الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس
379/ 5/ 72 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرىءٍ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان، ونزلت:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} ، إلى آخر الآية (1).
الكلام عليه من وجوه:
والتعريف براويه سلف في أول الصلاة:
الأول: يجوز تنوين "يمين" على أن يكون صبرٍ صفة لها ويكون من باب رجل عدل وترك تنوينه على الإِضافة، وهو المعروف المشهور في الرواية.
الثاني: معنى "الصبر" هنا الحبس كما وجد في بعض نسخ الكتاب، أي: يحبس نفسه على اليمين بها كاذبة غير مبالٍ بها فكأنه
(1) البخاري (2515)، ومسلم (138)، وأبو داود (3243)، والترمذي (2996، 1269)، والنسائي في الكبرى (5991، 5992)، وابن الجارود (926)، والحميدي (95)، وأبو عوانة (1/ 38، 39)، وابن ماجه (2323)، والبيهقي في السنن (10/ 427)، وأحمد (1/ 377)، والبغوي في السنة (1/ 130)، وابن أبي شيبة (5/ 252).
يحبس نفسه على أمر عظيم وهي اليمين الحانثة، ومنه نهى أن تصبّر البهائم (1)، أي: تحبس وتجعل غرضًا يرمى إليها. وقال القاضي عياض (2): الصبر هنا يحتمل أن يكون بمعنى الإِكراه، أي: أكره حتى حلف، ويحتمل أن يكون بمعنى الجرأة والإِقدام ومنه قوله تعالي:{فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)} .
قلت: هذا الثاني هو الظاهر مع ما ذكرته من كونه الحبس.
الثالث: هذه اليمين تسمى أيضًا غموسًا لأنها تغمس صاحبها في الإِثم أو في النار، وهي من الكبائر وتتعلق بها الكفارة عند الشافعي خلافًا للأئمة الثلاثة، قالوا: وإثمها أعظم من أن يكفر، قال الماوردي (3) وغيره من الشافعية: وهذه اليمين يستحيل فرض انعقادها لأن عقدها، إنما يكون فيما ينتظر بعدها من برأو حنث، وهذه اليمين قد اقترن بها الحنث بعد استيفاء لفظها، فلذلك لم تنعقد، ووجبت الكفارة باستيفاء اليمين، ونحن نعتبر في وجوب الكفارة مجرد [. . .](4) والحنث، وقد وجدا في هذه اليمين ولا يعتبر الانعقاد.
(1) من حديث جابر عند مسلم ولفظه: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل شيء من الدواب صبرًا". أخرجه مسلم (1959)، ومن حديث أبي أيوب ولفظ "نهى رسول الله - صلي الله عليه وسلم - عن صبر البهائم". أخرجه أحمد (5/ 422)، والدارمي (2/ 83)، والبيهقي في السنن (9/ 71).
(2)
أشار إليه في إكمال إكمال المعلم (1/ 220، 242).
(3)
الحاوي الكبير (19/ 317).
(4)
بياض بمقدار كلمة (في الأصل).
الرابع: كأن ذكر المسلم [. . .](1) من باب التشنيع على الحالف والحالة هذه كما يقال ذم العالم حرام وإن كان ذم غيره حرام لكن قيل هذا أشنع من قبل غيره ممن لم يتصف بهذا الوصف. وقال القاضي: خص بالذكر لأنه المخاطب وغالب المعاملات واقعة معه.
الخامس: في الحديث وعيد شديد لفاعل هذه اليمين الكاذبة فإن غضب الله تعالى هو إرادة إبعاد ذلك المغضوب عليه من رحمته (2) وذلك لما فيه من أكل المال بالباطل ظلمًا وعدوانًا والاستخفاف بحرمة اليمين بالله تعالى.
سادسًا: فيه أيضًا تعظيم حرمة مال المسلم وإن قل وعصمته وهو دال على حرمة ذاته من باب أولى.
سابعًا: فيه أيضًا تعظيم القسم بالله مطلقًا.
الثامن: هذا الحديث يقتضي تفسير الآية المذكورة بالمعنى السالف وفي ذلك اختلاف المفسرين، ويترجح قول من ذهب إلى هذا المعنى لهذا الحديث وسيأتي من حديث الأشعث بن قيس الآتي أنها نزلت فيه وفي صاحب له في بئر كانت بينهما.
(1) بياض بمقدار كلمة (في الأصل)، ولعلها (هنا).
(2)
الغضب من الصفات الفعلية لله التي يجب على الإِنسان إثباتها اتباعًا للكتاب والسنَّة أما تأويل الغضب بالإرادة فهذا خلاف مذهب أهل السنة والجماعة.
وفي "صحيح البخاري"(1) من حديث عبد الله بن أبي أوفى "أن رجلًا أقام سلعة وهو في السوق فحلف بالله لقد أعطى ما لم يعطِ ليوقع فيها رجلًا من المسلمين فنزلت"، والله أعلم.
وعن عكرمة (2) وعطاء أنها نزلت في رؤوس اليهود كعب بن الأشرف وغيره لما كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة في شأن محمَّد صلى الله عليه وسلم وبدلوه وكتبوا بأيديهم غيره وحلفوا أنه من عند الله لئلا تفوتهم المآكل والدعوة والرُشى التي كانت عليهم من أتباعهم.
واعلم أن بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني الكتاب العزيز وهو أمر يحصل للصحابة بقرائن مختلفة بالقضايا حتى قال بعض المحدثين تعيين الصحابي مرفوع مطلقًا لأنهم أعلم بتنزيل الوحي ومواقعه وأسبابه، والصحيح أن ما تعلق بسببه نزول آية أو تقديم حكم أو غيره مرفوع وإلَّا فموقوف.
التاسعة: هذه الآية يدخل فيها الكفر فما دونه من جحد حقوق ونحوها وكل أحد يأخذ من وعيدها على قدر جريمته.
العاشر: يؤخذ منه أن حكم الحاكم لا يغير سببًا ولا يخرجه عن حقيقته التي هو عليها في نفس الأمر وهو مذهب الشافعي ومالك وأحمد والجمهور خلافًا لأبي حنيفة.
(1) كتاب الشهادات (2675) في باب قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} ، وفي التفسير: باب قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} (4551).
(2)
تفسير الطبري (6/ 528). سورة آل عمران: آية (77).
الحادي عشر: يدخل فيه المورِّي في الأيمان فإنها لا تنفعه إذا كان المحلف حاكمًا وحلفه بالله تعالى، فإن حلفه بغيره كالطلاق والعتاق إذا حلف ابتداء من غير تحليف حاكم أو حلفه غير حاكم بنفيه.
نعم لا يجوز فعلها إذا كان فيها إبطال حق مستحق عليه إجماعًا، هذا تفصيل مذهب الشافعي. ونقل القاضي عياض عن مالك وأصحابه في ذلك خلاف وتفصيلًا ليس هذا موضع ذكره فإن محله كتب الفروع.