الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثَّالِثُ: الإجَاْزَةُ
440.
... ثُمَّ الإِجَازَةُ تَلىِ السَّمَاعَا
…
وَنُوّعَتْ لِتِسْعَةٍ أَنْوَاعَا
441.
... أرْفَعُهَا بِحَيْثُ لَا مُنَاولَهْ
…
تَعْيِيْنُهُ الْمُجَازَ وَالْمُجْازَ لَهْ
442.
... وَبَعْضُهُمْ حَكَى اتِّفَاقَهُمْ عَلَى
…
جَوَازِ ذَا، وَذَهَبَ (الْبَاجِيْ) إِلَى
443.
... نَفْي الْخِلَافِ مُطْلَقَاً، وَهْوَ غَلَطْ
…
قال: وَالاخْتِلَافُ فِي الْعَمَلِ قَطْ
444.
... وَرَدَّهُ الشَّيْخُ بأَِنْ للشَّافِعِي
…
قَوْلَانِ فِيْهَا ثُمَّ بَعْضُ تَابِعي
445.
... مَذْهَبِهِ (الْقَاضِي حُسَيْنٌ) مَنَعَا
…
وَصَاحِبُ (الْحَاوي) بِهِ قَدْ قَطَعَا
446.
... قَالَا كَشُعْبَةٍ وَلَو جَازَتْ إِذَنْ
…
لَبَطَلَتْ رِحْلَةُ طُلَاّبِ السُّنَنْ
447.
... وَعَنْ (أبي الشَّيْخِ) مَعَ (الْحَرْبِيِّ)
…
إِبْطَالُهَا كَذَاكَ (لِلسِّجْزِيِّ)
448.
... لَكِنْ عَلى جَوَازِهَا اسْتَقَرَّا
…
عَمَلُهُمْ، وَالأَكْثَرُوْنَ طُرَّا
449.
... قَالُوا بِهِ، كَذَا وُجُوْبُ الْعَمَلِ
…
بِهَا، وَقِيْلَ: لَا كَحُكْمِ الْمُرْسَلِ
القسمُ الثالثُ من أَقسامِ الأَخذِ والتحمُّلِ: الإجازةُ. وهيَ دونَ السماعِ.
وهيَ على تسعةِ أنواعٍ:
النوعُ الأولُ: إجازةُ مُعَيَّنٍ لِمُعَيَّنٍ: كأَنْ يقول: أجزتُ لكُم، أو لفلانٍ الفلانيِّ: - ويصفُهُ بما يميّزُهُ - الكتابَ الفلانيَّ، أو ما اشتملَتْ عليهِ فِهْرِستي، ونحوَ ذلكَ. وهذا أرفعُ أنواعِ الإجازةِ المجردةِ عن المناولةِ. وسيأتي حُكْمُ المناولةِ مَعَ الإِجازةِ.
قالَ القاضي عياضٌ: ((فهذهِ عندَ بعضهِمِ التي لم يُخْتَلَفْ في جوازهِا، ولا خالفَ فيه أهلُ الظاهرِ، وإِنَّما الخلافُ بينهُم في غيرِ هذا الوجهِ)) . وقالَ القاضي أبو الوليدِ الباجيُّ: لا خلافَ في جوازِ الروايةِ بالإجازةِ من سلفِ هذهِ الأمةِ وخَلَفِهَا، وادَّعَى فيها الإجماعَ، ولم يُفَصِّلْ، وذَكَرَ الخلافَ في العملِ بها. فقولي:(قالَ)، أي: الباجيُّ، وما حكاهُ الباجيُّ من الإجماعِ في مُطْلَقِ الإجازةِ غَلَطٌ، قالَ ابنُ الصلاحِ: هذا باطلٌ فقدْ خالَفَ في جوازِ الروايةِ بالإجازةِ جماعاتٌ من أهلِ الحديثِ والفقهاءِ والأصوليينَ وذلكَ إِحدَى الروايتينِ عن الشافعيِّ، وقطعَ بإبطالِها القاضي حُسَيْنٌ، والماورديُّ، وبهِ قَطَعَ في كتابهِ " الحاوي " وعزاهُ إلى مذهبِ الشافعيِّ، وقالا جميعاً كما قالَ شُعبةُ: لو جازتِ الإجازةُ لبطلتِ الرِّحْلَةُ. وَمِمَّنْ قالَ بإبطالِها إبراهيمُ الْحَرْبيُّوأبو الشيخِ عبدُ اللهِ بنُ محمّدٍ الأصبهانيُّ وأبو نصرٍ الوائليُّ السجزيُّ، وأبو طاهرٍ الدَّبَّاسُ من الحنفيةِ، وأبو بكرٍ محمَّدُ بنُ ثابتٍ الخُجَنْدِيُّ من الشافعيةِ، وحكاهُ الآمديُّ، عن أبي حنيفةَ، وأبي يوسُفَ. لكنَّ الذي استقرَّ عليه العملُ، وقالَ بهِ جماهيرُ أهلِ العلمِ من أَهْلِ الحديثِ وغيرِهم: القولُ بتجويزِ الإجازةِ وإِجازةِ الروايةِ بها، وحكاهُ
الآمديُّ عن أصحابِ الشافعيِّ وأكثرِ المحدِّثينَ.
وكما تجوزُ الروايةُ بالإِجازةِ، كذلكَ يجبُ العملُ بالمرويِّ بها. وقالَ بعضُ أهلِ الظاهرِ ومَنْ تَابَعَهُمْ: لا يجبُ العملُ بهِ كالحديثِ المرسلِ، قالَ ابنُ الصلاحِ:((وهذا باطلٌ؛ لأَنَّهُ ليس في الإِجازةِ ما يقدحُ في اتِّصَالِ المنقولِ بها وفي الثقةِ بهِ)) ، واللهُ أَعْلَمُ.
450.
... وَالثَّانِ: أَنْ يُعَيِّنَ الْمُجَازَ لَهْ
…
دُوْنَ الْمُجَازِ، وَهْوَ أَيْضَاً قَبِلَهْ
451.
... جُمْهُوْرُهُمْ رِوَايَةً وَعَمَلَا
…
وَالْخُلْفُ أَقْوَى فِيْهِ مِمَّا قَدْ خَلَا
النوعُ الثاني منْ أَنواعِ الإِجازةِ: أَن يُعَيِّنَ الشخصَ المجُازَ له دونَ الكتابِ المجازِ، فيقول: أجزتُ لك جميعَ مسموعاتي، أو جميعَ مرويَّاتي، وما أَشْبَهَ ذلكَ. والجمهورُ على تجويزِ الروايةِ بها، وعلى وُجوبِ العملِ بما رُوِيَ بها بشرطِهِ، ولكنَّ الخلافَ في هذا النوعِ أَقوى مِنَ الخلافِ في النوعِ المتُقدِّمِ.
452.
... وَالثَّالِثُ: التَّعْمِيْمُ فِي الْمُجَازِ
…
لَهُ، وَقَدْ مَالَ إِلى الْجَوَازِ
453.
... مُطْلَقَاً (الْخَطِيْبُ)(وَابْنُ مَنْدَهْ)
…
ثُمَّ (أبو الْعَلَاءِ) أَيْضَاً بَعْدَهْ
454.
... وَجَازَ لِلْمَوْجُوْدِ عِنْدَ (الطَّبَرِيْ)
…
وَالشَّيْخُ لِلإِبْطَالِ مَالَ فَاحْذَرِ
والنوعُ الثالثُ من أنواعِ الإجازةِ: أَنْ يَعُمَّ المجُازَ لهُ فلا يُعيِّنُهُ، كأجزْتُ للمسلمينَ، أو لكلِّ أَحدٍ، أو لِمنْ أدْرَكَ زماني، ونحوِ ذلكَ، وقد فعلَهُ أبو عبدِ الله بنُ
مَنْدَه، فقالَ: أجزتُ لمنْ قالَ لا إِلهَ إِلَاّ اللهُ. وجَوَّزهُ أيضاً الخطيبُ وحكى الحازميُّ عَمَّنْ أَدرَكَهُ من الحفَّاظِ كأبي العلاءِ الحسنِ بنِ أحمدِ العطارِ الهمدانيِّ وغيرِهِ: أنَّهُم كانوا يميلون إلى الجوازِ. وحكى الخطيبُ عن القاضي أبي الطيِّبِ الطبريِّ: أَنَّهُ جوَّزَ الإجازةَ لجميعِ المسلمينَ مَنْ كان منهُم موجوداً عند الإِجازةِ. قال ابنُ الصلاحِ: ولم نَرَ، وَلَم نَسْمَعْ عن أَحدٍ ممَّن يُقْتَدَى بِهِ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ هذهِ الإجازةَ، فَرَوَى بها، ولا عن الشِرْذِمَةِ المُستأخِرَةِ الذين سوَّغوها. والإجازةُ في أَصْلِها ضعيفةٌ وتزدادُ بهذا التوسُّعِ والاسترسالِ ضَعْفَاً كثيراً، لا ينبغي احتمالُهُ. قلتُ: مِمَّنْ أَجازَها أبو الفضلِ أحمدُ بنُ الحسينِ بنِ خَيْرُونَ البغداديُّ، وأبو الوليدِ بنُ رُشدٍ المالِكيُّ، وأبو طاهرٍ السِّلَفِيُّ، وغيرُهم. ورجَّحَهُ أبو عمرِو بنُ الحاجبِ، وصحَّحَهُ النَّوَوِيُّ من زياداتِهِ فِي "الرَّوضةِ". وقد جَمعَ بعضُهم مَنْ أَجَازَ هذهِ الإجازةَ العامّةَ في تصنيفٍ لهُ، جَمَعَ فيه خَلقاً كثيراً رتَّبَهُم على حروفِ المُعْجَمِ؛ لكَثرتِهِم، وهُو الحافظُ أبو جَعْفَرٍ محمدُ بنُ الحسينِ ابنِ أبي البدرِ الكاتبِ البغداديُّ، ومِمَّنْ حَدَّثَ بِهَا مِنَ الحُفَّاظِ: أبو بكرِ بنُ خيرٍ الإشبِيليُّ، ومن الحفَّاظِ المتأخرينَ: الحافظُ شرفُ الدينِ عبدُ المؤمنِ بنُ خَلَفٍ الدمياطيُّ، بإجازَتِهِ العامةِ من المؤيِّدِ الطوسيِّ.
وسمعَ بِهَاالحفَّاظُ: أبو الحجَّاجِ المِزِّيُّ، وأبو عبدِ اللهِ الذهبيُّ، وأبو محمدٍ البِرْزَاليُّ عَلَى الركْنِ الطَّاوسي بإجازتِهِ العامَّةِ من أبي جعفرٍ
الصَّيدلانيِّ وغَيرِهِ. وقرأَ بِهَا الحافظُ أبو سعيدٍ العلائيُّ عَلَى أبي العباسِ بنِ نعمةَ بإجازتهِ العامَّةِ من داودَ بنِ مَعْمَرِ بنِ الفاخرِ. وقرأْتُ بِهَا عدَّةَ أجزاءٍ عَلَى الوجيهِ عبدِ الرحمنِ العوفيِّ بإجازتِهِ العامَّةِ من عبدِ اللَّطيفِ بنِ القُبَّيْطِيِّ، وأبي إسحاقَ الكَاشْغَرِيِّ، وابنِ رواجِ، والسِّبْطِ، وآخرينَ من البغداديِّينَ والمصريِّينَ. وفي النفسِ من ذَلِكَ شئٌ وأنا أَتوقفُ عن الروايةِ بِهَا، وأهلُ الحديثِ يقولونَ: إذا كتبتَ فَقَمِّشْ، وإذا حَدَّثْتَ فَفَتِّشْ.
455.
... وَمَا يَعُمُّ مَعَ وَصْفِ حَصْرِ
…
كَالْعُلَمَا يَوْمَئِذٍ بِالثَّغْرِ
456.
... فَإِنَّهُ إِلى الْجَوَازِ أَقْرَبُ
…
قُلْتُ (عِيَاضٌ) قالَ: لَسْتُ أَحْسِبُ
457.
... فِي ذَا اخْتِلَافَاً بَيْنَهُمْ مِمَّنْ يَرَى
…
إِجَازَةً لِكَوْنِهِ مُنْحَصِرَا
والإجازةُ العامَّةُ إذا قُيِّدَتْ بوصفٍ حاصرٍ، فهي إلى الجوازِ أقربُ. قالهُ ابنُ الصلاحِ، وَمثَّلَهُ القاضي عِياضٌ بقولهِ: أجزتُ لِمَنْ هوَ الآنَ من طلبةِ العلمِ ببلدِ
كذا، أو لِمَنْ قرأَ علَيَّ قبلَ هذَا. وقالَ: فما أَحسَبُهُم اختلفوا في جَوَازِهِ ممَّنْ تَصحُّ عندَهُ الإجازةُ، ولا رأيتُ مَنْعَهُ لأَحدٍ؛ لأَنَّهُ محصورٌ موصوفٌ كقولهِ، لأولادِ فلانٍ، أو إخوةِ فلانٍ.
458.
... وَالرَّابعُ: الْجَهْلُ بِمَنْ أُجِيْزَ لَهْ
…
أو مَا أُجِيْزَ كَأَجَزْتُ أَزْفَلَهْ
459.
... بَعْضَ سَمَاَعاِتي، كَذَا إِنْ سَمَّى
…
كِتَاباً او شَخْصَاً وَقَدْ تَسَمَّى
460.
... بِهِ سِوَاهُ ثُمَّ لَمَّا يَتَّضِحْ
…
مُرَادُهُ مِنْ ذَاكَ فَهْوَ لَا يَصِحْ
461.
... أَمَّا الْمُسَمَّوْنَ مَعَ الْبَيَانِ
…
فَلَا يَضُرُّ الْجَهْلُ بِالأَعْيَانِ
462.
... وَتَنْبَغِي الصِّحَّةُ إِنْ جَمَلَهُمْ
…
مِنْ غَيْرِ عَدٍّ وَتَصَفُّحٍ لَهُمْ
والنوعُ الرابعُ من أنواعِ الإِجازةِ: الإِجازَةُ للمجهولِ، أو بالمجهولِ. فالأولُ كقولهِ: أجزتُ لجماعةٍ من الناسِ مسموعاتي. والثاني كقولِهِ: أجزتُ لَكَ بعضَ مَسْمُوْعَاتي. وقد جمعْتُ مثالَ الْجَهْلِ فيهما في مثالٍ واحدٍ، وهو: أجزتُ أَزْفَلَةً بعضَ مَسْمُوْعَاتي. والأَزْفَلةُ - بفتحِ الهمزةِ وإِسكانِ الزاي وفتحِ الفاءِ -: الجماعةُ مِنَ الناسِ. ومنه: أَنَّ عائِشةَ رضي الله عنها أَرسلَتْ إلى أَزْفَلَةٍ من الناسِ، وذلك في قِصَّةِ خُطبةِ عائشةَ في فضلِ أبيهَا. ومِنْ أَمثلةِ هذا النوعِ: أَنْ يُسَمِّيَ شخصاً، وقد تَسَمَّى به غيرُ واحدٍ في ذلكَ الوقتِ كأجزتُ لمحمدِ بنِ خالدٍ الدِّمَشْقيِّ - مثلاً - ويُسَمِّي كتاباً، كنحوِ: أجزتُ
لك أَنْ تَرويَ عَنِّي كتابَ السننِ وهُو يروي عدةً من السننِ المعروفةِ بذلك، ولم يَتِّضحْ مرادُهُ في المسألتينِ، فإِنَّ هذهِ الإجازةَ غيرُ صحيحةٍ. أَمَّا إذا اتَّضَحَ مرادُه بقرينةٍ بأَنْ قيلَ لهُ: أجزتَ لمحمَّدِ بنِ خالدِ بنِ عليِّ بنِ محمودٍ الدمشقيِّ - مثلاً - فحيثُ لا يلتبسُ فقالَ: أجزتُ لمحمدِ بنِ خالدٍ الدِّمَشْقِيِّ، أو قِيْلَ لَهُ: أجزْتَ لي روايةَ كتابِ السننِ لأبي داودَ - مثلاً - فقالَ: أجزتُ لكَ روايةَ السُّننِ. فالظاهرُ صحَّةُ هذهِ الإجازةِ، وأَنَّ الجوابَ خَرَجَ عَلَى الْمَسْؤُوْلِ عنهُ. وكذلكَ إذا سُمِّيَ للشَّيخِ المسؤولِ منهُ المجَازَ لهُ معَ البيانِ المزيلِ للاشتباهِ، ولكنَّ الشيخَ لا يعرفُ المسؤولَ لهُ بلْ يجهلُ عينَهُ، فلا يَضُرُّ ذلكَ، والإجازةُ صحيحةٌ.
كما لا يُشترَطُ معرفَةُ الشيخِ بِمَنْ سمعَ من الشَّيخِ، وإذا سُئِلَ الشيخُ الإجازةَ لجمَاعةٍ مُسمَّيْنَ مع البيانِ في استدعاءِ كما جرتْ بهِ العادةُ فأجازَ لهم مِنْ غيرِ معرفةٍ بهم، ولم يَعْرِفْ عددَهم ولا تصفَّحَ أسماءَهُم واحداً واحداً. قال ابنُ الصلاحِ: فينبغي أَنْ يَصحَّ ذلكَ أيضاً كما يصحُّ سماعُ مَنْ سمعَ منهُ على هذا الوصفِ.
463.
... وَالْخَامِسُ: التَّعْلِيْقُ فِي الإِجَازَهْ
…
بِمَنْ يَشَاؤُهَا الذَّيِ أَجَازَهْ
464.
... أو غَيْرُهُ مُعَيَّنَاً، وَالأُولَى
…
أَكْثَرُ جَهْلاً، وَأَجَازَ الْكُلَاّ
465.
... مَعَاً (أبو يَعْلَى) الإِمَامُ الْحَنْبَلِيْ
…
مَعَ (ابْنِ عُمْرُوْسٍ) وَقَالَا: يَنْجَلِي
466.
... الْجَهْلُ إِذْ يَشَاؤُهَا، وَالظَّاهِرُ
…
بُطْلَانُهَا أَفْتَى بِذَاك (طَاهِرُ)
467.
... قُلْتُ: وَجَدْتُ (ابنَ أبي خَيْثَمَةِ)
…
أَجَازَ كَالَّثانِيَةِ الْمُبْهَمَةِ
468.
... وَإِنْ يَقُلْ: مَنْ شَاءَ يَرْوِي قَرُبَا
…
وَنَحْوَهُ (الأَزْدِي) مُجِيْزَاً كَتَبَا
469.
... أَمَّا: أَجَزْتُ لِفُلَانٍ إِنْ يُرِدْ
…
فَالأَظْهَرُ الأَقْوَى الْجَوَازُ فَاعْتَمِدْ
النوعُ الخامسُ من أنواعِ الإجازةِ: الإجازةُ المعُلَّقةُ بالمَشِيئةِ. ولم يُفردْ ابنُ الصلاحِ هذا بنوعٍ وأدخلَهُ في النوعِ قبلَهُ، وقال: فيهِ جهالةٌ وتعليقٌ بشرطٍ. وأفردتُهُ بنوعٍ، لأَنَّ بعضَ الأجائِزِ المعلَّقةِ لا جهالةَ فيها كما ستقفُ عليهِ هنا؛ وذلك لأَنَّ التعليقَ قد يكونُ مع إِبهام المُجَازِ، أو مع تعيينِهِ، وقد يُعَلَّقُ بمشيئةِ المُجازِ، وقد يُعَلَّقُ بمشيئةِ غيرِه مُعَّيناً، وقد يكونُ التعليقُ لنفسِ الإجازةِ، وقد يكونُ للروايةِ بالإجازةِ. فأمَّا تعليقُها بمشيئةِ المجازِ مبهماً، كقولهِ: مَنْ شاءَ أَنْ أُجِيزَ له فقدْ أَجزتُ له، أَو أَجزتُ لمنْ شاءَ فهو كتعليقِها بمشيئةِ غيرِه، وسيأتي حكمُهُ. قال ابنُ الصلاحِ: بلْ هَذِهِ أكثرُ جهالةً وانتشاراً من حيثُ إنَّها معلقةٌ بمشيئةِ من لا يُحَصرُ عددُهم بخلافِ تعليقِها بمشيئةِ معيَّنٍ. وأما تعليقُها بمشيئةِ غيرِ المجازِ: فإِنْ كان المُعَلَّقُ بمشيئتِهِ مبهماً فهذهِ باطلةٌ قطعاً، كقولهِ: أَجَزْتُ لِمَنْ شاءَ بعضُ الناسِ أَنْ يرويَ عنِّي، وإِنَ كانَ مُعَّيناً، كقولهِ: مَنْ شاء فلانٌ أَنْ أُجيزَهُ فقد أجزتُهُ، أو أجزتُ لِمَنْ يشاءُ فلانٌ ونحوُ ذلك؛ فقد حكى الخطيبُ في جزءٍ لهُ في ((الإجازةِ للمعدومِ والمجهولِ)) عن أبي يعلى محمدِ بنِ الحسينِ بنِ الفراءِ الحنبليِّ وأبي الفَضْلِ محمّدِ بنِ عُبيدِ اللهِ بنِ عُمْرُوسٍ: أنَّهُمَا أَجازَا ذلكَ واستُدِلَّ لهما بأنَّ هذهِ الجهالةَ ترتفعُ عندَ وجودِ المشيئةِ، ويتعَيَّنُ المُجَازُ لهُ عندَها. قالَ ابنُ الصلاحِ: والظاهرُ أَنَّه لا يصحُّ وبذلكَ أفتى القاضي أبو الطيبِ طاهرُ بنُ عبدِ اللهِ الطبريُّ إِذْ سألهُ الخطيبُ عن ذلكَ وَعَلَّلَهُ: بأَنَّهُ إجازةٌ لمجهولٍ، كقولهِ: أجزتُ لبعضِ الناسِ.
قالَ
ابنُ الصلاحِ: وقد يُعَلَّلُ أيضاً بما فيهِ مِنَ التَّعليقِ بالشرطِ فَإِنَّ ما يَفْسُدُ بالجهالةِ يَفْسُدُ بالتعليقِ عندَ قومٍ. قلتُ: وقد وجدْتُ عن جماعةٍ من أئمةِ الحدِيثِ المتقدِّمِينَ والمتأخِّرِينَ استعمالَ هذا. فمِنَ المتقدِّمِينَ: الحافظُ أبو بكرٍ أحمدُ ابنُ أبي خَيْثَمَةَ زُهيرِ بنِ حَرْبٍ صاحبِ يحيى بنِ معينٍ، وصاحبِ " التاريخِ ". قالَ الإمامُ أبو الحسنِ محمَّدُ ابنُ أبي الحسينِ بنِ الوزَّانِ: أَلْفَيْتُ بخطِ أبي بكرِ ابنِ أبي خيثمةَ: قد أَجَزْتُ لأبي زكريا يحيى بنِ مَسْلَمةَ أَنْ يرويَ عَنِّي ما أَحبَّ من كتابِ " التاريخِ " الذي سمعَهُ مِنِّي أبو محمَّدٍ القاسمُ ابنُ الأصبَغِ، ومحمدُ بنُ عبدِ الأعلى، كما سمعاهُ مِنِّي. وأذنتُ له في ذلكَ ولِمَنْ أحبَّ من أصحابهِ فإن أحبَّ أَنْ تكونَ الإجازةُ لأحدٍ بعدَ هذا فأنا أجزتُ له ذلك بكتابي هذا وكَتَبَ أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي خيثمةَ بيدِهِ في شَوَّالٍ منْ سنةِ ستٍّ وسبعينَ ومائتينِ. وكذلكَ أجازَ حفيدُ يعقوبَ بنِ شيبةَ، وهذه نسختُها - فيما حكاهُ الخطيبُ - يقولُ محمدُ بنُ أحمدَ بنِ يعقوبَ بنِ شيبةَ: قد أجزتُ لعمرَ بنِ أحمدَ الخلَاّلِ وابنِهِ عبدِ الرحمن بنِ عُمَرَ وَلِخَتَنِهِ عليِّ بنِ الحسنِ جميعَ ما فاتَهُ من حَدِيْثِي، مِمَّا لَمْ يُدْرِكْ سماعَهُ من المُسْنَدِ وغيرِهِ، وقد أجزتُ ذلكَ لِمَنْ أَحَبَّ عمرُ فلْيَرْوُوهُ عَنِّي إِنْ شَاؤُوا. وكَتَبْتُ لهم ذلكَ بخطِّي في صَفَرٍ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وثلاثينَ وثلاثمائةٍ. قالَ الخطيبُ بعدَ حكايةِ هذا: ورأيتُ مثلَ
هذهِ الإجازةِ لبعضِ المتقدمينَ، إلَاّ أَنَّ اسمَهُ ذهبَ من حفظِي. انتهى. وكأَنَّه أرادَ بذلكَ ابنَ أبي خيثمةَ، واللهُ أعلمُ.
وأمَّا إذا كانَ الْمُعَلَّقُ هُوَ الروايةَ كقولهِ: أجزتُ لمنْ شاءَ الروايةَ عنِّي، أَنْ يرويَ عنِّي، فقالَ ابنُ الصَّلاحِ: هذا أَولى بالجوازِ من حيثُ إِنَّ مُقْتَضَى كُلِّ إِجازةٍ تفويضُ الروايةِ بها إلى مشيئةِ المجُازِ لَهُ، فكانَ هذا مَعَ كونِهِ بصيغةِ التعليقِ تصريحاً بما يقتضيهِ الإطلاقُ، وحكايةً للحالِ، لا تعليقاً في الحقيقةِ. قالَ: ولهذا أجازَ بعضُ أَئِمَّةِ الشَّافعيِّيْنَ في البيعِ أن يَقُوْلَ: بِعْتُكَ هذا بكذا إِن شئتَ، فيقولُ: قَبِلْتُ. قُلْتُ: الفَرْقُ بَيْنَهُمَا تَعْيِيْنُ الْمُبتاعِ هنا، بخلافِهِ في الإجازةِ، فإنَّهُ مُبْهَمٌ. نَعَمْ.. وِزَانُهُ في الإجازةِ أَنْ يقولَ: أجزتُ لك أَنْ ترويَ عَنِّي إِنْ شئتَ الروايةَ عنِّي. وأمَّا المثالُ الذي ذكرهُ فالتعليقُ وإِنْ لم يَضُرَّهُ فالجهالةُ مُبطِلةٌ لَهُ. وكذلكَ ما وُجِدَ بخطِ أبي الفتحِ الأَزْدِيِّ: أجزتُ روايةَ ذلكَ لجميعِ مَنْ أَحبَّ أَنْ يرويَ ذلكَ عنِّي. وأمَّا تعليقُ الروايةِ مَعَ التصريحِ بالمجُازِ لَه وتعيينِهِ، كقولِهِ: أجزتُ لكَ كذا وكذا إِنْ شئتَ روايتَهُ عَنِّي، أو أَجَزْتُ لكَ إِنْ شِئْتَ أَنْ ترويَ عَنِّي، أو أجزْتُ لفلانٍ إِنْ شَاْءَ الروايةَ عَنِّي، ونحوَ ذلكَ؛ فالأظهرُ الأقوى أَنَّ ذلك جائزٌ إذْ قد انتفتْ فيه الجَهالةُ، وحقيقةُ التعليقِ، وَلَمْ يَبْقَ سوى صِيغتِهِ.
فقولي: (إنْ يرد)، أي: إنْ يُرِدِ الروايةَ يَدُلُّ عليهِ قولي في البيتِ قبلَهُ: (مَنْ شاءَ يَرْوِي) ، ويجوزُ أنْ يُرَادَ الأمرانِ معاً، أي: إِنْ أرادَ الروايةَ، أو الإجازة. والظاهرُ: أنَّهُ لا فرقَ وإِنْ لَمْ يُصَرِّحِ ابنُ الصَّلاحِ بتعليقِ الإِجازةِ في الْمُعَيَّنِ فتعليلُهُ وبعضُ أمثلتِهِ يقتضي الصحَّةَ فيه لعمومِهِ.
470.
... وَالسَّادِسُ: الإِذْنُ لِمَعْدُوْمٍ تَبَعْ
…
كَقَوْلِهِ: أَجَزْتُ لِفُلَانِ مَعْ
471.
... أَوْلَادِهِ وَنَسْلِهِ وَعَقِبِهْ
…
حَيْثُ أَتَوْا أَوْ خَصَّصَ الْمَعْدُوْمَ بِهْ
472.
... وَهْوَ أَوْهَى، وَأَجَازَ الأَوَّلَا
…
(ابْنُ أبي دَاوُدَ) وَهْوَ مُثِّلَا
473.
... بِالْوَقْفِ، لَكِن (أَبَا الطَّيِّبِ) رَدْ
…
كِلَيْهِمَا وَهْوَ الصَّحِيْحُ الْمُعْتَمَدْ
474.
... كَذَا أبو نَصْرٍ. وَجَازَ مُطْلَقَا
…
عِنْدَ الْخَطِيْبِ وَبِهِ قَدْ سُبِقَا
475.
... مِنِ ابْنِ عُمْرُوْسٍ مَعَ الْفَرَّاءِ
…
وَقَدْ رَأَى الْحُكْمَ عَلى اسْتِوَاءِ
476.
... فِي الْوَقْفِ في صِحَّتِهِ مَنْ تَبِعَا
…
أَبَا حَنِيْفَةَ وَمالِكاً مَعَا
والنوعُ السادسُ من أنواعِ الإِجازة: الإِجازةُ للمعدومِ، وهي على قسمينِ:
الأولُ: أَنْ يَعْطِفَ المعدومَ على الموجودِ، كقولهِ: أجزتُ لفلانٍ ولولدهِ وعَقِبهِ ما تَنَاسَلُوا، أو أجزتُ لكَ ولمنْ يولدُ لكَ، ونحوِ ذلكَ. وقد فعلَهُ أبو بكرٍ عبدُ الله ابنُ أبي داودَ السجستانيُّ، وقد سُئِلَ الإجازةَ، فقالَ: قَدْ أجزتُ لكَ ولأولادكَ ولِحَبَلِ الْحَبَلةِ، يعني: الذينَ لَمْ يُوْلَدُوا بَعْدُ.
والقسمُ الثاني: أَنْ يُخصِّصَ المعدومَ بالإجازةِ من غَيْرِ عَطْفٍ على موجودٍ، كقولهِ: أجزتُ لمنْ يُولدُ لفلانٍ، وهو أضعفُ من القسمِ الأولِ والأولُ أَقربُ إلى الجوازِ، وقد شُبِّهَ بالوقفِ على المعدومِ. وقد أجازهُ أصحابُ الشافعيِّ في القسمِ الأولِ دونَ الثاني، وحَكَى الخطيبُ عن القاضي أبي الطيبِ الطبريِّ: أَنَّهُ منعَ صِحَّةَ الإجازةِ للمعدومِ مطلقاً، قالَ: وقدْ كانَ قالَ لي قديماً: إِنَّه يَصحُّ. وحكى ابنُ الصلاحِ عن أبي نَصْرِ بنِ الصَّبَّاغِ: أنَّهُ بَيَّنَ بُطلانَها، قالَ ابنُ الصلاحِ: وذلكَ هوَ الصحيحُ الذي لا ينبغي غيرُهُ؛ لأَنَّ الإِجازةَ في حُكمِ الإِخبارِ جملةً بالمُجازِ، فكما لا يصحُّ الإخبارُ للمعدومِ، لا تصحُ الإِجازةُ لهُ. وأَجازَ الخطيبُالإجازةَ للمعدومِ مطلقاً، وحَكَاهُ عن أبي يعلى بنِ الفَرَّاءِ وأبي الفَضْلِ بنِ عُمْرُوْسٍ، وقالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: أجازهُ معظَمُ الشُّيُوْخِ المتأخِّرِينَ. قالَ: وبهذَا اسْتَمَرَّ عَمَلُهُمْ بَعدُ شرقاً وغرباً. انتهى وحَكَى الخطيبُ: أَنَّ أصحابَ أبي حنيفةَ ومالكٍ، قَدْ أَجَازُوا الوَقْفَ عَلَى المعدومِ، وإِنْ لَمْ يكنْ أصلُهُ موجوداً حالَ الإيقافِ، مثلَ أَنْ يقولَ: وقفتُ هَذَا عَلَى مَنْ يُولد لفلانٍ وإِن لَمْ يَكُنْ وَقَفَهُ عَلَى فلانٍ.
477.
... وَالسَّاِبعُ: الإِذْنُ لِغَيْرِ أَهْلِ
…
لِلأَخْذِ عَنْهُ كَافِرٍ أو طِفْلِ
478.
... غَيْرِ مُمَيِزٍ وَذَا الأَخِيْرُ
…
رَأَى (أَبُو الطَّيِّبِ) وَالْجُمْهُوْرُ
479.
... وَلَمْ أَجِدْ فِي كَافِرٍ نَقْلاً، بَلَى
…
بِحَضْرَةِ (الْمِزِّيِّ) تَتْرَا فُعِلا
480.
... وَلَمْ أَجِدْ فِي الْحَمْلِ أَيْضَاً نَقْلَا
…
وَهْوَ مِنَ الْمَعْدُوْمِ أولَى فِعْلَا
481.
... وَ (لِلْخَطِيْبِ) لَمْ أَجِدْ مَنْ فَعَلَهْ
…
قُلْتُ: رَأَيْتُ بَعْضَهُمْ قَدْ سَأَلَهْ
482.
... مَعْ أبويْهِ فَأَجَازَ، وَلَعَلْ
…
مَا اصَّفَّحَ الأَسماءَ فِيْهَا إِذْ فَعَلْ
483.
... وَيَنْبَغِي الْبِنَا عَلى مَا ذَكَرُوْا
…
هَلْ يُعْلَمُ الْحَمْلُ؟ وَهَذَا أَظْهَرُ
والنوعُ السابعُ من أنواعِ الإجازةِ: الإجازةُ لمنْ ليسَ بأهلٍ حِيْنَ الإجازةِ للأَدَاءِ والأخذِ عنهُ، وذلكَ يشملُ صُوراً لَمْ يذكرِ ابنُ الصلاحِ مِنْهَا إلَاّ الصبيَّ، وَلَمْ يُفْرِدْهُ بنوعٍ، بلْ ذَكَرَهُ في آخرِ الكلامِ عَلَى الإجازةِ للمعدومِ، وزدتُ عليهِ في النَّظْمِ الإجازةَ للكافرِ. فأمَّا الإجازةُ للصبيِّ فَلَا يخلوا إِمَّا أنْ يكونَ مُمَيَّزَاً أو لا، فإنْ كَانَ مُمَيِّزاً فالإجازةُ لَهُ صحيحةٌ كسماعهِ، وإن تَقَدَّمَ نقلُ خلافٍ ضعيفٍ في صحةِ سماعهِ فإنَّهُ لا يُعْتَدُّ بهِ. وإنْ كَانَ غيرَ مُمَيِّزٍ، فاختُلِفَ فيهِ. فَحَكَى الخطيبُ: أنَّ بعضَ أصحابِنَا قالَ: لا تصحُّ الإجازةُ لمنْ لا يصحُّ السماعُ لهُ. قالَ: وسألتُ القاضيَ أبا الطيبِ الطبريَّ، هلْ يُعتبرُ في صِحَّتِهَا سِنُّهُ أو تمييزُهُ كَمَا يعتبرُ ذلكَ في صحَّةِ سماعِهِ؟ فقالَ: لا يُعتبرُ ذلكَ. فذكرَ له الخطيبُ قولَ بعضِ أصحابِنا المتقدّمِ فقالَ: يصحُّ أَنْ يُجيزَ للغائبِ ولا يصحُّ سماعُهُ. قالَ الخطيبُ: وعلى هذا رأينا كافةَ شيوخِنا يجيزونَ للأطفالِ الغُيَّبِ عنهم مِن غيرِ أَنْ يَسْأَلُوا عَنْ مَبْلَغِ أسْنَانِهِم، وحَالِ تمييزِهِم. واحْتَجَّ لذلكَ بأَنَّ الإجازةَ إنَّما هيَ إباحةُ المجيزِ للمُجَازِ لهُ، أَنْ يرويَ عنهُ، والإبَاحةُ تصحُّ للعاقلِ، وغيرِ العاقلِ وقالَ ابنُ الصلاحِ: وكأَنَّهُم رَأَوا الطِّفْلَ أهْلاً لتحمُّلِ هذا النوعِ ليؤدِّيَ بهِ بعدَ حصولِ أَهليتهِ لبقاءِ
الإسنادِ.
وأمَّا الإجازةُ للكافرِ فلم أجدْ فيها نَقْلاً، وقد تَقَدَّمَ أَنَّ سماعَهُ صحيحٌ ولم أَجدْ عن أَحدٍ من المتقدِّمِيْنَ والمتأخِّرِينَ الإجازةَ للكافرِ، إلَاّ أنَّ شخصاً من الأَطباءِ بدمشقَ ممن رأيتُهُ بدمشقَ ولم أسمعْ عليهِ، يُقالُ لهُ محمَّدُ بنُ عبدِ السيدِ بنِ الدَّيَّانِ، سَمِعَ الحديثَ في حالِ يهوديتِهِ على أبي عبدِ اللهِ محمَّدِ بنِ عبدِ المؤمنِ الصوريِّ، وكتبَ اسمهُ في طبقةِ السماعِ معَ السامعينَ وأَجازَ ابنُ عبدِ المؤمن لمنْ سمعَ وهوَ من جملتهِم. وكَاْنَ السماعُ والإجازةُ بحضورِ الحافظِ أبي الحجاجِ يوسف بنِ عبدِ الرحمنِ المِزِّيِّ، وبعضُ السماعِ بقراءتهِ وذلكَ في غيرِ ما جزءٍ منها:"جزءُ ابنِ عترةَ" فلولَا أنَّ المِزِّيَّ يرى جوازَ ذلكَ ما أَقرَّ عليهِ. ثُمَّ هَدَى اللهُ ابنَ عبدِ السيدِ المذكورِ للإِسلامِ وحَدَّثَ وسَمِعَ منهُ أصحابُنا. ومن صُوَرِ الإجازةِ لغيِر أهلِ الأداءِ الإجازةُ للمَجْنُونِ، وهيَ صحيحةٌ وقد تقدَّمَ ذكرُها في كلامِ الخطيبِ. ومِنْ صُوَرِها الإجازةُ للفاسقِ والمبتدعِ، والظاهرُ جوازُها، وأولَى من الكافرِ، فإذا زالَ المانعُ من الأَداءِ صحَّ الأداءُ، كالسماعِ سواءٌ. وأمَّا الإجازةُ للحَمْلِ فلَمْ أَجدْ فيها أيضاً نَقْلاً غيرَ أنَّ الخطيبَ قالَ: لَمْ أَرَهُم أجازُوا لمنْ لَمْ يكنْ مولوداً في الحالِ، ولم يَتَعَرَّضْ؛ لكونهِ إذا وقعَ تصحُّ أو لا؟ ولا شكَّ أَنَّهُ أولى بالصِّحَّةِ مِنَ المعدومِ. والخطيبُ يرى صحتَها للمعدومِ - كما تقدَّمَ - وقدْ رأيتُ بعضَ شيوخِنَا المتأخِّرِينَ سُئِلَ الإجازةَ لِحَمْلٍ بعدَ ذِكْرِ أبويهِ قبلَهُ وجماعةٍ معهُم، فأجازَ فيها، وهوَ الحافظُ أبو سعيدٍ العلائيُّ.
ورأيتُ بعضَ أهلِ الحديثِ قدْ احترزَ عنِ الإجازةِ لهُ، بلْ عَمَّنْ
لَمْ يُسمَّ في الإجازةِ، وإِنْ كانَ موجوداً، فكتبَ: أجزْتُ للمسمِّيْنَ فيهِ، وهوَ المحدِّثُ الثقةُ أبو الثناءِ محمودُ بنُ خَلَفٍ المنبجيُّ. ومَنْ عَمَّمَ الإجازَةَ للحَمْلِ وغيرِهِ أَعْلَمُ وأَحفظُ وأَتقنُ. إلا أنهُ قد يُقالُ: لعلَّهُ ما اصَّفَّحَ أسماءَ الإجازةِ حتى يَعلمَ هلْ فيها حملٌ أم لا؟ فقدْ تقدَّمَ أَنَّ الإجازةَ تصحُّ وإِنْ لَمْ يَتَصَفَّحِ الشيخُ الْمُجيزُ أسماءَ الجماعةِ المسؤولِ لَهُمْ الإجازةَ. إلَاّ أَنَّ الغالبَ أَنَّ أَهْلَ الحديثِ لا يُجيزونَ إلَاّ بعدَ نَظَرِ المسؤولِ لَهُمْ، كَمَا شاهدناهُ مِنْهُمْ. قلتُ: وينبغي بناءُ الحكمِ في الإجازةِ للحملِ عَلَى الخلافِ في أَنَّ الحَمْلَ هلْ يُعْلَمُ أو لا؟ فإِن قلنا: إِنَّه لا يُعلمُ، فتكونُ كالإجازَةِ للمعدومِ ويجري فيهِ الخلافُ وإِن قُلنا: إِنَّهُ يُعْلَمُ - وهو الأَصَحُّ كما صحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ - صَحَّتِ الإجازةُ. ومعنى قولهِم: إِنَّ الْحَمْلَ يُعْلَمُ، أي: يُعامَلُ مُعامَلةَ المعلومِ وإِلَاّ فقدْ قالَ إِمامُ الحرمينِ: لا خلافَ أَنَّهُ لا يُعلمُ وقد جزمَ بهِ الرافعيُّ بعد هذا بنحوِ صفحةٍ في أثناءِ فَرقٍ ذَكَرَهُ. وقولي: (وَهَذَا أَظْهَرُ)، أي: في أَنَّ الحملَ يُعْلمُ، وفي بناءِ الإجازةِ للحملِ على هذا الخلافِ، ففيهِ ترجيحٌ للأَمرينِ معاً.
484.
... وَالثَّامِنُ: الإِذْنُ بِمَا سَيَحْمِلُهْ
…
الشَّيْخُ، وَالصَّحِيْحُ أَنَّا نُبْطِلُهْ
485.
... وبعضُ عَصْرِيِّ عِيَاضٍ بَذَلَهْ
…
وَ (ابْنُ مُغِيْثٍ) لَمْ يُجِبْ مَنْ سَأَلَهْ
486.
... وَإِنْ يَقُلْ: أَجَزْتُهُ مَا صَحَّ لَهْ
…
أو سَيَصِحُّ، فَصَحِيْحٌ عَمِلَهْ
487.
... (الدَّارَقُطْنِيْ) وَسِواهُ أوحَذَفْ
…
يَصِحُّ جَازَ الكُلُّ حَيْثُمَا عَرَفْ
والنوعُ الثامنُ من أنواعِ الإجازةِ: إجازةُ ما سَيَحْمِلُهُ المجُيزُ ممَّا لم يسمعْهُ قبلَ ذلكَ، ولم يتحمَّلْهُ، لِيَرْوِيَهُ الْمُجَازُ لهُ بعدَ أَنْ يتحمَّلَهُ المجُيزُ، قالَ القاضي عياضٌ في "الإلماع":((فهذا لم أَرَ مَنْ تَكَلَّمَ فيهِ من المشايخِ)) ، قالَ: ((ورأيتُ بعضَ المتأخِّرينَ والعَصْرِيينَ يَصْنَعُونَهُ، إلَاّ أَنِّي قرأتُ في فهرسةِ أبي مروانَ عبدِ الملكِ بنِ زيادةِ اللهِ الطُّبْنيِّ، قالَ: كنتُ عندَ القاضي بقُرْطُبَةَ أبي الوليدِ يونسَ بنِ مُغيثٍ، فجاءَهُ إنسانٌ فسأَلَهُ الإجازةَ لهُ بجميعِ ما رواهُ إلى تاريخِها، وما يرويهِ بَعْدُ، فلمْ يجبْهُ إلى ذلكَ، فغضبَ السائلُ، فنظرَ إليَّ يونُسُ فقلتُ لهُ: يا هذا يُعطيكَ ما لَمْ يأْخُذْ؟!! هذا محالٌ. فقالَ يُونُسُ: هذا جوابي. قالَ القاضي عياضٌ: وهذا هو الصَّحيحُ فإنَّ هذا يُخْبرُ بما لا خَبَرَ عندهُ منهُ، ويأذنُ لهُ بالحديثِ بما لَمْ يحدَّثْ بهِ بعدُ ويُبيحُ ما لا يَعْلَمُ، هلْ يصحُّ لهُ
الإذنُ فيهِ؟! فَمَنْعُهُ الصوابُ)) . وقالَ ابنُ الصلاحِ: ((ينبغي أنْ يُبنَى هذا على أَنَّ الإجازةَ في حُكمِ الإخبارِ بالمجُازِ جملةً، وهي إِذْنٌ. فإنْ جُعِلَتْ في حُكمِ الإخبارِ لم يصحَّ، إذْ كيفَ يخبرُ بما لا خَبرَ عندهُ منه؟ وإنْ جُعِلَتْ إذناً انْبَنَى على الإذْن في الوكالةِ فيما لم يملكْهُ الآذنُ بعدُ. وأجازَ ذلكَ بعضُ أصحابِ الشافعيِّ، قالَ: والصحيحُ بطلانُ هذهِ الإجازةِ. وقالَ النوويُّ: إنَّهُ الصوابُ. وعلى هذا يتعيَّنُ على مَنْ يَرْوِي عَنْ شيخٍ بالإجازةِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ ذلكَ سمِعَه أو تحمَّلَهُ قَبْلَ الإجازةِ له.
وأمّا إذا قالَ: أجزتُ له ما صحَّ ويصِحُّ عندَه من مَسْمُوْعَاتي فهيَ إجازةٌ صحيحةٌ، وفَعَلَهُ الدَّارقطنيُّ وغيرُهُ ولهُ أنْ يرويَ عنهُ ما صحَّ عندَهُ بعدَ الإجازةِ أَنَّهُ سمعَهُ قبلَها، وكذلكَ لو لمْ يقلْ: ويصحُّ، فإنَّ المرادَ بقولهِ: مَا صَحَّ، أي: حالةَ الروايةِ، لا حالةَ الإجازةِ.
فقولي: (جَازَ الكُلُّ)، أي: ما عَرَفَ حالةَ الأداءِ أَنُّه سماعُهُ.
وقولي: بذلَهُ بذالِ معجمةٍ، أي: أعطاهُ لِمَنْ سألَهُ.
488.
... وَالتَّاسِعُ: الإِذْنُ بِمَا أُجِيْزَا
…
لِشَيْخِهِ، فَقِيْلَ: لَنْ يَجُوْزَا
489.
... وَرُدَّ، وَالصَّحِيْحُ: الاعْتِمَادُ
…
عَلَيْهِ قَدْ جَوَّزَهُ النُّقَّاْدُ
490.
... أبو نُعَيْمٍ، وَكَذَا ابْنُ عُقْدَهْ
…
وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَنَصْرٌ بَعْدَهْ
491.
... وَالَى ثَلَاثَاً بإِجَازَةٍ وَقَدْ
…
رَأَيْتُ مَنْ وَالَى بِخَمْسٍ يُعْتَمَدْ
492.
... وَيَنْبَغِي تَأَمُّلُ الإِجازَهْ
…
فحيثُ شَيْخُ شَيْخِهِ أَجَاْزَهْ
493.
... بَلِفْظِ مَا صَحَّ لَدَيْهِ لَمْ يُخَطْ
…
مَا صَحَّ عِنْدَ شَيْخِهِ مِنْهُ فَقَطْ
والنوعُ التاسعُ من أنواعِ الإجازةِ: إجازةُ المجُازِ، كقولِهِ: أجزتُ لكَ مُجَازَاتي، ونحوَ ذلكَ. فمَنَعَ جوازَ ذلكَ الحافظُ أبو البركاتِ عبدُ الوهابِ بنُ المباركِ بنِ الأنماطيِّ - أحدُ شيوخِ ابنِ الجوزيِّ- وصنَّفَ جزءاً في مَنْعِ ذلكَ. وذلكَ أَنَّ الإجازةَ ضعيفةٌ؛ فيقْوَى الضَّعْفُ باجتماعِ إجازتينِ، وحكاهُ الحافظُ أبو عليٍّ البَرَدَانيُّ عن بعضِ مُنتحلي الحديثِ، وَلَمْ يُسمِّهِ، وقدْ أبهمَهُ ابنُ الصلاحِ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بقولِهِ: بعضُ منْ لا يُعتدُّ بِهِ من المتأخِّرينَ، قالَ: والصحيحُ الَّذِيعليهِ العملُ أَنَّ ذلكَ جائزٌ، ولا يُشْبِهُ ذلكَما امتنعَ مِنْ توكيلِ الوكيلِ بغيرِ إذنِ المُوكِّلِ. وحَكَى الخطيبُ تجويزَهُ عن الدارقطنيِّ وأبي العباسِ بنِ عُقْدَةَ، وفعلَهُ الحاكمُ في "تأرْيخِهِ". قالَ ابنُ طاهرٍ: ولا يُعْرَفُ بين القائلينَ بالإجازةَ خلافٌ في العملِ بإجازةِ الإجازةِ، وقال أبو نُعيم: الإجازةُ على الإجازةِ قويةٌ جائزةٌ.
وقولي: (وَنَصْرٌ) هو مبتدأٌ، خبرُه:(وَالَى ثلاثاً)، أي: بينَ ثلاثِ أجائزَ، ويجوز أَنْ يكونَ نصرٌ معطوفاً على الدارقطنيِّ، فإنَّ فِعْلَ نصرٍ له دالٌ على جوازهِ عندَهُ، وهوَ الفقيهُ: نصرُ بنُ إبراهيمَ المقدسيُّ، قالَ محمدُ بنُ طاهرٍ: سمعتُه ببيتِ المقدسِ يروي بالإجازة عنِ الإجازةِ، وربَّما تابعَ بين ثلاثٍ منها. وذكرَ أبو الفضلِ محمدُ بنُ ناصرٍ الحافظُ، أَنَّ أَبا الفتحِ ابنَ أبي الفوارسِ، حدَّثَ بجزءٍ من العلِلِ لأَحمدَ بإجازته من أبي عليًّ بنِ الصَّوَّافِ، بإجازتهِ من عبدِ الله بنِ أحمدَ، بإجازتهِ من أبيهِ. قلتُ: وقد رأَيتُ في كلامِ غيرِ واحدٍ مِنْ الأَئمة وأَهلِ الحديثِ، الزيادةَ على ثلاثِ أجائزَ، فرَوْوا بأربعِ أجائزَ متواليةٍ، وخمسٍ، وقدْ روى الحافظُ أبو محمدٍ عبدُ الكريمِ الحلبيُّ في " تاريخِ مصرَ " عن عبدِ الغنيِّ بنِ سعيدٍ الأزديِّ بخمسِ أجائزَ متواليةٍ في عدَّةِ مواضعَ. وينبغي لِمَنْ يروِي بالإِجازةِ عن الإجازَةِ، أَنْ يتأَمَّلَ كيفيةَ إجازةِ شيخِ شيخِهِ لشيخهِ، ومُقْتَضَاهَا حَتَّى لا يروي بها ما لم يندرجْ تحتها، فربما قَيَّدَهَا بعضُهم بما صحَّ عند المجازِ، أو بما سمعهُ المجيزُ فقط، أو بما حدَّثَ به من مَسْمُوْعَاتِهِ أو غيرِ ذلكَ. فإنْ كان أجازَهُ بلفظِ: أجزتُ له ما صحَّ عندَهُ من سماعاتي؛ فليسِ للمجازِ الثاني أَنْ يروي عن المجُازِ الأولِ إلاّ ما علمَ أَنَّهُ صحَّ عنده أنَّهُ مِن سماعِ شيخِهِ الأَعْلَى. ولا يَكتَفي بمجرَّدِ صحةِ الإجازة)) ، وكذلك إنْ قيَّدَها بسماعهِ، لم يتعدَّ إلى مجازاتهِ.
وقد غلطَ غيرُ واحدٍ من الأئمة، وعَثَرَ بسببِ هذا. فمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ الإمامَ أبا عبدِ اللهِ محمدَ بنَ أحمدَ بنِ محمدٍ الأَنْدَرَشِيَّ، المعروفَ بابنِ اليَتِيْمِ، - أحَد مَنْ رحلَ وجالَ
في البلادِ، وسمعَ ببلادِ المغربِ، ومصرَ، والشامِ، والعراقِ، وخراسانَ، وأخذَ عن السِّلفيِّ وابنِ عساكرَ والسهيليِّ وابنِ بَشْكَوالَ وعبدِ الحقِّ الإشبيليِّ وخلقٍ - ذكرَ إسنادهُ في الترمذيِّ عن أبي طاهرٍ السِّلفيِّ عن أحمدَ بنِ محمدِ بنِ أحمدَ بنِ سعيدٍ الحدَّادِ، عن إسماعيلَ بنِ يَنَالَ الْمَحْبُوْبيِّ، عن أبي العباسِ الْمَحْبُوْبيِّ، عن الترمذيِّ، هكذا ذكرَ الحافظُ أبو جعفرِ بنُ النَّرْسِيِّ: أَنَّهُ وجدَهُ بخطِّ ابنِ اليتيمِ.
وَوَجْهُ الغَلَطِ فيهِ: أَنَّ فيهِ إجازتينِ: إحداهُما: أنَّ ابنَ يَنَالَ أجازَ للحدَّادِ، ولم يسمعْهُ منهُ. والثانيةُ: أَنَّ الحدَّادَ أجازَ للسِّلَفيِّ ما سمعَهُ فقطْ، فلم يُدْخِلْ الترمذيَّ في إجازتِهِ للسِّلَفيِّ. وذكرَ النَّرْسِيُّ: أنَّ السِّلَفِيَّ وَهِمَ في ذلكَ قديماً ثمَّ تذكرَ ورجعَ عن هذا السندِ. قالَ: ومنْ هُنا تكَلَّمَ أبو جعفرِ بنُ الباذشِ في السِّلَفِيِّ، وعذرَ الناسُ السِّلَفِيِّ، فقدْ رجعَ عنهُ. قالَ: وتكلَّمَ الناسُ في ابنِ اليتيمِ: قالَ: وما أظنُّ الباعثَ لذلكَ إلَاّ ما ذكرتُهُ. انتهى. وقدْ بَيَّنَ السِّلَفِيُّ صورةَ إجازةِ الحدَّادِ له في " فهْرستِهِ " فيما أخبرني به محمدُ بنُ محمدِ بنِ يحيى القرشيُّ، قالَ: أخبرنا عيسى بنُ يحيى السبتيُّ، قالَ: أخبرنا عبدُ الرحمنِ بنُ عبدِ المجيدِ الصفراويُّ، أخبرني أبو طاهر السِّلَفيُّ، قال: كانَ أبو الفرجِ الحدَّادُ يرويهِ، أي: كتابَ الترمذيِّ، قالَ: ولم يُجِزْ لي ما أُجيزَ لهُ، بلْ ما سمعَهُ فقطْ، قال: كتبَ إليَّ إسماعيلُ بنُ يَنَالَ المحْبُوْبيُّ من مَرْو. انتهى.