المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الرابع 378/ 4/ 72 - عن أبي هريرة رضي الله - الإعلام بفوائد عمدة الأحكام - جـ ٩

[ابن الملقن]

الفصل: ‌ ‌الحديث الرابع 378/ 4/ 72 - عن أبي هريرة رضي الله

‌الحديث الرابع

378/ 4/ 72 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلي الله عليه وسلم - قال: "قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، تلد كل امرأة منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله. فقيل له: قل إن شاء الله فلم يقل، فطاف بهن، فلم تلد منهن إلَّا امرأة واحدة: نصف إنسان. قال: فقال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان ذلك دركًا لحاجته" (1).

قوله: "قيل له: قل إن شاء الله". يعني: قال له الملك.

الكلام عليه من وجوه:

الأول: في التعريف براويه، وبالأسماء الواقعة فيه.

أما سليمان على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام فهو أحد المؤمنين الذي ملكهما تعالى الدنيا كلها والآخر ذو القرنين وقيل: إن

(1) البخاري (2819)، ومسلم (1654)، والنسائي (7/ 25)، وفي الكبرى له (9032، 1302)، والبغوي (79)، وأحمد (229/ 2، 275، 506)، والبيهقي (10/ 44)، والحميدي (1174)، وعبد الرزاق في تفسيره (1/ 337).

ص: 263

الدنيا كلها ملكها أربعة: مؤمنان وهما هذان، وكافران وهما نمرود وبخت نصّر. قال القضاعي: ويقال إنه ملك بعد أبيه وله اثنتا عشرة سنة من عمره وسخر الله معه الجن والإِنس والطير والريح وأتاه النبوة، وكان إذا جلس في مجلسه عكفت عليه الطير وقام له الإِنس والجن، وكان إذا أراد سفرًا لغزوٍ أمر فنصب له خشب وحمل عليه ما يريد من الناس والدواب وآلة الحرب ثم يأمر العاصف من الريح فيدخل تحت ذلك الخشب ليحمله فإذا انتقل أمر الرخا فمدته شهرًا في غدوه وشهرًا في روحته إلى حيث يشاء. عاش ثلاثًا وخمسين سنة. وترجمته مبسوطة في كلامي على رجال هذا الكتاب فراجعها منه.

وأما والده: على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام فترجمته أيضًا مبسوطة في الكتاب المذكور فراجعها منه. وأما التعريف براويه فسلف أول الكتاب.

الوجه الثاني: في ألفاظه ومعانيه:

قوله: "لأطوفن" كذا هو في الروايات كلها وفي بعض نسخ "صحيح مسلم" و"البخاري""لأطيفن" وهما لغتان فصيحتان يقال: طاف بالشيء وأطاف به إذا دار حوله وتكرر عليه فهو طائف ومطيف وهو هنا كناية عن الجماع. واللام في قوله: "لأطوفن" الظاهر أنها لام جواب القسم، أي: والله لأطوفن ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام: "لو قال إن شاء الله لم يحنث"، لأن عدم الحنث ووجوده لا يكون إلَّا عن قسم ويبعد أن تكون ابتدائية، وأن ذلك حكاية عن قول سليمان من غير قسم.

ص: 264

وقوله: "على سبعين امرأة" هو إحدى الروايات من قدر ذلك.

وفي أخرى في مسلم "كان له ستون امرأة فقال: لأطوفن عليهن الليلة"، وفي أخرى له:"على تسعين امرأة". وفي كتاب النكاح من البخاري "مائة امرأة". وجاء في رواية أخرى: "على تسع وتسعين" ولا منافاة بين هذه الروايات لأنه ليس في ذكر القليل نفي الكثير وهو من مفهوم العدد ولا يعمل به جمهور أهل الأصول.

وقوله: "تلد كل امرأة منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله". هذا قاله على سبيل التمني للخير وجزم بذلك لغلبة رجائه وقصد به الآخرة والجهاد في سبيل الله تعالى لا لعرض الدنيا. قال بعض المتكلمين: نبه عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث على آفة التمني والإعراض عن التسليم [والتفويض](1) قال: ومن آفته نسيانه الاستثناء ليمضي فيه القدر السابق.

و"الغلام" سلف الكلام فيه لغة. على الحديث الرابع من باب الاستطابة، والمراد هنا الشاب المطيق للقتال.

وقوله: " [قيل له:] (2) قل إن شاء الله". يعني: قاله له الملك كما سلف من كلام المصنف وهو مصرح به في "صحيح البخاري" في نفس الحديث وهذا لفظه، "فقال له الملك: قل إن شاء الله فلم يقل ونسي" ذكره في أثناء النكاح (3).

(1) زيادة من ن هـ.

(2)

في هـ ساقطة.

(3)

الفتح (9/ 450) رقم (5242).

ص: 265

وفي "صحيح مسلم": "فقال له صاحبه: أو الملك". وهو شك من أحد رواته، وفي رواية له:"فقال له صاحبه"، بالجزم من غير تردد. قال القرطبي (1): فإن كان صاحبه فيعني به وزيره من الإِنس أو من الجن، وإن كان الملك فهو الذي كان يأتيه بالوحي. قال: وقد أبعد من قال: هو خاطره.

وقال النووي (2): قيل المراد بصاحبه الملك وهو الظاهر من لفظه وقيل: القرين، وقيل: صاحب له آدمي.

وقوله: "فقيل له قل إن شاء الله فلم يقل". قال القاضي عياض (3): قد فسر في الحديث الآخر بقوله: "فنسي"، وقيل: صرف عن الاستثناء ليتم سابق حكمه تعالى. وقيل: هو على التقديم والتأخير، والتقدير: فلم يقل إن شاء الله فقيل له: قل إن شاء الله.

وقوله: "فلم يقل"، أي بلسانه لا أنه غفل عن التفويض إلى الله بقلبه فإنه لا يليق بمنصب النبوة.

قال القرطبي (4): وهذا كما اتفق لنبينا محمَّد -عليه أفضل الصلاة والسلام- لما سئل عن الروح، والخضر، وذي القرنين، فوعدهم أن يأتي بالجواب غدًا، جازمًا بما عنده من معرفته بالله لكنه ذهل عن النطق بالمشيئة لا عن التفويض فاتفق أن تأخر الوحي عنه

(1) المفهم (4/ 637).

(2)

شرح مسلم (11/ 120).

(3)

ذكره في (إكمال إكمال المعلم)، (4/ 377).

(4)

المفهم (4/ 637).

ص: 266

ورمى بما رمي لأجل ذلك ثم علمه الله بقوله: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ} الآية. فكان بعد ذلك يستعمل هذه الكلمة حتى في الواجب.

وقوله: "وطاف بهن" في بعض روايات البخاري: "فأطاف بهن" وقد تقدم أنها لغتان.

وقوله: "نصف إنسان". قيل: إنه الجسد الذي ذكر الله أنه ألقي على كرسيه. وفي مسلم "شق غلام" وفي لفظ: "بشق رجل" وفي بعض طرق البخاري: "فلم يحمل شيئًا إلا واحدًا ساقطًا إحدى شقيه".

وقوله: "لو قال إن شاء الله" إلى آخره، هذا محمول إلى أنه عليه الصلاة والسلام أوحي إليه بذلك في حق سليمان لا أن كل من فعل هذا لم يحصل له هذا. وفي بعض طرقه في الصحيح:"وأيم الله الذي نفس محمَّد بيدِه لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله". وهذا من خصائص نبينا عليه الصلاة والسلام في اطلاعه على أخبار الأنبياء السالفة والأمم الماضية.

وقوله: "وكان دركًا لحاجته" هو بفتح الراء اسم من الإِدراك، أي: لحاقًا. قال تعالى: {لَا تَخَافُ دَرَكًا} (1). المعنى أنه كان يحصل له ما أراد. وفي رواية للبخاري: "وكان أرجى لحاجته".

الوجه الثالث: في فوائده وأحكامه:

الأولى: قصد فعل الخير وتعاطي أسبابه.

(1) سورة طه: آية 77.

ص: 267

الثانية: استحباب الاستثناء لمن قال سأفعل كذا قال تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} . وكان عليه الصلاة والسلام يقولها إذا مرَّ على المقابر أيضًا. وقد ظهر أثر المشيئة أيضًا في قصة يأجوج ومأجوج لما قال الذي عليهم "ارجعوا وستحفرونه غدًا"(1). -يعني: السد- إن شاء الله فيجدونه كهيئته حين تركوه، فيحفرونه، ويخرجون"، وفي كل يوم قبل ذلك لم يستثن فيجدونه كأشد ما كان فينبغي إذن أن لا يترك في حال.

الثالثة: ما خص به الأنبياء من القوة على إطاقة هذا في ليلة واحدة. وكان نبينا عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام يطوف على إحدى عشرة في الساعة الواحدة كما ثبت في الصحيح (2). وهذا كله من زيادة القوة وصحة البنية مع ما كانوا فيه من الجهد كما هو معلوم من حالهم. وهو يوجب في العادة الضعف عن ذلك فخرق الله لهم العادة في أبدانهم كما خرقها لهم في معجزاتهم وأكثر أحوالهم.

وحكى القرطبي في قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (3). قال: كان سليمان أكثر الأنبياء نساء اجتمع

(1) الترمذي (3153)، وأحمد (2/ 510، 511)، وابن ماجه (4080)، وتفسير الطبري (16/ 21)، والحاكم (4/ 488). وقال ابن كثير في تفسيره لسورة الكهف: آية (97): إسناده قوي جيد لكن في رفعه نكارة. . . . إلخ.

(2)

ولفظه عن أنس: "كان يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار وهن إحدى عشرة". الحديث أخرجه البخاري (268).

(3)

سورة النساء: آية 54. انظر: تفسير القرطبي (5/ 250).

ص: 268

عنده ألفا امرأة وثلاثمائة مهرية وسبعمائة سرية وكان له قوة أربعين نبيًا. [وقال مجاهد أعطي نبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم قوة أربعين رجلًا كل رجل من أهل الجنة. قال القاضي حسين: لا يجوز أن يوصف نبي من الأنبياء بالعنة لأنها عيب وهم منزهون عن العيوب، ذكره رادًا على من فسر "الحصور" بأنه الذي لا يأتي النساء عجزًا](1).

قال أبو بكر الوراق: كل شهوة تقسي القلب إلَّا الجماع فإنه يصفيه، ولذلك كانت الأنبياء تفعله كثيرًا. ويقال: إن كل من كان اتقى الله فشهوته أشد لأن الذي لا يكون تقيًا يتفرّج بالنظر وغيره بخلاف التقي.

رابعها: أن اتباع المشيئة لليمين بالله ترفع حكمها. قال القاضي عياض (2): أجمع المسلمون على أن قوله: إن شاء الله، يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلًا قال: ولو جاز منفصلًا كما روي عن بعض السلف لم يحنث في يمين قط ولم يحتج إلى كفارة.

قال: واختلفوا في الاتصال.

فقال مالك والأوزاعي والشافعي والجمهور: هو أن يكون قوله: "إن شاء الله" متصلًا باليمين من غير سكوت بينهما ولا يضر سكتة التنفس والقيء.

(1) زيادة من ن هـ، حيث ذكر في أعلى اللوحة الآتية وهو غير واضح. انظر:(عمدة الحفاظ)، (126).

(2)

ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 477).

ص: 269

والأصح عند أصحابنا: اشتراط نيّة الاستثناء قبل فراغ اليمين أيضًا.

وعن طاوس والحسن وجماعة من التابعين: أن له الاستثناء ما لم يقم من مجلسه. وقال قتادة: ما لم يقم أو يتكلم، وقال عطاء: قدر حلبة ناقة.

وقال سعيد بن جبير: بعد أربعة أشهر. وعن ابن عباس الاستثناء أبدًا متى يذكره، وعنه إلى شهر وعنه إلى سنة، وعن بعضهم له ذلك سنة أو سنتين. وتأول بعضهم هذا المنقول عن هؤلاء على أن مرادهم أنه يستحب له قول إن شاء الله تبركًا ولقوله تعالى:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} . ولم يريدوا به حل اليمين ومنع الحنث.

وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "فقال له صاحبه قل إن شاء الله"، فلا دلالة فيه على جواز الانفصال لأنه يحتمل أن يكون صاحبه قال له ذلك وهو بعد في أثناء اليمين، أو أن الذي جرى منه ليس بيمين فإنه ليس في الحديث تصريح بيمين.

أما إذا استثنى في الطلاق والعتق وغير ذلك سوى اليمين بالله تعالى فقال: أنت طالق إن شاء الله أو أنت حر إن شاء الله، أو أنت عليّ كظهر أمي إن شاء الله، وما أشبه ذلك.

فمذهب الشافعي والكوفيين وأبي ثور: صحة الاستثناء في جميع ذلك كما أجمعوا عليها في اليمين بالله تعالى فلا يحنث في طلاق ولا عتق ولا ينعقد ظهاره ولا نذره ولا إقراره ولا غير ذلك مما يتصل به قول إن شاء الله.

ص: 270

وقال مالك والأوزاعي: لا يصح الاستثناء في شيء من هذا إلا اليمين بالله تعالى.

وقال الحسن: يصح فيها وفي العتق والطلاق خاصة.

قال الشيخ تقي الدين (1): فرّق مالك بين الطلاق واليمين بالله تعالى، وإيقاعه الطلاق بخلاف اليمين بالله، لأن الطلاق حكمًا قد شاءه الله مشكل جدًا.

قلت: وبعض متأخري المالكية استدل بقوله عليه الصلاة والسلام: "من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت". فاليمين المشروعة هي بالله تعالى فانصرف الاستثناء في هذا الحديث وغيره إليها بخلاف غيرها فإنها لم تشرع فلا ينصرف الاستثناء إليها.

تنبيه:

المشيئة ترد على أوجه:

أحدهما: إلى الفعل المحلوف عليه، مثلًا كقوله:"لأدخلن الدار إن شاء الله" وأرد رد المشيئة إلى الدخول، أي: إن شاء الله دخولها. وهذا هو الذي ينفعه الاستثناء بالمشيئة ولا يحنث إن لم يفعل.

ثانيها: أن ترد إلى نفس اليمين، فلا ينفعه الرجوع، لوقوع اليمين وتيقن مشيئة الله تعالى.

ثالثها: أن يذكره على سبيل الأدب في تفويض الأمر إلى مشيئة

(1) إحكام الأحكام (4/ 397).

ص: 271

الله وامتثالًا للآية السالفة لا على قصد معنى التعليق. وهذا لا يرفع حكم اليمين (1).

الحكم الخامس: أن الاستثناء لا يكون إلَّا باللفظ ولا تكفي فيه النية لقوله عليه الصلاة والسلام: "لو قال إن شاء الله لم يحنث" وبهذا قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد والعلماء كافة.

وحكي عن بعض المالكية أن قياس قول مالك إن اليمين تنعقد بالنية صحة الاستثناء بالنية من غير لفظ، وتبع بعضهم ذلك وفرق بأن اليمين خروج من الإِباحة إلى الحرمة فيكفي فيها أيسر الأسباب بخلاف الاستثناء فلا يكفي فيه إلا أقواها.

السادس: إن الكناية في اليمين مع النية، فالصريح في حكم اليمين، لأنه عليه الصلاة والسلام حكى عن سليمان عليه السلام أنه قال:"لأطوفن" وليس فيه التصريح باسم الله تعالى، لكنه مقدر، لأجل اللام الداخلة على قوله:"لأطوفن" فإن كان قد قيل بذلك وأن اليمين ينعقد بمثله فالحديث حجة لمن قاله، وإن لم يكن فيحتاج إلى تأويله وتقدير اللفظ باسم الله تعالى صريحًا في المحكي وإن كان ساقطًا في الحكاية، وهذا ليس بممتنع في الحكاية. فإن من قال:"والله لأطوفن" فقد قال: "لأطوفن" فإن اللافظ بالمركب لافظ بالمفرد (2).

السابع: إذا تقرر ذلك فلا صراحة في الحديث على مقسم به

(1) ساقها (إحكام الأحكام)، (4/ 397).

(2)

ساقها من (إحكام الأحكام)، (4/ 398).

ص: 272

معين، فقد يستدل به عن قال: أحلف أو أشهد وما أشبه ذلك أنه يمين إذا نواه وهو مذهب مالك.

وقال أبو حنيفة: ويمين مطلقًا.

وقال الشافعي: لا مطلقًا.

الثامن: جواز الإِخبار عن الشيء ووقوعه في المستقبل، بناءً على الظن، فإن هذا الإِخبار -أعني قول سليمان عليه الصلاة والسلام تلد كل امرأة منهن غلامًا- فلا يجوز أن يكون عن وحي، وإلَّا لوجب وقوع مخبره.

وأجاز أصحابنا الحلف على الظن في الماضي [وقالوا: يجوز أن يحلف على خط مورثه إذا وثق بخطه وأمانته وجوزوا العمل به واعتماده. وذكر بعضهم أضعف من هذا وأجاز العمل بالقرينة وإن كانت ضعيفة وذكره بعض المالكية احتمالًا.

التاسع: قد يؤخذ منه ثبوت حكم الاستثناء وإن لم ينو من أول اللفظ، لأن الملك قال له:"قل إن شاء الله" عند فراغه من اليمين، فلو لم يثبت حكمه لما أفاد قوله.

قال الشيخ تقي الدين (1): لكن يمكن أن يجعل ذلك تأدبًا لا لرفع اليمين، فلا يكون فيه حجة، وأقوى من ذلك في الدلالة قوله عليه الصلاة والسلام:"لو قال إن شاء الله، لم يحنث" مع احتماله للتأويل. وصحح أصحابنا أنه لابد من نية الاستثناء قبل فراغ اليمين

(1) انظر: إحكام الأحكام (4/ 399).

ص: 273

كما مضى، وقال بعضهم: يشترط نيته من أولها. والصحيح من مذهب مالك أيضًا أن الشرط أن ينوي معها أو مع آخر حرف من حروفها، وقيل: لابد من نيته قبل قطعه بجميع حروف اليمين والله أعلم.

العاشر: جواز استعمال "لو، ولولا" لقوله عليه الصلاة والسلام: "لو قال إن شاء الله لم يحنث". وقد جاء في القرآن كثيرًا. وفي كلام الصحابة والسلف وترجم البخاري (1) على هذا باب ما يجوز من اللو، وأدخل فيه قول لوط عليه الصلاة والسلام:{لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} (2) وقوله عليه الصلاة والسلام: "لو كنت راجمًا بغير بينة لرجمت هذه"(3)، "لو مُد لي الشهر لواصلت"(4)، "ولولا حدثان قومك بالكفر لأتممت البيت على قواعد إبراهيم عليه السلام"(5)، "ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار"(6)، وأمثال هذا.

قال القاضي عياض (7): والذي يفهم من ترجمة البخاري وما ذكره في الباب من الآيات والآثار إنه يجوز استعمال لو ولولا فيما يكون من الاستقبال فما امتنع من فعله لامتناع غيره، وفيما هو من

(1) البخاري (13/ 224).

(2)

سورة هود.

(3)

البخاري (7238).

(4)

البخاري (7241)، ومسلم (1104).

(5)

البخاري (1586)، ومسلم (1333)، وأحمد (6/ 239)، وابن خزيمة (3020).

(6)

البخاري (3779)، وأحمد (3/ 246)، والبغوي (3976).

(7)

انظر إكمال المعلم (5/ 420، 421) للاطلاع على عبارته.

ص: 274

باب الممتنع من فعله لوجود غيره وهو من باب "لولا" ولم يدخل في الباب سوى ما هو الاستقبال أو ما هو حق صحيح مستيقن لحديث: "لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار"، دون الماضي والمنقضي أو ما فيه اعتراض على الغيب والقدر السابق.

وقد ثبت في الحديث الصحيح الآخر في مسلم "وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل".

قال القاضي: حكاية (1) عن بعض العلماء: هذا إذا قاله على جهة الحتم والقطع بالغيب "أنه لو كان كذا لكان كذا" من غير ذكر مشيئة الله تعالى والنظر إلى سابق قدره وحق علمه علينا، فأما إذا قاله على التسليم ورد الأمر إلى المشيئة فلا كراهة فيه.

قال القاضي: وأشار بعضهم إلى أن "لولا" بخلاف "لو".

قال القاضي (2): والذي عندي أنهما سواء إذا استعملتا فيما لم يحط به الإِنسان علمًا، ولا هو داخل تحت مقدور قائلها مما هو تحكم على الغيب واعتراض على القدر كما نبه عليه في الحديث.

ومثله قول المنافقين: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} ، {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} ، {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} ، {أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا} ، فرد الله عليهم باطلهم فقال: {فَادْرَءُوا عَنْ

(1) ذكره في (إكمال إكمال المعلم)، (4/ 376).

(2)

ذكره في المرجع السابق.

ص: 275

أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)}. فمثل هذا هو المنهي عنه، وأما هذا الحديث الذي نحن فيه فإنما أخبر عليه الصلاة والسلام فيه عن يقين نفسه أن سليمان عليه الصلاة والسلام:"لو قال إن شاء الله لجاهدوا"، إذ ليس هذا مما يدرك بالظن والاجتهاد وإنما أخبر عن حقيقة أعلمه الله تعالى وهو نحو قوله عليه الصلاة والسلام "لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم، ولولا حواء لم تخن امرأة زوجها"(1) فلا

(1) البخاري (3330)، ومسلم (1470)، وقوله:"لم يخنز اللحم" بالخاء المعجمة، والنون، والزاي، يقال: خنز اللحم يخنز من باب تعب: إذا أنتن وتغير ريحه، وفيه لغة أخرى أنه من باب قعد. قال النووي -رحمنا الله وإياه- في "شرح مسلم" (10/ 59): قال العلماء: معناه أن بني إسرائيل لما أنزل الله عليهم المن والسلوى نُهوا عن إدخارهما، فادخروا، ففسد، وأنتن، واستمر من ذلك الوقت.

وقوله: "لم تخن أنثى زوجها". قال الحافظ -رحمنا الله وإياه- في "الفتح (6/ 368): فيه إشارة إلى ما وقع من حواء في تزيينها لآدم الأكل من الشجرة حتى وقع في ذلك، فمعنى خيانتها: أنها قبلت ما زين لها إبليس حتى زينته لآدم، ولما كانت هي أم بنات آدم أشبهنها بالولادة ونزع العرق، فلا تكاد امرأة تسلم من خيانة زوجها بالفعل أو بالقول، وليس المراد بالخيانة هنا ارتكاب الفواحش، حاشا وكلا، ولكن لما مالت إلى شهوة النفس من أكل الشجرة، وحَسَّنت ذلك لآدم، عُدَّ ذلك خيانةً له، وأما من جاء بعدها من النساء، فخيانة كل واحدة منهن بحسبها.

قال الشيخ أحمد شاكر -رحمنا الله وإياه- في تعليقه على الحديث في "المسند"(8019) بعد أن نقل كلام الحافظ: وأزيد على قول الحافظ: إنه لم يكن هناك رجال غير آدم حتى يوجد احتمال أن تكون الخيانة بارتكاب الفواحش. اهـ.

ص: 276

معارضة بين هذا وبين حديث النهي عن "لو"، وقد قال الله تعالى:{قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} ، {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} . وكذا ما جاء من "لولا"، كقوله تعالى:{لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ} ، {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا} ، {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ} . لأن الله تعالى مخبر في ذلك عما مضى أو يأت عن علم خبر قطعيًا، وكل ما يكون من "لو""ولولا" مما يخبر به الإِنسان عن علة امتناعه من فعله مما يكون فعله في قدرته فلا كراهة فيه لأنه إخبار حقيقة عن امتناع شيء لسبب شيء أو امتناع أو حصول شيء لامتناع [شيء](1).

وتأتي "لو" غالبًا لبيان السبب الموجب أو النافي فلا كراهة في كل ما كان من هذا إلا أن يكون كاذبًا من ذلك كقول المنافقين "لو نعلم قتالًا لاتبعناكم".

الحادي عشر: فيه أيضًا استحباب التعبير باللفظ الحسن عن غيره فإنه عبر عن الجماع بالطواف كما سلف نعم لو دعت ضرورة شرعية إلى التصريح به لم يعدل عنه.

(1) زيادة من شرح مسلم (11/ 123).

ص: 277