المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الثاني 383/ 2/ 73 - عن عبد الله بن عمر - الإعلام بفوائد عمدة الأحكام - جـ ٩

[ابن الملقن]

الفصل: ‌ ‌الحديث الثاني 383/ 2/ 73 - عن عبد الله بن عمر

‌الحديث الثاني

383/ 2/ 73 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى عن النذر، وقال: إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل"(1).

الكلام عليه من وجوه:

أحدها: ظاهر الحديث كراهة ابتداء النذر في الطاعة، وإن كان الوفاء به لازمًا لأن سياق بعض الحديث يقتضي أحد أقسام النذر، التي ذكرناها، وهو ما يقصد به تحصيل غرض أو دفع مكروه، وذلك لقوله:"وإنما يستخرج به من البخيل"، وهو ما نص عليه الشافعي رحمه الله، ولأنه التزام إيجاب على نفسه من غير إيجاب الشرع، فكره من هذا الوجه.

وأما القاضي حسين والمتولي والغزالي والرافعي فإنهم قالوا: إنه قربة، لأنه سبحانه وتعالى حث عليه، حيث قال: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ

(1) البخاري (6608)، ومسلم (1639)، والنسائي (7/ 15، 16)، وابن ماجه (2122)، وأبو داود (3287)، والبيهقي (10/ 77)، وأحمد (2/ 61 ، 86).

ص: 312

نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْر} (1) فتكون قربة، ولأنه وسيلة إلى القربة، ولها حكم المقاصد. وقال ابن الأثير في "نهايته"(2) النهي عنه تأكيد لأمره، وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه، وإسقاطُ لزوم الوفاء به، إذ كان بالنهي يصير معصية، فلا يلزم. وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم: أن ذلك أمرٌ لا يجزُّ لهم في العاجل نفعًا، ولا يصرف عنهم ضَرًّا، ولا يردّ [(3)] قضاءً، فقال: لا تنذروا، على أنكم [(4)] تدركون بالنذر شيئًا لم يُقَدِّرْهُ الله لكم، أو تصرفون به عنكم ما جرى به القضاء عليكم، فإذا نذرتم ولم تعتقدوا هذا، فاخرجوا عنه بالوفاء، فإن الذي نذرتموه لازم لكم.

وقال الشيخ تقي الدين (5): في كراهة النذر إشكال على القواعد، فإن القاعدة تقتضي أن وسيلة الطاعة طاعة، ووسيلة المعصية معصية. ويعظم قبح الوسيلة بحسب عظم المفسدة وكذلك تعظم فضيلة الوسيلة بحسب عظم المصلحة، ولما كان النذر وسيلة إلى التزام قربة لزم على هذا أن يكون قربة، إلَّا أن ظاهر إطلاق الحديث دل على خلافه، وإذا حملناه على القسم الذي أشرنا إليه من أقسام النذر -كما دل عليه سياق الحديث- فذلك المعنى الموجود

(1) سورة البقرة: آية 270.

(2)

النهاية لابن الأثير (5/ 39).

(3)

في ن هـ زيادة (به).

(4)

في ن والنهاية زيادة (قد).

(5)

إحكام الأحكام (4/ 420، 422).

ص: 313

في ذلك القسم ليس بموجود في النذر المطلق، فإن ذلك خرج مخرج طلب العوضين، وتوقيف العبادة على تحصيل الغرض، وليس هذا المعنى موجودًا في التزام العبادة والنذر بها مطلقًا، وقد يقال: إن البخيل لا يأتي بالطاعة إلَّا إذا اتصفت بالوجوب، فيكون النذر هو الذي أوجب له فعل الطاعة، لتعلق الوجوب به، ولم يتعلق به الوجوب لتركه البخيل، فيكون النذر المطلق أيضًا مما يستخرج به [من](1) البخيل، إلَّا أن لفظة "البخيل" هنا قد تشعر بما يتعلق بالمال، وعلى كل تقدير فاتباع النصوص أولى. وما ذكره الشيخ تقي الدين من التفصيل، ذكره ابن الرفعة أيضًا، فقال: يمكن أن يتوسط [فيه](2)[فيقال](3) الذي دل عليه الخبر على كراهته نذر المجازاة.

وأما نذر التبرر: فيظهر أنه قربة، لأن له فيه غرضا، وهو أن يثاب عليه ثواب الواجب، وهو فوق ثواب التطوع، أي: بسبعين درجة، كما أفاده إمام الحرمين. وكذا قال القرطبي (4): المنهي عنه هو نذر المجازاة، وفي معناه النذر على وجه التَّبرُّم والتَّحرُّج بأن ينذر عتق عبد استثقل به تخلصًا منه أو ينذر كثيرًا من العبادة كالصوم الكبير مثلًا مما يؤدي إلى الحرج والمشقة مع القدرة عليه.

(1) زيادة من ن هـ.

(2)

زيادة من ن هـ.

(3)

في ن هـ ساقطة.

(4)

(المفهم (4/ 607).

ص: 314

وقال الماوردي (1): الحديث دال على أن ما يبذله الإنسان من البر أفضل مما يلتزمه بالنذر.

ثانيها: هذا النهي للتنزيه، وقال القرطبي (2): يظهر لي حمله على التحريم في حق من يُخاف عليه أن يعتقد أن النذر يوجب ذلك الغرض، أو أن الله يفعله لأجل ذلك، والأول يقارب الكفر. والثاني خطأ صراح، وحمله على التحريم في حق من لم يعتقد ذلك.

وذكر المازري (3) في [سبب](4) النهي احتمالين:

أحدهما: كون الناذر يصير ملتزمًا له، فيأتي به على سبيل التكلف من غير نشاط.

ثانيها: إتيانه به على سبيل المعاوضة لا على سبيل القربة، فينتقص أجره للأمر الذي طلبه، وشأن العبادة أن تكون محضة لله تعالى.

وذكر القاضي (5) عياض احتمالًا ثالثًا: وهو أن بعض الجهلة قد يظن أن النذر يرد القدر، ويمنع من حصول المقدَّر، فنهى عنه خوفًا من جاهل يعتقد ذلك، وهذا يؤيده بعض روايات الحديث في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن النذر وقال: "إنه لا يرد

(1) الحاوي الكبير (5/ 20).

(2)

المفهم (4/ 607).

(3)

المعلم بفوائد مسلم (2/ 360).

(4)

في الأصل (سببه)، وما أثبت من ن هـ.

(5)

ذكره النووي في شرح مسلم (11/ 99).

ص: 315

شيئًا، وإنما يستخرج به من الشحيح"، وفي رواية للبخاري (1): "إن النذر لا يقدم شيئًا ولا يؤخره، وإنما يستخرج بالنذر من البخيل"، وفي صحيح مسلم (2) من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر شيئًا، وإنما يستخرج به من البخيل". وفي رواية له:"إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئًا لم يكن الله قدره له، ولكن النذر يوافق القدر، فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج". ورواه البخاري من هذا الوجه بلفظ: "لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم أكن قدرته، ولكن يلقيه النذر إلى القدر، قد قُدِّر له، فيستخرج الله به من البخيل فيؤتى عليه ما لم يكن يُؤتى عليه من قبل".

ثالثها: قوله عليه الصلاة والسلام: "إنه لا يأتي بخير" يحتمل أن تكون هذه "الباء" باء السببية، كما قاله الشيخ تقي (3) الدين كأنه قال: لا يأتي سبب خير في نفس الناذر وطبعه في طلب القرب والطاعة من غير عوض يحصل له وإن كان يترتب عليه خير، وهو فعل الطاعة التي نذرها ، لكن سبب ذلك الخير حصول غرضه.

ويحتمل أن يكون معناه: لا يغني من القدر شيئًا، كما سلف،

(1) البخاري (6692).

(2)

البخاري (6609)، ومسلم (1640)، والنسائي (7/ 16)، وأبو داود (3288)، وابن ماجه (2123)، وابن الجارود (932)، والحميدي (1112)، والترمذي (1538)، وأحمد (2/ 314، 373، 412، 463).

(3)

إحكام الأحكام (4/ 423).

ص: 316

وعليه اقتصر النووي في "شرح مسلم"(1).

رابعها: قوله: "وإنما يستخرج به من البخيل"، معناه أنه لا يأتي بهذه القربة تطوعًا محضًا مبتدئًا وإنما يأتي بها في مقابلة شفاء المرض وغيره مما يعلق النذر عليه. قاله النووي في "شرحه". وعبارة الشيخ تقي الدين: الأظهر في معناه: أن البخيل لا يعطي طاعة إلَّا في عوض ومقابل يحصل له، فيكون النذر هو السبب الذي استخرج تلك الطاعة وهو غير ما ذكره النووي.

خامسها: في أحكامه.

الأول: كراهة النذر، وقد سلف ما فيه.

الثاني: الإِخلاص في الأعمال، وأن ما ليس فيه إخلاص لا يأتي بخير.

الثالث: ذم البخل والبخلاء.

الرابع: أن من وقف مع الشرع في أعماله ليس ببخيل، بل هو الكريم حقيقة.

(1) شرح مسلم (11/ 99).

ص: 317