الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الأول
375/ 1/ 72 - عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإِمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها، فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير (1).
الكلام عليه من وجوه:
الأول: في التعريف براويه هو أبو سعيد عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي العبشمي.
أمه: أروى بنت [أبي](2) الفارعة من بني فراس.
(1) البخارى (6122)، ومسلم (6152)، وأبو داود (2929، 3277، 3278) والترمذي (1529)، والنسائي (7/ 10، 11، 12)، (8/ 225)، وفي الكبرى له (5930)، والدارمي (2351، 2352)، والمسند (5/ 61، 62، 63)، وابن الجارود (929)، وأبو عوانة (4/ 405)، والبغوي في السنة (2435)، والبيهقي في السنن (10/ 55)، وعبد الرزاق (11/ 320)، وابن أبي شيبة (3/ 482)، (7/ 568).
(2)
زيادة يقتضيها السياق من كتب التراجم. انظر: تهذيب الكمال للمزي (17/ 159).
أسلم يوم الفتح.
وقيل: كان اسمه عبد كُلال، ويقال: عبد كلوب، وقيل: عبد الكعبة، فغيره النبي صلى الله عليه وسلم. وغزا خراسان في زمن عثمان، وعلى يده فتحت سجستان وكابل [واستعمله عليه الصلاة والسلام على سجستان](1).
روي له عن النبي - صلي الله عليه وسلم - أربعة عشر حديثًا اتفقا منها على هذا الحديث وانفرد مسلم بحديثين. روي عنه الحسن البصري وغيره. مات سنة خمسين، وقيل: سنة إحدى. وقال الفاكهي في "شرحه" مات سنة أربع وأربعين، ثم حكى القولين السالفين. وفي موضع قبره ثلاثة أقوال:
أحدها: بالبصرة، قاله خليفة وجماعات.
ثانيها: بالكوفة وصلى عليه زياد، قاله ابن حبان.
ثالثها: بمرو، حكاه الحاكم عن بعضهم وأنه أول من تولى من الصحابة بها.
الثاني: في ألفاظه ومعانيه.
"الإِمارة" بكسر الهمزة الولاية عامة كانت أو خاصة، ويدخل فيها القضاء والحسبة وغيرها، وفيها لغة أخرى، إمره بسكون الميم.
أما الأمارة بالفتح، فالعلامة.
(1) هذه العبارة خطأ والصحيح الذي في كتب التراجم كما في تهذيب الكمال (17/ 159)، واستعمله عبد الله بن عامر على سجستان. اهـ. لأن سجستان لم تفتح في زمن النبي - صلي الله عليه وسلم -.
وأما الأمَرة: بفتح الميم، فالمرة الواحدة من الأمر، يقال: لك على أمَره لمطاعة، أي: أمره أطول فيها وأمر فلان بكسر الميم وضمها صار أميرًا.
ومعنى"وكلت إليها" لم يعن عليها، أي: لا يكون فيك كفاية لها ومن هذا شأنه لا يولى، يقال: وكله إلى نفسه وكلًا ووكولًا، وفي كثير من نسخ مسلم بدل الواو همزة. وقال القاضي عياض (1): هو في أكثرها كذلك والصواب بالواو.
الثالث: في أحكامه وفيه مسائل:
الأولى: ظاهره يقتضي كراهية سؤال الإِمارة مطلقًا، والفقهاء تصرفوا فيه بالقواعد الكلية: فمن كان متعينًا للولاية وجب عليه قبولها إن عرضت عليه، وطلبها إن لم تعرض، لأنه فرض كفاية لا يتأدى إلَّا به فيتعين عليه القيام به، وكذا إذا لم يتعين له، وكان أفضل من غيره، ومنعنا ولاية المفضول مع وجود الأفضل وإن كان غيره أفضل منه، ولم نمنع تولية المفضول مع وجود الفاضل. فيكره له الدخول فيها وأن يسألها. وحرّم بعض الشافعية سؤالها.
وحكى الشيخ تقي الدين (2): أن بعضهم حَرَّم له الطلب وكره للإِمام أن يوليه وقال: إن ولَّاه انعقدت ولايته وقد استخطىء فيما قال، ومن الفقهاء من أطلق القول بكراهية القضاء، لأحاديث وردت فيه. منها قوله عليه الصلاة والسلام: "القضاة ثلاثة واحد في الجنة
(1) مشارق الأنوار (1/ 31).
(2)
ذكره وما قبله من إحكام الأحكام (4/ 386).
واثنان في النار" (1) رواه الأربعة وقال الحاكم صحيح الإِسناد.
ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: "من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين"(2) حسنه الترمذي مع الغرابة، وقال الحاكم: صحيح الإِسناد مع أن بعض العلماء يؤول هذا للمدح وقال لاجتهاده في طلب الحق، والظاهر أنه على الذم لعجزه غالبًا عن القيام وعدم المعين له على الحق. ومنها قوله عليه الصلاة والسلام لأبي ذر:"لا تأمرن على اثنين"(3) متفق عليه. ومنها قوله: "إنكم ستحرصون على الإِمارة وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة"(4). رواه البخاري.
ومن أصحابنا من قال: القضاء من أعلى القربات، ومنهم إمام الحرمين وابن الصباغ، والأحاديث المحذرة منه محمولة على الخائن أو الجاهل بدليل الحديث السالف القضاة ثلاثة. وقال ابن الصباغ: الأحاديث المحذرة دالة على عظم قدره حتى لا يقدم عليه من لا يثق بنفسه، ويحمل حديث عبد الرحمن بن سمرة وما في معناه كحديث
(1) أبو داود (3573)، الترمذي (1322)، ابن ماجه (2315)، وصححه الحاكم (4/ 90) ووافقه الذهبي.
(2)
أخرجه أحمد (7145) ،الترمذي (1325)، أبو داود (3571، 3572)، ابن ماجه (2308).
(3)
مسلم (1826)،النسائي (6/ 255)، أبو داود (2868)، البيهقي (3/ 129).
(4)
البخاري (7148)،النسائي (7/ 162)، (8/ 225)، البغوي (2465)، البيهقي (3/ 129)، (10/ 95)، أحمد (2/ 448، 476).
أبي موسى الثابت أيضًا في الصحيحين (1) لن نستعمل في عملنا هذا من أراده على من سأل لمجرد الرئاسة والنبل، ومن استحبه فهو لمن قصد به القربة وبالغ إمام الحرمين وجماعة فقالوا: القيام بفرض الكفاية أحرى بإحراز الدرجات وأعلى [في](2) قبول القربات من القيام بفرض العين، فإن [فاعل](3) فرض العين وتاركه يختص الثواب والعقاب به وفاعل فرض الكفاية كاف نفسه وسائر المخاطبين العقاب وأمل أفضل الثواب.
وبالجملة فقد امتنع من الدخول فيه الشافعي حين استدعاه المأمون ليوليه قضاء الشرق والغرب واقتدى به الصدر الأول من أصحابه حتى أن أبا علي بن خيران لما طلب للقضاء هرب فختم على عقاره، وامتنع منه أيضًا أبو حنيفة حين استدعاه المنصور له فضربه وحبسه ثم أطلقه، وقيل: إن أبا حنيفة ولي القضاء بالرصافة أيامًا والشافعي وليه بنجران من بلاد اليمن أيامًا ولا يصح دخول معظم السلف من الصدر الأول فيه كان لعلمهم يقينًا أو ظنًا بالقيام به لله لا لشيء من حظوظ الدنيا ووجود من يعينهم على الحق، وامتناع الصدر الثاني والثالث لما فيه من الخطر وعدم براءة الذمة فيه وتحيلوا على الامتناع منه بأسباب توهم الجنون أو قلة المروءة وارتكبوا ذلك للخلاص من المحرم أو المكروه.
(1) ولفظه عن أبي موسى: "إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدًا سأله، ولا أحدًا حرص عليه"، البخاري (7149)، مسلم (1456)، البغوي (2466).
(2)
ساقطة من ن هـ.
(3)
ساقطة من ن هـ.
المسألة الثانية: فيه إشارة إلى إلطاف الله تعالى بالعبد فيما قضاه وقدره وأوجبه عليه بالإِعانة على إصابة الصواب في فعله وقوله تفضلًا زائدًا على مجرد التكليف والهداية إلى النجدين، فإنه لما كان خطر الولاية عظيمًا بسبب أمور في الوالي وبسبب أمور خارجة عنه كان طلبها تكلفًا ودخولًا في غرر عظيم فهو جدير بعدم العون. ولما كانت إذا أتت عن غير مسألة لم يكن فيها هذا التكليف كانت جديرة بالعون على أعبائها وأفعالها دل ذلك على ما قررناه وهي مسألة أصولية.
المسألة الثالثة: أن من يتعاطى أمرًا سولت له نفسه أنه أهل له لا يقوم به بخلاف من عجز نفسه وقصرها عن ذلك، وهذا من ثمرات التواضع فإن من سأل الإِمارة لم يسألها إلَّا وهو يرى نفسه أهلًا لها فيوكل إليها فلا يعان ويخذل.
الرابعة: أن من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها من فعل أو ترك بأن كان التمادي على اليمين مرجوحًا في نظر الشرع والحنث خير منه أنه يستحب له الحنث ويكفر وقد يكون الحنث واجبًا وقد قام الإِجماع على أنه لا يجب عليه كفارة قبل الحنث وعلى أنه يجوز تأخيرها عن الحنث وعلى أنه لا يجوز تقديمها قبل اليمين.
واختلفوا في تقديمها على الحنث على قولين:
أحدهما: يجوز وبه قال أربعة عشر من الصحابة وجماعات من التابعين ومالك والشافعي والأوزاعي والثوري والجمهور، لكن قالوا يستحب كونها بعد الحنث.
واستثنى الشافعي التكفير بالصوم فقال: لا يجوز قبل الحنث لأنه عبادة بدنية فلا يجوز تقديمها قبل وقتها كالصلاة وصوم رمضان.
قال الخطابي (1): واحتج أصحابه بأن [الصوم](2) مرتب على الإِطعام. فلا [يجزيء](3) إلَّا مع عدم الأصل كالتيمم، [مع الماء وهو الصحيح عند أصحابه](4).
وأما التكفير بالمال، فيجوز تقديمه على كفارته كما يجوز تعجيل الزكاة، واستثنى بعض أصحابه حنث المعصية بأن حلف لا يزني فقال: لا يجوز تقديمه على كفارته لأن فيه إعانة على المعصية والجمهور على الاجتزاء كغيرها لأن الكفارة لا يتعلق بها تحليل ولا تحريم فإن المحلوف عليه على حالة حرام قبل اليمين وبعدها، وقبل التكفير وبعده.
ووقع في "المحرر" للرافعي تصحيح الأول وتبعه البغوي فيه [لكنه](5) صحح في "شرحه الصغير" الثاني واقتضاه [. . .](6) كلامه في الكبير.
(1) معالم السنن (4/ 368).
(2)
في معالم السنن (الصيام).
(3)
في المرجع السابق (يجوز).
(4)
العبارة في المرجع السابق (لما كان مرتبًا على الماء، لم يجز إلَّا مع عدم الماء).
(5)
في ن هـ (لكن).
(6)
في الأصل زيادة (في المحرر).
والقول الثاني في أصل المسألة: أنه لا يجوز تقديمها عليه بكل حال، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأشهب المالكي. وهذا الحديث ورد بألفاظ:
أحدها: "فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير" وهذا ما في الكتاب.
ثانيها: "فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك" رواه البخاري.
ثالثها: "فكفّر عن يمينك ثم ائتِ الذي هو خير"، رواه أبو داود والنسائي. وهذه الرواية صريحة للجمهور القائلين بالجواز، أما رواية "الواو" فقد يستدل بها من يجوز التقديم تارة ومن يمنعه أخرى من حيث الاهتمام بذكره أولًا لكن يخدشه أن "الواو" لا تقتضي الترتيب والمعطوف والمعطوف عليه بها كالجملة الواحدة وليس بجيد، طريقه من يقول في مثل هذا إن "الفاء" تقتضي الترتيب والتعقيب فيقتضي ذلك أن يكون التكفير مستعقبًا لرواية الخير في الحنث فإذا استعقبه التكفير تأخر الحنث ضرورة، نبّه على ذلك الشيخ تقي الدين قال: وإنما قلنا إنها ليس بجيد لما بيناه من حكم الواو. فلا فرق بين قولنا: "فكفر، عن يمينك وائت الذي هو خير" وبين قولنا: "فافعل هذين". ولو قال كذلك لم تقتضِ ترتيبًا ولا تقديمًا وكذلك إذا أتى بالواو وهذه الطريقة التي أشرنا إليها ذكرها بعض الفقهاء في اشتراط الترتيب في الوضوء. وقال: إن الآية تقتضي تقديم غسل الوجه، بسبب الفاء وإذا وجب تقديم غسل الوجه وجب الترتيب في بقية الأعضاء اتفاقًا وهو ضعيف لما بينّاه.
"تذنيب" حديث الأعرابي الثابت في الصحيحين (1) حيث قال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص وسماه الشارع مفلحًا لا يرد على ما قررناه من أن الحنث خير إذا كان التمادي على اليمين مرجوحًا في نظر الشرع لأنها كانت لغو يمين أو أراد لا أزيد في عدد الفرائض ولا أنقص منها وذلك لا يقتضي الإِنكار.
الخامس: مقتضاه تأخير مصلحة الوفاء بمقتضى اليمين إذا كان غيره خيرًا بنصه، وأما مفهومه فقد يشعر بأن الوفاء بمقتضى اليمين عند عدم رواية الخير في غيرها مطلوب. وقد تنازع المفسرون في معنى قوله تعالى:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا} ، وحمله بعضهم على ما دل عليه الحديث، ويكون معنى "عرضة"، أي: مانعًا و"أن تبروا" بتقدير من "أن تبروا".
المسألة السادسة: فيه بيان كرم الله تعالى على عباده في عدم الوقوف عند الأيمان وبأنه يحنث فيها لئلا يؤدي ذلك إلى المنع من الخير وترك البر.
(1) البخاري (46)، ومسلم (11)، وأبو داود (392)، والنسائي (1/ 226)، (4/ 120)، وابن الجارود (144)، والبيهقي في السنن (1/ 361) ، (2/ 466، 467).