذكره مسلم فيمن روى من أهل المدينة، روى عنه ابن عباس. قال ابن السكن: يقال أسلم ثم رجع إلى بلاد قومه. قال: وليس يروى عنه غير هذا الحديث والروايات عنه حجازية، ويقال في اسمه. حمله بزيادة هاء. ذكره ابن عبد البر في "استيعابه"، وهو غريب.
ثالثها: قوله: "اقتتلت امرأتان من هذيل" وجاء في الصحيح أيضًا أن المضروبة من بني لحيان، ولا تنافي بينهما، فإن لحيان بكسر اللام، وقيل: بفتحها، بطن من هذيل، وفي الصحيح أن إحداهما كانت ضرة الأخرى.
رابعها: "العاقلة": جمع عاقل، وجمع الجمع عواقل، والمعاقل: الديات، والعقل: الدية، سُمِّيت بذلك لأن مؤديها يعقلها بفناء أولياء المقتول. يُقال: عقلت فلانًا إذا أعطيت ديته، وعقلت عن فلان إذا غرمت عنه دية جنايته، ويقال لدافع الدية: عاقل، لعقله الإِبل بالعقل، وهي الحبال التي تثنى بها أيدي الإبل إلى ركبها فتشد بها، وعقلت البعير أعقِله بكسر القاف عقلًا، والعاقلة عند الفقهاء العصبات ما عدا الآباء والأبناء.
خامسها: "فرمت إحداهما الأخرى بحجر [فقتلتها](1) وما في
(1) ساقطة من ن هـ.
بطنها"، أي رمتها بحجر صغير لا يحصل به القتل غالبًا، فيكون شبه عمد، فيه الدية على العاقلة ولا يجب فيه القصاص ولا دية على الجاني. وكذا تحمل رواية الصحيح أيضًا أنها ضربتها بعمود فسطاط على ذلك. وبهذا قال الشافعي (1) والجمهور، لكن في رواية للبيهقي (2): "فقضى في الجنين بغرة وقضى أن تُقتل المرأة بالمرأة" ثم قال: إسناد صحيح، إلا أن هذه الزيادة الأخيرة لم أجدها في شيء من طرق الحديث، وإنما فيها أنه قضى بديتها على العاقلة.
قلت: وأخرج ابن حبان في صحيحه (3) هذه الرواية أيضًا، ورواية الصحيحين مقدمة عليها، ويحتمل في الجمع بينهما بأنه قضى أولًا بقتلها، ثم عفو إلى الدية، فقضى بها على عاقلتها.
سادسها: قوله: "فقتلتها وما في بطنها" ليس فيه ما يشعر بانفصال الجنين، ولا يفهم منه بخلاف حديث عمر الذي قبله؛ فإنه صرَّح في الانفصال وهو مشروط عند الشافعية في وجوب الغرة كما أسلفناه، ثم قال الشيخ تقي الدين (4): فيحتاج إلى تأويل هذه الرواية، وحملها على أنه انفصل، وإن لم يكن في اللفظ ما يدل عليه.
قلت: في "صحيح مسلم" في هذا الحديث ما يدل عليه، فإن فيه: "أنه عليه الصلاة والسلام قضى في جنين المرأة من بني
(1) السنن الكبرى (8/ 113).
(2)
السنن الكبرى (8/ 113).
(3)
صحيح ابن حبان (6018).
(4)
إحكام الأحكام (4/ 329).
لحيان سقط ميتًا بغرة عبدٍ أو أمة، ثم إن المرأة التي قضى عليها -أي لها بالغرة- توفيت" الحديث، وطرق الحديث يفسِّر بعضها بعضًا.
وقوله: "فقتلتها" ظاهر العطف بالفاء وقع عقب الضرب، وليس كذلك بدليل الرواية التي أوردناها آنفًا.
سابعها: الحكم في الحديث معلق بلفظ الجنين، والشافعية فسَّروه بما ظهر فيه صورة آدمي من يد أو إصبع أو غيرهما، ولو لم يظهر شيء من ذلك، وشهدت القوابل بأن الصورة خفية لا يعرفها إلا أهل الخبرة، وجبت أيضًا، ولو قالوا ليس ثم صورة، ولكن لو بقي لتصور، فوجهان، أصحّهما: لا غرة وإن شكت في كونه أصل آدمي لم تجب قطعًا، وحَظُّ الحديث أن الحكم مرتب على اسم "الجنين"، فما تخلق فهو داخل فيه. وما كان دون ذلك فلا يدخل تحته إلا من حيث الوضع اللغوي، فإن الجنين مأخوذ من الاجتنان -وهو الاختفاء-، فإن خالفه العرف العام فهو أولى منه، وإلا اعتبر الوضع.
ثامنها: "قضى" معناها حكم وألزم.
"وغرة عبد أو وليدة" بالتنوين و"عبدٌ" بالرفع على البدل، وروى بغير تنوين وخفض "عبد" بالإِضافة، وقد سلف ذلك.
وقوله: "أو وليدة" معطوف على عبد، ففيه الوجهان.
و"الوليدة": الأمة، كما جاء في الرواية الأخرى.
ومعنى "استهل": رفع الصوت بالصياح ونحوه.
ومعنى "يطل": أي يهدر، أي يلغى.
قال أهل اللغة: يقال طل دمه، بضم الطاء، وأطِل: أي أهدر، وأطله الحاكم وطله:(1) أهدره. وجوَّز بعضهم طل دمه بفتح الطاء واللام، وأباها الأكثرون. واختلف في ضبط الياء من يطل على وجهين:
أحدهما: بضم الياء المثناة تحت وفتح الطاء وتشديد اللام، أي يهدر ويلغى ولا يضمن.
ثانيهما: بفتح الباء الموحدة وتخفيف اللام على أنه فعل ماض من البطلان، وهو بمعنى الأول، وأكثر صحيح مسلم على الأول. ونقل القاضي (2) أن جمهور الرواة فيه على الثاني. وقال الخطابي (3): أنه قول عامة المحدثين، واقتصر الشيخ تقي الدين (4) في شرحه على الأول، فقال: طلَّ دمه إذا أهدر ولم يؤخذ فيه شيء.
تاسعها: "الكهان": جمع كاهن، وهو تخييل كالسحر [وكلاهما من الجبت. قال القاضي (5): الكهانة في العرب] (6) على أربعة أضرب:
(1) في ن هـ زيادة واو.
(2)
ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 433)، ومشارق الأنوار (1/ 88).
(3)
إصلاح غلط المحدثين (57).
(4)
إحكام الأحكام (4/ 322).
(5)
ذكره في إكمال إكمال المعلم.
(6)
زيادة من ن هـ.
أحدها: أن يكون للإنسان من يخبره من الجن فيسترق من السماء، وهذا قد بطل بالبعثة.
ثانيها: أن يخبره الجن بما يطرأ في بعض الأقطار البعيدة مما خفي على من قرب أو بعد، وهذا لا يبعد وجوده. ونفت هذا كله المعتزلة وبعض المتكلِّمين.
ثالثها: الحزر والتخمين والأغلب فيها الكذب.
رابعها: العرافة، وهو الذي يستدل على الأمور المقدمات بأسباب معتادة، وهذا الفن من العيافة، وكلها يُطلق عليها كهانة.
عاشرها: السجع في الكلام الذي يأتي في أواخره نسق واحد، وأصله القصد المستوي على نسق واحد في كل شيء.
قال الجوهري (1): السجع: الكلام المقفى، والجمع: أسجاع، وأساجيع، وقد سجع الرجل سجعًا وسجع تسجيعًا، وكلام مسجع. وإنما ذم سجعه لما فيه من التكلف لإِبطال حق أو تحقيق [باطل](2)، أو لمجرد التكليف، ولا شك في ذم ذلك. وأما مطلق السجع الذي ليس كذلك، فليس بمذموم بل ممدوح؛ خصوصًا إذا كان أدعى إلى قبول الحق أو فهمه أو حفظ لفظه لوروده في حديث النبي - صلي الله عليه وسلم - وكلام السلف. ولهذا شبَّه عليه الصلاة والسلام سجعه بسجع الكهان من [حيث](3) أنهم كانوا يروجون أقاويلهم
(1) مختار الصحاح (س. ج. ع).
(2)
زيادة من ن هـ.
(3)
زيادة من ن هـ.
الباطلة بأسجاع تروق للسامعين، فيستميلون بها القلوب ويستصغون إليها الأسماع. فأما إذا كان في مواضعه من الكلام، فلا ذم فيه.
تنبيه:
قوله: "من أجل سجعه الذي سجع" يحتمل أن يكون مدرجًا وأن يكون من نفس الحديث. وجزم القرطبي (1) في "مفهمه" بأنه من تفسير الراوي.
الحادي عشر: في أحكامه:
الأول: رفع الجنايات والخصام فيها إلى الحكام لغرض الفصل.
الثاني: وجوب الغرة بالجناية على الجنين وانفصاله ميتًا.
الثالث: أنه لا فرق بين الذكر والأنثى، ويخير مستحقها على قبولها من أي نوع كان بالشرط الذي أسلفناه في الكلام على الحديث قبله.
الرابع: أنه لا يتقدر للغرة قيمة لإِطلاق الخبر وهو وجه سلف مع بيان الأصح فيه.
الخامس: أن الغرة إذا وجدت بصفاتها المعتبرة لا يلزم المستحق قبول غيرها لتعيينها في الحديث، وأما إذا عدمت فليس في الحديث ما يشعر بحكمه وقد أسلفت حكمه في الكلام على الحديث قبله.
(1) المفهم (5/ 64).
السادس: أنه لا يقتضي تخصيص سن دون سن للغرة، وقد أسلفت ما فيه هناك أيضًا، وأن الأصح قبول كبير لم يعجز بهرم، ووجهه أن من أتى بما دل الحديث عليه وسماه، فقد أتى بما وجب، فلزم قبوله، إلا أن يدل دليل على خلافه، كيف والحديث [بالإِطلاق](1) ليس فيه تقييد لمعين ولا يقتضيه لفظه.
السابع: هذا الحديث ورد في جنين حرة من غير لفظ عام، والحديث السالف ليس فيه تقييد، فإن المرأة تطلق عليها؛ وإن كان في لفظ الراوي ما يقتضي أنه شهد واقعة مخصوصة في جنين حرة، فعلى هذا يؤخذ حكم جنين الأمة من محل آخر، وقد أسلفت فيما مضى أن فيه عشر قيمة أمه، والجنين اليهودي والنصراني قيل كمسلم، وقيل: هدر، والأصح: أن الواجب فيه غرة كثلث غرة مسلم.
الثامن: أن دية المرأة الميتة من ضرب شبه عمد على عاقلتها إجراءً لحكمها مجرى القتل العمد.
التاسع: ذم الكهان وسجعهم والتشبه بهم.
العاشر: بيان الأحكام في المنطق وغيره من الأعمال.
الحادي عشر: أن العقل لا مدخل له في الأحكام الشرعية، وأنه لا حكم إلا للشرع.
الثاني عشر: قال القاضي: وفي قول "حمل كيف أغرم" إلى آخره: حجة لليث وربيعة على أن الغرة للأم خاصة؛ إذ لو كانت على
(1) في هـ (بإطلاقه).
الفرائض على مشهور قول مالك وأصحابه وأصحاب أبي حنيفة والشافعي لكان للأب فيها أكثرُ نصيب أو للأم والأب على مذهب ابن هرمز، [فلا يقرب للغرة](1) ، لأنه يغرم أكثرُ مما يعطي.
الثالث عشر: قد يحتج بقوله: "وقضى بدية المرأة على عاقلتها" من لا يرى القصاص في القتل بغير المحدد ويجعله شبه العمد، ويعارض ذلك رواية من روى القتل -كما أسلفته- (2).
(1) لعل معناه: (فلا يرث من الغرة). كما في إكمال المعلم (5/ 493) قال: (فلما كان غارمًا محضًا دل أنه لم يكن له في ذلك حق). وساقها المصنف بتصرف.
(2)
كما في الوجه الخامس ص 109، 110.