الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحدُهما: إرسالُهُ وضعفُهُ.
والثاني: أنَّهُ إنّما يصحُّ الاستدلالُ بهِ، أنْ لو كان خبراً، ولا يصحُّ حملُهُ على الخبرِ لوجودِ من يحملُ العلمَ، وهو غيرُ عدلٍ، وغيرُ ثقةٍ، فلم يبقَ له محملٌ إلا على الأمرِ. ومعناهُ أنّهُ أمرَ الثِّقاتِ بحملِ العلمِ؛ لأنَّ العلمَ إنّما يُقبلُ عن الثقاتِ. والدليلُ عَلَى أنّه للأمرِ: أنَّ في بعضِ طُرقِ أبي حاتِمٍ: ((لِيحْمِلْ هَذَا العلمَ)) ، بلامٍ للأمْرِ.
267.
... وَمَنْ يُوَافِقْ غَالِباً ذا الضَّبْطِ
…
فَضَابِطٌ، أوْ نَادِراً فَمُخْطِيْ
لمّا تقدّمَ أنهُ لا يقبلُ إلاّ العدلُ الضابطُ، احتيجَ أنْ يذكرَ ما الذي يُعرفُ به
ضبطُ الراوي
، وذلك بأنْ يُعتبَرَ حديثُهُ بحديثِ الثقاتِ الضابطينَ، فإنْ وافقَهم في روايِتهم في اللفظِ، أو في المعنى، ولو في الغالبِ، عرفنا حينئذٍ كونَهُ ضابطاً، وإن كانَ الغالبُ على حديثِهِ المخالفةَ لهم، وإنْ وافقَهم فنادرٌ، عرفنا حينئذٍ خطأهُ، وعدمَ ضبطِهِ، ولم يحتَجَّ بحديثِهِ
268.
... وَصَحَّحُوا قَبُوْلَ تَعْدِيْلٍ بِلَا
…
ذِكْرٍ لأسْبَابٍ لَهُ، أنْ تَثْقُلَا
269.
... وَلَمْ يَرَوْا قَبُوْلَ جَرْحٍ أُبْهِمَا؛
…
لِلْخُلْفِ في أسبَابِهِ، وَرُبَّمَا
270.
... اسْتُفْسِرَ الجَرْحُ فَلَمْ يَقْدَحْ، كَمَا
…
فَسَّرَهُ (شُعْبَةُ) بِالرَّكْضِ، فَمَا
271.
... هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ حُفَّاظُ الأثَرْ
…
كـ (شَيْخَيِ الصَّحِيْحِ) مَعْ أهْلِ النَّظَرْ
اختُلِفَ في
التعديلِ والجرحِ، هل يقبلانِ، أو أحدُهما من غيرِ ذكرِ أسبابِهِما، أم لا يقبلانِ إلاّ مُفسّرَينِ
؟ على أربعةِ أقوالٍ:
الأولُ: وهو الصحيحُ المشهورُ: التفرقةُ بين التعديلِ والجرحِ، فيقبلُ التعديلُ من غيرِ ذكرِ سببِهِ؛ لأنَّ أسبابَهُ كثيرةٌ، فتثقلُ ويشُقُّ ذكرُها؛ لأنَّ ذلكَ يُحوِجُ المُعدِّلَ إلى أنْ يقولَ ليسَ يفعلُ كذا ولا كذا، وَيَعُدُّ ما يجبُ عليه تركُهُ. ويفعلُ كذا وكذا، فيعدُّ ما يجبُ عليه فِعْلُهُ. فيشقُّ ذلك، ويطُولُ تفصيلُهُ. وأما الجرحُ فإنَّهُ لا يُقبلُ إلا مفسَّراً مُبَيَّنَ السببِ؛ لأنَّ الجرحَ يحصلُ بأمرٍ واحدٍ، فلا يشقُّ ذِكْرُهُ؛ ولأنَّ الناسَ مختلفونَ في أسبابِ الجرحِ. فيطلقُ أحدُهم الجرحَ بناءً على ما اعتقدَهُ جرحاً، وليس بجرحٍ في نفسِ الأمرِ، فلا بدَّ من بيانِ سببِهِ، ليَظْهرَ أهو قادحٌ أم لا؟
ويدلُّ على أنَّ الجرحَ لا يُقبلُ غيرَ مُفَسَّرٍ، أنّهُ ربَّما استُفْسِرَ الجارحُ، فذكرَ ما ليس بجرحٍ.
فقد روى الخطيبُ بإسنادِهِ إلى محمدِ بنِ جعفرٍ المدائنيِّ، قال: قيل لشعبةَ: لِمَ تركتَ حديثَ فلانٍ؟ قَالَ: رأيتُهُ يركُضُ عَلَى بِرْذَوْنٍ، فتركتُ حديثَهُ.
وقولي في آخرِ البيتِ: (فما)، أي: فماذا يلزمُ من ركضِهِ على برذونٍ. وروى بنُ أبي حاتِمٍ، عن يحيى بنِ سعيدٍ، قالَ: أتى شعبةُ المِنْهالَ بنَ عمرٍو، فسمِعَ صوتاً
فترَكَهُ. قال بنُ أبي حاتِمٍ: سمعتُ أبي يقولُ: يعني أنّهُ سَمِعَ قراءةً بألحانٍ فكَرِهَ السماعَ منه من أجلِ ذلك. هكذا قالَ أبو حاتِمٍ في تفسيرِ الصوتِ. وقد روى الخطيبُ بإسنادِهِ إلى وَهْبِ بنِ جريرٍ، قالَ: قالَ شعبةُ: أتيتُ منزلَ المِنْهالِ بنِ عَمْرٍو فسمعتُ منه صوتَ الطُّنْبُورِ، فرجعتُ. فقيلَ له: فهلَاّ سألتَ عنه أنْ لا يَعْلَمَ هو. وروينا عن شعبةَ قال: قلتُ للحكمِ بنِ عُتَيْبةَ: لِمَ لَمْ تروِ عن زَاذانَ؟ قال: كانَ كثيرَ الكلامِ. وقال محمدُ بنُ حُميدٍ الرازيُّ: حدّثنا جريرٌ قال: رأيتُ سِمَاكَ بنَ حَرْبٍ يبولُ قائماً، فلم أكتبْ عنه. وقد عقدَ الخطيبُ لهذا باباً في " الكفاية ".
والقولُ الثاني: عكسُ القولِ الأولِ، أنّهُ يجبُ بيانُ سببِ العدالةِ، ولا يجبُ بيانُ سببِ الجرحِ؛ لأنَّ أسبابَ العدالةِ يكثرُ التَّصنُّعُ فِيْهَا، فيبني المُعدِّلُونَ عَلَى الظاهرِ. حكاهُ صاحبُ " المحصولِ "، وغيرُهُ. ونقلَهُ إمامُ الحرمينِ في " البرهانِ "، والغزاليُّ في
" المنخولِ " تَبَعاً له؛ عن القاضي أبي بكرٍ. والظاهرُ أنّهُ وَهْمٌ منهما، والمعروفُ عنه أنّهُ لا يجبُ ذكرُ أسبابِهِما معاً، كما سيأتي.
والقولُ الثالثُ: أنَّهُ لابدَّ من ذكرِ أسبابِ العدالةِ والجرحِ معاً. حكاهُ الخطيبُ، والأصوليونَ، قالوا: وكما قد يجرحُ الجارحُ بما لا يَقْدحُ، كذلك قد يوثّقُ المُعَدِّلُ بما لا يقتضي العدالةَ. كما روى يعقوبُ الفَسَويُّ في " تاريخه "، قال: سمعتُ إنساناً يقولُ لأحمدَ بنِ يونسَ: عبدُ اللهِ العمريُّ ضعيفٌ. قال: إنّما يضعّفُهُ رافضيٌّ مبغِضٌ لآبائِهِ، لو رأيتَ لحيتَهُ، وخِضابَهُ، وهيئتَهُ؛ لعرفتَ أنّهُ ثقةٌ. فاستدلَّ أحمدُ بنُ يونسَ على ثقتِهِ بما ليسَ بحجّة، لأنَّ حُسنَ الهيئةِ يشتركُ فيه العَدْلُ والمجروحُ.
والقولُ الرابعُ: عكسُهُ: أنّهُ لا يجبُ ذكرُ سببٍ واحدٍ منهما، إذا كانَ الجارحُ والمعدِّلُ عالماً بصيراً. وهو اختيارُ القاضي أبي بكرٍ، ونقلَهُ عن الجمهورِ فقال: قالَ الجمهورُ من أهلِ العلمِ: إذا جَرَحَ مَنْ لا يعرفُ الجَرْحَ، يجبُ الكشفُ عن ذلكَ. ولم يوجبوا ذلك على أهلِ العلمِ بهذا الشأنِ. قال: والذي يقوِّي عندنا تركُ الكشفِ عن ذلك، إذا كان الجارحُ عالماً، كما لا يجبُ استفسارُ المعدِّلِ عمّا بهِ صارَ عندَهُ المزكّى عدلاً، إلى آخرِ كلامِهِ. وممَّن حكاهُ عن القاضي أبي بكرٍ، الغزاليُّ في "المستصفى" خلافَ ما حكاهُ عنه في " المنخولِ ". وما ذَكَرَهُ عنه في " المستصفى " هو الذي حكاهُ صاحبُ " المحصولِ "، والآمديُّ، وهو المعروفُ عن القاضي، كما رواهُ
عنه الخطيبُ في " الكفايةِ ".
والقولُ الأولُ هو الذي نصَّ عليه الشافعيُّ. وقالَ الخطيبُ: هو الصوابُ عندنا. وقالَ ابنُ الصلاحِ: إنّهُ الصحيحُ المشهورُ. وحكى الخطيبُ أنّهُ ذهبَ الأئمةُ من حفّاظِ الحديثِ ونقّادِهِ، مثلُ البخاريِّ، ومسلمٍ، وغيرِهما، إلى أنَّ الجرحَ لا يُقبلُ إلا مفسَّراً. قال ابنُ الصلاحِ: وهو ظاهرٌ مقررٌ في الفقِهِ وأُصولِهِ.
272.
... فَإنْ يُقَلْ: (قَلَّ بَيَانُ مَنْ جَرَحْ)
…
كَذَا إذَا قَالُوا: (لِمَتْنٍ لَمْ يَصِحْ)
273.
... وَأبْهَمُوا، فَالشَّيْخُ قَدْ أجَابَا
…
أنْ يَجِبَ الوَقْفُ إذا اسْتَرَابا
274.
... حَتَّى يُبِيْنَ بَحْثُهُ قَبُوْلَهْ
…
كَمَنْ أُوْلُو الصَّحِيْحِ خَرَّجُوا لَهْ
275.
... فَفي (البُخَارِيِّ) احتِجَاجاً (عِكْرِمَه)
…
مَعَ (ابْنِ مَرْزُوْقٍ) ، وَغَيْرُ تَرْجَمَهْ
276.
... وَاحْتَجَّ (مُسْلِمٌ) بِمَنْ قَدْ ضُعِّفَا
…
نَحْوَ (سُوَيْدٍ) إذْ بِجَرْحٍ مَا اكتَفَى
277.
... قُلْتُ: وَقَدْ قَالَ (أبُو المَعَاليْ)
…
، واخْتَارَهُ تِلْمِيْذُهُ (الغَزَاليْ)
278.
... و (ابْنُ الخَطِيْبِ) : الْحَقُّ أنْ يُحْكَمْ بِمَا
…
أطْلَقَهُ العَالِمْ بِأسْبَابِهِمَا
هذا سؤالٌ أوردَهُ ابنُ الصلاحِ على قولِهِم: إنَّ الجرحَ لا يُقبلُ إلا مفسَّرَاً. وكذلك تضعيفُ الحديثِ، فقال: ولقائلٍ أنْ يقولَ: إنّما يعتمدُ الناسُ في جرحِ الرواةِ، وردِّ حديثِهِم، على الكُتُبِ التي صنَّفَها أئمةُ الحديثِ في الجرحِ، أو في الجرحِ والتعديلِ.
وقلَّما يتعرضونَ فيها لبيانِ السببِ، بل يقتصرونَ على مجردِ قولِهم: فلانٌ ضعيفٌ، وفلانٌ ليس بشيءٍ، ونحوُ ذلك. وهذا حديثٌ ضعيفٌ، وهذا حديثٌ غيرُ ثابتٍ، ونحوُ ذلكَ. فاشتراطُ بيانِ السببِ، يُفضِي إلى تعطيلِ ذلكَ، وسدِّ بابِ الجرحِ في الأغلبِ الأكثرِ. قال: وجوابُهُ أنَّ ذلكَ وإنْ لم نعتمدْهُ في إثباتِ الجرحِ، والحكمِ بهِ، فقد اعتمدناهُ في أنْ توقَّفنا عن قبولِ حديثِ مَنْ قالوا فيه مثلَ ذلك، بناءً على أنَّ ذلك أوقعَ عندنا فيهم رِيبةً قويةً، يوجبُ مثلُها التوقُّفَ. ثم مَنِ انزاحتْ عنه الريبةُ منهم، ببحثٍ عن حالِهِ، أوْجَبَ الثقةَ بعدالتِهِ؛ قبلنا حديثَه، ولم نتوقَّفْ. كالذينَ احتجَّ بهم صاحِبا " الصحيحينِ "، وغيرُهما ممَّنْ مسَّهم مثلُ هذا الجرحِ من غيرِهم. فافْهَمْ ذلك فإنهُ مَخْلَصٌ حسَنٌ. ولمّا نقلَ الخطيبُ عن أئمّة الحديثِ: أنَّ الجرحَ لا يُقبلُ إلا مفسَّرَاً، قال: فإنَّ البخاريَّ احتجَّ بجماعةٍ سبقَ من غيرِهِ الطعنُ فيهم، والجرحُ لهم، كعِكْرِمَةَ مولى ابنِ عبّاسٍ في التابعينَ، وكإسماعيلَبنِ أبي أويسٍ، وعاصمِ بنِ عليٍّ، وعمرِو بنِ مَرْزوقٍ في المتأخّرينَ.
قالَ: وهكذا فعلَ مسلمٌ، فإنّهُ احتجَّ بسُوَيْدِ بنِ سعيدٍ، وجماعةٍ غيرِهم، اشتَهَرَ عمَّنْ ينظرُ في حالِ الرواةِ الطعنُ عليهم. قالَ: وسلكَ أبو داودَ هذه الطريقةَ، وغيرُ واحدٍ ممَّنْ بعدَهُ.
وقولي: (إذ بجرح)، أي: بمطلقِ جرحٍ، وذلك لأنَّ سويدَ بنَ سعيدٍ صدوقٌ في نفسهِ، كما قالَ أبو حاتمٍ، وصالحٌ جزرةُ، ويعقوبُ بنُ شيبةَ وغيرُهم. وقد ضعّفهُ البخاريُّ، والنسائيُّ. فقال البخاريُّ: حديثُهُ منكرٌ. وقال النسائيُّ: ضعيفٌ. ولم يفسِّرِ الجرحَ. وأكثرُ مَنْ فَسَّرَ الجرحَ فيه، ذكرَ أنّهُ لما عَمِي ربَّما تلقّنَ الشيءَ. وهذا وإنْ كانَ قادحاً فإنّما يقدحُ فيما حدّثَ به بعد العَمى، وما حدَّثَ به قبلَ
ذلك فصحيحٌ. ولعلَّ مسلماً إنّما خَرَّجَ عنه ما عُرِفُ: أنَّهُ حدَّثَ به قبلَ عَماهُ. وأما تكذيبُ ابنِ معينٍ له، فإنّه أنكرَ عليه ثلاثةَ أحاديثَ: حديثَ: ((مَنْ عَشِقَ، وعَفَّ)) ، وحديثَ:((مَنْ قالَ في دِيننا بِرَأيهِ فاقتُلُوهُ)) ، وحديثَهُ عن أبي معاويةَ، عن الأعمشِ، عن عطيّةَ، عن أبي سعيدٍ مرفوعاً:((الحسنُ والحُسَينُ سَيِّدا شبابِ أهلِ الجنَّةِ)) . فقالَ
ابنُ مَعِينٍ: هذا باطلٌ عن أبي معاويةَ. قال الدارقطنيُّ: فلما دخلتُ مِصْرَ، وجدْتُ هذا الحديثَ في مُسندِ المَنْجَنِيْقيِّ، وكان ثقةً، عن أبي كُرَيبٍ، عن أبي معاويةَ، فتخلَّصَ منه سُويدٌ، فأنكرَهُ عليه ابنُ معينٍ؛ لظنِّهِ أنَّهُ تفرّدَ به عن أبي معاويةَ، ولا يحتملُ التفرّدَ، ولم ينفردْ بهِ، وإنّما كذَّبَهُ ابنُ معينٍ فيما تلقّنَهُ آخراً. فنسبَهُ إلى الكذبِ لأجلهِ. ويدلُّ عليه أنَّ محمّدَ بنَ يحيى السُّوسيَّ، قال: سألتُ ابنَ معينٍ، عن سُويدٍ، فقال: فيما حدَّثَكَ فاكتُبْ عنه، وما حدَّثَكَ به تلقيناً فلا. فَدَلَّ هذا على أنّهُ صدوقٌ عندَهُ، أنْكَرَ عليه ما تلقَّنَهُ، واللهُ أعلمُ.
وإنّما روى عنه مسلمٌ لطلبِ العُلوِّ مما صحَّ عندَهُ بنزولٍ. ولم يخرجْ عنه ما انفرَدَ به. وقد قالَ إبراهيمُ بن أبي طالبٍ: قلتُ لمسلمٍ: كيفَ استجزتَ الروايةَ عن سويدٍ في الصحيحِ؟ فقال: ومِنْ أين كنتُ آتي بنسخةِ حفصِ بنِ ميسرةَ؟ وذلك أنَّ مسلماً لم يروِ عن أحدٍ ممَّنْ سمعَ مِنْ حفصِ بنِ ميسرةَ في الصحيحِ، إلا عن سويدِ بنِ سعيدٍ فقط. وقد رَوَى في الصحيحِ عن واحدٍ، عن ابنِ وَهْبٍ، عن حفصٍ، والله أعلمُ.