الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث
377/ 3/ 72 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم".
ولمسلم: "فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت".
وفي رواية قال عمر: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله - صلي الله عليه وسلم - ينهى عنها، ذاكرًا ولا آثرًا" (1). يعني: حاكيًا عن غيري: أنه حلف بها".
الكلام عليه من وجوه:
الأول: هذا الحديث ساقه الشيخان بتمام قوله: "قال عمر:
(1) البخاري (6646)، ومسلم (1646)، والموطأ (2/ 480)، والترمذي (1534)، وأبو داود (3249، 3250)، وأحمد (1/ 18، 19، 32، 36)، (2/ 8، 11، 17، 142)، والحميدي (624، 686) والنسائي (7/ 4، 5)، وابن الجارود (922)، والبيهقي (10/ 28)، وابن ماجه (2094)، وعبد الرزاق (15922، 15923)، (15924)، والطيالسي والبغوي (2431)، وابن الجارود (922).
فوالله" إلى آخره وبدون قوله: "ولمسلم إلى قوله أو ليصمت" من هذا الوجه، ولم أر في البخاري هنا لفظة "ينهى عنها". وفي رواية لمسلم بعد قوله: "آثرًا، ولا تكلمت بها"، والحديث من رواية ابن عمر عن عمر ومن رواية ابن عمر أيضًا.
وأما الزيادة: التي عزاها المصنف إلى مسلم وحده فليست فيه من هذا الوجه الذي [أورد الحديث من طريقه](1) وإنما هي فيه من رواية ابن عمر وهذا لفظه: عن ابن عمر عن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وعمر يحلف بأبيه. فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت". وهذه الزيادة ثابتة في "صحيح البخاري" أيضًا في هذا الباب، وهذا لفظه: عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب يحلف بأبيه فقال: إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت" يظهر أن هذه [الزيادة] (2) ليست في هذا الحديث من هذا الطريق وأنها ليست من أفراد مسلم فتنبه لذلك فإنه يساوي رحله. وقد وقع للمصنف هذا الموضع في "عمدته الكبرى" أيضًا.
الثاني: سبب النهي أن قريشًا كانت تحلف بآبائها كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم -
(1) في الأصل العبارة هكذا: أورده من الحديث طريقه، وما أثبت من ن هـ.
(2)
زيادة من ن هـ.
قال: "من كان حالفًا، فلا يحلف إلا بالله"(1)[وكانت](2) قريش تحلف بآبائها فقال: لا تحلفوا بآبائكم. وقد أسلفنا من حديثه أيضًا أنه عليه الصلاة والسلام أدرك عمر بن الخطاب في ركب وهو يحلف بأبيه فناداهم رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم.
الثالث: سر النهي عنه أن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به وحقيقة العظمة لله عز وجل لا شريك له فيها فإنها إزاره والكبرياء رداءه فمن نازعه فيهما قصمه كما صح في الأحاديث الصحيحة (3) حكاية [عنه](4) سبحانه [وتعالى](5)، وإذا كان كذلك فلا تضاهي بالتعظيم غيره. وقد قال ابن عباس:"لئن أحلف بالله فآثم أحب إليّ من أن أضاهي"، ومعنى أضاهي أحلف بغيره، وقيل: يرى أنه حلف وما حلف ويؤيد الأول الرواية الأخرى عنه "لئن أحلف بالله مائة مرة فآثم خير من أن أحلف بغيره فأبر"
الرابع: قد فسر المصنف معنى قوله: "آثرًا"(6). وهو بمد
(1) البخاري (3836)، ومسلم (1646)، والنسائي (7/ 4)، وأحمد (2/ 20)، والبيهقي (10/ 29).
(2)
في الأصل وكان، وما أثبت من ن هـ.
(3)
مسلم (2620)، وأبو داود (4090)، وابن ماجه (4174)، والبغوي (3592)، والطيالسي (2387)، والحميدي (1149)، وأحمد (2/ 248، 376، 414، 427)، والأدب المفرد (552).
(4)
زيادة من ن هـ.
(5)
زيادة من ن هـ.
(6)
قال الحميدي في مسنده (2/ 281): قال سفيان: سمعت محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة. وكان بصيرًا (بالعربية)، يقول:"ولا آثرًا". =
الهمزة، أي: ما حلفت بها بعد النهي ذاكرًا، أي: قائلًا لها من قبل نفسي ولا أروي عن غيري أنه قالها وهو مأخوذ من قوله: آثر الحديث فآثره إذا حدث به.
الخامس: في أحكامه:
الأول: المنع من الحلف بغير الله تعالى فإنه عليه الصلاة والسلام قال بعد ذلك فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت. وجرى ذكر الآباء أولًا لأنه هو السبب المثير له وهذا المنع للتنزيه على المشهور عند الشافعية، وقيل: إنه معصية. وحكاه المالكية أيضًا ولم يعزه الشيخ تقي الدين (1) إلَّا إليهم حيث قال: والخلاف موجود عند المالكية. وتوبع على ذلك ويدل للثاني قوله عليه الصلاة والسلام "من حلف بغير الله فقد أشرك"(2) رواه الحاكم في
= آثره عن غيري أخبر عنه أنه حلف بها.
وقال أبو عبيد -رحمنا الله وإياه- في "غريبه"(2/ 59)، "ولا آثرًا" يريد به: ولا مخبرًا عن غيري أنه حلف به، يقول: ولا أقول: إن فلانًا قال: وأبي لا أفعل كذا وكذا، ومن هذا قيل: حديث مأثور، أي: يخبر به الناس بعضهم بعضًا، يقال منه: أثرت -مقصورًا- الحديث آثرهُ أثرًا، فهو مأثور وأنا آثِرُ -على مثال فاعل- قال الأعشى:
إن الذي فيه تماريتُما
…
بيّن للسامع والآثِر
وأما قوله: "ولا ذاكرًا" فقال عنها أيضًا (2/ 58)، ذاكرًا فليس من الذكر بعد النسيان، إنما أراد متكلمًا به كقولك: ذكرت لفلان حديث كذا وكذا. انظر أيضًا شرح السنة (10/ 4).
(1)
إحكام الأحكام (4/ 394).
(2)
أحمد (2/ 86، 87، 125)، والترمذي (1535)، وأبو داود (3251)، =
"مستدركه" من حديث ابن عمر وقال: صحيح على شرط الشيخين وللأول: أن يحمله على من اعتقد فيما حلف به من التعظيم ما يعتقد في الله تعالى.
فإن قلت: ما يصنع بقوله عليه الصلاة والسلام للأعرابي: "أفلح وأبيه إن صدق". قلت: عنه أجوبة:
أحدها: أن هذا كان يجري على ألسنتهم من غير أن يقصدوا به القسم والنهي إنما ورد فيمن قصد حقيقة الحلف. قاله جماعات منهم البيهقي في "سننه"(1). وقال النووي في "شرحه"(2) إنه الجواب المرضي. قال ابن الأثير في "جامعه"(3): وهذه اللفظة جارية في كلام العرب على ضربين: للتعظيم، وللتأكيد، والتعظيم هو المنهي عنه وأما التوكيد فلا، كقول الشاعر:
لعمر أبي الواشين لا عمرُ غيرهم
…
لقد كلفتني خطة لا أُريدها
فهذا توكيد لأنه لا يريد أن يقسم بأبي الواشين. وهذا في كلامهم كثير.
الثاني: أنه على حذف مضاف، أي: ورب أبيه.
وعبارة البيهقي عنه في "سننه"(4) يحتمل أنه كان -عليه الصلاة
= والطيالسي (1896)، والبيهقي (10/ 29)، والحاكم (1/ 18)، (4/ 297).
(1)
السنن للبيهقي (10/ 29).
(2)
(11/ 105) ويبحث عنه عند تخريج الحديث.
(3)
(1/ 224)، (11/ 652).
(4)
السنن الكبرى (10/ 29).
والسلام- أضمر فيه اسم الله تعالى كأنه قال: لا ورب أبيه وغيره لا يضمر. بل يذهب فيه مذهب التعظيم لأبيه.
ثالثها: أنه قبل النهي قاله البيهقي (1) والماوردي (2) وغيرهما. وسمعت شيخنا يجيب بجوابين آخرين:
أحدهما: أنه يحتمل أن يكون الحديث "أفلح والله" فقصَّر الكاتب اللامين فصارت "وأبيه".
ثانيهما: خصوصية ذلك بالشارع دون غيره وهذه دعوى لا برهان عليها. وأغرب القرافي رحمه الله حيث قال: هذه اللفظة وهي "وأبيه" اختلف في صحتها فإنها ليست في "الموطأ" وإنما فيها أفلح إن صدق، وهذا عجيب، فالزيادة بأبيه لا شك في صحتها ولا مرية.
فإن قلت: فقد وقع في القرآن العظيم القسم بغيره تعالى كالشمس، والعاديات والضحى والليل وغير ذلك.
قلت: عنه جوابان:
أحدهما: أنه على حذف مضاف أيضًا كما سلف في الحديث.
ثانيهما: أن الله تعالى يقسم بما شاء للتنبيه على شرفه [فإنه المتصرف في ملكه كيف شاء](3) ونحن لا نتصرف إلَّا كما أذن لنا
(1) المرجع السابق. وانظر (فتح الباري)(1/ 107، 108).
(2)
الحاوي الكبير (19/ 309).
(3)
بياض بالأصل.
وقد أبلغنا نبيه عليه الصلاة والسلام، فقال: من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت.
تنبيهات:
أحدها: يكره أيضًا أن يحلف بغير الله تعالى.
قال الماوردي من أصحابنا: ولا يجوز أن يحلف أحد بطلاق ولا عتاق ولا نذر لأنها تخرج عن حكم اليمين إلى إيقاع فرقة وإلزام عزم، قال: وإذا حلّف الحاكم بذلك عزله الإِمام لجهله.
ثانيها: الحلف بالأمانة أشد كراهة من غيره. وفي سنن أبي داود (1) من حديث بريدة رفعه: "من حلف بالأمانة فليس منا""وكان عمر رضي الله عنه ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهي" رواه أحمد في كتاب "الزهد" له.
ثالثها: لو خالف وحلف بغيره كالنبي والكعبة وغيرها من المخلوقات لم ينعقد يمينه، وقال أحمد: تنعقد بالنبي لأنه أحد
(1) سنن أبي داود (3253)، وأحمد (5/ 352)، والحاكم وصحح إسناده ووافقه الذهبي (4/ 298).
قال الخطابي في "معالم السنن"(4/ 46)، على قوله:"من حلف بالأمانة ليس منا" هذا يشبه أن تكون الكراهة فيها من أجل أنه إنما أمر أن يحلف بالله وصفاته، وليست الأمانة من صفاته، وإنما هي أمر من أمره، وفرض من فروضه، فنُهوا عنه لما في ذلك من التسوية بينها وبين أسماء الله عز وجل وصفاته.
ركني الشهادة كاسم الله تعالى (1).
الحكم الثاني: إباحة الحلف بالله تعالى. قال أصحابنا: وهي مكروهة لأنه جعل الله تعالى عرضة يمينه وقد نهاه عنه ولأنه ربما عجز عن الوفاء بها ويستثنى من هذا مسائل.
الأولى: أن تكون في طاعة كقوله: "والله لأغزون قريشًا"(2).
الثانية: الأيمان الواقعة في الدعاوى إذا كانت صادقة.
(1) قال شيخ الإِسلام في الفتاوى -رحمنا الله وإياه- (1/ 335)، وقد اتفق العلماء على أنه لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى، وهو الحلف بالمخلوقات، فلو حلف بالكعبة، أو بالملائكة، أو بالأنبياء، أو بأحد من الشيوخ أو بالملوك لم تنعقد يمينه، ولا يشرع له ذلك، بل ينهى عنه، إما نهي تحريم، وإما نهي تنزيه. فإنه للعلماء في ذلك قولين. والصحيح أنه نهي تحريم، ففي الصحيح عن النبي - صلي الله عليه وسلم - أنه قال:"من كان حالفًا فليحلف بالله، أو ليصمت"، وفي الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من حلف بغير الله فقد أشرك" ولم يقل أحد من العلماء المتقدمين أنه تنعقد اليمين بأحد من الأنبياء إلَّا في نبينا صلى الله عليه وسلم، فإنه عن أحمد روايتين في أنه تنعقد اليمين به، وقد طرد بعض أصحابه -كابن عقيل- الخلاف في سائر الأنبياء وهو ضعيف. وأصل القول بانعقاد اليمين النبي ضعيف شاذ ولم يقل به أحد من العلماء فيما نعلم، والذي عليه الجمهور كمالك والشافعي وأبي حنيفة أنه لا تنعقد اليمين به كإحدى الروايتين عن أحمد، وهذا هو الصحيح. اهـ.
(2)
أبو داود مرسلًا (3285، 3286)، والبيهقي مرسلًا (10/ 47)، وأبو يعلى (2674، 2675)، والطحاوي في مشكل الآثار (2/ 378)، والطبراني (11742).
الثالثة: إذا دعت إليها حاجة كتوكيد وتعظيم أمر وعليه ينزّل ما ثبت في الأحاديث الصحيحة من الحلف وشذت فرقة فمنعت اليمين بالله تعالى للآية السالفة.
الثالث: حكم سائر أسمائه تعالى حكم هذا الاسم بالاتفاق.
الرابع: جواز الحلف بالصفات أيضًا كالعلم والقدرة والعظمة والعزة والكبرياء والكلام والمشيئة (1) لأن الحلف بها كالحلف بالذات فينعقد اليمين وإن أطلق، إلا أن يسوي بالعلم المعدوم وبالقدرة المقدور وفيه خلاف محل بسطه كتب الفقه فإنه أليق به.
واعلم أن ما يقسم به ثلاثة أنواع:
أحدها: ما يباح به اليمين وهو القسم بأسماء الله تعالى وصفاته العلية وقد سلف.
ثانيها: ما يحرم به اليمين وهو القسم بالأنصاب والأزلام واللات والعزى ونحو ذلك. فإن قصد تعظيمًا كفر، وإلا أثم. وممن نص على ذلك من المالكية ابن الحاجب ومثله الحلف بنعمة السلطان وتربة الشهيد ونحو ذلك. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف فقال في حلفه واللات والعزى فليقل: لا إله
(1) ولفظه من حديث ابن عمر قال: كان يمين النبي - صلي الله عليه وسلم - التي يحلف عليها: "لا ومقلب القلوب". البخاري (6617)، النسائي (7/ 2)، أحمد (2/ 25)، الدارمي (2/ 187)، الترمذي (540)، وابن ماجه (2093).
إلَّا الله" (1)، وإنما أمر بذلك لأنه تعاطى بحلفه صورة تعظيم الأصنام حتى حلف بها ولا كفارة عليه في هذا عند مالك والشافعي والجمهور خلافًا لأبي حنيفة.
ثالثها: ما يختلف فيه بالتحريم والكراهة وهو ما عدا ذلك مما يقتضي تعظيمه كفرًا.
الحكم الخامس: المبالغة في الاحتياط في الكلام بأن لا يحكى قول الغير الذي منع الشرع منه لئلا يجري على اللسان ما صورته صورة الممنوع شرعًا وهذا معنى قول عمر رضي الله عنه: "ولا آثرًا".
(1) البخاري (4860)، ومسلم (1647)، وأبو داود (3247)، والترمذي (1545)، والنسائي (7/ 7)، وابن ماجه (2096) وأحمد (2/ 309).