الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المُعَلَّلُ
193.
... وَسَمِّ مَا بِعِلَّةٍ مَشْمُوْلُ
…
مُعَلَّلاً، وَلَا تَقُلْ: مَعْلُوْلُ
194.
... وَهْيَ عِبَارَةٌ عَنَ اسْبَابٍ طَرَتْ
…
فِيْهَا غُمُوْضٌ وَخَفَاءٌ أثَّرَتْ
195.
... تُدْرَكُ بِالخِلَافِ وَالتَّفَرُّدِ
…
مَعَ قَرَائِنَ تُضَمُّ، يَهْتَدِيْ
196.
... جِهْبِذُهَا إلى اطِّلَاعِهِ عَلَى
…
تَصْويْبِ إرْسَالٍ لِمَا قَدْ وُصِلَا
197.
... أوْ وَقْفِ مَا يُرْفَعُ، أوْ مَتْنٍ دَخَلْ
…
في غَيْرِهِ، أوْ وَهْمِ وَاهِمٍ حَصَلْ
198.
... ظَنَّ فَأمْضَى، أوْ وَقَفْ فأحْجَمَا
…
مَعْ كَوْنِهِ ظَاهِرَهُ أنْ سَلِمَا
أي: وسمِّ الحديثَ الذي شملتْهُ علّةٌ من عللِ الحديثِ معلَّلاً. ولا تسمِّهِ معلولاً. وقد وقعَ في عبارةِ كثيرٍ من أهلِ الحديثِ تسمّيتُهُ بالمعلولِ. وذلك موجودٌ في كلامِ الترمذيِّ، وابنِ عَدِيٍّ، والدارقطنيِّ، وأبي يعلى الخليليِّ، والحاكمِ وغيرِهم. قالَ ابنُ الصلاحِ: ((وذلك منهم، ومن الفقهاءِ في قولهم في باب القياس: العلّةُ والمعلولُ
مرذولٌ عند أهلِ العربية واللغة)) . وقال النوويُّ: ((إنّهُ لَحْنٌ)) . قلتُ: والأجودُ في تسميتِهِ: المُعَلُّ. وكذلك هو في عبارةِ بعضِهم. وأكثرُ عباراتِهم في الفعلِ منه، أنَّهم يقولون: أعَلَّهُ فلانٌ بكذا. وقياسُهُ: مُعَلٌّ. وهو المعروفُ في اللغةِ. قالَ الجوهريُّ: لا أعلَّكَ اللهُ، أي: لا أصابَكَ بعِلَّةٍ. وقالَ صاحبُ المحكمِ: واستعملَ أبو إسحاقَ لفظةَ المَعْلولِ في المُتَقارِبِ من ((العَروضِ)) . ثم قال: والمتكلِّمونَ يستعمِلونَ لفظةَ المعلولِ في مثلِ هذا كثيراً. قال: وبالجملةِ فَلَسْتُ منه على ثِقَةٍ ولا ثَلَجٍ؛ لأنَّ
المعروفَ إنّما هو أعلَّهُ اللهُ، فهو مُعَلٌّ. اللهمَّ إلَاّ أنْ يكونَ على ما ذهبَ إليه سيبويهِ، من قولِهم: مَجْنُونٌ، ومَسلولٌ من أنّهما جاءا على جَنَنْتُه وسَللْتُه؛ وإنْ لم يُستَعملا في الكلام استُغنيَ عنهما بـ: أفعلْتُ، قالوا: وإذا قالوا: جُنَّ وَسُلَّ. فإنّما يقولونَ جُعِلَ فيه الجُنونُ والسِّلُّ. كما قالوا: حُرِقَ وفُسِلَ. انتهى.
وأمّا عَلَّلَهُ، فإنّما يستعملُها أهلُ اللغةِ بمعنى: ألهاهُ بالشيءِ وشغلَهُ به. من تعليلِ الصبيِّ بالطعامِ.
والعلّةُ عبارةٌ عن أسبابٍ خفيةٍ غامضةٍ، طرأتْ على الحديثِ، فأثّرتْ فيه، أي: قدحتْ في صحتِهِ. وحذفتْ همزةُ طرأت في النَّظْمِ تخفيفاً، وأنشدَ الأخفشُ:
إذَا قَلَّ مَاْلُ المَرْءِ قَلَّ صَدِيْقُهُ
…
واوْمَتْ إليهِ بِالعُيُوْبِ الأصَاْبعُ
حكاهُ صاحبُ المحكمِ في مادةِ: روى، مثالاً لحرف الروي.
وتدركُ العلةُ بتفردِ الراوي، وبمخالفةِ غيرِهِ له، مع قرائنَ تنضمُّ إلى ذلك يهتدي الجهبذُ، أي: الناقدُ بذلك إلى اطلاعِهِ على إرسالِ في الموصول، أو وقفٍ في المرفوعِ، أو دخولِ حديثٍ في حديثٍ، أو وهمِ واهمٍ بغيرِ ذلكَ، بحيثُ غلبَ على ظنِّهِ ذلك، فأمضاهُ، وحكمَ بهِ، أو تردَّدَ في ذلك فوقف وأحْجَمَ عن الحكمِ بصحةِ الحديثِ. وإنْ لم يغلبْ على ظنهِ صحةُ التعليلِ بذلك مع كونِ الحديثِ المعلِّ ظاهرهُ السلامةُ من العلّةِ.
وإنْ، في قولي:(إنْ سلما)، مصدريةٌ. قالَ الخطيبُ: السبيلُ إلى معرفةِ علةِ الحديثِ أنْ تجمعَ بين طرقِهِ، وتنظرَ في اختلافِ رواتِهِ، وتعتبرَ بمكانهِم من الحفظِ، ومنزلتِهِم في الإتقانِ والضبطِ. وقالَ ابنُ المدينيِّ:((البابُ إذا لم تجمعْ طرقُه، لم يتبين خطؤهُ)) .
ومثالُ العلّةِ في الحديثِ، حديثٌ رواهُ الترمذيُّ وحسَّنَهُ، أو صحَّحَهُ وابنُ حبّانَ، والحاكمُ وصحَّحهُ من روايةِ ابن جُرَيجٍ، عن موسى بن عُقبةَ، عن
سُهَيل بنِ أبي صالحٍ، عن أبيهِ، عن أبي هريرةَ مرفوعاً: ((مَنْ جَلَسَ في مجلسٍ فَكثُرَ فيه لَغَطُهُ،
…
الحديثَ)) . قال الحاكمُ في " علوم الحديث ": هذا حديثٌ مَنْ تأمَّلَهُ لم يشكَّ أنّه مِنْ شرطِ الصحيحِ، وله علّةٌ فاحشةٌ. ثم روى أنَّ مسلماً جاء إلى البخاريِّ فسألهُ عن علتهِ، فقال محمدُ بنُ إسماعيلَ: هذا حديثٌ مليحٌ، ولا أعلمُ في الدنيا في هذا البابِ غيرَ هذا الحديثِ الواحدِ، إلا أنَّهُ معلولٌ. حدّثنا به موسى بنُ إسماعيلَ، قال: حدّثنا وُهَيبُ، قال: حدّثنا سُهيلٌ، عن عَوْنِ بنِ عبدِ اللهِ، قولُه. قالَ البخاريُّ: هذا أولى فإنّهُ لا يُذكَرُ لموسى بنِ عُقبةَ سماعٌ من سهيلٍ. هكذا أعلَّ الحاكمُ في علومِهِ هذا الحديثَ بهذه الحكايةِ. وغالبُ ظنِّي أنَّ هذهِ الحكايةَ ليست بصحيحةٍ، وأنا أتهمُ بها أحمدَ بنَ حمدونَ القَصَّارَ راويَها عن مسلمٍ.
وقدْ بينتُ ذلكَ في النكتِ التي على كتابِ ابنِ الصلاحِ.
199.
... وَهْيَ تَجِيءُ غَالِباً في السَّنَدِ
…
تَقْدَحُ في المتْنِ بِقَطْعِ مُسْنَدِ
200.
... أوْ وَقْفِ مَرْفُوْعٍ وَقَدْ لَا يَقْدَحُ
…
(كَالبَيِّعَانِ بالخِيَار) صَرَّحُوا
201.
... بِوَهْمِ (يَعْلَى بْنِ عُبَيدٍ) : أبْدَلا
…
(عَمْراً) بـ (عَبْدِ اللهِ) حِيْنَ نَقَلا
202.
... وَعِلَّةِ المتْنِ كَنَفْي البَسْمَلَهْ
…
إذْ ظَنَّ رَاوٍ نَفْيَها فَنَقَلَهْ
203.
... وَصَحَّ أنَّ أَنَساً يَقُوْلُ: (لا
…
أحْفَظُ شَيْئاً فِيهِ) حِيْنَ سُئِلَا
العلّةُ تكونُ في الإسنادِ - وهو الأغلبُ الأكثرُ - وتكونُ في المتنِ.
ثُمَّ العلةُ في الإسنادِ قدْ تقدحُ في صحةِ المتنِ أيضاً، وقد لا تقدحُ. فأما علّةُ الإسنادِ التي تقدحُ في صحةِ المتنِ، فكالتعليلِ بالإرسالِ، والوقفِ. وأما علّةُ الإسنادِ التي لا تقدحُ في صحةِ المتنِ، فكحديثٍ رواه يَعْلَى بنُ عُبيدِ الطَّنَافسيُّ أحدُ رجالِ الصحيحِ، عن سفيانَ الثَّوريِّ، عن عَمْرِو بنِ دينارٍ، عن ابنِ عمرَ، عن النبيِّ (، قالَ: ((البَيِّعَان بالخِيَارِ)) ، الحديثَ. فوَهِمَ يَعْلَى بنُ عُبيدٍ على سفيانَ في قولِهِ: عمرِو بنِ دينارٍ. وإنّما المعروفُ من حديثِ سفيانَ، عن عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ، عن ابنِ عُمَرَ. هكذا رواهُ الأئمّةُ من أصحابِ سفيانَ أبو نُعيمٍ الفَضْلُ بن دُكَين، وعُبيدُ الله بنُ موسى العَبْسيُّ،
ومحمّدُ بنُ يوسفَ الفِرْيابيُّ، ومَخْلَدُ بنُ يزيدَ، وغيرُهم. وهكذا رواهُ عن عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ شعبةُ، وسفيانُ بنُ عُيينةَ ويزيدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ الهادِ، ومالكُ بنُ أنسٍ من روايةِ ابنِ وَهْبٍ عنه. والحديثُ مشهورٌ لمالكٍ، وغيرِهِ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ. وأما روايةُ عمرِو بنِ دينارٍ له فوهمٌ من يَعْلَى بنِ عُبيدٍ، وقال عثمانُ بنُ سعيدٍ، عن يحيى بنِ معينٍ: يعلى بنُ عُبيدٍ ضعيفٌ في الثوريِّ، ثقةٌ في غيرِهِ.
وقولي: (أبدلَ عمراً بعبدِ اللهِ) أي: تركَ عبدَ الله بنَ دينارٍ، وأتى بعمرِو بنِ دينارٍ، لأنَّ الباءَ تدخلُ على المتروكِ.
وأمّا علّةُ المتنِ، فمثالُهُ ما تفرّدَ به مسلمٌ في صحيحهِ من روايةِ الوليدِ بنِ مسلمٍ، حدّثنا الأوزاعيُّ، عن قتادةَ، أنّه كتبَ إليه يخبرُهُ عن أنسِ بنِ مالكٍ أنّهُ حَدَّثَهُ قال:
صليتُ خلفَ النبيِّ (، وأبي بكرٍ، وعمرَ، وعثمانَ؛ فكانوا يستفتحونَ بـ: الحمدُ للهِ رَبِّ العالمين، لا يذكرون بسم اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، في أولِ قراءةٍ، ولا في آخرِها.
ثم رواهُ من رواية الوليدِ، عن الأوزاعيِّ: أخبرني إسحاقُ بنُ عبدِ اللهِ ابنِ أبي طلحةَ أنهُ سمعَ أنسَ بنَ مالكٍ يذكرُ ذلك. وروى مالكٌ في " الموطّأ " عن حُميدٍ، عن أنسٍ، قال: صليتُ وراءَ أبي بكرٍ، وعمرَ، وعثمانَ، فكلُّهُم كانَ لا يقرأُ بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ. وزادَ فيه الوليدُ بنُ مسلمٍ، عن مالكٍ به: صليتُ خلفَ رسولِ اللهِ (، قال ابنُ عبد البرِّ: ((وهو عندهُم خطأٌ)) . وحديثُ أنسٍ قد أعلَّهُ الشافعيُّ (، فيما ذكرَهُ البيهقيُّ في " المعرفةِ " عنه أنّه قال في " سُننِ حَرْمَلةَ " جواباً لسؤالٍ أوردَهُ: فإنْ قالَ قائلٌ قد روى مالكٌ، فذكرَهُ. قال الشافعيُّ: قيل له خالَفَهُ سفيانُ بنُ عيينةَ والفَزَارِيُّ، والثَقفيُّ، وعددٌ لقيتُهم سبعةٌ أو ثمانيةٌ، مُؤتَفِقين مخالفينَ له.
قال: والعددُ الكثيرُ أولى بالحفظِ من واحدٍ. ثم رجّحَ روايتَهُم بما رواه عن سفيانَ، عن أيوبَ، عن قتادةَ، عن أنسٍ، قال: كان النبيُّ (، وأبو بكرٍ، وعمرَ يفتتحون القراءةَ بـ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ. قال الشافعيُّ: يعني يبدؤون بقراءةِ أمِّ القرآنِ، قبلَ ما يُقرأُ بعدَها. ولا يعني أنَّهم يتركونَ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ. وحكى الترمذيُّ عن الشافعيِّ في معنى الحديثِ مثلَ هذا. قالَ الدارقطنيُّ: ((هذا هو المحفوظُ عن قتادةَ وغيرِهِ، عن أنسٍ)) . قالَ البيهقيُّ: وكذلك رواهُ أكثرُ أصحابِ قَتادةَ، عن قتادةَ قال: وهكذا رواهُ إسحاقُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ أبي طلحةَ، وثابتٌ البُنانيُّ عن أنسٍ. انتهى. وممَّنْ رواه عن قتادةَ هكذا أيوبُ السَّخْتِيانيُّ، وشُعبةُ، وهِشامٌ الدَّسْتَوائيُّ،
وشَيْبانُ بنُ عبدِ الرحمنِ، وسعيدُ بنُ أبي عَرُوبةَ، وأبو عوانة وغيرهم.
قالَ ابنُ عبدِ البَّرِ: ((فهؤلاءِ حُفّاظُ أصحاب قتادةَ ليسَ في روايتهم لهذا الحديثِ ما يوجبُ سقوطَ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ من أولِ فاتحةِ الكتابِ. انتهى)) . وهذا هو اللفظُ المتفقُ عليه في الصحيحينِ وهو روايةُ الأكثرينَ. وما أوَّلهُ عليه الشافعيُّ مصرّحٌ به في روايةِ الدارقطنيِّ فكانوا يستفتحون بأمِّ القرآنِ فيما يجهرُ به. قال الدارقطنيُّ: هذا صحيحٌ. وأيضاً فلو قالَ قائلٌ إنَّ روايةَ حميدٍ منقطعةٌ بينه وبين أنسٍ؛ لم يكن بعيداً. فقد رواها ابنُ عديٍّ عن حميدٍ، عن قتادةَ، عن أنسٍ قال ابنُ عبدِ البَرِّ: ويقولون: إنَّ أكثرَ روايةِ حميدٍ، عن أنسٍ، إنّما سمعَها من قتادةَ، وثابتٍ عن أنسٍ. وقال ابنُ عبدِ البرِّ في " الاستذكارِ ": اختُلِفَ عليهم في لفظِهِ اختلافاً كثيراً مضطرباً متدافعاً. منهم مَنْ يقولُ فيه: صليتُ خلفَ رسولِ اللهِ (وأبي بكرٍ وعمرَ، ومنهم مَنْ يذكرُ عثمانَ، ومنهم مَنْ لا يذكرُ: فكانوا لا يقرؤونَ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ. ومنهم مَنْ قال: فكانوا لا يجهرونَ بـ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ. وقال كثيرٌ منهم: فكانوا يفتتحونَ
القراءةَ بـ: الحمدُ لله رَبِّ العالمينَ. وقال بعضُهم: فكانوا يجهرونَ بـ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ. وقال بعضُهم: كانوا يقرؤون: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ. قال: وهذا اضطرابٌ لا تقومُ معَهُ حجةٌ لأحدٍ من الفقهاءِ الذين يقرؤون بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، والذين لا يقرؤونها.
وقولي: (إذ ظنَّ راوٍ نفيها، فنقله) أي: إذ ظنَّ بعضُ الرواةِ فَهْماً منه أنَّ معنى قولِ أنسٍ: يستفتحون بـ: الحمدُ للهِ، أنَّهم لا يُبَسْمِلونَ، فرواهُ على فَهْمِهِ بالمعنى، وهو مخطئٌ في فَهْمِهِ. وممَّا يدلُّ على أنَّ أنساً لم يُرِدْ بذلك نفيَ البسملةِ، ما صحَّ عنه مِنْ روايةِ أبي مسلمةَ سعيدِ بنِ يَزِيْدَ، قال: سألتُ أنسَ بنَ مالكٍ أكانَ رسولُ اللهِ (يستفتح بـ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين أو بـ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم؟ فقالَ: إنّك لتسألني عن شيءٍ ما أحفظُهُ، وما سألني عنه أحدٌ قبلَكَ. رواه أحمدُ في مسندِهِ، وابنُ خزيمة في " صحيحهِ "، والدارقطنيُّ وقال: هذا إسنادٌ صحيحٌ. قال البيهقيُّ في " المعرفة ": في هذا دلالةٌ على أنَّ مقصودَ أنسٍ ما ذكرَهُ الشافعيُّ. وقد اعترضَ ابنُ
عبد البرِّ على هذا الحديثِ بأنْ قال: ((مَنْ حفظَهُ عنه حجّةٌ على مَنْ سألَهُ في حالِ نسيانِهِ)) . وأجابَ أبو شَامةَ بأنّهما مسألتانِ. فسؤالُ أبي مسلمة عن البسملةِ وتركِها، وسؤالُ قتادةَ عن الاستفتاح بأيِّ سورةٍ. وفي صحيحِ مسلم: أنَّ قتادةَ قال: نحنُ سألناهُ عنه، فاتضح أنَّ سؤالَ قتادةَ كان غيرَ سؤالِ أبي مسلمة. وأما قولُ ابنِ الجوزيِّ في " التحقيق ":((حديثُ أبي مسلمة ليسَ في الصحاحِ، فلا يُعارِضُ ما في الصحاح. وإنَّ الأئمةَ اتفقوا على صحةِ حديثِ أنسٍ)) ففيه نظرٌ. فهذا الشافعيُّ، والدارقطنيُّ، والبيهقيُّ لا يقولون بصحةِ حديث أنسٍ الذي فيه نفيُ البسملة. فلا يصحُّ نقلُ اتفاقِ الأئمةِ عليه، ولا يُردُّ حديثُ أبي مسلمةِ، بكونهِ ليس في الصحاحِ. فقد صحّحهُ ابنُ خزيمةَ والدارقطنيُّ. وأيضاً فقد وصفَ أنسٌ قراءةَ النبيِّ (بـ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ.
فروى البخاريُّ في صحيحِهِ من روايةِ قتادةَ، قال: سُئلَ
أنسُ بنُ مالكٍ، كيف كانت قراءةُ رسولِ اللهِ (؟ قال: كانت مدّاً. ثمَّ قرأَ: بِسْمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، يمدُّ بسمِ اللهِ. ويمدُّ الرحمنَ، ويمدُّ الرحيمَ. قال الدارقطنيُّ: هذا حديثٌ صحيحٌ. وكلُّهم ثقاتٌ. وقال الحازميُّ: هذا حديثٌ صحيحٌ لا يُعرفُ له علّةٌ. وفيه دلالةٌ على الجهرِ مطلقاً، وإنْ لم يُقَيَّدْ بحالةِ الصلاةِ. فيتناولُ الصلاةَ وغيرَ الصلاةِ. قال أبو شامةَ: وتقريرُ هذا أنْ يُقالَ: لو كانتْ قراءةُ رسولِ اللهِ (في أمرِ الجهرِ والإسرارِ تختلفُ في الصلاةِ وخارجِ الصلاةِ، لقال أنس لمَنْ سألَهُ عن أيِّ قراءتَيْهِ تسألُ؟ عن التي في الصلاةِ أم عن التي خارجَ الصلاةِ؟ فلما أجابَ مطلقاً عُلم أنَّ الحالَ لم يختلفْ في ذلكَ. وحيثُ أجابَ بالبسملةِ دونَ غيرِها من آياتِ القرآنِ، دلَّ على أنَّ النبيَّ (كان يجهرُ بالبسملةِ في قراءتهِ. ولولا ذلك لكان أنسٌ أجابَ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، أو غيرها من الآياتِ. قال: وهذا واضحٌ. قال: ولنا أنْ نقولَ: الظاهرُ أنَّ السؤالَ لم يكن إلاّ عن قراءتِهِ في الصلاةِ، فإنَّ الراوي قتادةُ، وهو راوي حديثِ أنسٍ ذاك. وقال فيه: نحنُ سألناهُ عنه. انتهى. فهذا ترجيحٌ لقراءةِ البسملةِ. وقد قالَ الحازميُّ: إنّهُ لا يُعرَفُ له علّةٌ. ولم يختلفْ على قتادةَ فيهِ. وأما حديثُ أنسٍ ذاكَ، فلهُ علّلٌ اختُلفَ على قتادةَ فيه. وأعلَّهُ الشافعيُّ بخطأِ الراوي في فَهْمِهِ، وأعلَّهُ ابنُ عبدِ البرِّ بالاضطرابِ. ومِنْ عِلَلِهِ أنهُ ليسَ متّصلاً بالسماعِ، فإنَّ قتادةَ كتبَ إلى الأوزاعيِّ به. والخلافُ في الكتابةِ معروفٌ، كما سيأتي.
وأما روايةُ مسلمٍ الثانيةُ فإنَّ مسلماً لم يسقْ لفظَها، وقد ساقَهُ ابنُ عبدِ البرِّ، كروايةِ الأكثرينَ، كانوا يفتتحونَ القراءةَ بـ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وليس فيها نفيُ
البسملةِ. رواها من روايةِ محمدِ بنِ كثيرٍ قال: حدّثنا الأوزاعيُّ وهذهِ أولى من روايةِ مسلمٍ؛ لأنَّ تلك من روايةِ الوليدِ بنِ مسلمٍ عن الأوزاعيِّ بالعنعنةِ، والوليدُ مدلّسٌ، كما تقدّم. وأيضاً فقد تقدمَ قولُ البيهقيِّ أنَّ روايةَ إسحاقَ، وثابتٍ هكذا، وهو خلافُ ما يوهمُهُ عملُ مسلمٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
204.
... وَكَثُرَ التَّعْلِيْلُ بِالإرْسَالِ
…
لِلوَصْلِ إنْ يَقْوَ عَلَى اتِّصَالِ
205.
... وَقَدْ يُعِلُّوْنَ بِكُلِّ قَدْحِ
…
فِسْقٍ، وَغَفْلَةٍ، وَنَوْعِ جَرْحِ
206.
... وَمِنْهُمُ مَنْ يُطْلِقُ اسْمَ العِلَّةِ
…
لِغَيْرِ قادحٍ كَوَصْلِ ثِقَةِ
207.
... يَقُوْلُ: مَعْلُوْلٌ صَحِيْحٌ كَالذّيْ
…
يَقُوْلُ: صَحَّ مَعْ شُذُوْذٍ احْتُذِيْ
لمَّا تقدّمَ أنَّ العلّةَ تكونُ غامضةً خفيةً في الحديثِ، ذكر أنّهم يُعِلُّونَ أيضاً بأمورٍ ليست خفيةً. كالإرسالِ، وفِسْقِ الراوي، وضَعْفِهِ، وبما لا يقدحُ أيضاً. قالَ ابنُ الصَّلاح: وكثيراً ما يُعللون الموصولَ بالمُرسلِ، مثلُ أنْ يجيءَ الحديثُ بإسنادٍ موصولٍ، ويجيءَ أيضاً بإسنادٍ منقطع أقوى من إسناد الموصولِ. قالَ: ولهذا اشتملتْ كتبُ عللِ الحديثِ على جمع طرقِهِ.
وقولي: (إنْ يَقْوَ) أي: إنْ يَقْوَ الإرسالُ على الاتّصالِ. وقد يُعِلُّوَنَ الحديثَ بأنواعِ الجرحِ، من الكذبِ، والغَفْلةِ، وسوءِ الحفظِ، وفسقِ الراوي وذلك موجودٌ في كتبِ عِلَلِ الحديثِ.
وبعضُهم يطلقُ اسمَ العلةِ على ما ليس بقادحٍ من وجوهِ الخلاف، كالحديثِ الذي وَصَلَهُ الثقةُ الضابطُ، وأرسلَهُ غيرُه، حتى قالَ: مِنْ أقسامِ الصحيحِ ما هو صحيحٌ معلولٌ. هكذا نقلَهُ ابنُ الصلاحِ عن بعضِهِم، ولم يسمِّه. وقائلُ ذلك هو أبو يعلى الخليليُّ.
قاله في كتابهِ " الإرشادِ " أنَّ الأحاديثَ على أقسامٍ كثيرةٍ. صحيحٍ متفقٍ عليه، وصحيحٍ معلولٍ، وصحيحٍ مختلفٍ فيه. ثم مَثَّلَ الصحيحَ المُعَلَّ بحديثٍ رواه إبراهيمُ بنُ طَهْمانَ، والنُّعمانُ بنُ عبدِ السلامِ، عن مالكٍ، عن محمّدِ بنِ عَجْلانَ، عن أبيهِ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:((للمملوكِ طعامُهُ وشرابُهُ)) . وقد رواه أصحابُ مالكٍ كلُّهم في " الموطّأ " عن مالكٍ، قال: بلغنا عن أبي هريرةَ. قال الخليليُّ: فقد صارَ الحديثُ بتبيُّنِ الإسنادِ صحيحاً يُعتَمَدُ عليه. قال: وهذا مِنَ الصحيحِ المبيَّن بحجّةٍ ظهَرتْ. قال: وكانَ مالكٌ يرسِلُ أحاديثَ لا يُبيِّنُ إسنادَها. وإذا استقصى عليه مَنْ يتجاسَرُ أنْ يسألَهُ ربّما أجابه إلى الإسنادِ، وأتيتُ بلفظٍ معلولٍ. وكذلك ابنُ الصلاحِ تَبَعاً لمَنْ حكى كلامَهُ في ذلك، وهو الخليليُّ.
وقولي: (كالذي يقولُ
…
) إلى آخره، أي: كما قالَ بعضُهم من الصحيحِ ما هو صحيحٌ شاذٌّ.
208.
... وَالنَّسْخَ سَمَّى التِّرْمِذِيُّ عِلَّهْ
…
فَإنْ يُرِدْ في عَمَلٍ فَاجْنَحْ لَهْ
أي وسمَّى الترمذيُّ النسخَ علةً من عللِ الحديثِ
وقولي فإنْ يرد، هوَ مِنَ الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ، أي فإنْ أرادَ الترمذيُّ أنّهُ علّةٌ في العملِ بالحديثِ، فهو كلامٌ صحيحٌ فاجنح له، أي مِلْ إلى كلامِهِ وإنْ يُرد أنّهُ علةٌ في صحةِ نقلِهِ، فلا؛ لأنَّ في الصحيحِ أحاديثَ كثيرةً منسوخةً، وسيأتي الكلامُ على النسخِ في فصلِ الناسخِ والمنسوخِ
المُضْطَرِبُ
…
مُضْطَرِبُ الحَدِيثِ: مَا قَدْ وَرَدَا
…
مُخْتَلِفاً مِنْ وَاحِدٍ فَأزْيَدَا
210.
... في مَتْنٍ اوْ في سَنَدٍ إنِ اتَّضَحْ
…
فِيْهِ تَسَاوِي الخُلْفِ، أَمَّا إِنْ رَجَحْ
…
بَعْضُ الوُجُوْهِ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرِبَا
…
وَالحُكْمُ للرَّاجِحِ مِنْهَا وَجَبَا
212.
... كَالخَطِّ للسُّتْرَةِ جَمُّ الخُلْفِ
…
والاضْطِرَابُ مُوْجِبٌ للضَّعْفِ
المُضْطَرِبُ مِنَ الحديثِ، هو ما اختَلَفَ راويه فيهِ. فرواهُ مرّةً على وجهٍ، ومرةً على وجهٍ آخَر مخالفٍ له. وهكذا إنِ اضطربَ فيهِ راويانِ فأكثر، فرواهُ كلُّ واحدٍ على وجهٍ مخالفٍ للآخرِ.
فقولي من واحدٍ أي من راوٍ واحدٍ، ثم الاضطرابُ قد يكونُ في المتنِ، وقد يكونُ في السندِ وإنّما يُسَمَّى مضطرباً إذا تساوتِ الروايتان المختلفتانِ في الصحةِ
بحيثُ لم تترجَّحْ إحداهُما على الأخرى أمَّا إذا ترجَّحَتْ إحداهما بكونِ راويها أحفظَ، أو أكثرَ صحبةً للمرويِّ عنهُ، أو غيرَ ذلك من وجوهِ الترجيحِ، فإنهُ لا يُطلقُ على الوجهِ الراجحِ وصفُ الاضطرابِ، ولا لَهُ حكمُهُ، والحكمُ حينئذٍ للوجهِ الراجحِ
مثالُ الاضطرابِ في السندِ ما رواهُ أبو داودَ، وابنُ ماجه، من روايةِ إسماعيلَ بنِ أُميَّةَ، عن أبي عمرِو بنِ محمدِ بنِ حُرَيثٍ، عن جَدِّهِ حريثٍ، عن أبي هريرةَ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال إذا صلَّى أحدُكُم فليجعَلْ شيئاً تِلْقاءَ وَجْهِهِ
…
الحديثَ وفيه فإذا لم يجدْ عَصاً ينصبُها بين يديه فَليَخُطَّ خطاً وقدِ اختُلِفَ فيه على إسماعيلَ اختلافاً كثيراً
فرواهُ بِشْرُ بنُ المُفضَّلِ، ورَوْحُ بنُ القاسمِ عنه، هكذا ورواهُ سفيانُ الثوريُّ عنه، عن أبي عمرِو بنِ حُريثٍ، عن أبيهِ، عن أبي هريرةَ ورواهُ حُميدُ بنُ الأسودِ عنه، عن أبي عمرِو بنِ محمدِ بنِ عمرِو بنِ حريثٍ، عن جدِّهِ حريثِ بنِ سُليمٍ عن أبي هريرةَ ورواهُ وُهَيبُ بنُ خالدٍ، وعبدُ الوارثِ عنه، عن أبي عمرِو بنِ حريثٍ، عن جدِّهِ حريثٍ ورواهُ ابنُ جُريجٍ عنه، عن حريثِ بنِ عمّارٍ، عن أبي
هريرةَ ورواه ذَوَّادُ بن عُلْبَةَ الحارثيُّ عنه، عن أبي عمرِو بنِ محمدٍ، عن جدِّهِ حريثِ بنِ سليمانَ قالَ أبو زُرعةَ الدمشقيُّ لا نعلمُ أحداً بيَّنَهُ ونسبَهُ غيرُ ذَوَّادٍ ورواه سفيانُ بنُ عُيينةَ عنهُ فاختُلِفَ فيه على ابنِ عيينة فقال ابنُ المدينيِّ عن ابنِ عيينةَ، عن إسماعيلَ، عن أبي محمدِ بنِ عمرِو بنِ حريثٍ، عن جدِّهِ حريثٍ رجلٍ من بني عُذْرةَ قال سفيانُ لم نجدْ شيئاً نشدُّ به هذا الحديثَ، ولم يجئ إلَاّ مِنْ هذا الوجهِ قال ابنُ المدينيِّ قلتُ له إنّهم يختلفونَ فيه فتفكَّرَ ساعةً ثم قال ما أحفظُهُ إلاّ أبا محمدِ بنَ عمرٍو
ورواه محمّدُ بنُ سلامٍ البِيكَنْديُّ، عن ابنِ عيينَة، مثلَ روايةِ بشرِ بنِ المفضّلِ، ورَوْحٍ ورواهُ مُسَدَّدٌ، عن ابنِ عيينةَ، عن إسماعيلَ، عن أبي عمرِو بنِ حريثٍ، عن أبيهِ، عن أبي هريرةَ ورواهُ عمّارُ بنُ خالدٍ الواسطيُّ، عن ابنِ عيينة، عن إسماعيلَ، عن أبي عمرِو بنِ محمدِ بنِ عمرِو بنِ حريثٍ، عن جَدِّهِ حريثِ بنِ سُليمٍ، وفيه من