المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الأول 364/ 1/ 69 - عن أنس بن مالك رضي - الإعلام بفوائد عمدة الأحكام - جـ ٩

[ابن الملقن]

الفصل: ‌ ‌الحديث الأول 364/ 1/ 69 - عن أنس بن مالك رضي

‌الحديث الأول

364/ 1/ 69 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "قدم ناس من عكل -أو عرينة- فاجتووا المدينة، فأمر لهم النبي - صلي الله عليه وسلم - بلقاح، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا. فلما صحوا قتلوا راعي النبي - صلي الله عليه وسلم -، واستاقوا النعم. فجاء الخبر في أول النهار، فبعث في آثارهم. فلما ارتفع النهار جيء بهم، فأمر بهم، فقُطعت أيديهم وأرجلهم [من خلاف] (1)، وشمرت أعينهم، وتركوا في الحرة يستسقون فلا يسقون. قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله". أخرجه الجماعة (2).

هذا حديث عظيم مشتمل على نفائس من علم الأسماء والنسب

(1) زيادة من متن العمدة ما حاشية إِحكام الإِحكام.

(2)

البخاري (233)، ومسلم (1671)، وأحمد (3/ 161، 163، 170، 173، 233)، والنسائي (1/ 158، 160)، (7/ 93، 98)، وفي الكبرى له (6/ 334)، وأبو داود (4364، 4368)، وابن ماجه (2578)، والترمذي (72)، والبيهقي في السنن (8/ 490)، وعبد الرزاق (10/ 106)، والبغوي في شرح السنة (10/ 206).

ص: 132

واللغة والمبهمات والأحكام، ويتبين ذلك في وجوه:

أولها: أنس رضي الله عنه تقدَّم التعريف به في أول باب الاستطابة.

وأبو قلابة: سلف في باب صفة صلاة النبي - صلي الله عليه وسلم. ومراد المصنف: "بالجماعة" أصحاب الكتب الستة، وقد أسلفت لك ترجمة البخاري ومسلم في شرح ديباجة الكتاب، وراجع ترجمة الأربعة فيما أفردته في الرجال الواقعة في الكتاب.

ثانيها: قوله: "عكل" بضم العين المهملة وسكون الكاف وبعده لام قبيلة نسبت إلى عكل امرأة حضنت ولد عوف بن إياس بن قيس بن عوف بن عبد مناة بن آد بن طابخة، فغلبت عليهم ونُسبوا إليها.

و"عرينة": بضم العين المهملة وفتح الراء ثم مثناة تحت ساكنة ثم نون ثم هاء: بطن من بجيلة.

ثالثها: في "الصحيح"(1) أيضًا "من عرينة على الجزم"، وفيه "من عكل" على الجزم، وفيه "من عكل وعرينة" من غير شك. وفي "مصنف عبد الرزاق" (2) "من بني فرازة ماتوا هزلًا". وفي "أحكام ابن الطلاع" من بني سليم. وفي شرح الشيخ تقي الدين (3): من بني عرينة.

رابعها: عدد العرنيين ثمانية كما ثبت في الصحيحين، وعزى

(1) ينظر تخريج الحديث.

(2)

ينظر تخريج الحديث. أقضية رسول الله - صلي الله عليه وسلم - (13) لابن الطلاع.

(3)

إحكام الأحكام (4/ 340).

ص: 133

ذلك النووي في "مبهماته"(1) إلى مسند أبي يعلى، وتبعه تلميذه ابن العطّار في "شرحه"، وهو غريب، فقد أخرجه مسلم في الحدود والبخاري (2) في باب إذا أحرق المسلم هل يحرق؟ فعزوه إليهما أولى.

خامسها: "اجتووا" بجيم ثم مثناة فوق؛ وهو مشتق من الجوا، وهو داء في الجوف، ومعناه: استوخموها كما جاء مفسرًا في الرواية الأخرى في الصحيح: "فاستوخموا الأرض وسقمت أجسامهم"، أي لم توافقهم وكرهوها لسقم أجسامهم. يقال: اجتوى البلد إذا كرهها. واستوخمه واستوبله: إذا سقم فيه عند دخوله، ومنهم من فرَّق بين اجتوى واستوبل، يقال: اجتوى البلد إذا كرهها، وإن كانت موافقة، واستوبلها إذا لم توافق وإن اجتواها (3). وقد وقع كذلك في بعض نسخ الكتاب.

وفي الصحيح (4): "قدم نفر من عرينة فأسلموا وبايعوا، وقد وقع بالمدينة الموم"، وهو البرسام، أي وهو نوع من اختلال يُطلق

(1) المبهمات للنووي (539). أقول: عزاه للبخاري فقط مع أبي يعلى دون مسلم.

(2)

انظر تخريج حديث الباب.

(3)

العبارة هكذا في غريب الحديث لأبي عبيد (1/ 174). قال أبو زيد: اجتويت البلاد إذا كرهتها وإن أنت موافقة لك في بدنك، واستوبلتها إذا لم تكن توافقك في بدنك، وإن كنت محبًا لها، اهـ. انظر مادة "جوا" وأيضًا "وبل" في النهاية.

(4)

في الأصل زيادة قد.

ص: 134

على ورم الرأس وورم الصدر (1)، وهو معرب. أصل اللفظة سريانية (2).

وفي "مسند أحمد": "شكوا حمى المدينة"، ووقع في حواشي (3) بعض نسخ مسلم:"الحمى" بدل "المرم"، حكاه المازري (4).

فلما حصل لهم ذلك أمرهم عليه الصلاة والسلام[أن](5) يخرجوا [إلى](6) الإبل واللقاح، فيشربوا من أبوالها وألبانها، فالمدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد. وقد ظهر خبثهم بعد ذلك وقبح فعلهم.

سادسها: "اللقاح": ذوات الألبان من الإِبل. واحدها: لقحة، بكسر اللام وفتحها، وقيل: إنما يقال لقحة بعد شهر أو شهرين أو ثلاثة لقرب ولادتها، ثم هي بعد ذلك لبون.

(1) قال في إكمال إكمال المعلم (4/ 412)، وقع في بعض حواشي مسلم الحمى والبرسام ورم الصدر والرسام ورم الرأس وقل من رأيت من الأطباء من يحقق الفرق بين هذين. اهـ. محل المقصود.

(2)

قال في المعرب (44)"البرسام" معرب. وهو هذه العلة المعروفة "فبر" هو الصدر، "وسام" من أسماء الموت. وقيل:"بر" معناه الابن. والأول أصح لأن العلة إذا كانت في الرأس يقال لها "سرسام" و"سر" هو الرأس. وقيل تقديره: ابن موت، اهـ. انظر: قصد السبيل (1/ 270).

(3)

ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 412).

(4)

المعلم (2/ 377).

(5)

زيادة من ن هـ.

(6)

زيادة من ن هـ.

ص: 135

سابعها: هذه اللقاح ثبت في الصحيح أنها لقاح النبي صلى الله عليه وسلم ، وثبت فيه أنها إبل الصدقة، ولعل الجمع بينهما اللقاح له والإِبل للصدقة، وكانت ترعى معها فاستاقوا الجميع، وإنما أذن لهم في شرب لبنها على هذه الرواية لأنه للمحتاجين من المسلمين، وهؤلاء منهم. وقد ترجم عليه البخاري في كتاب الزكاة استعمال إبل الصدقة وألبانها لأبناء السبيل (1).

ثامنها: عدد هذه اللقاح خمس عشرة [. . .](2) ذكره ابن سعد في "طبقاته"(3)، قال: وفقد منها واحدة. قال: وهذه اللقاح كانت ترعى بذي الحدر، ناحية قباء، قريبًا من عير على ستة أميال من المدينة.

عاشرها: اسم هذا الراعي: يسار، بمثناة تحت في أوله، وهو مولى رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، وكان نوبيًا، فأعتقه. وقيل: إنه عليه الصلاة والسلام أصابه في غزوة محارب وبني ثعلبة، فجعله في لقاح له يرعى ناحية الحمى، فقتلوه ثم مثلوا به وغرزوا الشوك في لسانه وسمروا عينيه. وفي "معرفة الصحابة" (4) لأبي نعيم أنهم قتلوه وجعلوا الشوك في عينيه. وفي الصحيح:"ثم مالوا على الرعاة فقتلوهم"، ولا تنافي بينهما، فإن الراعي اسم جنس.

(1) الفتح (3/ 428) ح (1501).

(2)

في المخطوطتين كلمة (عدا).

(3)

الطبقات لابن سعد (2/ 93).

(4)

(2809).

ص: 136

الحادي عشر: "استاقوا" حملوا، وهو من السوق وهو السير السريع العنيف.

الثاني عشر: "النعم" بفتح النون والعين المهملة، يُذكَّر ويؤنَّث. حكاهما ابن دريد وغيره.

وقال الفراء: لا يؤنث، سمي نعمًا لنعومة بطنه، وهي الإِبل خاصة. قاله ابن دريد والهروي.

قال الهروي: بخلاف الأنعام، فإنها الإِبل والبقر والغنم. وهذا غريب في الأسماء أن يدل الجمع على جنس لا يدل عليه المفرد.

وقال الجوهري (1): الأنعام المال الراعية، وأكثر ما يقع على الإِبل. وقال النووي في "تحريره" (2): النعم الإِبل والبقر، وهو اسم جنس، وجمعه: أنعام. قال: ونقل الواحدي: إجماع أهل اللغة على هذا كله.

وقال غيره: لا تطلق على الغنم أنها نعم إلا إذا كان معها إبل [أو](3) بقر، ويُطلق على كل من الإِبل والبقر نعم بمفرده.

الثالث عشر: في الصحيح أيضًا: أنهم "استاقوا ذود رسول الله - صلي الله عليه وسلم -"، وفيه أيضًا:"أنهم طردوا الإِبل"، ووجه الجمع أنهم استاقوا الذود، وهو النعم في الرواية الأخرى "مع إبل الصدقة" أيضًا.

(1) مختار الصحاح (ن ع م).

(2)

تحرير ألفاظ التنبيه (234).

(3)

في ن هـ بالواو.

ص: 137

الرابع عشر: بعث صلى الله عليه وسلم في آثارهم كرز بن جابر الفهري ومعه عشرون فارسًا. قاله ابن سعد في "طبقاته"(1).

وفي "صحيح مسلم"(2): وعنده شباب من الأنصار قريب من عشرين، فأرسل إليهم وبعث معهم قائفًا يقص أثرهم.

وذكر أيضًا أبو حاتم ابن حبان في "ثقاته"(3) فقال: كان ذلك في السنة السادسة، وأنه بعث في طلبهم كرز بن جابر الفهري بسرية في شوال في عشرين راكبًا معهم قائف، فأخذ قرابهم حتى أخذوهم وجاءوا بهم إلى رسول الله - صلي الله عليه وسلم -. وقال موسى بن عقبة: كان أمير السرية سعيد بن زيد. وروى محمَّد بن الفضل الطبري من حديث جرير: أنه عليه الصلاة والسلام بعثه في أثرهم، وفيه على تقدير صحة إسناده نظر؛ لأن قصة العرنيين كانت في شوال سنة ست كما ذكرناه، وإسلام جرير كان في السنة العاشرة على المشهور؛ إلا أن يدعي أنه استعان به.

الرابع عشر: "سمرت" بالميم المخففة وشددها بعضهم، والأول أوجه، أي كحلت بمسامير محماة. ويؤيده رواية البخاري:"ثم أمر بمسامير فأحميت فكحلهم بها". وفي معظم نسخ "مسلم": "سمل" باللام وتخفيف الميم، أي فقأها وأذهب ما فيها إما بشوك أو بغيره.

(1) الطبقات لابن سعد (2/ 93).

(2)

سبق تخريجه في حديث الباب.

(3)

الثقات لابن حبان (1/ 287).

ص: 138

قال أبو ذؤيب (1):

والعين بعدهم كأن حداقها

سملت بشوك فهي عور تدمع

وقيل: بحديدة محماة تدنى من العين حتى يذهب ضوءها، وعلى هذا تتفق مع رواية من رواه بالراء، وقد تكون هذه الحديدة مسمارًا، وأيضًا فقد فقأها بالمسمار وسملها به كما فعل ذلك بالشوك، وقيل: إن الراء واللام بمعنى واحد، والراء تبدل منها. واستعمله القرطبي (2).

الخامس عشر: إنما سمل أعينهم [لأنهم سملوا أعين الرعاة](3)؛ كما ثبت في "صحيح مسلم"، وهو من أفراده، واستدركه صاحب المستدرك (4) ولا يحسن استدراكه على مسلم (5)؛ لأنه فيه -كما علمت-، نعم قد يستدرك على البخاري.

السادس عشر: "الحرة" أرض تركبها حجارة سود -كما سلف في الصيام-، وفي رواية الصحيح:"ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا"، وفيه أيضًا:"وتركهم بالحرة يعضون الحجارة"، وفيه أيضًا:"فرأيت الرجل منهم يلزم الأرض بلسانه حتى يموت"، وفيه أيضًا:"أنه لم يحسمهم بالنار حتى ماتوا"، أي لم يكوهم لينقطع الدم.

(1) انظر: ديوان الهذليين (1/ 3)، والنهاية (2/ 403) مادة "سمل".

(2)

المفهم (5/ 19).

(3)

في هـ ساقطة. وفي الأصل زيادة (الناس كالرعاة).

(4)

المستدرك (4/ 367).

(5)

سبق تخريجه.

ص: 139

قال القاضي (1): وهو حجة في أن المحارب لا يحسم لأنه ممن خير في حده بالقتل، لكن إن حسم نفسه لم يمنع. وأما السارق: فحده القطع فقط. فيبادر بحسمه لئلا ينزف دمه فيموت، وهو مذهب الشافعي وأبي ثور وغيرهما.

السابع عشر: قوله: "يستسقون فلا يسقون"، أي: يسألوا ذلك وهذا إخبار عن الواقع لا يقتضي بهذا ولا غيره. وقد أجمع العلماء كما نقله القاضي (2) على أن من وجب عليه القتل فاستسقى الماء أنه لا يمنع منه لئلا يجمع عليه عذابان وأجيب عن عدم سقايتهم بجوابين حسنين:

أحدهما: معاقبة بجنايتهم وكفرهم بسقيهم ألبان تلك الإِبل فعاقبهم الله تعالى بذلك فلم يسقوا.

ثانيهما: أنهم عوقبوا بذلك لإِعطاشهم آل بيت النبي - صلي الله عليه وسلم - بأخذ لقاحهم ودعائه عليه الصلاة والسلام عليهم بقوله: "عطش الله من عطش آل محمَّد الليلة"(3)، كما رواه النسائي فكان ترك الناس سقيهم إجابة لدعائه صلى الله عليه وسلم.

ووجه ثالث حسن: وهو ما ثبت في الصحيح أنهم قتلوا الرعاة وارتدوا عن الإِسلام فلا حرمة لهم إذن من سقي الماء ولا غيره وهذا معنى قول أبي قلابة: و"كفروا بعد إيمانهم".

(1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 412).

(2)

ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 411).

(3)

انظر تخريج حديث الباب.

ص: 140

وقد اتفق أصحابنا على أنه لا يجوز لمن معه ماء يحتاج إليه للطهارة أن يسقيه لمرتد يخاف الموت من العطش ويتيمم، بخلاف الذمي والبهيمة. وقصر ابن العطار من "شرحه" في عزو هذه الرواية الي نقلناها من كونهم ارتدوا فقال: روى في بعض هذا الحديث الصحيح في "سنن أبي داود"(1) والنسائي من رواية ابن عمر: "أنهم قتلوا الرعاة وارتدوا عن الإِسلام"، وهذا عجيب منه فعزوه إلى الصحيح أولى. وأيضًا فهو ثابت فيه من حديث أنس فإنه لا يعدل إلى راوٍ آخر إلا بعد عدمه في تلك الرواية كما جرت به عادة أهل هذا الشأن.

الثامن عشر: في فوائده وأحكامه:

الأولى: قدوم القبائل والغرباء على الإِمام.

الثانية: نظر الإِمام في مصالحهم وأمره لهم بما يناسب حالهم وإصلاح أبدانهم.

الثالثة: طهارة بول ما يؤكل لحمه وهو مذهب مالك وأحمد وقول ابن خزيمة والروياني من الشافعية. لكن إنما تكون طاهرة عند المالكية إذا كانت لا تستعمل النجاسة. قالوا: فإن كانت تستعمل فنجسة على المشهور.

وأجاب المخالفون: وهم الحنفية وجمهور الشافعية القائلون بنجاسة بوله وروثه بأن شربهم الأبوال كان للتداوي وهو جائز بكل النجاسات سوى الخمر والمسكرات.

(1) انظر تخريج حديث الباب.

ص: 141

واعترض عليهم: بأنها لو كانت نجسة محرمة للشرب ما جاز التداوي لأن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها.

وقد يجاب: عن ذلك بأن الضرورة جوزته.

الرابع: ثبوت أحكام المحاربة في الصحراء فإنه عليه الصلاة والسلام بعث في طلبهم لما بلغه فعلهم بالرعاة. واختلف العلماء في ثبوت أحكامها في الأمصار فنفاه أبو حنيفة، وأثبته مالك والشافعي، ووافق بعض المالكية الحنفية.

الخامسة: شرعية المثلة في القصاص والنهي عن المثلة محمول على من وجب عليه القتل لا على طريق المكافأة: كما سلف في الباب قبله.

وقال بعضهم: فعله عليه الصلاة والسلام ذلك بهم فعل زائد على حد الحرابة لعظيم جرمهم لارتدادهم ومحاربتهم وقتلهم الرعاة وتمثيلهم بهم وأن النهي عن المثلة نهي تنزيه لا تحريم.

وقال محمَّد بن سيرين: أن ذلك قبل أن تنزل الحدود. ذكره البخاري في حديث أنس، أي: وقبل أن تنزل آية المحاربة والنهي عن المثلة.

وفي البخاري (1) أيضًا عن قتادة أنه قال: "بلغنا أنه عليه الصلاة والسلام بعد ذلك [أنه] (2) كان يحث على الصدقة، وينهى عن المثلة". وكذا قال الشافعي رحمه الله: إنه منسوخ، حكاه الإِمام في

(1)(4192).

(2)

في ن هـ ساقطة.

ص: 142

"نهايته" عنه. وكذا ادعى نسخه ابن شاهين (1) بحديث كثير بن شنظير عن الحسن بن عمران قال: ما قام فينا رسول الله - صلي الله عليه وسلم - خطيبًا إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة، وقال: هذا الحديث ينسخ كل مثلة كانت في الإِسلام، قلت: في سماع الحسن من عمران خلاف (2).

وقال ابن الجوزي في كتابه: "الإعلام"(3) ادعاء النسخ يحتاج إلى التاريخ، وقد قال العلماء إنما سمل أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة فاقتص منهم بمثل ما فعلوا والحكم بذلك ثابت وما حكاه عن العلماء قد أسلفته حديثًا صحيحًا مصرحًا به، لكن اعترض الشيخ تقي الدين على ما ذكره ابن الجوزي فقال: الحديث وردت فيه المثلة من جهات عديدة وأشياء كثيرة فهب أنه ثبت القصاص في سمل الأعين فما يصنع بباقي ما جرى في المثلة فلابد له فيه من جواب غير هذا، وقد رأيت عن الزهري في قصة العرنيين أنه ذكر

(1) الناسخ والمنسوخ لابن شاهين (420).

(2)

قال الذهبي -رحمنا الله وإياه- في السير (4/ 567): قائلًا في إثبات سماع الحسن من عمران وقد صح سماعه في حديث العقيقة، وفي حديث النهي عن المثلة". اهـ.

(3)

الإِعلام في الناسخ والمنسوخ (تفسير آية المائدة (23))، قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- (1/ 341): ويدل عليه ما رواه البخاري في الجهاد من حديث أبي هريرة في النهي عن التعذيب بالنار بعد الإِذن فيه، وقصة العرنيين قبل إسلام أبي هريرة، وقد حضر الإذن ثم النهي، وروى قتادة عن ابن سيرين أن قصتهم كانت قبل أن تنزل الحدود، ولموسى بن عقبة في "المغازي" وذكروا أن النبي - صلي الله عليه وسلم - نهى بعد ذلك عن المثلة بالآية التي في سورة المائدة، وإلى هذا مال البخاري، وحكاه إمام الحرمين في "النهاية" عن الشافعي. اهـ.

ص: 143

أنهم قتلوا يسارًا مولى النبي صلى الله عليه وسلم ثم مثلوا به. فلو ذكر ابن الجوزي هذا كان أقرب إلى مقصوده مما ذكره من حديث سمل الأعين ققط على أنه أيضًا بعد ذلك يبقى نظر في بعض ما حكى في القصة.

قلت: [وقد](1) سلف أنهم مثلوا به وغرزوا الشوك في لسانه وسمروا عينه.

ونقل القرطبي في "مفهمه"(2) عن أهل التواريخ والسير أنه عليه الصلاة والسلام إنما قطع أيديهم وأرجلهم لأنهم فعلوا كذلك بالراعي.

قالوا: وأدخل الشوك في عينيه حتى مات وأدخل المدينة ميتًا. وفي "النسائي" أنه عليه الصلاة والسلام صلبهم أيضًا. وقال ابن شهاب بعد أن ذكر قصتهم: ذكروا والله أعلم أنه عليه الصلاة والسلام نهى بعد ذلك عن المثلة، فالآية التي في سورة المائدة {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (3) الآية. وفي رواية فما مثّل نبي الله قبل ولا بعد ونهى عن المثلة. وقال:"لا تمثلوا بشيء"، وفي رواية من حديث جرير بإسناد ضعيف (4)، من حديث جرير فكره عليه الصلاة والسلام سمل الأعين فأنزل الله آية المحاربين.

(1) في هـ ساقطة.

(2)

المفهم (5/ 19).

(3)

سورة المائدة: آية (33).

(4)

أخرجه الطبري في تفسيره (10/ 247)، وهو حديث ضعيف لأن فيه الربذي ضعفه ابن كثير في تفسيره (2/ 53)، وابن حجر في الإصابة في ترجمة جرير بن عبد الله البجلي.

ص: 144

وفي سنن "أبي داود" و"النسائي"(1) عن أبي الزناد عليه الصلاة والسلام لما قطعهم وسمل أعينهم بالنار عاتبه الله في ذلك ونزل: {إِنَّمَا جَزَاءُ} الآية.

السادسة: إن فعل الإِمام بالمحاربين وأهل الفساد ما يفعله في المثلة والقطع وسمر الأعين ونحو ذلك ليس هو من عدم الرحمة بل هو رحمة لما فيه من كف العادية عن الخلق وفعل ذلك بهم لا يظن أنه مخالف لوصف الرحمة الذي هو مشروط في حقهم على الرعايا، وقد قال عليه الصلاة والسلام:"إن لي على قريش حقًا، ولقريش عليكم حقًا ما إذا حكموا فعدلوا، وائتمنوا فأدوا، واسترحموا فرحموا"(2).

السابعة: عقوبة المحاربين وهو موافق للآية الكريمة السالفة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (3) الآية. واختلف العلماء في المراد منها في القتل والصلب والقطع من خلاف على قولين:

أحدهما: أن "أو" فيها للتخيير، فيتخير الإِمام بين الأمور الثلاثة المذكورة فيها وهو قول مالك، إلا أن يكون المحارب قد قتل فيتحتم قتله.

(1) أبو داود (4370)، والنسائي (7/ 100)، والبيهقي (8/ 283). انظر تخريج حديث الباب.

(2)

أحمد (2/ 270)، وعبد الرزاق (19902)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 192)، وزاد نسبته إلى الطبراني في الأوسط وقال: رجال أحمد رجال الصحيح.

(3)

سورة المائدة: آية (33).

ص: 145

وقال أبو حنيفة وأبو مصعب المالكي: الإِمام بالخيار وإن قتلوا.

وقال بعض الحنفية: إن هذا عن أبي حنيفة غلط لأن مذهبه فيمن أخذ المال.

وقيل: إن الإِمام بالخيار: إن شاء قطعه وقتله أو صلبه وإن شاء قتله ابتداء وصلبه.

والقول الثاني: أن "أو" للتقسيم قاله الشافعي وآخرون.

فإن قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا، وإن قتلوا وأخذوه قتلوا وصلبوا، وإن أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن أخافوا السبيل ولم يأخذوا شيئًا ولم يقتلوا طلبوا حتى يعزروا وهو المراد بالنفي عند أصحاب هذا القول.

قالوا: لأن ضرر هذه الأفعال يختلف فكانت عقوباتها مختلفة فلم تكن للتخيير.

وحكى القاضي (1) عن مالك أنه يقتل ذا الرأي والتدبير، ويقطع ذا البطش والقوة، ويعزر من عداه. قال فجعلها مرتبة على صفاتهم لا على أفعالهم.

[الثامنة](2): جواز التطبب وأن طب كل

(1) نسبه في إكمال إكمال المعلم (4/ 409).

(2)

في الأصل السابع وما أثبت من ن هـ.

ص: 146

[جسد](1) بما اعتاد فإن هؤلاء القوم أعراب البادية عادتهم شرب أبوال الإِبل وألبانها وملازمتهم الصحارى فلما دخلوا القرى وفارقوا أغذيتهم، وعادتهم مرضوا فأرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، فلما رجعوا إلى عادتهم من ذلك صحوا وسمنوا. وقد أدخل البخاري هذا الحديث في الطب من "صحيحه" وترجم عليه الدواء بألبان الإِبل وأبوالها (2)، وفيه أنهم "قالوا يا رسول الله آونا وأطعمنا، فلما صحوا قالوا إن المدينة وخمة فأنزلهم الحرة في ذود له فقال: اشربوا ألبانها، فلما صحوا قتلوا الراعي"، الحديث.

قال سلام بن مسكين: فبلغني أن الحجاج قال لأنس: حدثني بأشد عقوبة عاقب النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بهذا فبلغ الحسن فقال: وددت أنه لم يحدثه.

التاسعة: قتل المرتد من غير استتابة وفي كونها واجبة أو مستحبة خلاف شهير. ورأيت من يجيب بأنهم حاربوا والمرتد إذا حارب لا يستتاب لأنه يجب قتله فلا يظهر له معنى.

العاشرة: قتل الجماعة بواحد سواء قتلوه غيلة أو حرابة، وبه قال الشافعي ومالك وجماعة وخالف فيه أبو حنيفة.

الحادية عشرة: لابد من تقدير اعتراف القائلين، أو الشهادة عليهم وإن لم يصرح بذلك في الحديث.

(1) في الأصل سجيم وما أثبت من ن هـ.

(2)

الفتح (10/ 148) ح (5685).

ص: 147

الثانية عشرة: سماهم أبو قلابة سرّاقًا لأنهم أخذوا النعم من حرز مثلها وهو وجود الراعي معها ويراها كلها.

الثالثة عشرة: خرّج البخاري هذا الحديث في صحيحه في مواضع منها باب إذا حرق المشرك المسلم هل يحرق (1)؟ كما سلف، وفيه قالوا:"يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبغنا رسلًا، قال ما أجد لكم أن تلحقوا بالذود". ومنها في الحدود (2)"وذكر أنهم كانوا في الصفة يعني أولًا"، ومنها في الطب: كما سلف (3)، ومنها في الزكاة كما سلف.

ومنها في المغازي بعد غزوة الحديبية وقبل غزوة ذي قرد فقال: قصة عكل وعرينة (4)، ثم رواه بلفظ: أن ناسًا من عكل وعرينة قدموا المدينة وتكلموا بالإِسلام فقالوا: يا نبي الله إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف واستوخموا المدينة فأمر لهم رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فيه، الحديث. وفيه: حتى إذا كانوا بناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم وقتلوا الراعي وفيه: وتركوا في ناحية الحرة حتى

(1) الفتح (6/ 177) ح (3018).

(2)

كتاب الحدود:

(أ) باب لم يسق المرتدون المحاربون حتى ماتوا (12/ 113) ح (6804).

(ب) باب سمر النبي - صلي الله عليه وسلم - أعين المحاربين (12/ 114) ح (6805).

(ج) باب المحاربين من أهل الكفر والردة (12/ 111) ح (6802).

(3)

وأيضًا في باب: من خرج من أرض لا تلايمه (10/ 188) ح (5727).

(4)

الفتح (7/ 524) ح (4192).

ص: 148

ماتوا على حالهم (1).

(1) ومما فات على المؤلف -رحمنا الله وإياه- ذكره من تراجم البخاري:

(أ) في كتاب الوضوء. باب: أبوال الإِبل والدواب والغنم والصلاة ومرابضها (1/ 400) ح (233).

(ب) وفي كتاب التفسير باب قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (7/ 524) ح (4193).

(خ) وفي كتاب الديات باب القسامة (12/ 239) ح (6899).

ص: 149