الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
71 - باب حد الخمر
ذكر فيه رحمه الله حديث أنس وحديث أبي بردة:
الحديث الأول
373/ 1/ 71 - عن أنس [بن مالك](1) رضي الله عنه[أن النبي - صلي الله عليه وسلم -](2)، أتي برجل قد شرب الخمر، فجلده بجريدة نحو أربعين، قال: وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس، فقال عبد الرحمن بن عوف] (3) أخف الحدود ثمانون، فأمر به عمر" (4).
الكلام عليه من وجوه:
الأول: هذه السياقه المذكورة هي لمسلم خاصة، لكن
(1) زيادة من متن (عمدة الأحكام).
(2)
في ن هـ ساقطة.
(3)
زيادة من متن (العمدة).
(4)
البخاري (6773)، ومسلم (1706)، وأبو داود (4479)، والترمذي (1443)، وابن ماجه (2570)، وأحمد (3/ 115، 176، 180، 272، 273)، وابن الجارود (829)، والبيهقي في السنن (8/ 553)، والبغوي في شرح السنة (2604).
[لفظة](1)"بجريدتين" بدل "بجريد". قال عبد الحق في "جمعه"(2): ولم يخرج البخاري مشورة عمر، ولا فتوى عبد الرحمن بن عوف، وحديث أنس قال:"جلد النبي - صلي الله عليه وسلم - بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر، أربعين" ولم يقل عن النبي - صلي الله عليه وسلم - أربعين. وهو كما قال.
الوجه الثاني: هذا الشارب لا يحضرني اسمه بعد التتبع الشديد والفحص عنه.
الوجه الثالث: "الخمر" هي الشراب المعروف وهي مؤنثة على اللغة الفصيحة المشهورة وذكر أبو حاتم السجستاني في "كتابه المذكر والمؤنث"(3) في موضعين منه أن قومًا فصحاء يذكرونها. قال سمعت ذلك ممن أثق به منهم. وذكر أيضًا ابن قتيبة في "أدب الكاتب"(4) فيما جاء فيه لغتان التذكير والتأنيث. ولا يقال حُمرة بالهاء في اللغة الفصيحة. قال الجوهري (5): خمرة وخمر وخمور كتمرة وتمر وتمور.
قال أهل اللغة: سميت خمرًا لسترها العقل. وقيل: لأنها
(1) في ن هـ بلفظ.
(2)
انظر: كتاب تصحيح العمدة للزركشي، مجلة الجامعة الإِسلامية (75، 76).
(3)
كتاب المذكر والمؤنت (105)، ضمن مجموعة رسائل ونصوص في اللغة العربية.
(4)
(226).
(5)
مختار الصحاح (خ م ر).
تغطي حتى تدرك، وقيل: لأنها تركت فاختمرت واختمارها تغيرها.
ولها أسماء زائدة على الثلاثمائة. وقد ذكرت جملة منها في "لغات المنهاج" فراجعها منه.
واعلم أن الفاكهي قال: لا خلاف يعتد به في أن الخمر مؤنثة قال: وذكر النووي (1) أنها مذكرة على ضعف ولم أدر من أين نقله. هذا كلامه وقد عرفت سلفه فيه مما قدمته لك فلا إنكار عليه.
الوجه الرابع: قوله: "فجلده بجريد" هكذا هو في عامة نسخ الكتاب، وفي بعض نسخه "بجريدة". والذي في الصحيح "بجريدتين" كما أسلفته لك.
واختلف في معناه على قولين: أحدهما: أن الجريدتين كانتا مفردتين جلد بكل واحدة منهما عددًا حتى كمله من الجميع أربعين. وهذا تأويل أصحابنا.
والثاني: أن معناه أنه جمعهما وجلده بهما أربعين جلدة، فيكون المبلغ ثمانين، وهذا تأويل من يقول جلد الخمر ذلك المقدار والأول أظهر لأن الرواية الأخرى الثانية في "صحيح مسلم" مبينة لهذه وهي كان عليه الصلاة والسلام يضرب في الخمر بالنعال والجريد أربعين (2).
الخامس: قوله: "نحو أربعين": ظاهره أن ذلك للتقريب لا للتحديد، لكن لابد من تأويله على عدم التساوي في الضرب
(1) انظر: تحرير ألفاظ التنبيه (46).
(2)
انظر: شرح مسلم (11/ 218).
والآلة المضروب بها، فإن الحدود للتحديد، وإن كان القرطبي (1) نقل عن طائفة من علماء أصحابهم وغيرهم أن ذلك إنما كان منه عليه الصلاة والسلام على وجه التعزير والأدب. وأنه انتهى في ذلك إلى أربعين. وحسنه فلا يوافق عليه.
السادس: وقع في "الموطأ"(2) أن الذي أشار على عمر بالثمانين علي بن أبي طالب، وهو خلاف ما ثبت في الصحيح من كونه عبد الرحمن بن عوف. وادعى القاضي عياض (3) أنه المشهور لكنه مرسل، فإنه من رواية ثور بن زيد الديلي، ولم يدركه، وعلى تقدير اتصاله فلعلهما أشارا به والذي بدأ بالمشورة عبد الرحمن فنسبت إليه لسبقه بها ونسبت في رواية إلى علي لرجحانه على عبد الرحمن.
وقوله: "فلما كان عمر"، أي: زمن ولايته.
السابع: قوله: "أخف الحدود" وهو منصوب بفعل محذوف، أي: جلده أو حده أخف الحدود. قال الشيخ تقي الدين: ويروى ثمانون بالرفع وثمانين بالنصب، أي: اجعله [أو](4) ما يقارب ذلك.
(1) المفهم (5/ 129).
(2)
الموطأ (842) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (24/ 265): هذا حديث منقطع، من رواية مالك، وقد روي متصلًا من حديث ابن عباس.
(3)
أشار إليه في شرح مسلم (11/ 220).
(4)
في الأصل بالواو وما أثبت من ن هـ، وموافق لإِحكام الأحكام (4/ 375).
واستبعد هذا الفاكهي وقال إنه بعيد أو باطل وكأنه صدر من الشيخ من غير تأمل قواعد العربية ولا لمراد المتكلم بذلك، [إذ لا يجيز أحد أجود الناس الزيدين](1) على تقدير أجلهم، وأيضًا فإن مراد عبد الرحمن الإِخبار بأخف الحدود لا أمره بأن يجعل أخف الحدود ثمانين، فاحتمال توهيم الراوي لهذه الرواية القليلة أولى من ارتكاب ما لا يجوز لا من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى. وقال ابن العطار: جعله بعضهم مبتدأ وخبر فيكونان مرفوعين، وما أعلمه منقولًا رواية.
الثامن: "أخف الحدود". يعني: المنصوص عليها في كتاب الله، فإن الحدود فيه حد السرقة بالقطع وحد الزنا بمائة جلدة وحد القذف بثمانين، فاجعلها ثمانين كأخف الحدود.
التاسع: إنما استشار عمر رضي الله عنه الناس في ذلك لأن في زمنه فتح الشام والعراق وسكن الناس في مواضع الخصب وسعة العيش وكثرت الأعناب والثمار فأكثروا من شرب الخمر فزاد عمر حدها زجرًا لشاربها وتغليظًا عليهم، وكان ذلك سنة ماضية.
قال عليه الصلاة والسلام: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ"(2). وقال أيضًا: "اقتدوا
(1) العبارة في حاشية (إحكام الأحكام)(4/ 376)، إذ لا يجوز أجود الناس الزيدين.
(2)
أحمد (4/ 126، 127)، وأبو داود (4607)، وابن ماجه (44)، والترمذي (2676)، والبيهقي (6/ 541)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي (1/ 95).
باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" (1)، أي بكل واحد منهما. ولهذا عمل عثمان رضي الله عنه بهذا مرة وبالأول أخرى. وقال علي "كل سنّة" (2)، أي: لأن الأربعين فعل الشارع والصديق والثمانين فعل الفاروق بإجماع الصحابة [رضي الله عنه](3) وهو المعروف من مذهب علي، وهذا من علي رضي الله عنه دال على اعتقاد حقيقة كونهما خليفتين وأن فعلهما سنة وأمرهما حق بخلاف ما [يكذبه](4) الشيعة [عليه](5).
الوجه العاشر: في أحكامه:
أولها: تحريم شرب الخمر وهو إجماع، فإن الحد لا يكون إلا على محرم كبيرة.
ثانيها: وجوب الحد على شاربها سواء شرب قليلًا أو كثيرًا. وأجمعوا على أن شاربها لا يقتل وإن تكرر منه. وممن حكى الإِجماع على ذلك الترمذي في "جامعه"(6) وخلائق. وحكى القاضي (7) عن طائفة شاذة أنهم قالوا: يقتل بعد جلده أربع مرات
(1) الترمذي (3663)، وابن ماجه (97)، والحميدي (449)، وأحمد (5/ 399)، وفي الفضائل له (479).
(2)
مسلم (1707)، وأبو داود (4480، 4481).
(3)
في ن هـ ساقطة.
(4)
في الأصل بياض، وما أثبت من ن هـ، وشرح مسلم (11/ 219).
(5)
زيادة من ن هـ، وشرح مسلم.
(6)
سنن الترمذي (4/ 48).
(7)
ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 496)، وشرح مسلم (11/ 217).
لأحاديث واردة في ذلك. وهو قول باطل مخالف لإِجماع الصحابة فمن بعدهم، وتلك الأحاديث منسوخة إما بقوله عليه الصلاة والسلام:"لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث"(1). الحديث. وإما بدلالة الإِجماع فإنه استمر بعد وفاته وأجمعوا على أن شارب الخمر يجلد سواء سكر أم لا.
واختلفوا في شارب النبيذ وهو ما سوى عصير العنب من الأنبذة المسكرة على قولين:
أحدهما: إلحاقه بشارب الخمر، وإن كان يعتقد إباحة النبيذ، وهو قول الشافعي ومالك وأحمد وجماهير العلماء سلفًا وخلفًا.
ثانيهما: [ما لا يحرم](2) ولا يحد شاربه وهو قول أبي حنيفة والكوفيين. وقال أبو ثور: يحد معتقد تحريم النبيذ دون غيره.
ثالثها: أن قدر حد الخمر أربعون، وبه قال الشافعي وأبو ثور وداود وأهل الظاهر وغيرهم.
قال الشافعي: وللإِمام أن يبلغ به ثمانين لفعل عمر والصحابة رضي الله عنهم.
بل روى عبد الرزاق (3) أنه عليه الصلاة والسلام فعله وإن لم يصح، كما قاله ابن حزم.
(1) سبق تخريجه في أول كتاب القصاص.
(2)
زيادة من ن هـ.
(3)
مصنف عبد الرزاق (7/ 379).
ولأصحابه وجه أنه لا تجوز الزيادة على الأربعين لأن عليًا رضي الله عنه رجع عنه وكان يضرب أربعين. قال أصحابنا: والزيادة على الأربعين تعزيرات على تسببه في إزالة عقله وفي تعرضه للقذف والقتل وأنواع الإِيذاء وترك الصلاة وغير ذلك.
وقيل: إنها حد لأن التعزير جناية مخففة.
وقال مالك وأبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأحمد وإسحق وابن المنذر: حده ثمانون. ونقله القاضي عياض (1) عن الجمهور سلفًا وخلفًا.
واحتجوا: بأنه الذي استقر عليه إجماع الصحابة وأن فعله عليه الصلاة والسلام لم يكن للتحديد، ولهذا قال في رواية الكتاب نحو أربعين.
وحجة الشافعي: أنه عليه الصلاة والسلام جلد أربعين كما سلف وزيادة عمر تعزيرات والتعزير إلى رأي الإِمام إن شاء فعله وإن شاء تركه بحسب المصلحة مع فعله وتركه فرآه عمر ففعله، ولم يفعله الشارع ولا الصديق ولا علي على خلاف عنه، ولو كانت حدًا لم يترك، ولهذا قال علي رضي الله عنه "وكلُّ سنة"، أي: الاقتصار على الأربعين والبلوغ إلى الثمانين.
ثم هذا الذي ذكرناه هو حد الحر.
فأما العبد: فعلى النصف منه كما في الزنا والقذف.
(1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 471).
وحكى القاضي حسين أن من أصحابنا من قال: أنه كالحر وهو غلط.
الرابع: حصول الجلد في الخمر بالجريد وهو إجماع ومثله النعال وأطراف الثياب.
واختلفوا في جوازه بالسوط على قولين وهي وجهان لأصحابنا، والأصح: الجواز.
وشذ بعض أصحابنا: فشرط فيه السوط، وقال: لا يجوز فيه الضرب بالنعال والثياب لعسر الضبط وهو غلط، فاحش مردود على قائله لمنابذته صريح الأحاديث الصحيحة.
وشذ بعضهم فقال: يتعين غير السوط.
قال أصحابنا: وإذا ضرب بالسوط فليكن متوسطًا معتدلًا في الحجم بين القصب والعصى، فإن ضربه بجريدة فلتكن خفيفة بين اليابسة والرطبة ويضربه ضربًا بين ضربتين ولا يرفع يده فوق رأسه ولا يكتفي بالوضع بل يرفع ذراعيه رفعًا معتدلًا.
الخامس: مشاورة الإِمام والقاضي والمفتي أصحابه وحاضري مجلسه في الأحكام.
السادس: جواز القياس والعمل به والاستحسان عند الحاجة إليه.