المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ابتداء الوضع - شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي ومعه حاشية السعد والجرجاني - جـ ٢

[عضد الدين الإيجي]

فهرس الكتاب

- ‌ ابتداء الوضع

- ‌(مسألة: الواجب على الكفاية

- ‌(مسألة: الأمر بواحد من أشياء

- ‌(مسألة: من أخر مع ظن الموت قبل الفعل

- ‌(مسألة: ما لا يتم الواجب إلا به

- ‌(مسائل الحرام)

- ‌(مسائل المندوب)

- ‌(مسائل المكروه)

- ‌(مسائل المباح)

- ‌(خطاب الوضع)

- ‌(المحكوم فيه)

- ‌(مسألة: لا تكليف إلا بفعل

- ‌(المحكوم عليه)

- ‌(مسألة: يصح التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه

- ‌(مباحث الأدلة الشرعية)

- ‌(مباحث الكتاب)

- ‌(مسألة: العمل بالشاذ غير جائز

- ‌(مباحث السنة)

- ‌(مسألة: إذا علم بفعل ولم ينكره

- ‌(مباحث الإجماع)

- ‌(مسألة: لا يختص الإجماع بالصحابة

- ‌(مسألة: التابعى المجتهد معتبر

- ‌(مسألة: إجماع أهل المدينة من الصحابة والتابعين حجة

- ‌(مسألة: الإجماع لا يكون إلا عن مستند

- ‌(مسألة: المختار امتناع ارتداد كل الأمة

- ‌(مسألة: يجب العمل بالإجماع المنقول بخبر الآحاد

- ‌(مباحث الخبر)

- ‌(مباحث خبر الواحد)

- ‌(مسألة: التعبد بخبر الواحد العدل جائز

- ‌(مسألة: مجهول الحال لا يقبل

- ‌(مسألة: الصحابى من رأى النبى عليه الصلاة والسلام

- ‌(مسألة: الأكثر على جواز نقل الحديث بالمعنى

- ‌(مسألة: إذا كذب الأصل الفرع

- ‌(مسألة: حذف بعض الخبر جائز

- ‌(مباحث الأمر)

- ‌(مسألة: صيغة الأمر بمجردها لا تدل على تكرار

- ‌(مسألة اختيار الإمام والغزالى رحمهما اللَّه أن الأمر بشئ معين

- ‌(مسألة: صيغة الأمر بعد الحظر للإباحة

- ‌(مسألة: إذا أمر بفعل مطلق فالمطلوب الفعل

- ‌(مباحث النهى)

- ‌(مسألة: النهى عن الشئ لعينه يدل على الفساد شرعًا

- ‌(مباحث العام والخاص)

- ‌(مسألة: العموم من عوارض الألفاظ

- ‌(مسألة: الجمع المنكر ليس بعام

- ‌(مسألة: المشترك يصح إطلاقه على معنييه مجازًا

- ‌(مسألة: خطابه لواحد لا يعم

- ‌(مسألة: جمع المذكر السالم

الفصل: ‌ ابتداء الوضع

قال: (الثالث

(1)

:‌

‌ ابتداء الوضع

ليس بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية لنا القطع بصحة وضع اللفظ للشئ ونقيضه وضده وبوقوعه كالقرء والجون، قالوا: لو تساوت لم تختص قلنا تختص بإرادة الواضع المختار).

أقول: فرغ من أقسام الموضوعات فشرع فى بيان ابتداء وضعها وقد زعم عباد بن سليمان الصيمرى وأهل التكسير وبعض المعتزلة أن بين اللفظ والمعنى مناسبة ذاتية والحق خلافه لنا أنه يصح وضع كل لفظ لكل معنى حتى لنقيض ما قد وضع له وضده فإنه لو فرض ذلك لم يلزم منه محال لذاته بل ذلك معلوم الوقوع كالقرء للطهر والحيض وهما نقيضان والجون للأسود والأبيض وهما ضدان ولو كان الدلالة لمناسبة ذاتية لما كان كذلك وتقريره أنا لو فرضنا وضع اللفظ الدال على الشئ لنقيضه أو لضده دل عليه دون هذا المدلول أولهما فعليهما وما بالذات لا يختلف ولا يتخلف.

قالوا: لو تساوت الألفاظ بالنسبة إلى المعانى لم تختص الألفاظ بالمعانى وإلا لزم الاختصاص بدون تخصيص أو التخصيص بدون مخصص وكلاهما محال.

الجواب: نختار التخصيص ولا نسلم أنه دون مخصص لأن المخصص لا ينحصر فى المناسبة وإرادة الواضع المختار تصلح مخصصًا من غير انضمام داعية إليها فمن اللَّه تعالى كتخصيص الحدوث بوقته ومن الناس كتخصيص الأعلام بالأشخاص.

واعلم أن المخالف لعله يدعى ما يدعيه الاشتقاقيون من ملاحظة الواضع مناسبة ما بين اللفظ ومدلوله فى الوضع وإلا فبطلانه ضرورى.

قوله: (وهما نقيضان) بمعنى أن الحيض وجودى والطهر عدمى وإلا فالطهر عدم الحيض عما من شأنه فبينهما ملكة وعدم.

قوله: (وتقريره) المشهور فى بيان الملازمة أن الشئ الواحد لا يناسب بالذات للنقيضين أو الضدين وعليه منع ظاهر فزاد الشارح زيادة تحقيق وبيانه أن دلالة الألفاظ على معانيها لو كانت لمناسبة ذاتية بينهما لما صح وضع اللفظ الدال على الشئ بالمناسبة الذاتية لنقيض ذلك الشئ أو ضده، لأنا لو وضعناه لمجرد النقيض

(1)

الثالث: أى من الأمور الأربعة التى وعد المصنف بالتكلم عليها.

ص: 13

أو الضد لما كان له فى ذلك الاصطلاح دلالة على ذلك الشئ فيلزم تخلف ما بالذات وهو محال، ولو وضعناه لذلك الشئ ولنقيضه أو ضده فدل عليهما لزم اختلاف ما بالذات بأن يناسب اللفظ بالذات للشئ ولنقيضه أو ضده وهما مختلفان فقوله دل عليه أى على ذلك الضد أو النقيض، وقوله أولهما أى لو فرضنا وضع اللفظ الدال على الشئ لذلك الشئ ولنقيضه أو ضده فعليهما أى فإنه يدل عليه وعلى النقيض أو الضد وقوله وما بالذات لا يختلف كما لزم فى الصورة الثانية ولا يتخلف كما فى الصورة الأولى، ولا يخفى أن المنع بحاله إذ لا نسلم أن ما بالذات لا يختلف بمعنى أن يناسب اللفظ بذاته المختلفين فيدل عليهما.

قوله: (فمن اللَّه تعالى) يعنى إن كان الواضع هو اللَّه فإرادته تخصص الحدوث بوقته وإن كان هو الإنسان فإرادته تخصص ولده باسم خاص.

قوله: (واعلم) إشارة إلى ما ذهب إليه صاحب المفتاح من أن هذا المذهب ليس على ظاهره بل هو محمول على ما هو عليه أئمة الاشتقاق من أن الواضع لا يهمل فى وضعه رعاية ما بين اللفظ والمعنى من المناسبة.

قوله: (فشرع فى بيان ابتداء وضعها) هل هو واقع أو لا؟ وعلى تقدير وقوعه هل هو من اللَّه سبحانه أو من غيره؟

قوله: (وقد زعم) من المعلوم أن دلالة اللفظ على مفهوم دون آخر مع استواء نسبته إليهما ممتنعة بل لا بد من اختصاص يقتضى لإمكانه مخصصًا ينحصر بحكم التقسيم العقلى فى ذات اللفظ وغيرها، وذلك الغير إما اللَّه تعالى أو غيره، فذهب عباد بن سليمان الصيمرى وأهل التكسير أى علم الحروف وبعض المعتزلة إلى الأوّل، وزعموا أن بين اللفظ والمعنى مناسبة ذاتية مخصوصة منها نشأت دلالته عليه.

قوله: (وتقريره) يعنى: تقرير الدليل المذكور أنا لو فرضنا وضع اللفظ الدال على الشئ لمناسبة ذاتية على زعمكم لنقيض ذلك الشئ أو لضده دل اللفظ على النقيض أو الضد دون هذا المدلول الذى هو الشئ فقد تخلف عن اللفظ الدلالة عليه، أو لو فرضنا وضع اللفظ للشئ ونقيضه أو له ولضده دل عليهما، فقد اختلف دلالته فتارة يدل على الشئ وحده وتارة يدل عليه وعلى نقيضه أو عليه

ص: 14

وعلى ضدّه، وما كان ثابتًا لشئ بالذات وبحسب اقتضائها لا يتخلف عنه ولا يختلف فى شئ من الأحوال قطعًا فلا تكون دلالته مستندة إلى ذاته، وبهذا التقرير يندفع ما يقال: لم لا يجوز أن يكون للفظ مناسبة ذاتية إلى النقيضين والضدين إذ لا دليل على استحالته، نعم إنه مستبعد لكنه لا ينافى الجواز ولا الوقوع.

قوله: (لو تساوت الألفاظ بالنسبة إلى المعانى) أى: بحسب ذواتها (لم تختص الألفاظ بالمعانى) فى الدلالة إذ لو كان لها اختصاص، فإما أن يكون هناك تخصيص أو لا؛ فعلى الثانى يلزم الاختصاص بدون تخصيص، وعلى الأوّل التخصيص بلا مخصص وكلاهما محال.

قوله: (من غير انضمام داعية إليها) دفع لما يقال من أن تعلق إرادة الفاعل المختار بأحد المقدورين دون الآخر يتوقف على غرض ترجيح الأوّل على الثانى وإلا لزم الترجيح من غير مرجح وتوضيحه: أن إرادته من غير انضمام غاية داعية إليها تصلح لتخصيص بعض الألفاظ ببعض المعانى فإن كان ذلك التخصيص من اللَّه سبحانه كان لتخصيصه حدوث العالم بوقته مع أن حدوثه قبل ذلك الوقت وبعده ممكن فإن المخصص ههنا إرادته من غير انضمام داعية إليه كما حقق فى موضعه، وإن كان من الناس كان لتخصيصهم الأعلام بالأشخاص إذ المخصص الإرادة ولا غاية تدعو إليها ظاهرًا ولو ثبت ههنا داعية لم تضر فى المنع وما قيل من لزوم الترجيح من غير مرجح فليس بقادح لأنه ممكن إنما الممتنع الترجيح بلا مرجح وبينهما بون بعيد.

قوله: (واعلم. . . إلخ) إشارة إلى التأويل الذى ذكره السكاكى رحمه اللَّه تعالى.

المصنف: (ابتداء الوضع) أى الوضع الابتداء أى الأولى إذ الكلام فيه إذ لا مانع بعد وضع اللَّه تعالى اللفظ لمعناه أن يضعه البشر لمعنى آخر ولا ينافى ذلك أن الواضع هو اللَّه لأن الوضع الابتدائى منه تعالى فالنزاع إنما هو فى الوضع الأولى هل هو واقع أو غير واقع؟ كما أن النزاع إنما هو فى أسماء الأجناس وأعلامها لا فى أعلام الأشخاص مما لم ينقل أنه من وضع اللَّه تعالى لبعض أسماء الأنبياء والملائكة.

ص: 15

المصنف: (ليس بين اللفظ. . . إلخ) يحتمل أن مراده عدم اشتراط المناسبة فى الوضع ويحتمل أن مراده أنه لا بد من الوضع ولا تكفى المناسبة فى فهم المعنى من اللفظ على الاحتمالين فى كلام عباد الصيمرى.

التفتازانى: (وما بالذات لا يختلف كما فى الصورة الثانية) يظهر أن الصورة الثانية فيها التخلف أيضًا إذا كان الوضع للمجموع مع تناسى دلالته الاولى لأن اللفظ لا يدل على المعنى الأولى بخصوصه.

التفتازانى: (ولا يخفى أن المنع بحاله) فيه أنه على هذا التقرير ليس المنع بحاله لأنه قد اعتبر أن اللفظ المناسب للشئ لذاته قد ينقل إلى ضده أو نقيضه أو يوضع له ولضده أو نقيضه يعنى ينقل لما لا مناسبة له نعم لو كان الكلام هكذا قد يوضع اللفظ للشئ ونقيضه أو ضده لورد أنه قد يكون اللفظ الواحد مناسبًا للشئ ونقيضه أو ضده.

التفتازانى: (فأراد أنه تخصص الحدوث. . . إلخ) تحريف وصوابه: فإرادته تخصص بعض الألفاظ ببعض المعانى كإرادته تخصيص الحدوث. . . إلخ. وكذا يقال فى قوله: فإرادته تخصيص ولده.

قوله: (أى علم الحروف) أى علم خواصها من همس وجهر وغير ذلك.

قوله: (أو لو فرضنا وضع اللفظ للشئ ونقيضه) أى لمجموعهما وكذا يقال فى قوله: أوله ولضده وقوله: فتارة يدل على الشئ وحده أى نظرًا للمناسبة إذ لم يقطع النظر عن ذلك كما قطع فى الأول لوضعه للمجموع.

قوله: (وبينهما بون بعيد) فإن الترجيح من غير مرجح معناه ترجيح المرجح أحد الأمرين على الآخر من غير أمر يقتضى ذلك الترجيح سوى إرادة المرجح وأما الترجيح بلا مرجح فمعناه أن يحصل الشئ بلا موجد له بل يحصل من نفسه.

قوله: (إشارة إلى التأويل الذى ذكره السكاكى) حاصله أنه قال: إن أهل التصريف والاشتقاق على أن للحروف فى أنفسها خواص بها تختلف كالجهر والهمس وغيرهما مستدعية فى حق عالمها إذا أخذ فى تعين شئ يركبه منها لمعنى أنه لا يهمل التناسب بينه وبين المعنى الذى عينه له قضاء لحق الحكمة ومن ثمت ترى الفصم بالفاء الذى هو حرف رخو لكسر الشئ من غير أن يبين وبالقاف الذى هو حرف شديد لكسر الشئ حتى يبين وإن لهيئات تركيبات الحروف أيضًا خواص

ص: 16

يلزم فيها ما يلزم فى الحروف ومن ثمت كان الفعلان والفعلى بالتحريك لما فى مسماه كثرة حركة كالنزاون والحيدى، وقد تقرر أنه ينبغى حمل كلام العاقل على الصحة ما أمكن ولا سيما من كان من عداد العلماء فلذا أول السكاكى قول عباد الصيمرى بهذا فيجوز أن يكون هذا مراده لكن هذا إنما يتم إذا لم يكن عباد الصيمرى ومن معه مصرحين بعدم الاحتياج إلى الوضع وأيضًا اعتبار المناسبة فى جميع الكلمات الظاهر أنه متعذر. اهـ من شرح التحرير.

ص: 17

قال: (مسألة: قال الأشعرى: علمها اللَّه بالوحى أو بخلق الأصوات أو بعلم ضرورى. البهشمية: وضعها البشر واحد أو جماعة وحصل التعريف بالإشارة والقرائن كالأطفال. الاستاذ: القدر المحتاج إليه فى التعريف بتوقيف وغيره محتمل. وقال القاضى: الجميع ممكن. ثم الظاهر قول الأشعرى قال: {وَعَلَّمَ آدمَ الأَسْمَاءَ} [البقرة: 31]، قالوا: ألهمه أو علمه ما سبق قلنا خلاف الظاهر قالوا: الحقائق بدليل {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} [البقرة: 31] قلنا {انْبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلَاءِ} [البقرة: 31] تبين لنا أى التعليم لها والضمير للمسميات واستدل بقوله: {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ} [الروم: 22]، والمراد اللغات باتفاق قلنا: التوقيف والإقدار فى كونه آية سواء البهشمية، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]، دل على سبق اللغات وإلا لزم الدور، قلنا: إذا كان آدم عليه السلام هو الذى علمها اندفع الدور، وأما جواز أن يكون التوقيف بخلق الأصوات أو بعلم ضرورى فخلاف المعتاد. الأستاذ: إن لم يكن المحتاج إليه توقيفيًا لزم الدور لتوقفه على اصطلاح سابق، قلنا: يعرف بالترديد والقرائن كالأطفال).

أقول: لما ثبت أن دلالة الألفاظ بالوضع فالواضع هو اللَّه أو الخلق أو بالتوزيع ثم إما أن يجزم بأحد الثلاثة أو لا فهذه أربعة أقسام قال بكل قسم سنها قائل فقال الشيخ أبو الحسن الأشعرى ومتابعوه: الواضع للغات هو اللَّه وعلمها بالوحى أو بخلق أصوات تدل عليها وإسماعها لواحد أو لجماعة أو بخلق علم ضرورى بها، وقال البهشمية وهم أصحاب أبي هاشم: وضعها البشر واحد أو جماعة ثم حصل التعريف بالإشارة والتكرار كما فى الأطفال يتعلمون اللغات بترديد الألفاظ مرة بعد أخرى مع قرينة الإشارة وغيرها، وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايينى: القدر المحتاج إليه فى التعريف يحصل بالتوقيف من قبل اللَّه وغيره محتمل للأمرين، وقال القاضى أبو بكر: الجميع ممكن عقلًا وشئ من أدلة المذاهب لا يفيد القطع فوجب التوقت وهذا هو الصحيح.

ثم إن كان النزاع فى الظهور لا فى القطع فالظاهر قول الأشعرى لقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]، دل على تعليم اللَّه الأسماء لآدم وهو ظاهر فى أنه الواضع دون البشر فكذلك الأفعال والحروف إذ لا قائل بالفصل ولأن التكلم وهو الغرض يعسر بدونهما ولأنهما أسماء فى اللغة والتخصيص اصطلاح

ص: 18

طرأ والمخالف ينفصل عن هذه الآية بتأويلها فتارة فى التعليم وتارة فى الأسماء أما فى التعليم فذكروا تأويلين، أحدهما: أن المراد به الإلهام بأن يضع نحو قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكْمْ} [الأنبياء: 80]، ثانيهما: علمه ما سبق وضعه من خلق آخر.

الجواب: أنه خلاف الظاهر إذ المتبادر من تعليم الأسماء تعليم وضعها لمعانيها والأصل عدم وضع سابق.

وأما فى الأسماء فقالوا: المراد بها الحقائق بدليل قوله تعالى: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} [البقرة: 31]، والضمير للأسماء إذ لم يتقدم غيره والضمير المذكر لا يصلح للأسماء إلا إذا أريد به المسميات مع تغليب العقلاء.

الجواب: أن التعليم للأسماء والضمير للمسميات وإن لم يتقدم لها ذكر فى اللفظ للقرينة الدالة عليها ويدل على أن التعليم للأسماء قوله: {أَنْبِئُونِى بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} [البقرة: 31]، {فَلَمَّا أَنْبَأْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33]، ولولا أن التعليم للأسماء لما صح الإلزام واستدل بقوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22]، والمراد اللغات بالاتفاق إذ لا كثير اختلاف فى العضو، وإذ بدائع الصنع فى غيره أكثر.

الجواب: التوقيف عليها بعد الوضع وإقدار الخلق على وضعها فى كون اختلاف الألسنة آية سواء فلا يدل كونه آية على ثبوت أحدهما دون الآخر.

احتج البهشمية بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]، أى بلغتهم دل على سبق اللغات الإرسال ولو كان بالتوقيف ولا يتصور إلا بالإرسال لسبق الإرسال اللغات فيلزم الدور قوله: وإلا لزم الدور أى فيصح ما قلنا: وإلا لزم الدور.

الجواب: أنه تعالى علمها آدم كما دلت عليه الآية وإذا كان آدم هو الذى علمها لا قوم رسول اندفع ما ذكرتم من الدور وقد أجيب عن حجة البهشمية بمنع كون التوقيف بالإرسال لجواز أن يكون بخلق الأصوات أو بخلق علم ضرورى كما تقدم.

وردّه المصنف بأنه خلاف المعتاد فلو لم يقطع بعدمه فلا أقل من مخالفته للظاهر مخالفة قوية احتج الأستاذ بأنه إن لم يكن القدر المحتاج إليه فى الاصطلاح بالتوقيف لزم الدور لتوقف الاصطلاح على سبق معرفة ذلك القدر والمفروض أنه

ص: 19

يعرف بالاصطلاح فيلزم توقفه على سبق الاصطلاح المتوقف على معرفته وهو الدور، قوله: على اصطلاح سابق تقرير لكون الدور دور تقدم لا دور معية والمراد كون الاصطلاح موصوفًا بالسبق لا أنه يحتاج إلى اصطلاح آخر قبل ذلك الاصطلاح وإلا لكان اللازم هو التسلسل لا الدور، والجواب منع توقفه على الاصطلاح بل يعرف بالترديد والقرائن كالأطفال.

قوله: (أو يخلق الأصوات) زعم الآمدى أن خلق الأصوات وخلق العلم الضرورى طريق واحد حيث قال: إما بالوحى أو بأن يخلق اللَّه تعالى الأصوات والحروف ويسمعها لواحد أو لجماعة ويخلق له أو لهم العلم الضرورى بأنها قصدت للدلالة على المعانى وجمهور الشارحين على أنه بانفراده طريق إلا أن منهم من فسره بأن يخلق اللَّه تعالى الأصوات والحروف التى هى الألفاظ الموضوعة فى جسم ثم يسمعها لواحد أو لجماعة إسماع قاصد للدلالة على المعانى، وفسره الشارح المحقق بأن يخلق اللَّه تعالى أصواتًا تدل على الوضع ويسمعها أعنى تلك الأصوات لواحد أو جماعة وظاهر هذا الكلام أن تلك الأصوات غير الألفاظ الموضوعة لكن لم يبين كيفية دلالتها على وضع الألفاظ.

قوله: (ثم إن كان النزاع) يعنى أن ما ذكرنا من وجوب التوقف إنما هو عن القطع بأحد المذاهب لعدم إفادة الأدلة القطع، وأما إذا أريد الظهور والرجحان فانتفاء الأدلة القطعية لا يوجب التوقف لجواز أن توجد أدلة ظنية.

قوله: (ولأنهما أسماء) لأن اسم الشئ هو اللفظ الدال عليه بالوضع والتخصيص بالنوع المقابل للفعل والحرف إنما هو اصطلاح النحاة.

قوله: (الإلهام بأن يضع) إشارة إلى أنه إذا كان علمه بمعنى ألهمه يكون المعنى ألهمه الأسماء، ولا خفاء فى أن معنى إلهام الأسماء إلهام وضعها لمعانيها لا إلهام الاحتياج إلى هذه الألفاظ على ما فى بعض الشروح.

قوله: (ويدل على أن التعليم للأسماء) يعنى أنه أضيف الأسماء إلى المسميات فدل على أن ليس المراد بها المسميات أنفسها بل الألفاظ الدالة عليها فلو كان التعليم للمسميات لما صح الإلزام بطلبه الإنباء بالاسماء ثم إنباؤه بنفسه بالأسماء، وبهذا ظهر أن هذا الجواب إثبات للمقدمة الممنوعة لا كالأم على السند، وكذا

ص: 20

الجواب عن الأول على ما أشار إليه بقوله: إذ المتبادر من تعليم الأسماء، وبهذا الطريق يمكن أن يدفع ما يقال: يجوز أن يراد الأسماء الموجودة فى زمان آدم ولو سلم العموم يجوز أن يكون آدم ومن بعده نسيها فاصطلح جماعة على ما نسمعه من اللغات.

قوله: (التوقيف عليها) تقريره أن الألسنة وإن كانت مجازًا عن اللغات لكن كون اختلافها من آيات اللَّه لا يدل على أن جهة كونه آية هى توقيف اللَّه عليها وتعليمها إيانا بعد الوضع لجواز أن يكون توقيف اللَّه إيانا لوضعها وإقدارنا على ذلك فإن الجهتين سواء بل لا يبعد أن تكون الثانية أولى لكونها أدل على كمال القدرة وبديع الصنع وليس المراد أن حمل الألسنة على اللغات ليكون التوقيف آية ليس أولى من حملها على القدرة على الوضع ليكون الإقدار آية على ما فى بعض الشروح.

قوله: (وإلا لزم الدور) مقتضى ظاهر العبارة أن الآية لو لم تدل على سبق اللغات لزم الدور وفساده واضح فحمله على أن المعنى يصح ما قلنا من عدم كون اللغات توقيفية وإلا لزم الدور، بمعنى مسبوقية الشئ بما هو مسبوق بذلك الشئ، وإن كان سبقًا زمانيًا لا ذاتيًا كما فى الدور المصطلح فإن سبق الشئ على نفسه بحسب الزمان أيضًا ظاهر الاستحالة على أنه لا حاجة إلى ذكر الدور إذ يكفى أن يقال: لو كانت توقيفية لم تكن سابقة على الإرسال بل متأخرة واللازم باطل بدلالة الآية فإن قيل: الآية تدل على سبق اللغات والأوضاع دون التوقيف والتعليم ليدور قلنا مبنى على أن لغة القوم بطريق الإضافة إنما تكون بعد توقيفهم وتعليمهم.

قوله: (وإذا كان آدم هو الذى علمها) بلفظ المبنى للمفعول من التعليم يعنى لا نسلم أن التوقيف لا يتصور إلا بالإرسال، نعم توقيف قوم الرسل وتعليمهم وأما توقيف الرسل فيكفى فيه الوحى والإعلام من اللَّه تعالى، وقد يقال المراد أن دلالة الآية على سبق اللغات إنما هى فى حق الرسول الذى له قوم فآدم مخصوص من ذلك إذ لا قوم له عند البعثة والأول أوفق بالشارح والثانى بالمتن.

قوله: (على اصطلاح سابق) ذكر الآمدى أنه يستلزم التسلسل لتوقفه على اصطلاح سابق وهو على آخر وهكذا، واقتصر عليه؛ لأن الدور أيضًا نوع من التسلسل بناء على عدم تناهى التوقفات، والمصنف اقتصر على الدور لم يصح أن يريد بالاصطلاح السابق اصطلاحًا آخر سابقًا على ذلك الاصطلاح المفروض؛

ص: 21

فذهب الشارح إلى أن السابق وصف مبين محقق لتقدمه على القدر المحتاج إليه ليكون اللازم دور تقدم لا وصف مخصص ليكون اللازم هو التسلسل دون الدور، وأشار إلى بيان توقفه على ذلك الاصطلاح دون اصطلاح آخر سابق بقوله: والمفروض أنه يعرف بالاصطلاح أى لا بالتوقيف إذ لا قائل بالثالث، وأما الشارح العلامة وأتباعه فبنوا لزوم الدور على أنه لا بد بالآخرة من العود إلى الاصطلاح الأول ضرورة تناهى الاصطلاحات، والجواب منع توقف القدر المحتاج إليه على الاصطلاح قولكم المفروض أنه يعرف بالاصطلاح ممنوع؛ بل لأنه لا يعرف بالتوقيف وهو لا يوجب أن يعرف بالاصطلاح بل الترديد والقرائن وبهذا يظهر أنه يمكن منع توقف الاصطلاح على سبق معرفة ذلك القدر بل الترديد كاف فى الكل.

قوله: (أو بالتوزيع) أى الواضع هو اللَّه تعالى والخلق بالتوزيع وهو مذهب الأستاذ لكن التوزيع فيه لا من حيث إن بعضًا لهذا قطعًا وبعضًا لذلك قطعًا بل من حيث إن البعض للَّه سبحانه جزمًا والبعض الآخر متردد بينهما وأما عكس مذهبه بأن يكون الاصطلاحى مقدمًا على التوقيفى فهو وإن كان مندرجًا تحت التوزيع لكنه على ما قيل من أنه لم يتحقق لا هو ولا صاحبه.

قوله: (وعلمها بالوحى) أى بأن خاطب إما بذاته أو بإرسال ملك عبدًا أو داعيًا بكون الألفاظ موضوعة للمعانى أو بخلق أصوات تدل على الوضع، وذلك إما بخلق الأصوات والحروف أعنى جميع الألفاظ التى وضعها للمعانى وإسماعها لواحد أو جماعة بحيث يحصل له أو لهم العلم بأنها بإزاء تلك المعانى وإما بخلق أصوات وحروف تدل على أن تلك الألفاظ موضوعة.

قوله: (أو بخلق علم ضرورى) لواحد أو لجماعة باللغات وأن واضعًا قد وضعها لتلك المعانى المخصوصة.

قوله: (وضعها البشر واحد أو جماعة) بأن انبعثت داعيته أو داعيتهم إلى وضع هذه الألفاظ بإزاء معانيها ثم حصل تعريف الباقين بالإشارة والتكرار.

قوله: (وغيرها) كأن يقال: هات الكتاب من البيت ولم يكن فيه غيره فيعلم أن اللفظ بإزائه.

ص: 22

قوله: (القدر المحتاج إليه فى التعريف) أى فى تعريف بعضهم بعضًا مما يتعلق بالاصطلاح والمواضعة.

قوله: (ثم إن كان النزاع فى الظهور) إنما أورد لفظة "إن" مع "ثم" لأن المسألة علمية فالمطلوب فيها القطع لا عملية ليكتفى فيها بالظن وإن مال إليه صاحب الأحكام حيث قال: وإن كان المقصود هو الظن وهو الحق فالحق ما صار إليه الأشعرى وقد يؤيد بأن مباحث الألفاظ قد يكتفى فيها بالظواهر.

قوله: (وهو ظاهر فى أنه الواضع) أى للأسماء (دون البشر فكذلك الأفعال والحروف) يكون الواضع لهما هو اللَّه سبحانه (إذ لا قائل بالفصل) فى اللغات على هذا الوجه وهو أن تكون الأسماء توقيفية دون ما عداها والقائل بالتوزيع لم يذهب إليه وإن أمكن على مذهبه أن يقال به (ولأن التكلم بالأسماء) لإفادة المعانى المركبة (وهو الغرض) من الوضع والتعليم يعسر بدون الأفعال والحروف ولأن الأفعال والحروف أسماء فى اللغة لكونها علامات لمعانيها كالأسماء وتخصيص الأسماء ببعض الألفاظ اصطلاح نحوى طرأ فلا يحمل عليه القرآن.

قوله: ({وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ} [الأنبباء: 80]) إذ المعنى وألهمناه اتفاقًا.

قوله: (الجواب أنه) أى ما ذكرتم من التأويلين (خلاف الظاهر) أما الأول فلأن المتبادر من تعليم الأسماء تعريف وضعها لمعانيها فالحمل على إلهامه إياه أن يضعها لمعانيها خلاف الظاهر، وأما الثانى فلأن الأصل عدم وضع سابق.

قوله: (إذ لم يتقدم غيره) أى غير لفظ الأسماء مما يصلح أن يكون مرجوعًا إليه لهذا الضمير مع تغليب العقلاء أى على غيرهم لأن الضمير المذكور إنما هو للعقلاء المذكرين فلولا التغليب لاختص بهم.

قوله: (للقرينة الدالة عليها) وهى الأسماء لدلالتها على المسميات فكأنه قيل: علمه أسماء الأشياء ثم عرضهم.

قوله: (ويدل على أن التعليم للأسماء قوله تعالى {أَنْبِئُونِى بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} [البقرة: 31]، {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 32]) فإنه يدل بظاهره على طلب الإنباء من الملائكة عليهم السلام بأسماء الأشياء للإلزام وأن آدم عليه السلام أنبأهم بأسمائها إذ لو حيل الأسماء ههنا على المسميات كان إضافتها إلى ما أضيف إليه إضافة العام إلى الخاص والمتبادر منها خلافها ولولا أن التعليم للأسماء لما صح

ص: 23

إلزام الملائكة بها ضرورة أن إلزامهم إنما يكون بما لا يعلمونه مما علمه آدم عليه السلام وأيضًا لو لم يكن التعليم لها لم يكن إنباؤه بها لأنه إنما يكون بما علمه إياه.

قوله: (والمراد) من الألسنة (اللغات) مجازًا (بالاتفاق إذ لا كثير اختلاف فى العضو) المخصوص المسمى باللسان بحيث يستغرب فيعدّ آية فقوله: إذ تعليل للاتفاق وفى بعض النسخ يوجد قبله الواو العاطفة فهو دليل آخر غير الاتفاق، وقوله: وإذ بدائع الصنع فى غيره أى غير العضو المخصوص من الأعضاء الأخر كالعين وغيرها (أكثر) فيكون بعدّه آية أولى دليل مستقل على أن المراد بها اللغات على ما فى النسخة الأخيرة وعلى النسخة المشهورة يحتمل الوجهين.

قوله: (الجواب التوقيف) أى من اللَّه للعباد على اللغات المختلفة بعد الوضع وإقداره الخلق على وضعها فى كون اختلاف الألسنة آية منه تعالى متساويان لأنه على التقديرين مستند إليه إما بغير واسطة أو معها فلا يدل كون اختلافها آية منه على ثبوت أحدهما من التوقيف والإقدار دون الآخر وقد يقال الأول أظهر للاستناد إليه ابتداء كخلق السموات والأرض.

قوله: (ولو كان) أى حصول اللغات للناس بالتوقيف من اللَّه سبحانه ولا يتصور التوقيف إلا بإرسال الرسل إليهم لسبق الإرسال اللغات فيلزم الدور لتقدم كل من الإرسال واللغات على الآخر وقول المصنف: وإلا لزم الدور تقريره فيصح ما قلناه من كون اللغات اصطلاحية وإلا لزم الدور وإنما احتيج إلى هذا التأويل إذ لو أجرى على ظاهره كان معناه: وإلا أى وإن لم يدل على سبق اللغات لزم الدور وهو ظاهر الفساد الجواب: أنه تعالى علم آدم اللغات بأسرها كما دلت عليه الآية وغيره قد تعلم منه وإذا كان آدم هو الذى علم اللغات بالوحى لا قوم رسول اندفع ما ذكرتم من الدور فإنه إنما يلزم إذا كان اللَّه سبحانه قد علم اللغات قوم رسول إذ لا يتصور تعليمه إياهم إلا بإرسال رسول إليهم فتتأخر اللغات عن الإرسال مع تقدمها عليه وأما على تقدير تعليمه إياها لآدم عليه السلام فلا إذ تعليمه بالوحى يستدعى تقدم الوحى على اللغات لا تقدم الإرسال إذ قد يكون هناك وحى باللغات وغيرها ولا إرسال له إلى قوم لعدمهم وبعد أن وجدوا وتعلموا اللغات منه أرسل إليهم وهذا الكلام بعينه يجرى فى غيره عليه السلام إلا أن الظاهر ما ذكره وإلى هذه النكتة أشار حيث قال: لا قوم رسول ولم يقل: لا رسول قوم كما يتبادر إليه

ص: 24

الوهم ويفهم من كلام غيره.

قوله: (وردّه المصنف بأنه) أى ما ذكره من الأصوات وخلق العلم الضرورى بمثل هذه اللغات (خلاف المعتاد) إذ لم تجر عادته تعالى بذلك.

قوله: (والمفروض أنه) أى ذلك القدر الذى يحتاج إليه الاصطلاح ويتوقف على معرفته (يعرف بالاصطلاح) ليكون الكل اصطلاحيًا بالعرض فيلزم توقف عرفان ذلك القدر على سبق الاصطلاح المتوقف على معرفته فيكون كل من الاصطلاح ومعرفة ذلك القدر متوقفًا على الآخر وسابقًا عليه وهو الدور والضمير فى قول المصنف: لتوقفه راجع إلى ذلك القدر وقوله على اصطلاح سابق أى على ذلك القدر تقرير لكون الدور بين الاصطلاح وذلك القدر دور تقدم فيكون مستحيلًا لا دور معية ليكون جائزًا كما فى اللبنتين المتساندتين والمراد: كون الاصطلاح موصوفًا بالسبق على ذلك القدر فكأنه قيل: لتوقفه على سبق اصطلاح وليس المراد أن ذلك القدر يحتاج إلى اصطلاح آخر سابق عليه الاصطلاح المتوقف عليه وإلا كان اللازم هو التسلسل لاحتياج ذلك الاصطلاح إلى قدر آخر يتوقف على اصطلاح آخر سابق عليه فاللازم ظاهرًا على هذا التقدير هو التسلسل لا الدور ومنهم من جعل الضمير للاصطلاح قائلًا: لو كان الكل اصطلاحيًا لتوقف كل اصطلاح على آخر سابق عليه والمآل الدور ضرورة تناهى الاصطلاحات والجواب: منع توقف ذلك القدر على الاصطلاح إذ ربما يخطر لواحد ويعرّف غيره بالترديد والقرائن كالأطفال وبعد ذلك يتوافقون على المواضعات فإن قيل لو كان الكل توقيفيًا لزم الدور أيضًا لاحتياجه إلى سبق معرفة القدر الذى يتأتى به وهى أيضًا بالتوقيف فالجواب: أن التوقيف قد يحصل بخلق العلم عند الوحى.

قوله: (بل من حيث إن البعض للَّه تعالى جزمًا) إذا فسر التوزيع بما ذكر فمعنى الجزم بالتوزيع المستفاد من قول الشارح: ثم إما أن يجزم بأحد الثلاثة أنه يجزم بأن البعض للَّه تعالى وبأن البعض الآخر على الاحتمال والقائل بالتوقف لا جزم له بثئ أصلًا من الأمور الثلاثة على الوجه الذى ذكره.

قوله: (بحيث يحصل له أولهم) يعنى: أن الدلالة لا تقصر بحكم العقل فى الأقسام الثلاثة التى هى الوضعية والعقلية والطبيعية فيجوز أن يخلق اللَّه تعالى

ص: 25

جميع الألفاظ مقرونًا بكيفية يحصل للعبد بعد سماع تلك الألفاظ العلم بأنها موضوعة بإزاء تلك المعانى وهذا العلم يحصل من تلك الألفاظ بأن تدل على أن الألفاظ موضوعة بإزاء المعانى بنوع من الدلالة، وإنما قال فى القسم الآخر: وإن واضعًا قد وضعها لتلك ولم يقل العلم بأنها موضوعة بإزاء تلك المعانى من غير اعتبار ذلك الواضع لأن العبد العالم بالوضع فى الأقسام السابقة قد استفاد ذلك العلم من الخارج وفى القسم الآخر من عند نفسه ولا يحصل ذلك العلم من الغير بحسب الظاهر فلا يبعد توهم كون ذلك واضعًا فناسب فى هذا القسم اعتبار كون ذلك العبد عالمًا بأن واضعًا قد وضعها.

قوله: (إضافة العام إلى الخاص) لأن المسمى

(1)

على غير هؤلاء من المسميات الاصطلاحية العلمية الواقعة فيهما أوضاع طارئة.

قوله: (ولولا أن التعليم) أى على أن تجعل الإضافة من إضافة العام إلى الخاص لولا أن يعلم آدم عليه السلام الأسماء فى قوله تعالى {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ} [البقرة: 31]، لما صح إلزام الملائكة ولو ارتكب التكلف فى الإضافة لصح الإلزام باعتبار تعليم الحقائق وهو أقوى من تعليم الأسماء والألفاظ الدالة عليها.

قوله: (وإلى هذه النكتة) أى أن هذا الكلام بعينه يجرى فى غيره عليه السلام الشارحين

(2)

بجعل النفى متوجهًا إلى قوم رسول لا إلى رسول قوم مع صحة هذا أيضًا والتبادر فيه فكأنه قال: لا يتعلق النفى بالرسول كما لا يتعلق بآدم، والتفصيل أن لزوم الدور مبنى على أن التعليم يقع بالنسبة إلى الرسول من حيث هو رسول أو بالنسبة إلى قوم رسول من حيث هو كذلك وهو تعليم للقوم بالواسطة واندفاعه يكون باعتبار تعلق التعليم بالشخص الذى يوصف بالرسالة فى وقت ما، والمتبادر إلى الوهم من القول بالتوقيف أن التعليم يكون للرسول فالمناسب فى الجواب أن يقال التعليم لآدم لا للرسول فلا تفاوت فى دفع الدور بين أن يقال: إن التعليم لآدم لا للرسول وبين أن يقال: إن التعليم لآدم لا لقوم رسول إذ الظاهر هو الأول وإذا عدل عن ذلك وجعل النفى متوجهًا إلى القوم

(1)

قوله: لأن المسمى. . . إلخ. كذا فى الأصل وحرر العبارة. كتبه مصحح طبعة بولاق.

(2)

قوله: الشارحين. . . إلخ. كذا فى الأصل وهى عبارة لا تخلو من السقط والخلل وكم فى هذه النسخة من أمثالها وتبرأ إلى اللَّه من تحريفها واختلالها. كتبه مصحح طبعة بولاق.

ص: 26

وترك الرسول قابلًا للإثبات باعتبار عدم تعلق النفى به وقع الإشعار بأن ما ذكر فى حق آدم عليه السلام يجوز أن يذكر فى غيره بخلاف ما إذا تعلق النفى بالرسول فإنه يصير بعيدًا عن الإثبات.

قوله: (والجواب منع توقف ذلك القدر) هذا الكلام يدل على أن الأستاذ قد جعل الواضع جماعة لا شخصًا واحدًا واحتجاجه بهذا الاعتبار، وحاصل هذا الاحتجاج أن جنس الأصطلاح والمواضعة بين جماعة يتوقف على معرفة القدر المفروض ومعرفة هذا القدر موقوفة على ذلك الجنس ولو قال الأستاذ: إن الواضع يجوز أن يكون واحدًا من البشر لنقل تحته القول بأن البعض من اللغات حاصل بالتوقيف على كل تقدير إذ التوقيف على تقدير أن يكون الواضع شخصًا واحدًا يجب أن يتحقق بالنسبة إلى كل من هو غير ذلك الشخص إذ الكل متساوية فى الاحتياج، وعند القول بأن الواضع جماعة يتحقق الاحتياج إلى التوقيف فى زعم الأستاذ بالنظر إلى نفس الاصطلاح والمواضعة من غير نظر إلى تعريف الواضعين لغيرهم، وحاصل الجواب: أن واحدًا من الجماعة التى وقع المواضعة فيما بينها يتصور ذلك القدر بإزاء معانيها وبعد ذلك يعرف الباقين بالقرائن كما يعرفون غيرهم بعد المراضعة.

المصنف: (قال الأشعرى. . . إلخ) اعلم أن الخلاف إنما هو فى أسماء الأجناس وأعلامها لا فى أعلام الأشخاص فإن بعضها واضعه اللَّه كأسمائه وبعض أسماء الأنبياء وأسماء الملائكة وبعضها بوضع البشر من غير خلاف فى ذلك كما تقدم.

التفتازانى: (لكن لم يبين كيفية دلالتها على وضع الألفاظ) يجوز أن تكون تلك الألفاظ الدالة على وضع الألفاظ لمعانيها مخلوقة بكيفية بحيث يحصل بها فهم أن الألفاظ الآخر موضوعة لمعانيها وعلى هذا فالمخلوق جنسان من الألفاظ أحدهما دال على اللآخر.

التفتازانى: (لا إلهام الاحتياج على ما فى بعض الشروح) عبارة ذلك البعض وهو الأصفهانى وقد اعترضوا على هذا الدليل بأنه لِمَ لا يجوز أن يكون المراد من قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]، أنه تعالى ألهمه الاحتياج إلى هذه الألفاظ فأعطاه من العلوم ما لأجله قدر على الوضع فيكون المراد من التعليم فعلًا

ص: 27

يصلح لأن يترتب عليه حصول العلم لا إيجاد العلم. اهـ.

التفتازانى: (فلو كان التعليم للمسميات. . . إلخ) أى بأن يراد من الأسماء فى قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]، المسميات لما صح الإلزام بطلبه الإنباء. . . إلخ. لا علمت من أن الأسماء قد أضيفت إلى المسميات، والأصل أن تكون الإضافة ليست إضافة العام للخاص وقوله: وبهذا ظهر أن هذا الجواب. . . إلخ. أى لأن حاصله إثبات أن المراد بالأسماء فى قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ لأَسْمَاءَ كُلَّهَا} الألفاظ بدليل صحة الإلزام فى قوله: {أَنْبِئُونِى بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} [البقرة: 31]. . . إلخ. وليس كلامًا على سند المنع أى منع أن المراد بالأسماء الألفاظ لجواز أن يراد بها الحقائق والمسميات بسند قوله تعالى: {ثُمَّ عَرَضَهمْ} [البقرة: 31]، والضمير للأسماء إذ لم يتقدم غيره أى أن الجواب ليس كلامًا على ذلك السند حتى يقال: الكلام على السند لا يفيد.

التفتازانى: (وبهذا الطريق) أى طريق التبادر.

التفتازانى: (يمكن أن يدفع ما يقال. . . إلخ) أى فيدفع بأنه خلاف المتبادر.

التفتازانى: (لجواز أن يكون توقيف اللَّه) هو تحريف وصوابه: أن يكون توفيق اللَّه بتقديم الفاء على القاف.

التفتازانى: (كما فى بعض الشروح) أى كشوح الأصفهانى حيث قال: واللسان كما يجوز أن يطلق على اللغات مجازًا حتى يلزم أن يكون التوقيف آية يجوز أن يطلق على القدرة كذلك حتى يكون الإقدار آية فليس حمله على اللغات أولى من حمله على القدرة على وضع اللغات. اهـ.

التفتازانى: (فإن قيل: الآية تدل على سبق اللغات والأوضاع دون التوقيف والتعليم ليدور قلنا مبنى. . . إلخ) غرضه رد الاعتراض الذى ذكره صاحب التحرير على المصنف حيث قال فى تقرير الاستدلال يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]، على مذهب البهشمية من أن اللغات اصطلاحية ما نصه: أَفاد نسبتها إليهم وهى بالوضع وهو تام على المطلوب وأما تقريره دورًا يعنى كما ذكره ابن الحاجب وقرره العضد هكذا دل على سبق اللغات الإرسال ولو كان بالتوقيف ولا يتصور إلا بالإرسال سبق الإرسال اللغات فيدور فغلط لظهور أن كون التوقيف لا يكون إلا بالإرسال إنما يوجب سبق الإرسال على التوقيف لا

ص: 28

اللغات بل هذا النص يفيد سبقها أى اللغات على الإرسال، فالجواب بأن آدم علِمها وعلَّمها فلا دور ويمنع حصر التوقيف على الإرسال لجوازه بإلهام ثم دفعه بخلاف المعتاد ضائع، بل الجواب أنها للاختصاص ولا يستلزم وضعهم بل يثبت مع تعليم آدم بنيه إياها وتوارث الأقوام فاختص كل بلغة. اهـ. وحاصل رد ذلك الاعتراض أن الدور مبنى على أن لغة القوم بطريق الإضافة إنما تكون بعد توقيفهم وتعليمهم بناء على أنها توقيفية والتوقيف لا يتصور إلا بالإرسال لأنه المعهود فى تعليم اللَّه عباده فيتحقق الدور.

التفتازانى: (وقد يقال: المراد أن دلالة الآية) أى: أن مراد المصنف أن دلالة الآية. . . إلخ، وعليه درج الأصفهانى حيث قال: وأجاب المصنف عن الدور بأن قال لا نسلم لزوم الدور على تقدير كون اللغات توقيفية وإنما يلزم لو كانت اللغات سابقة على بعثة جميع الرسل وهو ممنوع لأن الآية لا تدل إلا على تقدم اللغات على بعثة الرسل وهو ممنوع لأن الآية لا تدل إلا على تقدم اللغات على بعثة الرسل الذين لهم قوم بدليل قوله تعالى: {بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]، فيجوز أن تتقدم بعثة آدم عليه السلام على اللغات لأنه لم يكن له قوم فيندفع الدور لأنه حينئذ يجوز أن يعلمه اللَّه اللغات بالوحى ثم علم آدم غيره فتكون اللغات متأخرة عن بعثة آدم عليه السلام وبعثة الرسل الذين لهم قوم متأخرة عن اللغات فلا يلزم الدور وقوله والأول أوفق بالشارح أى الوجه الأول الذى هو أن توقيف الرسل يكفى فيه الوحى والإعلام من اللَّه تعالى فيتحقق قبل الإرسال وإنما الذى يتوقف على الإرسال هو توقيف قوم الرسل أوفق بالشارح حيث قال: لا قوم رسول ولم يقل لا رسول غير آدم وقوله: والثانى بالمتن أى الثانى الذى هو أن دلالة الآية على سبق اللغات إنما هى فى حق الرسول الذى له قوم. . . إلخ. أوفق بالمتن حيث قال: إذا كان آدم علمها ولم يقل: إذا كانت الرسل علمتها.

قوله: (أو داعيًا) تحريف وصوابه: أو عبادًا.

قوله: (وأما بخلق أصوات وحروف. . . إلخ) فالمخلوق جنسان من الألفاظ أحدهما دال على أن الآخر موضوع.

قوله: (وإن واضعًا قد وضعها) زاد ذلك هنا لئلا يتوهم أن الذى خلق فيه العلم الضرورى واضع لأنه لم يكتسب العلم بأن الألفاظ لمعانيها من خارج كما فى

ص: 29

القسمين قبله فدفع هذا الوهم بقوله وإن واضعًا وضعه أى فيكون من جملة المخلوق فى روعه ذلك.

قوله: (وقد يؤيد بأن مباحث الألفاظ. . . إلخ) أى فاندفع ما ذكره الكرمانى عن أستاذه القاضى عضد الدين فى درسه أن المسألة علمية فلا فائدة فى ظاهرية قول الأشعرى كما ذكره ابن الحاجب إذ الظنون لا تفيد فى العلميات.

قوله: (على ما فى النسخة الأخيرة) أى نسخة: وإذ لا كثير اختلاف وقوله وعلى النسخة المشهورة هى نسخة: إذ لا كثير اختلاف بدون عاطف وقوله يحتمل الوجهين أى أنه دليل مستقل على أن المراد بها اللغات أو دليل على الاتفاق على أن المراد بها اللغات.

قوله: (وقد يقال الأول أظهر) فيه رد على السعد حيث قال: بل لا يبعد أن تكون الثانية أولى لكونها أدل.

قوله: (ويفهم من كلام غيره) قد عرفته فيما كتب على التفتازانى وكتب الهروى على قول السيد وإلى هذه النكتة أشار حيث قال: لا قوم رسول ولم يقل: لا رسول قوم ما حاصله أن الدور مبنى على أن التعليم للرسول من حيث هو رسول أو لقوم الرسول من حيث هو كذلك واندفاعه من حيث إن التعليم للشخص الذى يوصف بالرسالة فى وقت ما ولا تفاوت فى الجواب عن الدور بين أن يقال: التعليم لآدم لا للرسول، وأن يقال: التعليم لآدم لا قوم رسول والمتبادر إلى الوهم من التوقيف أن يكون للرسول فالمناسب فى الجواب أن يقال: التعليم لآدم لا للرسول ولكن عدل عن هذا الظاهر إلى قوله: لا قوم رسول للإشعار بأن ما ذكر فى حق آدم عليه السلام يجوز أن يذكر فى غيره بخلاف ما إذا قال: التعليم لآدم لا للرسول. اهـ. المقصود منه.

قوله: (إذ لم تجر عادته بذلك) أى بل جرت عادته فى تعليمنا أن يكون بخطابه لنا.

ص: 30

قال: (الرابع: طريق معرفتها التواتر فيما لا يقبل التشكيك كالأرض والسماء والحر والبرد والآحاد فى غيره).

أقول: قد فرغ من حد اللغات وأقسامها وابتداء وضعها فشرع يبين طريق معرفتها وهو النقل لأن وضع لفظ معين لمعنًى معين من الممكنات والعقل لا يستقل بها والنقل سنعلم أنه متواتر يفيد القطع وآحاد تفيد الظن واللغات قسمان قسم لا يقبل التشكيك كالأرض والسماء والحر والبرد مما يعلم وضعه لا يستعمل فيه قطعًا وقسم يقبله كاللغات العربية فالطريق فيما لا يقبل التشكيك هو التواتر وفى غيره الآحاد وفى عبارته إشارة إلى دفع ما شكك به بعضهم فقال أكثر الألفاظ دورانًا على الألسن كلفظ اللَّه وقع فيه الخلاف أسريانى هو أم عربى مشتق ومم أو موضوع ولم فما ظنك بغيره وأيضًا الرواة معدودة كالخليل والأصمعى ولم يبلغوا عدد التواتر فلا يحصل القطع بقولهم وأيضًا فإنهم أخذوا من تتبع كلام البلغاء والغلط عليهم جائز ووجه الدفع أن القدح فى القسم الأول سفسطة لا يستحق الجواب والثانى يكفى فيه الظن وما ذكروه لا يقدح فيه.

واعلم أن النقل قد يحتاج فى إفادته العلم بالوضع إلى ضميمة عقلية كما يروى أن الجمع المحلى باللام يدخله الاستثناء وأنه لإخراج ما لولاه لوجب دخوله فيعلم أنه للعموم وهذا لا يخرج من القسمين إذ لا يراد بالنقل أن يكون النقل مستقلًا بالدلالة من غير مدخل للعقل فيه إذ صدق المخبر لا بد منه وأنه عقلى.

قوله: (أو موضوع) أى ابتداء من غير أن يؤخذ من أصل فلهذا جعل قسيمًا للمشتق وعلى تقدير الاشتقاق فقد اختلفوا فى أنه من أله أو من وله، وعلى تقدير الوضع فى أنه موضوع للذات أو لبعض المعانى وللمفهوم الكلى أو الشخصى.

قوله: (لا يقدح فيه) لأن الاحتمالات المرجوحة إنما تنافى القطع دون الظن.

قوله: (واعلم أن النقل) يعنى أنه كان حصر طريق معرفة المخبر وذلك بالعقل

(1)

ولا تصريحه بأن هذا موضوع لذلك؛ بل قد يكون بأن يثبت بالنقل ما إذا انضمت

(1)

قوله: وذلك بالعقل. كذا فى الأصل ولعل هنا سقطًا وحق العبارة وذلك لا يكون بالعقل. . . إلخ. وحرر. كتبه مصحح طبعة بولاق.

ص: 31

إليها مقدمة أخرى عقلية أفادنا العلم بالوضع، كما ثبت أن الجمع المعرف باللام يدخله الاستثناء ومعلوم عقلًا أن الاستثناء لإخراج الأمر الذى لو لم يكن الاستثناء لزم دخوله فى المستثنى منه فيعلم منه أن الجمع المعرف يجب أن يكون متناولًا له ولغيره وهو معنى العموم، فقوله وإنه لإخراج بالكسر والواو للحال والأظهر أنه بالفتح عطفًا على أن الجمع فإن كون صيغ الاستثناء للإخراج ثبت بالنقل لا العقل والضميمة العقلية هى أن كل ما يدخله الاستثناء يجب أن يعم المستثنى منه.

قوله: (والعقل لا يستقلّ بها) أى بالممكنات من حيث هى ممكنات فإن العقل إذا لاحظ الممكن من حيث هو كذلك مع قطع النظر عن غيره تردد فى وجوده وعدمه لاستوائهما بالقياس إلى ذاته فلا بد من انضمام أمر آخر إليه ليجزم بأحد طرفيه ولا يتصور فى وضع الألفاظ إلا النقل.

قوله: (وفى عبارته) أى عبارة المصنف حيث قال: فيما لا يقبل التشكيك ولى يقل: فيما هو مقطوع به (إشارة إلى دفع ما شكك به بعضهم) كالإمام الرازى رحمه الله.

قوله: (مشتق) أى على تقدير كونه عربيًا ومن أى شئ اشتق أو موضوع ابتداء من غير اشتقاق ولأى شئ وضع لذاته تعالى من حيث هو أو باعتبار كونه معبودًا أو كونه قادرًا على الاختراع أو كونه ملجأ الخلق أو كونه بحيث تتحير العقول عن إدراكه فلا يتحصل القطع بمسمى أكثر الألفاظ دورانًا فما ظنك بغيره.

قوله: (سفسطة لا يستحق الجواب) لكونه قدحًا وتشكيكًا فى الضروريات.

قوله: (لا يقدح فيه) أى فى الظن الذى هو المطلوب إنما يقدح فى القطع ونحن لا ندعيه.

قوله: (كما يروى أن الجمع المحلى باللام) أى التى للجنس (يدخله الاستثناء) لأى فرد أو أفراد تراد وأن الاستثناء لإخراج ما لولاه لوجب دخوله فيعلم من هاتين المقدمتين المنقولتين أن الجمع المحلى يجوز أن يخرج منه أىّ فرد أو أفراد تراد وبضميمة حكم العقل بانه لو لم يكن عامًا متناولًا جميع الأفراد لم يجر فيه ذلك يعلم أنه للعموم وهذا القسم المعلوم بضميمة عقلية لا يخرج من القسمين التواترى والآحادى بل يندرج فيهما إذ لا يراد بالنقل أن يكون النقل مستقلًا

ص: 32

بالدلالة على الوضع من غير مدخل للعقل فيه لاستحالة ذلك إذ صدق المخبر لا بد منه فى حصول العلم بالنقل وأنه عقلى لا يعرف بالنقل لاستلزامه الدور أو التسلسل بل يراد أن يكون للنقل فيه مدخل وما نحن بصدده كذلك.

قوله: (أى بالممكنات من حيث هى ممكنات) بربد أن ما ذكره الشارح يحتاج إلى تأويل وتقدير؛ لأنه إن أراد بقوله: العقل لا يستقل بالممكنات، أنه لا يستقل بجميع الممكنات فهو لا يفيد شيئًا إذ نفى الإيجاب الكلى لا ينافى الإيجاب الجزئى فعدم الاستقلال فى الجميع لا يستلزم عدم الاستقلال مثنى البعض فلا يلزم أن يكون طريق معرفتها النقل، وإن أراد السلب الكلى أى العقل لا يستقل بشئ من الممكنات فالدليل مستلزم للمطلوب على تقدير صحته واعتبار استقلال العقل أعم من أن يكون يفيد بنفسه أو بانضمام شئ من المقدمات التى فيها مقدمة نقلية.

قوله: (أى على تقدير كونه عربيًا) وجه الاختصاص يحتمل أن يكون عدم جريان الاشتقاق فى اللفظ الذى هو سريانى، ويحتمل أن يكون الخلاف على تقدير كونه عربيًا وقوله: أو موضوع ابتداء من غير اشتقاق لتصحيح المقابلة التى وقعت بين كونه مشتقًا وبين كونه موضوعًا.

المصنف: (كاللغات العربية) أى غير ما تعرفه الناس عمومًا.

التفتازانى: (وبهذا يظهر. . . إلخ) أى بكون معرفة القدر المحتاج إليه تمكن بالترديد والقرائن فلا يتوقف القدر المحتاج فى تعليم الاصطلاح على الاصطلاح يظهر أن معرفة الاصطلاح لا تتوقف على معرفة القدر المذكور بل الكل يمكن معرفته بالقرائن والإشارات.

التفتازانى: (من أله) بفتح اللام بمعنى عبد، فأصل اللَّه إلاه كفعال بمعنى مألوه أى معبود.

التفتازانى: (أو من وله) بكسر اللام من الوله وهو التحير لتحير المخلوقين فى عظمته وجلاله وباقى نعوته فى القاموس أله إلاهة وألوهة وألوهية عبد عبادة ومنه لفظ الجلالة واختلف فيه على عشرين قولًا ذكرتها فى المباسيط وأصحها أنه علم غير مشتق وأصله إلاه كفعال بمعنى مألوه وكل ما اتخذ معبودًا إله عند متخذه ثم

ص: 33

قال: وأله كفرح تحير. اهـ.

التفتازانى: (أو لبعض المعانى) فقيل: إنه بمعنى القادر على الخلق وقيل من لا يصح التكليف إلا منه.

التفتازانى: (وللمفهوم الكلى أو الشخص) المفهوم الكلى هو المعبود مطلقًا والشخص المراد به المعبود بحق فالمراد بالشخص الشخص الإضافى.

التنفتازانى: (يعنى أنه كان حصر طريق معرفة الخبر وذلك بالعقل ولا تصريحه بأن هذا موضوع لذاك. . . إلخ) هو تحريف ولعل الأصل هكذا يعنى أنه وإن حصر طريق معرفة اللغة فى النقل فليس مراده أنه لا دخل للعقل أصلًا ولا تصريح الواضع بأن هذا موضوع لذاك بل قد يكون بأن يثبت بالنقل. . . إلخ. ففى هذا لم يتمحض النقل بل احتاج إلى ضميمة عقلية ولم يصرح من الواضع بأن الجمع المحلى باللام للعموم بل فهم من كلامهم بضميمة المقدمة التى أدركها العقل من كلامهم قال صاحب التحرير: وليس المراد نقل قول الواضع كذا لكذا بل المراد توارث فهم كذا من كذا فإن زاد فذاك. اهـ. يعنى: أن توارث فهم كذا من كذا علامة واضحة على أن العلاقة بينهما وضع ذلك اللفظ لذلك المعنى وهذا كافٍ فى النقل فإن زاد عن ذلك بأن يقول اللفظ الفلانى موضوع للمعنى الفلانى فبها ونعمت لما فيه من زيادة الوضوح بالنص الصريح.

ص: 34

قال: (الأحكام لا يحكم العقل بأن الفعل حسن أو قبيح فى حكم اللَّه تعالى ويطلق لثلاثة أمور إضافية لموافقة الغرض ومخالفته ولا أمرنا بالثناء عليه والذم ولما لا حرج فيه ومقابله وفعل اللَّه تعالى حسن بالاعتبارين الأخيرين، وقالت المعتزلة والكرامية والبراهمة: الأفعال حسنة وقبيحة لذاتها، فالقدماء من غير صفة، وقوم بصفة، وقوم بصفة فى القبيح، والجبائية بوجوه واعتبارات، لنا لو كان ذاتيًا لما اختلف وقد وجب الكذب إذا كان فيه عصمة نبى والقتل والضرب وغيرهما، وأيضًا لو كان ذاتيًا لاجتمع نقيضان فى صدق من قال لأكذبن غدًا وكذبه).

أقول: قد استوفى مبادئ هذا العلم من اللغات وها هى مبادئه من الأحكام والكلام فى الحاكم ونفس الحكم والمحكوم فيه والمحكوم عليه.

أما الحاكم فهو عندنا الشرع دون العقل ولا نعنى به أن العقل لا حكم له فى شئ أصلًا بل إنه لا يحكم بأن الفعل حسن أو قبيح فى حكم اللَّه تعالى، وأن الحسن والقبح إنما يطلق لثلاثة أمور إضافية لا ذاتية:

الأول: لموافقة الغرض ومخالفته وليس ذاتيًا لاختلافه باختلاف الأغراض.

الثانى: ما أمر الشارع بالثناء على فاعله أو بالذم له وليس ذاتيًا إذ يختلف بالأحوال والأزمان.

الثالث: ما لا حرج فى فعله وما فيه حرج وليس ذاتيًا لما ذكرناه آنفًا.

والمباح وفعل غير المكلف حسن بهذا التفسير وبالتفسير الثانى ليس حسنًا ولا قبيحًا وفعل اللَّه تعالى بالاعتبار الأول لا يوصف بحسن ولا قبح لتنزهه عن الغرض وهو بالاعتبارين الأخيرين حسن أما بالثالث فمطلقًا وأما بالثانى فبعد ورود الشرع لا قبله سواء فيه فعله قبل الشرع وبعده. وقالت المعتزلة والكرامية والبراهمة: الأفعال حسنة وقبيحة لذواتها فمنها ما هو ضرورى كحسن الصدق النافع وقبح الكذب المضر ومنها ما هو نظرى كحسن الصدق المضر وقبح الكذب النافع ومنها ما لا يدرك إلا بالشرع كالعبادات فإن حسن صوم آخر رمضان وقبح صوم أول شوال مما لا سبيل للعقل إليه لكن الشرع إذا ورد به كشف عن حسن وقبح ذاتيين.

ثم اختلفوا فقال القدماء: يحصل الحسن والقبح للفعل من غير صفة توجبه بل بذاته، وقال قوم: يحصل بصفة توجبه فيهما، وقال قوم: يحصل بصفة توجبه فى القبيح فقط والحسن يكفى فيه عدم موجب القبح، وقال الجبائية: يحصل بصفة

ص: 35

توجبه فيهما لكنها ليست صفة حقيقية بل وجوه واعتبارات تختلف كلطم اليتيم للتأديب أو للتعذيب، لنا لو كان الحسن والقبح ذاتيًا لما اختلف بأن يكون فعل واحد حسنًا تارة وقبيحًا أخرى واللازم باطل أما الملازمة فلأنه لو اختلف لزم انفكاك ما هو ذاتى للشئ عنه وأنه محال وأما بطلان اللازم فلأن الكذب قبيح وقد يحسن فإنه يجب إذا كان فيه عصمة نبى من ظالم أو إنقاذ برئ ممن يقصد سفك دمه وكذلك القتل والضرب وغيرهما من الأفعال مما يجب تارة ويحرم أخرى، ولنا أيضًا: لو كان ذاتيًا لاجتمع النقيضان واللازم باطل، بيان الملازمة أنه إذا قال: لأكذبن غدًا فهذا خبر لا يخلو عن الصدق والكذب وأيًا ما كان يجتمع النقيضان أما الصدق فلأنه عبارة عن وقوع متعلقه وهو الكذب فى آخر فيجتمع فيه صفتا الحسن والقبح الذاتيتان وأنهما متناقضان وأما الكذب فلأنه عبارة عن انتفاء متعلقه فهو ترك الكذب ويلزم المحال بعينه.

قوله: (مبادئه من الأحكام) قد سبق أن الآمدى صرح بأن هذه من المبادئ الفقهية والأحكام الشرعية؛ لكن لاستبعاد استمداد الأصول من الفروع وعدم بيان هذه المباحث المتعلقة بالحاكم والحكم والمحكوم فيه أعنى فعل المكلف والمحكوم عليه أعنى المكلف فى شئ من كتب الفقه لم يصرح الشارح بذلك.

قوله: (وإن الحسن والقبح) ابتداء كلام لتحرير محل النزاع، وفيه إشارة إلى أن ضمير يطلق للحسن والقبح المدلول عليهما بالحسن والقبيح ليصح التفسير بموافقة الغرض ولا حاجة إلى ما ذكره العلامة من أن اللام ليست صلة للإطلاق بل تعليل أى يطلق الحسن والقبيح على الشئ لأجل موافقته الغرض ومخالفته ولا يخفى أن المناقشة باقية فى قوله ولا أمرنا. . . إلخ، للقطع بأنه تفسير للحسن والقبيح لا الحسن والقبح والمراد أن اتصاف الأفعال بالحسن والقبح فى العرف والاصطلاح يكون بأحد هذه المعانى وأما بحسب اللغة فأعم كحسن الصورة والسيرة وقبحهما وصرح فى كل من المعانى الثلاثة بأنه ليس ذاتيًا تنبيهًا على فساد مذهب المخالف، ثم إنه لم يبين أن أى هذه المعانى محل النزاع والظاهر أنه المعنيان الأخيران كما ذكره بعض الشارحين وإنما اقتصر فى الواقف على الثانى لأنه لم يذكر التفسير الثالث ولأن معنى الحرج استحقاق الذم فى حكم الشارع فاستويا، فإن قيل: كيف

ص: 36

يتصور النزاع فى أن ما أمر المرع بالثناء على فاعله أو بالذم له يكون بحسب الشرع؟ قلنا: بمعنى أنا ندرك بالعقل قبل ورود الشرع فى أن هذا الفعل مما يستحق فاعله الثناء أو الذم فى نظر الشرع.

واعلم أن الحسن بالتفسير الثانى هو الواجب والمندوب، وأن القبيح هو الحرام، وأما المباح فليس بحسن ولا قبيح كذا المكروه، وفعل غير المكلف من الصبيان والمجانين والبهائم إذ لا أمر بالثناء أو بالذم لفاعله، وأما بالتفسير الثالث فالمباح وفعل غير المكلف حسن كالواجب والمندوب إذ لا حرج فى الفعل، والقبيح هو الحرام لا غير كما فى الثانى، وأما المكروه فلا حرج فى فعله فينبغى أن يكون حسنًا اللهم إلا أن يقال عدم لحوق المدح الذى فى الترك حرج فى الفعل وأما فعل اللَّه فحسن بالتفسير الثالث ورد الشرع أو لم يرد إذ لا حرج فيه، وكذا بالتفسير الثانى إذ قد أمر الشارع بالثناء على فاعله لكى يعد ورود الشرع لا قبله إذ لا أمر حينئذٍ اللهم إلا أن يقال الأمر قديم ورد أو لم يرد ثم فعله الذى صدر عنه قبل ورود الشرع وبعده سواء فى هذا المعنى وهو أنه حسن بالتفسير الثالث مطلقًا وبالثانى بعد ورود الشرع لا قبله.

قوله: (ثم اختلفوا) ضمير توجبه للحسن أو القبح إلا فى قوله توجبه فى القبيح فقط فإنه للقبح فقط وكذا المستتر فى يحصل وضمير فيهما للحسن والقبيح والظرف حار أو متعلق بـ "قال" أو بـ "يحصل" وضمير بذاته للفعل ومعنى كونه بذاته أنه لا مدخل للصفة أصلًا ومعنى كونه بصفة أن لها مدخلًا للقطع بأنها لا تستقل بدون الذات ومعنى اتفاق المعتزلة على أن الأفعال تحسن وتقبح لذواتها أعم من أن يكون باستقلال الذات أو بواسطة الصفات أو الوجوه والاعتبارات ومعنى قوله وكان ذاتيًا لو كان لذات الفعل أو لصفة لازمة.

قوله: (والحسن يكفى فيه) إشارة إلى أن وجه التفرقة هو أن الأصل فى الفعل هو الحسن وعدم الحرج والذم ما لم يطرأ ما يوجبه فيندفع ما ذكره الشارح العلامة من أنى لم أظفر بسبب فى هذا التخصيص فكأنه مبنى على ما ذهب إليه المعتزلة من تساوى الذوات وتمايزها بالصفات فلو قبح فعل لذاته لقبح فعل اللَّه تعالى لتساوى الأفعال فى الذوات.

قوله: (كلطم اليتيم) فإن كونه للتأديب صفة تحسنه وكونه للتعذيب تقبحه.

ص: 37

قوله: (فإنه يجب إذا كان فيه عصمة نبى) بأن يتعين كونه طريقًا إليها بحيث لا تحصل عصمته بغيره من المعاريض ولا خفاء فى أن الواجب حسن، والتقدير أن كل ما هو حسن أو قبيح فحسنه أو قبحه ذاتى يمتنع زواله وبهذا يندفع ما يقال: أنه لا يتعين لذلك ولو سلم فالحسن لازمه أعنى تخليص النبى لا هو ولو سلم فالتخلق لمانع لا يقدح فى الاقضاء.

قوله: (فهذا خبر لا يخلو عن الصدق والكذب) قرر الآمدى وغيره لزوم اجتماع النقيضين أعنى الحسن واللاحسن فى الكلام الغدى بناء على أن صدقه مستلزم لكذب الكلام اليومى، وكذبه صدقه وفيه نظر لأنه إن أريد لأكذبن غدًا فى الجملة فلا يصدق على شئ من الكلام الغدىّ أن صدقه مستلزم لكذب هذا الكلام، وإنما الخفاء فى أنه هل يصدق ذلك على المجموع على تقدير صدقها وإن أريد لأكذبن غدًا فى كل خبر أتكلم به فظاهر أن كذب شئ لا يستلزم صدقه وإنما الكلام فى المجموعى فلذا عدل المرح المحقق إلى تقرير اجتماع النقيضين فى الكلام اليومى ليتم سواء حمل على الإطلاق أو العموم وسواء سكت فى الغد عن الكلام أو تكلم بما يكون كله صادقًا أو كاذبًا أو بعضه صادقًا وبعضه كاذبًا بيانه أن قوله لأكذبن غدًا إن طابق الواقع كان حسنًا لصدقه وقبيحًا لاستلزامه وقوع متعلقه الذى هو صدور الكذب عنه فى الغد كان لم يطابق الواقع كان قبيحًا لكذبه وحسنًا لاستلزامه انتفاء متعلقه الذى هو الكذب القبيح ولا شك أن انتفاء القبيح وتركه حسن والتقدير أن ملزوم الحسن حسن وملزوم القبيح قبيح وأن كل حسن أو قبح فذاتى فيلزم فى الكلام اليومى اجتماع صفتى الحسن والقبح الذاتيين وهما متناقضان ضرورة أن القبيح لا حسن والأنسب أن يورد البيان فى الإخبار الذى هو من أفعال المكلف على ما تشعر به عبارة المتن حيث قال فى صدق من قال لأكذبن غدًا وكذبه.

قوله: (أما الحاكم فهو عندنا الشرع دون العقل) اتفقت الأشاعرة والمعتزلة على أن الأفعال تنقسم إلى: واجب ومندوب ومباح ومكروه وحرام ثم اختلفوا فذهبت المعتزلة إلى أن الأفعال فى ذواتها مع قطع النظر عن أوامر الشرع ونواهيه متصفة بالحسن والقبح وأرادوا بالقبح كون الفعل بحيث يستحق فاعله الذمّ عند العقل،

ص: 38

وبالحسن كونه بحيث لا يستحق فاعله ذلك وربما فسروه بكون الفعل بحيث يستحق فاعله المدح ثم القبح هو معنى الحرمة، والحسن تتفاوت مراتبه فإن كان بحيث يستحق فاعله المدح وتاركه الذم عند العقل فهو الوجوب وإلا فإن استحق فاعله المدح فقط فهو للندب أو استحق تاركه المدح فقط فهو الكراهة أو لا يتعلق بفعله ولا تركه مدح ولا ذم فهو الإباحة وهذه الأمور أعنى الوجوب وأخواته ثابتة للأفعال فى ذواتها وليست مستفادة من الشرع بل حاصله قبله أيضًا لا بالقياس إلى العباد فقط بل بالقياس إلى الخالق أيضًا ولذلك قالوا: بوجوب أشياء عليه تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا ووصفوا الأفعال بالحسن والقبح بالنسبة إليه وذهبوا إلى أن أوامر الشرع ونواهيه كاشفة عنها لا مثبتة إياها فوجوب الصلاة وحرمة الزنا أمران ثابتان لا بسبب الأمر والنهى بل هما كاشفان عنهما وإذا قاسوا الأفعال إلى المكلفين زادوا فى تعريف القبع استحقاق العقاب آجلًا وقيدوا استحقاق الذم بالعاجل ونفوهما من تعريف الحسن، وذهبت الأشاعرة إلى أن الأفعال لا حسن لها ولا قبح بما ذكر من التفسير بل قبحها عبارة عن كونها منهيًا عنها شرعًا، والحسن بخلافه وليس لها فى نفسها صفة يكشف عنها الشرع بل هما مستفادان منه ولو قلب القضية فى الأمر والنهى لانقلب الحسن قبيحًا وبالعكس ولما كانت هذه الأحكام الخمسة ثابتة للأفعال من الشرع والعقل يحكم بذلك إجمالًا وقد يطلع على تفاصيلها إما بالضرورة أو بالنظر فيحكم بها على مذهب المعتزلة قالوا: الحاكم هو العقل والشرع هو الكاشف، وأما على مذهب الأشاعرة: فلا ثبوت لها إلا من الشرع ولا حكم للعقل بها أصلًا فالحاكم عندهم هو الشرع فظهر أن مدار الكلام على أن للأفعال حسنًا وقبحًا بما ذكر من المعنى والعقل يحكم بذلك أوّلًا فلهذا قال: أما الحاكم فهو عندنا الشرع دون العقل ولا نعنى به أن العقل لا حكم له فى شئ أصلًا إذ أحكامه فى الأشياء أكثر من أن تحصى بل نعنى به أن العقل لا يحكم بأن الفعل حسن أو قبيح لذاته فيما تعلق به حكم اللَّه تعالى من أفعال المكلفين ونعنى أن الحسن والقبح إنما يطلق لثلاثة أمور إضافية تتغير بحسب الإضافات لا ذاتية للأفعال لا تتغير بحسب الأحوال ويوصف بها الأفعال على ما ذكر من التفصيل والعقل يحكم بها ولا تطلق على ذلك المعنى ولا يتصف بها الفعل ولا يحكم به العقل فليس النزاع فى اتصاف الأفعال بالحسن والقبح على

ص: 39

التفسيرات الثلاث كما سيصرح به الشارح رحمه الله فيما بعد بل بما أوضحناه سابقًا وتوهم بعضهم أنهما بالتفسير الأول عقليان اتفاقًا إنما النزاع فيهما بالتفسيرين الأخيرين.

قوله: (الثالث ما لا حرج فى فعله) أى شرعًا (وما فيه حرج وليس ذاتيًا) للفعل (لما ذكرناه آنفًا) من الاختلاف بالأحوال والأزمان.

قوله: (بهذا التفسير) أى الثالث إذ لا حرج شرعًا فى المباح وفعل غير المكلف وليس شئ منهما حسنًا ولا قبيحًا بالتفسير الثانى إذ لم نؤمر بالثناء على فاعله ولا بذمه وفعل اللَّه سبحانه بالاعتبار الأول لا يوصف بحسن ولا قبح لتنزهه عن الغرض كما تحقق فى علم الكلام وبالاعتبارين الأخيرين حسن أما بالاعتبار الثالث فحسن مطلقًا أى قبل ورود الشرع وبعده وأما بالاعتبار الثانى فبعده لا قبله إذ لا أمر من الشارع بالثناء إلا بعده سواء فى الحسن بهذا الاعتبار بعد ورود الشرع فعله تعالى قبل الشرع وفعله تعالى بعده إذ قد أمرنا بالثناء على الفاعل فيهما وأما فعل العبد قبل ورود الشرع فيوصف بالحسن والقبح بالاعتبار الأول وبالحسن فقط بالاعتبار الثالث ولا يوصف بشئ منهما بالاعتبار الثانى وفعله بعد وروده ينقسم إلى حسن وقبيح بالاعتبارات الثلاث وفى الأحكام أن ما كان من أفعال العباد قبل ورود الشرع فحسنه وقبحه بالاعتبار الأول والثالث وفيه إشعار بثبوت الحرج قبل الشرع وهو منظور فيه فإن قلت قد يطلق الحسن والقبح بمعنى الكمال والنقصان فلا يصح الحصر المستفاد من قوله: إنما يطلق لثلاثة أمور قلت: ذلك فى الصفات والكلام فى الأفعال لا يقال ما ذكرته من أن القبح عند الأشاعرة هو كونه منهيًا عنه والحسن بخلافه معنًى رابع لأنا نقول بل هو راجع إلى التفسير الثالث وإن فسرنا الحسن بكونه مأمورًا به كان راجعًا إلى الثانى.

قوله: (الأفعال حسنة وقبيحة لذواتها) أى لا لسبب أمر مباين من شرع أو غيره فإن المستند إلى الصفات مستند إلى الذات فيتناول التفاصيل المذكورة من أن القدماء ذهبوا إلى أن الحسن أو القبح يحصل للفعل بذاته لا بصفة توجبه وأن قومًا قالوا يحصل الحسن أو القبح بصفة حقيقية لازمة توجبه فى الحسن والقبيح وأن قومًا اعتبروها فى القبيح فقط وأن الجبائية ذهبوا إلى أن الصفة الموجبة للحسن أو القبح ليست حقيقية بل هى وجوه واعتبارات مختلفة.

ص: 40

قوله: (لنا لو كان الحسن والقبح ذاتيًا) أى مستندًا إلى ذات الفعل أو صفة لازمة لها فإن البرهان ينتهض على القبيلين معًا كما سيشير إليه المرح.

قوله: (مما يجب تارة ويحرم أخرى) فإن قتل المشرك وضرب الزانى واجبان ومحرمان بالقياس إلى من هو خالٍ عن موجباتهما.

قوله: (وهو الكذب فى آخر) أى فى خبر آخر.

قوله: (فيجتمع فيه صفتا الحسن والقبح الذاتيتان) أما حسنه فلصدقه وأما قبحه فلاستلزامه الكذب القبيح ومستلزم القبيح قبيح وأنهما متناقضان لأن الحسن عدم القبح على تفسيرهم المذكور ومستلزم لعدم القبح على التفسير الآخر.

قوله: (ويلزم المحال بعينه) لأن قوله لأكذبن غدًا على هذا التقدير قبيح لكذبه وحسن لاستلزامه ترك الكذب غدًا وهو حسن والمفضى إلى الحسن حسن والشارحون قد اعتبروا الصدق والكذب بالقياس إلى الغد فقالوا: لو كذب فيه كان قبيحًا لكذبه وحسنًا لاستلزامه صدق قوله: لأكذبن غدًا ولو صدق فيه كان حسنًا لصدقه وقبيحًا لاستلزامه كذب ما قاله أمس وهذا أيضًا جيد لكن المذكور فى الكتاب أوفق للمتن.

قوله: (أو استحق تاركه المدح فقط) أى لا يستحق فاعله الذم لما كان الإنسان لشرفه يستحق غاية الاعتناء بشأنه والاهتمام بحاله والتوسعة فى أحواله وعدم التضييق عليه عدّ قسم واحد من أفعاله قبيحًا والأقسام الأربعة الباقية حسنًا ويمدح على فعل المندوب ولا يذم على فعل المكروه، ويمدح على ترك المكروه ولا يذم على ترك المندوب ولم يجعل المندوب والمكروه باعتبار التنزل من الوجوب والحرمة فى مرتبة واحدة لا يمدح تارك المكروه كما لا يذم تارك الندوب ويذم على المكروه كما يمدح على المندوب.

قوله: (زادوا فى تعريف القبح) فالقبح كون الفعل بحيث يستحق فاعله الذم عند العقل عاجلًا والعقاب آجلًا والحسن كونه بحيث لا يستحق فاعله شيئًا من ذلك.

قوله: (فيحكم بها على مذهب المعتزلة) توضيحه: أنه قد تقرر أن القبح عبارة عن كون الفعل منهيًا عنه شرعًا والحسن بخلافه فيثبت أنه لو لم يكن الشرع ثبت

ص: 41

الحسن والقبح لكن لما حصل تلك الأحكام من الشرع ثم توجه العقل إلى دقائق وأسرار فى الأفعال مناسبة لتلك الأحكام وحكم بها إجمالًا وقد يطلع على تفاصيلها حكم بتلك الأحكام على مذهب المعتزلة بمعنى: أن العقل يحكم بها أى بالأحكام الباقية من الشرع، على مذهب المعتزلة أى على أن فى ذوات الأفعال أشياء تقتضى تلك الأحكام وتناسبها والشرع يقع على طبقها.

قوله: (فلهذا قال: أما الحاكم فهو عندنا الشرع دون العقل) أى ولأجل أن للأفعال حسنًا وقبحًا بالمعنى الذى ذكر فى صدر الكلام والعقل يحكم بالحسن والقبح أوّلًا أى قبل الشرع قال الشارح: أما الحاكم فهو عندنا الشرع دون العقل ولم يقل: أما الحاكم فهو الشرع.

قوله: (فيما تعلق به حكم اللَّه تعالى من أفعال المكلفين) يعنى أن الظاهر فى عبارة الشارح أن يقال: لا نعنى به أن العقل لا حكم له فى شئ أصلًا بل إنه لا يحكم فى أفعال المكلفين بأن الفعل حسن أو قبيح لذاته فذكر حكم اللَّه تعالى مقام متعلقه كما يقال: زيد لا يحكم فى حكم عمرو أى لا يحكم فى متعلق حكمه، والنكتة فى اختيار تلك العبارة هى الإشعار بتقدم حكم اللَّه تعالى على حكم العقل والحكم فى الشئ متأخر عن ذلك الشئ.

قوله: (ويوصف بها الأفعال على ما ذكر من التفصيل) متعلق بقوله لثلاثة أمور إضافية تتغير بحسب الإضافات والتفصيل المذكور هو فى قول الشارح والمباح وفعل غير المكلف. . . إلخ. ومن ذكر هذا القول ظهر أنه ليس النزاع فى اتصاف الأفعال بالحسن والقبح على التفسيرات الثلاث، وقوله: ولا يطلق على ذلك المعنى متعلق بقوله: إنما يطلق أى الحصر المستفاد من قوله: إنما يطلق بالإضافة إلى الإطلاق على المعنى الذى ذكر فى الحاشية.

قوله: (وفعل اللَّه تعالى بالاعتبار الأوّل) أى بالمعنى الأوّل للحسن والقبح وإنما أورد لفظ التفسير فى الثانى والثالث ولفظ الاعتبار فى الأوّل لأن المذكور فى الأوّل مبدأ التعين

(1)

على وجه يؤخذ منه تفسير وفى الثانى والثالث نفس التفسير، وإنما لم يذكر فى الأوّل ما هو تفسير للحسن والقبح كما ذكره فى الثانى والثالث لأن الأول لا يسند إلى الشرع بخلاف الثانى والثالث ولا يتصف فعل اللَّه تعالى

(1)

مبدأ التعين كذا فى الأصل السقيم ولعل فى الكلام تحريفًا فتأمل. كتبه مصحح طبعة بولاق.

ص: 42

بالحسن باعتباره ويتصف باعتبار الثانى والثالث فاستحق لذلك إيراد لفظه فى مقام التفسير لسنده

(1)

عند التفسير.

واعلم أن الشارح قد نبه بذكر اللام فى قوله: الأوّل لموافقة الغرض مع أن الظاهر أن يترك ويقال الأول موافقة على أن ما ذكر من الأوّل والثانى والثالث ليس تفصيلًا للثلاثة المذكورة وبذكر التفسير للحسن والقبح فى الثانى والثالث على أن الأول والثالث تفصيل للمعانى الثلاثة المذكورة للحسن والقبح ضمنًا فإن البيان

(2)

فى الحسن والقبح يظهر منه البيان فى الحسن والقبح فقول الشارح الأول: لموافقة الغرض، معناه: أن المعنى الأوّل للحسن والقبح يتحقق بموافقة الغرض إذ مبدأ المحمول علة لتحقق المحمول.

قوله: (والكلام فى الأفعال) فإن قلت: لا فرق بين موافقة الفعل الغرض ومخالفته له وبين كمال الفعل ونقصانه من التعلق بالأفعال قلت: يجب الجواب على أحد الوجهين؛ الأوّل أن ذلك المعنى فى الصفات إذ الحال أن الصفات أعم من الأفعال والكلام فى الحسن والقبح الجارى فى الأفعال خاصة، الثانى أن ذلك المعنى مقيد بكونه فى الصفات أى الحسن هو كمال فى الصفة وهى فى مقابلة الفعل.

قوله: (فى الحسن والقبيح) متعلق بقوله: قالوا ليلائم فيما بعد وأن قومًا اعتبروها فى القبيح فقط ولا فائدة فى جعله متعلقًا بقوله: توجبه لأن بيان الحسن

(3)

والقبح ما يوجبه مستغنًى عن ذلك ولذا لم يذكر هذا القيد فى قوله: من غير صفة توجبه، والحاصل أن القائلين بالصفة الحقيقية اللازمة الموجبة فريقان قالوا فى الحسن والقبح فقط وإنما قيد الصفة الموجبة بكونها حقيقية لازمة لأن الجبائية أيضًا قالوا بالصفة الموجبة والغرض من قول الشارح لكنها ليست حقيقية

(1)

كذا فى الأصل من غير نقط وليحرر. كتبه مصحح طبعة بولاق.

(2)

قوله -فإن البيان. . . إلخ. هكذا فى الأصل وفى العبارة خلل فحررها. اهـ. كتبه مصحح طبعة بولاق.

(3)

قوله: لأن بيان الحسن. . . إلخ. تأمل هذه القولة إلى آخرها تجد فيها مواضع غير مستقيمة التركيب والمعنى ومواضع سقط منها ما يتم به المعنى وكم فى هذه النسخة من أمثالها ولا حول ولا قوة إلا باللَّه. كتبه مصحح طبعة بولاق.

ص: 43

بل وجوه واعتبارات مختلفة بيان وجه المخالفة بين الجبائية والقوم السابق. وقد ذكر فى هذا البيان شيئين اعتبارات قوله واختلافها محصل للمقابل حقيقية لازمة غير مختلفة.

قوله: (أى مستندًا إلى ذات الفعل أو صفة لازمة لها) يعنى أن هذا البرهان لا ينتهض على الجبائية لأن الاختلاف فى الحسن والقبح بأن يكون فعل واحد حسنًا تارة وقبيحًا أخرى جائز عندهم فإنهم قالوا بجواز اختلاف الوجب لهما.

قوله: (فلاستلزامه الكذب القبيح) أى استلزام هذا القول المقيد بالصدق فهذا الخبر المقيد بالصدق حسن وقبيح وكذا القول فى جانب الكذب.

قوله: (لاستلزامه ترك الكذب غدًا وهو حسن) يعنى أن هذا الترك اللازم قد يكون حسنًا وهذا القدر كاف فى هذا المقام إذ المقصود بيان النقيضين ولو فى صورة واحدة وهى ما إذا قيل، لأكذبن غدًا وهذا القائل قد قصد الكذب فى الغد ولم يقع منه قول فى الغد كاذب بناء على قبحه وترك الكذب القبيح المسبوق بالقصد الواقع فى قوله: لأكذبن حسن وقوله: والمفضى إلى الحسن حسن وقد قال فى سورة الصدق ومستلزم القبيح قبيح إشارة إلى ما ذكر والإفضاء ظاهر لأن القصد الذى له مدخل فى حسن عدم الوقوع حاصل من قوله: لأكذبن.

قوله: (لاستلزامه كذب ما قاله أمس) هذا القول أحسن من أن يقال: لاستلزامه الكذب القبيح يلزم أن يكون قبيحًا يصير قائله مستحقًا للذم كما إذا قال: زيد فى حق عمرو يكذب غدًا وقد وقع فى عمرو

(1)

قول صادق فى الغد فإن هذا القول يستلزم الكذب القبيح ولا يكون قبيحًا؛ لأن صيغة المتكلم التى هى قوله لأكذبن والخبر الواقع فى الغد وقد سبق من قوله وأما قبحه فلاستلزامه الكذب القبيح كلام حق صريح لا يرد عليه شئ.

واعلم أن القائلين بالحسن والقبح الذاتيين أى: المنتسبين إلى ذات الفعل أو صفة لازمة لها لا يبعد منهم تجويز اجتماع الحسن والقبح فى فعل واحد من جهتين كما إذا وقع لفعل واحد صفتان لازمتان له لزومًا نوعيًا أو شخصيًا؛ أحدهما يوجب الحسن والآخر يوجب القبح وكون الحسن عدم القبح باعتبار أن القبح هو كون الفعل بحيث يستحق فاعله الذم وأن الحسن هو كونه بحيث لا

(1)

قوله: وقد وقع فى عمرو. . . إلخ. هذه عبارة مختلة فحررها. كتبه مصحح طبعة بولاق.

ص: 44

يستحق فاعله ذلك لا يدل على امتناع اجتماعهما فى شئ واحد باعتبارين أولًا يرى أن الإفراد والتركيب فى الألفاظ يعتبران على هذا الوجه وهما يجتمعان فى لفظ باعتباربن.

المصنف: (لا يحكم العقل. . . إلخ) يؤخذ منه أن الحاكم فيه خلف قيل العقل وقيل الشرع وقال الكمال بن الهمام وصاحب مسلم الثبوت: إنه لا خلاف فى أن اللَّه هو الحاكم بالأحكام الشرعية وعبارة مسلم الثبوت: لا حكم إلا من اللَّه تعالى بإجماع الأمة لا كما فى كتب بعض المشايخ أن هذا عندنا وعند المعتزلة العقل فإن هذا مما لا يجترئ عليه أحد ممن يدعى الإسلام بل إنما يقولون: إن العقل معرف لبعض الأحكام الإلهية سواء ورد به الشرع أو لا ثم إنه لا بد لحكم اللَّه من صفة حسن أو قبح فى الفعل ثم إن النزاع إنما هو فى حسن الفعل وقبحه بمعنى استحقاق مدحه تعالى وثوابه ومقابليهما فعند الأشاعرة شرعى أى بجعله فقط من غير حكمة وصلوح للفعل فما أمر به حسن وما نهى عنه قبح ولو انعكس الأمر لانعكس الأمر وعندنا معاشر الماتريدية والصوفية الكرام مات معظم أهل السنة والجماعة وعند المعتزلة عقلى أى لا يتوقف على الشرع لكن عندنا معشر المتأخرين من الماتريدية لا يستلزم حكمًا من اللَّه فى العبد بل يصير مستحقًا للحكم من الحكيم الذى لا يرجح المرجوح فما لم يحكم اللَّه تعالى بإرسال الرسل وإنزال الخطاب فليس هناك حكم ومات هنا اشترطنا بلوغ الدعوة فى التكليف فالكافر الذى لم تبلغه الدعوة غير مكلف بالإيمان ولا يؤاخذ بكفره فى الآخرة وهذا الرأى خلف رأى المعتزلة والإمامية والكرامية والبراهمة فإنه عندهم يوجب الحكم من اللَّه فهو الحاكم لا غير فلو فرض عدم إرسال الرسل وكانت الأفعال لوجبت الأحكام على ما فصل الآن فى الشريعة الحقة واعلم أن المراد بالحكم فى هذا النزاع اشتغال ذمة العبد بالفعل وهو اعتبار الشارع أن فى ذمته الفعل أو الكف جبرًا وهذا لا يستدعى خطابًا ولا كلامًا ولا يوجب هذا الحسن والقبح هذا الاعتبار من الشارع يعنى على رأى المتأخرين من الماتريدية لأن الحسن والقبح ليس إلا الصلوح والاستعداد لوصول الثواب والعقاب وأما إنه تعلق بحسب هذا الصلوح والاستعداد اعتبار الشارع شغل الذمة بالفعل والكف فلا فإذن يصلح هذا المعنى

ص: 45

للنزاع بعد الاتفاق على الحسن والقبح العقليين وبما قررنا يندفع أن هذا النزاع بيننا وبين المعتزلة غير صحيح فإنه إن أريد بالحكم خطاب اللَّه تعالى فلا خطاب قبل ورود الشرع فكيف يتأتى قول المعتزلة وإن أريد كون الفعل مناط الثواب والعقاب فبعد تسليم حسن الفعل وقبحه لا يتأتى إنكاره فحيئذ لا نزاع إلا فى اللفظ فمن قال: بتعلق الحكم قبل الشرع أراد الثانى ومن ننهاه نًفاه بمعنى الخطاب قيل أمر الآخرة سمعى لا يستقل العقل بإدراكه فكيف يحكم بالثواب وأجيب بأن المراد بأمر الآخرة مطلق دار الجزاء سوى الدنيا وكونه سمعيًا ممنوع ولذا قالت الفلاسفة به أيضًا مع إنكارهم الحشر على ما هو المشهور نعم خصوص المعاد الجسمانى سمعى ثم قال من الحنفية من قال إن العقل قد يستقل فى إدراك بعض أحكامه تعالى فأوجب الإيمان وحرم الكفر وكل ما لا يليق بجنابه تعالى حتى على الصبى العاقل وروى عن أبى حنيفة قال: لا عذر لأحد فى الجهل بخالقه لما يرى من الدلائل أقول لعل المراد بعد مضى مدة التأمل فإنه بمنزلة دعوى الرسول ثم قال فى الشرح: ويفهم من كلام فخر الإسلام أن حاصل النزاع بيننا وبينهم أن العقل عندهم علة موجبة للحكم وعند الأشاعرة مهدرة لا اعتبار لها وعندنا لا هذا ولا ذاك بل العقل يوجب أهلية الحكم وتعلق الحكم من العليم الخبير ثم قال فخرج حاصل البحث أن هنا ثلاثة أقوال، الأول مذهب الأشاعرة أن الحسن والقبح فى الأفعال شرعى وكذلك الحكم، الثانى أنهما عقليان وهما مناط لتعلق الحكم، الثالث أنهما عقليان وليسا موجبين للحكم ولا كاشفين عن تعلقه. اهـ باختصار.

المصنف: (فى حكم) أى فى متعلق حكم اللَّه من أفعال المكلفين فذكر حكم اللَّه مكان المتعلق كما يقال: لا يحكم زيد فى حكم عمرو والنكتة فى ذلك الإشعار بتقديم حكم اللَّه على حكم العقل إذ الحكم فى الشئ متأخر عن ذلك الشئ.

الشارح: (إنما يطلق لثلاثة أمور إضافية لا ذاتية) أى ليست مستندة إلى ذات الفعل أو صفة لازمة له أو صفة هى حال واعتبار بل بالإضافة إلى أمر خارج مباين من شرع أو غيره لا يقال هذا الحصر فى الثلاثة المذكور مناقض لما فى المواقف حيث جعل من الثلاثة صفة الكمال والنقصان لأنا نقول إن الكلام فى حسن الأفعال وقبحها وليس من ذلك صفة الكمال والنقصان والوجه الثالث فى كلام المصنف راجع للثانى فلا تناقض، واعلم أن مسألة الحسن والقبح

ص: 46

واستلزامهما للحكم يمكن أن تكون كلامية راجعة إلى أن اللَّه تعالى لا يحكم إلا بما هو حسن أو قبيح وأن حكم اللَّه ملزومهما وأن تكون أصولية راجعة إلى أن الأمر الإلهى يدل على الحسن اقتضاء والنهى على القبح كذلك وأن تكون فقهية راجعة إلى أن الواجب حسن والحرام قبيح.

التنفتازانى: (والأحكام الشرعية) الأولى للأحكام الشرعية.

التفتازانى: (لاستبعاد استمداد الأصول من الفروع) أى لكون مبادئ العلم حينئذٍ تكون مبينة فى علم أدنى مع أنه لم يعهد تصورات الأحكام فى علم الفقه وتقدم ما فى ذلك عند قول الشارح: لما كان استمداده من المواضع الثلاثة.

التفتازانى: (ولا حاجة. . . إلخ) هو من جملة المشار إليه أى لا حاجة فى تصحيح المصنف إلى ما تكلفه العلامة من جعل اللام فى قوله: لموافقة الغرض لام التعليل لأصله ليطلق مع أنه يلزمه أن تكون اللام بمعنى على فى قوله ولما أمرنا الشارع فأشار الشارح إلى أنه لا حاجة إلى ذلك التكلف بجعل الضمير فى يطلق عائدًا على الحسن والقبح المدلول عليهما بالحسن والقبيح.

التفتازانى: (ولا يخفى أن المناقشة) أى فى كلام المصنف باقية فى قوله: ولما أمرنا. . . إلخ. للقطع بأنه تفسىير للحسن والقبيح أى فحينئذٍ لا يستقيم فى قوله: لموافقة الغرض فدفع الشارح ما تكلفه العلامة غير تام وأما على كلام العلامة فيكون المعنى فى قوله: ولما أمرنا أنه يطلق على ما أمرنا وليس قوله: ولما أمرنا على معنى لأجل ما أمرنا كما فى قوله: لموافقة الغرض.

التفتازانى: (كيف يتصور النزاع فى أن ما أمر الشارع. . . إلخ) أى بل يتفق على أنه بالشرع، وقوله: فى نظر الشرع أى ويأتى الشرع على طبقه كما هو رأى المعتزلة وأد ذلك تابع لأمر الشارع ونهيه كما هو رأى غيرهم.

التفتازانى: (فكأنه مبنى) من تتمة كلام العلامة.

التفتازانى: (لا يقدح فى الاقتضاء) دفع بهذا أنه قد فرض أن كل ما هو حسن أو قبيح فحسنه وقبحه ذاتى لا يتخلف فلو قيل بأنهما كما يكونان بالذات يكونان بالغير وإن حسن الكذب هنا بالغير والعروض أعنى بواسطة حسن عصمة النبى مثلًا وقبحه بالذات لم ينتهض الدليل لأن القبح لم يرتفع والشئ قد يكون قبيحًا لذاته حسنًا لغيره لكن يلزمه أن يكون هذا الكذب حرامًا وواجبًا من جهتين مختلفتين

ص: 47

لبقاء القبح مع عروض الحسن ولا يضر ذلك عندنا نعم يضر عند المعتزلة فإنهم لا يجوزون اجتماع الوجوب والحرمة فى شئ ما حتى لا يجوزوا الصلاة فى الأرض المغصوبة.

التفتازانى: (فلا يصدق على شئ من الكلام الغد أن صدقه. . . إلخ) أى لأن كل كلام يصدر عنه فى الغد لم يتعين لأن يكون هو الذى يريد به تحقق ما أخبر بأنه سيأتى به غدًا مطابقًا له أو غير مطابق لأنه إذا صدر منه خبر صادق يجوز بعده أن يوفى بما التزمه من الكذب فى الجملة بعد ذلك فلا يجتمع الصدق والكذب فى هذا الخبر الصادق.

التفتازانى: (وإنما. . . إلخ) تحريف وحقه وإنما الكلام.

التفتازانى: (صدقها) تحريف والصواب صدقه.

قوله: (وبضميمة حكم العقل بأنه. . . إلخ) أى تضم هذه إلى ما علم من المقدمتين المنقولتين وهو الجمع المحلى يجوز أن يخرج منه فردًا وأفراد تراد.

قوله: (فيحكم بها على مذهب المعتزلة) قال الهروى: توضيحه أنه قد تقرر أن القبح عبارة عن كون الفعل منهيًا عنه شرعًا، والحسن بخلافه فثبت أنه لو لم يكن الشرع لا ثبت الحسن والقبح لكن لما حصلت تلك الأحكام من الشرع ثم توجه العقل إلى دقائق وأسرار فى الأفعال مناسبة لتلك الأحكام وحكم بها إجمالًا وقد يطلع على تفاصيلها حكم بتلك الأحكام على مذهب المعتزلة بمعنى أن العقل يحكم بها أى بالأحكام الثابتة من الشرع على مذهب المعتزلة على أن فى ذوات الأفعال أشياء تقتضى الأحكام وتناسبها والشرع يقع على طبقها. اهـ مع بعض تصليح لتحريف فى النسخة. والمراد بحكم العقل إجمالًا أن يدرك أن فى كل فعل حسنًا أو قبحًا فى نظر الشارع لا أن يحكم بأحدهما بخصوصه.

قوله: (فلهذا قال أما الحاكم فهو عندنا الشرع دون العقل) أى ولم يقتصر على أن يقول الحاكم عندنا الشرع.

قوله: (ونعنى أن الحسن. . . إلخ) أى فاتوله: وإن الحسن والقبح إنما يطلق. . .إلخ. ليس ابتداء كلام لتحرير محل النزاع كما قال السعد بل من تتمة بيان كون الحاكم الشرع دون العقل وأن معناه أنه ليس هناك حسن وقبح بمعنى استحقاق المدح واستحقاق الذم للفعل فى ذاته بقطع النظر عن أوامر الشرع ونواهيه،

ص: 48

وقوله: ويوصف بها الأفعال عطف على يطلق لثلاثة أمور وحقه أن يقول بهما أى بالحسن والقبح، وقوله: على ما ذكر من التفصيل أى التفصيل الذى ذكره من قوله: والمباح وفعل غير المكلف. . . إلخ، وقوله: والعقل يحكم بها أى يستقل بإدراكها لكنها ليست من محل النزاع لأنها ليست ذاتية بل إضافية وقد يقال كيف يستقل بإدراك الحسن والقبيح بمعنى ما أمرنا بالثناء على فاعله ونقيضه وبمعنى ما لا حرج فى فعله وما فيه حرج فلعل المراد بحكم العقل بهما أن يحكم بهما لا بمعنى الاستقلال بل يوافق الشرع.

قوله: (ولا تطلق على ذلك المعنى) تحريف وحقه ولا يطلق بياء الغيبة أى لا يطلق الحسن والقبح على ذلك المعنى الذى هو استحقاق المدح واستحقاق الذم لذات الفعل والمراد بعدم الإطلاق عليه عدم تحققه وثبوته لا أنه ثابت والكلام فى الإطلاق كما هو ظاهر العبارة.

قوله: (ولا يتصف بها الفعل) تحريف وحقه بهما أى بالحسن والقبح أو به أى بالمعنى الذى قيل: إنه لا يطلق عليه.

قوله: (وتوهم بعضهم. . . إلخ) لعل الحق معه بعد التأوبل الذى قاله السعد.

قوله: (ومستلزم القبيح قبيح) وقد فرض أن كل حسن وقبيح فهو ذاتى.

قوله: (على تفسيرهم المذكور) هو أن الحسن هو كون الفعل بحيث لا يستحق فاعله الذم عند العقل ومآله إلى عدم استحقاق فاعل الفعل الذم عند العقل.

قوله: (على التفسير الآخر) هو كون الفعل بحيث يستحق فاعله المدح فإنه مستلزم لعدم كون الفعل بحيث يستحق فاعله الذم عند العقل.

ص: 49

قال: (واستدل لو كان ذاتيًا لزم قيام المعنى بالمعنى لأن حسن الفعل زائد على مفهومه وإلا لزم من تعقل الفعل تعقله ويلزم وجوده لأن نقيضه لا حسن وهو سلب وإلا استلزم حصوله محلًا موجودًا ولم يكن ذاتيًا وقد وصف الفعل به فيلزم قيامه به واعترض بإجرائه فى الممكن وبأن الاستدلال بصورة النفى على الوجود دور لأنه قد يكون ثبوتًا أو منقسمًا فلا يفيد ذلك واستدل فعل العبد غير مختار فلا يكون حسنًا ولا قبيحًا لذاته إجماعًا لأنه إن كان لازمًا فواضح وإن كان جائزًا فإن افتقر إلى مرجح عاد التقسيم وإلا فهو اتفاقى وهو ضعيف فإنا نفرق بين الضرورية والاختيارية ضرورة ويلزم عليه فعل البارى وأن لا يوصف بحسن ولا قبح شرعًا والتحقيق أنه يترجح بالاختيار).

أقول: دليلان لأصحابنا استضعفهما استدل لو كان ذاتيًا لزم قيام المعنى بالمعنى أو العرض بالعرض واللازم باطل.

أما الأولى فلأن حسن الفعل مثلًا أمر زائد على مفهوم الفعل وإلا لزم من تعقل الفعل تعقله ولا يلزم إذ يعقل الفعل ولا يخطر بالبال حسنه، ثم يلزم أن يكون أمرًا وجوديًا لأن نقيضه لا حسن وهو سلب إذ لو لم يكن سلبًا لاستلزم محلًا موجودًا فلم يصدق على المعدوم أنه ليس بحسن وأنه باطل بالضرورة وأيضًا إذا لم يصدق عليه أنه ليس بحسن صدق عليه أنه حسن إذ لا مخرج عن النفى والإثبات فلم يكن الحسن وصفًا ذاتيًا إذ المعدوم لا يكون له صفة إلا مقدرة موهومة وكيف تكون صفة حقيقية ذاتية لما لا حقيقة ولا ذات له وإذا ثبت أن نقيضه سلب كان هو وجودًا وإلا ارتفع النقيضان فقد ثبت أنه زائد وجودى فهو معنى لأن ذلك هو معنى المعنى ثم نقول الفعل قد وصف حيث يقال الفعل حسن فيلزم قيام الحسن بالفعل لامتناع أن يوصف الشئ بمعنى يقوم بغيره والفعل أيضًا معنًى وهو ظاهر فيلزم قيام المعنى بالمعنى.

وأما الثانية فلأنه يلزم إثبات الحكم قال الفعل لا له لأن الحاصل قيامهما معًا بالجوهر إذ هما معًا حيث الجوهر تبعًا له وحقيقة القيام هو التبعية فى التحيز وتحقيقه فى الكلام، قوله: فيلزم قيامه به، أى قيام الحسن بالفعل أو قيام المعنى بالمعنى واعترض عليه بوجهين:

أحدهما: النقض بإجراء الدليل فى الممكن الثابت للفعل فيلزم أن لا يكون

ص: 50

الإمكان ذاتيًا فلا يكون الفعل فى نفسه ممكنًا.

ثانيهما: أن الاستدلال بصورة النفى وكونه سلبًا على وجود النفى دور إذ ليس كل منفى موجودًا بل قد يكون ثبوتًا كاللاامتناع فإن المنفى فيه ثبوت الامتناع لغيره فمعناه كون الشئ لا يمتنع لا ما ليس امتناعًا والثبوت للغير أعم من الوجود له فإن المعدوم قد يثبت للمعدوم ويحمل عليه نحو الممتنع معدوم.

وأيضًا قد يكون المنفى منقسمًا إلى وجود وعدم كاللامعلوم فإن المعلوم يشمل الموجود والمعدوم وإذا جاز كونه ثبوتيًا أو منقسمًا فعلى التقديرين لا يلزم من كون النفى سلبًا وجود المنفى كما فى المثالين وإذا ثبت ذلك فلا يلزم كون المنفى وجودًا إلا إذا ثبت أن السلب ليس من أحد القبيلين بل هو سلب لوجود وفيه توقف الشئ على نفسه واستدل بأن فعل العبد غير مختار أى ما اختير بل فعل بغير اختيار فلا يكون حسنًا ولا قبيحًا عقلًا إجماعًا أما عندكم فلأن الحسن والقبيح قسمان من فعل المتمكن مضه ومن العلم بحاله وأما عندنا فظاهر وإنما قلنا: إنه غير مختار لأنه إن كان لازم الصدور عنه بحيث لا يمكنه الترك فواضح أنه غير مختار بل اضطرارى وإن كان جائزًا وجوده وعدمه فإن افتقر إلى مرجح فمع المرجح يعود التقسيم فيه بأن يقال: إن كان لازمًا فاضطرارى وإلا احتاج إلى مرجح آخر ولزم التسلسل كان لم يفتقر إلى مرجح بل يصدر عنه تارة ولا يصدر أخرى مع تساوى الحالتين من غير تجدد أمر من الفاعل فهو اتفاقى الاعتراض عليه من وجوه:

الأول: أنا نفرق ضرورة بين الأفعال الضرورية والاختيارية كالسقوط والصعود وحركتى الاختيار والرعشة فيكون استدلالًا فى مقابلة الضرورة فيكون باطلًا.

الثانى: أنه يجرى فى فعل البارى تعالى فيلزم أن لا يكون مختارًا وأنه كفر.

الثالث: يلزم أن لا يوصف الفعل بحسن ولا قبيح شرعًا إذ لا تكليف بغير المختار عندكم وإن جوزتموه.

الرابع: وهو التحقيق والبواقى إلزامية أنا نختار أنه يحتاج إلى مرجح وهو الاختيار وسواء قلنا يجب به الفعل أو لا يجب يكون اختياريًا إذ لا معنى للاختيارى إلا ما يترجح بالاختيار.

وقد يجاب عن الأول بأن الضرورى وجود القدرة لا تأثيرها وعن الثانى بأن

ص: 51

تعلق إرادته قديم فلا يحتاج إلى مرجح متجدد وعن الثالث أن وجود الاختيار كافٍ فى الشرعى وعندكم لولا الاستقلال بالفعل لقبح التكليف عقلًا وعن الرابع أنه إذا كان ما يجب الفعل عنده من اللَّه بطل استقلال العبد به ولهذا تقرير وافٍ فى الكلام.

قوله: (ولم يكن ذاتيًا) ظاهر عبارة المتن أنه عطف على استلزم بمعنى أنه لو لم يكن اللاحسن سلبًا لم يكن ذاتيًا وهذا مما لا معنى له، فمن الشارحين من لم يتعرض له أصلًا ومنهم من جعله دليلًا آخر على كون الحسن موجودًا بمعنى أنه لو لم يكن الحسن موجودًا لم يكن ذاتيًا للفعل لاستحالة إسناد المعدوم إلى الذات وفساده واضح، أما لفظًا فلأنه ليس ههنا شئ يفيد عطفه عليه هذا المعنى وأما معنًى فلأن الصفات السلبية قد تكون مما تقتضيه الذات والشارح العلامة جعله عطفًا على استلزم وجعل ضمير لم يكن للحسن أى لو لم يكن اللاحسن سلبًا كان الحسن سلبًا لكونه نقيضه وحينئذٍ لا يكون وصفًا ثبوتيًا للذات وهذا خلاف مذهبهم والشارح المحقق مالَ إلى هذا التقرير مع زيادة تصرف وتغيير فجعله دليلًا على صدق اللاحسن على المعدوم، ولكن لم يبين أن عطفه على أى شئ يفيد هذا المعنى ومقتضى سوق كلامه أنه عطف على مقدر فى غاية البعد أى لو لم يصدق على المعدوم أنه ليس بحسن لزم خلف الضرورة ولم يكان الحسن ذاتيًا ولا يخفى أن صدق ليس بحسن على المعدوم فى الجملة أظهر من أن يحتاج إلى مثل هذا البيان الخفى؛ ولذا صرح بأنه ضرورى على معنى أن الذاتى ههنا أن لا يكون بإضافات واعتبارات بل راجعة إلى الذات المحققة أو المقدرة لا أن يكون صفة حقيقية لذات موجودة خصوصًا عند المعتزلة القائلين بأن للمعدومات ذوات محققة وإن لم تكن موجودة، والأظهر أن مقصود الشارح أنه عطف على استلزم أى لو لم يكن اللاحسن سلبًا لم يكن الحسن ذاتيًا وما ذكر من قوله وأيضًا إذا لم يصدق. . . إلخ. بيان اللزوم.

قوله: (فإن ذلك) أى كون الشئ زائدًا وجوديًا (هو معنى العرض) ولا يخفى أنه لا بد من زيادة قيد وهو أن لا يكون قائمًا بنفسه وكأن الزائد مشعر بذلك.

قوله: (وأما الثانية) أى بطلان اللازم أعنى قيام المعنى بالمعنى (فلأنه يلزم إثبات

ص: 52

الحكم) أعنى كون المعنى قائمًا به (محل الفعل) أعنى الفاعل (لا للفعل نفسه) ولو قال لمحل المعنى لكان أولى لأنه فى بيان بطلان قيام المعنى بالمعنى مطلقًا ولذا قال (إذ الحاصل قيامهما) أى المعنيين (معًا بالجوهر) ولم يقل بالفاعل (إذ هما) أى المعنيان (معًا حيث الجوهر) أى فى حيز الجوهر بطريق التبعية له وهذا ما قال الآمدى أن قيام العرض بالجوهر لا معنى له غير وجوده حيث الجوهر تبعًا له فيه وقيام أحد العرضين بالآخر لا معنى له سوى أنه حيث ذلك العرض الآخر وحيث ذلك العرض هو حيث الجوهر، فهما معًا حيث الجوهر وقائمان به ولا معنى لقيام أحدهما بالآخر وإن كان قيام أحدهما بالجوهر مشروطًا بقيام العرض الآخر به.

قوله: (وتحقيقه فى الكلام) على ما تقرر من أن معنى قيام العرض بالجوهر أنه فى تحيزه تابع للجوهر لا أن له اختصاصًا به بحيث يصير نعتًا له والجوهر منعوتًا به على ما هو رأى الفلاسفة ليكون مثل السرعة والبطء قائمًا بالحركة بل كلاهما قائم بالجسم، وتقرر أيضًا أن كل جوهر فهو متحيز ولا وجود للجواهر المجردة ليكون لها أعراض قائمة بها مع عدم التحيز لكن لا يخفى أن ما سبق من أن الفعل قد وصف بالحسن فيلزم قيامه به إنما يصح على رأى الفلاسفة دون المتكلمين فيتوجه قطعًا منع الملازمة أو منع بطلان اللازم.

قوله: (واعترض) كلام العلامة فى هذا القام من التطويل بحيث لا يحصل منه على شئ وكلام بعض الشارحين هو أن الاعتراض، الأول نقض إجمالى للدليلين المذكورين على كون الحسن وجوديًا، فإنهما يجريان فى الإمكان بأن يقال نقيضه لا إمكان وهو سلب لما ذكر وأيضًا لو كان الإمكان عدميًا لم يكن وصفًا ذاتيًا للممكن مع أن كون الإمكان ثبوتيًا باطل بالاتفاق وهذا مع فساده وابتنائه على الفاسد لا يوافق كلام الأصل؛ فإن الآمدى قال بعد تقرير الدليل فإن قيل يلزم منه امتناع اتصاف الفعل بكونه ممكنًا ومعلومًا ومقدورًا ومذكورًا قلنا هذه الصفات أمور تقديرية مفهوم نقائضها سلب التقدير والأمور المقدرة ليست من الصفات العرضية فلا يلزم قيام العرض بالعرض فعلم أن الاعتراض الأول نقض إجمالى للدليل المذكور على امتناع كون الحسن ذاتيًا للفعل بأنه يلزم منه أن لا يكون الإمكان ذاتيًا للفعل وهو محال ضرورة أن الإمكان ذاتى للممكن وإلا لزم الانقلاب، والاعتراض الثانى نقض تفصيلى هو منع كون الحسن وجوديًا مع تحقيق إبطال

ص: 53

دليله على وجه يندفع به جواب الآمدى عن الاعتراض الأول وتقريره على ما ذكره الجمهور أن الاستدلال على كون الحسن وجوديًا بكون اللاحسن سلبًا لصدقه على المعدوم ليس بمستقيم (لأنه) أى صورة النفى وتذكير الضمير باعتبار الخبر أو لأنها فى حكم المنفي (قد يكون ثبوتًا) وفى بعض النسخ ثبوتيًا أى موجودًا كاللامعدوم (وقد يكون منقسمًا) بعض أفراده موجود وبعض أفراده معدوم كاللاواجب واللاممتنع فمجرد صدقه على المعدوم لا يستلزم كونه عدميًا على الإطلاق فكون صورة النفى سلبًا موقوف على كون ما دخله النفى موجودًا، فلو استفيد كونه موجودًا من كون صورة النفى سلبًا لزم الدور وهذا تقرير ظاهر إلا أن المصنف لما قال لأنه قد يكون ثبوتيًا بتذكير الضمير والعدول عن الوجود إلى الثبوت جعل الشارح المحقق الضمير للمنفى أى ما دخله النفى لا لصورة النفى وحمل الثبوت على معناه المصدري وجعله أعم من الوجود على ما هو رأى المعتزلة وتقريره أنا سلمنا أن صورة النفى سلب لكنه قد يكون سلبًا لثبوت أمر لأمر أعم من أن يكون موجودًا أو معدومًا فلا يستلزم كون المنفى موجودًا كاللاامتناع إذا قصد به سلب الامتناع ونفى ثبوته عن الشئ لا مفهوم ما ليس بامتناع فالمنفى حينئذٍ هو ثبوت الامتناع لغير ما سلب عنه الامتناع وقد يكون سلبًا لأمر يصدق على الموجود والمعدوم كاللامعلوم وهذا أيضًا لا يستلزم كون المنفى موجودًا لأن العام لا يستلزم الخاص وهذا معنى قوله: فعلى التقديرين أى تقدير كون المنفى ثبوتيًا وتقدير كونه منقسمًا لا يلزم من كون النفى سلبًا وجود المنفى كما فى المثالين يعنى اللامتناع واللامعلوم وقد يكون سلبًا لموجود كاللاموجود وهذا يستلزم كون المنفى موجودًا فاستلزام صورة النفى لوجود المنفى يتوقف على كونها نفى وجود لا نفى ثبوت أو منقسم فلو استفيد وجود المنفى منه لزم الدور ولعمرى لا أدرى للشارح المحقق باعثًا على أمثال هذه التقريرات سوى قوة تصرفه فى الكلام وفرط ترفعه عن متابعة الأقوام.

قوله: (أما عندكم) تقريره أن كل حسن أو قبيح فهو فعل المتمكن منه أى القادر عليه وكل ما هو فعل للقادر عليه فهو مختار؛ لأن تأثير القدرة لا يتصور إلا على وفق الاختيار كل حسن أو قبيح فهو مختار وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا كل ما ليس بمختار لا يكون حسنًا ولا قبيحًا.

ص: 54

قوله: (فهو اتفاقى) والاتفاقى ليس بمختار لأنه صدر عن الفاعل بغير قصد ولا تعلق قدرة وإرادة.

قوله: (فيلزم أن لا يكون مختارًا) الضمير لفعل البارى والمختار اسم مفعول أو للبارى فاسم فاعل.

قوله: (الضرورى مجرد القدرة) أى المعلوم بالضرورة هو أن للعبد قدرة فى مثل الصعود دون السقوط وأما أن قدرته مؤثرة فيه ليكون اختياريًا فلا.

قوله: (تعلق إرادته قديم) يعنى أن مرجح فاعليه البارى هو تعلق إرادته فى الأزل بحدوث ذلك الفعل فى وقته وهو قديم فلا يحتاج إلى مرجح؛ لأن علة الاحتياج عندنا الحدوث دون الإمكان وحاصله تخصيص المرجح فى قولنا ترجيح فعله يحتاج إلى مرجح بالمرجح الحادث فإن المرجح القديم المتعلق أزلًا بالفعل الحادث مرجح لا يحتاج إلى مرجح آخر هذا إذا كان عود التقسيم فى المرجح نفسه وأما إذا كان فى الفعل مع المرجح على ما هو الظاهر من عبارة الشارح فتوجيهه أنا نختار أن الفعل مع المرجح لازم ولا يلزم كان كون الفعل اضطراريًا عند كونه بالمرجح الحادث الذى لا اختيار للفاعل فيه ولا استقلال به كونه اضطراريًا عند كونه بالمرجح القديم الذى لا يفتقر إلى علة أصلًا لاستقلال الفاعل به حينئذٍ.

قوله: (وجود الاختيار كافٍ) أى لا يحتاج إلى استقلال العبد بالإيجاد والتأثير وبهذا التقرير يشير إلى ما بين فى مسألة خلق الأفعال من أن للعبد قدرة واختيارًا لكن لا تأثير لقدرته وليس اختياره بمشيئته وإنما الخالق هو اللَّه تعالى وأثر العبد هو الكسب لا غير ومثل هذا لا ينافى التكليف.

قوله: (أما الأولى) أى الملازمة (فلأن حسن الفعل) وكذا قبحه (أمر زائد على مفهوم الفعل وإلا) لكان إما نفسه أو جزأه و (لزم من تعقل الفعل) بالكنه (تعقله ولا يلزم إذ يعقل الفعل) كذلك (ولا يخطر بالبال حسنه) قيل لا حاجة إلى إثبات كونهما وجوديين لأنه مسلم عندهم فبعد كونهما زائدين على الفعل مع اتصافه بهما يلزم قيام العرض بالعرض.

قوله: (وأيضًا إذا لم يصدق عليه) أى على المعدوم (أنه ليس بحسن صدق عليه أنه حسن) تفسير لقوله: ولم يكن ذاتيًا فقد جعله دليلًا ثانيًا على أن اللاحسن

ص: 55

سلب معطوفًا على استلزم كما هو الظاهر ومنهم من جعله دليلًا ثانيًا على أن الحسن وجودى فقد عطفه على قوله: لأن نقيضه لا حسن وقرره هكذا لو لم يكن الحسن وجوديًا لم يكن ذاتيًا لأن السلب ليس من الصفات الذاتية ثم أجاب عنه بالمنع لأن كل شى يقتضى اتصافه بنقيض منافيه.

قوله: (فلم يكن الحسن وصفًا ذاتيًا) لوقوعه صفة للمعدوم والمعدوم لا يكون له صفة من الصفات إلا صفة مقدرة موهومة وكيف تكون صفة حقيقية ذاتية للمعدوم الذى لا حقيقة له ولا ذات وقد يقال إن أريد بالصفة الحقيقية الذاتية الصفة الوجودية المستندة إلى الذات كما يظهر من المقابلة بالمقدرة الموهومة فلا نسلم أن الحسن كذلك كيف والكلام فى إثبات وجوديته وليس لك أن تأخذه مسلمًا لأدائه إلى استدراك الاستدلال كما أشير إليه كان أريد بهما ما لا إضافه فيه مع استناده إلى الذات فلا نسلم أن المعدوم لا يتصف به فإن الذات وكذا الحقيقة يطلقان على المعدوم أيبها وإن غلب استعمالهما فى الموجودات.

قوله: (وقد ثبت أنه) أى الحسن (زائد وجودى) فهو عرض غير الفعل لأن كونه وجوديًا مع عدم قيامه بنفسه هو معنى العرض.

قوله: (وأما الثانية) أى بطلان التالى (فلأنه) على ذلك التقدير (يلزم إثبات الحكم) أى القيام (لمحل الفعل) الذى هو الفاعل (لا للفعل) فعلى تقدير قيام العرض الذى هو الحسن بالعرض الذى هو الفعل يلزم ان لا يكون القيام به بل بفاعله لأن الحاصل فى الواقع قيام الفعل والحسن معًا بالجوهر الذى هو الفاعل إذ الفعل والحسن معًا حاصلان حيث الجوهر حاصل تبعًا له فى التحيز وحقيقة القيام بمحل هو تبعيته إياه فى التحيز وتحقيق ما يورد عليه فى الكلام.

قوله: (بإجراء الدليل فى الممكن الثابت للفعل) أى لذاته فيقال: لو كان الإمكان ذاتيًا لزم قيام المعنى بالمعنى لأن إمكان الفعل زائد على مفهومه وإلا لزم من تعقله تعقله ثم يلزم أن يكون أمرًا وجوديًا لأنه نقيض الإمكان وهو سلب وإلا استلزم فعلًا موجودًا فلا يصدق أن المعدوم الممتنع ليس بممكن وإنه باطل ضرورة وأيضا إذا لم يصدق عليه أنه ليس بممكن صدق عليه أنه ممكن إلى آخر الدليل وما قيل من أنه لا يرد النقض بالإمكان لأنه اعتبارى بخلاف الحسن والقبح فقد تبين بطلانه.

ص: 56

قوله: (بل قد يكون ثبوتيًا كاللاامتناع) يعنى أن النفى إنما يرد على الثبوت وهو إما ثبوت الشئ فى نفسه أو ثبوته لغيره فعلى تقدير وروده على الثانى لا يلزم أن يكون المنفى أى الذى نفى ثبوته للغير أمرًا وجوديًا بل اللازم ثبوته للغير وهو أعم من وجوده له فإن المعدوم قد يثبت للمعدوم ويحمل عليه نحو الممتنع معدوم فلا يلزم من ثبوته للغير وجوده فى نفسه ومثل باللاامتناع إذ المقصود منه سلب ثبوت الامتناع للغير فإنه ثابت للممتنع فيقصد سلب هذا الثبوت بالقياس إلى غيره وليس له ثبوت فى نفسه ليقصد سلبه فالمراد من قوله: لا ما ليس امتناعًا لا سلب الامتناع فى نفسه وإن كان ظاهره سلب حمل الامتناع على شئ ولو ذهبت تجعل الثبوت للغير مخصوصًا بما ليس بطريق الحمل وجعلت مقابله الحمل لا ثبوت الشئ فى نفسه منعك قوله: فإن المعدوم قد يثبت للمعدوم ويحمل عليه فتأمل.

قوله: (وأيضًا قد يكون المنفى) أى مطلقًا منقسمًا إلى موجود ومعدوم.

قوله: (وإذا جاز كونه) أى المنفى (ثبوتيًا أو منقسمًا) وليس يلزم فى شئ منهما أن يكون موجودًا (فعلى التقديرين) أى تقديرى كون المنفى ثبوتيًا أو منقسمًا.

قوله: (كما فى المثالين) يعنى اللَّه امتناع واللامعلوم.

قوله: (وفيه توقف الشئ على نفسه) مثلًا لا يعرف كون الحسن وجوديًا بأن اللاحسن سلب إلا إذا ثبت أنه سلب ليس من أحد القبيلين بل سلب لموجود هو الحسن فيتوقف كونه وجوديًا على نشمه وإن اشتهيت أن تعرف حقيقة الحال فاستمع لما يتلى عليك وهو: أن الوجودى يطلق على معنيين الموجود وما ليس فى مفهومه سلب والعدمى يقابله فيهما والنقيضان لا بد أن يكون أحدهما وجوديًا والآخر عدميًا بالمعنى الثانى لكن الوجودى بهذا المعنى لا يجب أن يكون موجودًا لجواز كونه مفهومًا اعتباريًا ليس فيه سلب ولا يجب ذلك فى المعنى الأول لجواز ارتفاعهما بحسب الوجود عن الخارج إنما الممتنع ارتفاعهما فى الصدق وهذا التحقيق ينفعك فى مواضع كثيرة فليكن على ذكر منك.

قوله: (أى ما اختير بل فعل بغير اختيار) تفسير للمختار لتردده بين الفاعل والمفعول.

قوله: (فلا يكون حسنًا ولا قبيحًا عقلًا) الموجود فى نسخ المتن مكان عقلًا قوله: لذاته والمؤدى واحد.

ص: 57

قوله: (من فعل المتمكن منه) أى: من الفعل (ومن العلم بحاله) فالاضطرارى لا يتصف بشئ منهما.

قوله: (فهو اتفاقى) أى لا اختيارى صادر بقصد من جهته.

قوله: (والبواقى إلزامية) إذ لم يعرف منهما وجه الفساد بعينه ولم يطلع على حقيقة الحال بل علم أن هناك خللًا على الإجمال وهذا هو المراد من كونها إلزامية ههنا وأما الحمل على استعمال مقدمة مسلمة من الخصم فيها وهى تخلف الحكم فى الثانى والثالث لكونهما نقضًا إجماليًا لدليل المقدمة والمدعى والفرق الضرورى فى الأول فبعيد.

قوله: (وسواء قلنا يجب به) أى بالاختيار (الفعل أو لا يجب) بل يصير أولى على اختلاف الرأيين (يكون) الفعل (اختياريًا إذ لا معنى للاختيارى إلا ما يترجح بالاختيار) ترجحًا يمتنع معه الطرف الآخر أولًا.

قوله: (وقد يجاب عن الأول بأن) الفرق (الضرورى وجود القدرة) فى الأفعال التى سميتموها اختيارية وعدمها فى الضرورية (لا تأثيرها) هنالك وذلك لا ينافى كون تلك الافعال اضطرارية إنما ينافيه تأثيرها فليس استدلالنا فى مقابلة الضرورة (وعن النافى بأن تعلق إرادة اللَّه تعالى قديم فلا يحتاج إلى مرجح متجدد) وفى بعض النسخ أن إرادته قديم وعلى التقديرين فيه بحث أما على الأول فلأنه إن أراد بالتعلق التعلق الذى يترتب عليه الوجود لم يكن قديمًا وإلا لزم قدم المراد أيضًا كان أراد التعلق المعنوى فمعه يحتاج إلى مرجح متجدد وهو التعلق الحادث الذى به الحدوث، ولو قلنا: إن إرادته تعلقت فى الازل بوجود زيد فى زمان مخصوص فعنده يوجد ولا حاجة إلى تعلق آخر حادث لم يتم أيضًا لاحتياج وجوده فى ذلك الزمان إلى تعلق حادث للقدرة يترتب عليه حدوثه كما صرح به فيما تقدم وأما على الثانى فلأن الإرادة القديمة لا تكفى فى وجود الحادث بل لا بد من تعلق حادث لها أو للقدرة إذ لو كان كل ما يفتقر إليه وجوده قديمًا لزم قدمه. وإن جنحت إلى أن الفاعل المختار مع إرادته وقدرته وتعلقهما وارتفاع الموانع وحصول الشرائط قد يصدر عنه الفعل تارة ولا يصدر أخرى مع تساوى الحالين ويكون ذلك الفعل اختياريًا فهذا إن صح يكون منعًا لكون الفعل الاتفاقى غير اختيارى لا للنقض بالبارئ سبحانه كيف، ونحن نقول مع تعلق إرادته القديمة

ص: 58

إن كان الفعل لازم الصدور عنه بحيث لا يمكنه الترك كان اضطراريًا وإن كان جائزًا وجوده وعدمه فإما أن يفتقر إلى مرجح أو لا فعلى الثانى يكون اتفاقيًا وعلى الأول يعود التقسيم بأنه مع ذلك المرجح هل هو لازم أو لا.

قوله: (وعن الثالث أن وجود الاختيار كاف) عندنا (فى) الحسن والقبح (الشرعى) وإن لم يكن له مدخل فى الفعل أصلًا وكون الفعل اضطراريًا لما ذكرناه لا ينافى وجود الاختيار والقدرة بل تأثيرهما، وعندكم لولا استقلال العبد بإيجاد الفعل بقدرته واختياره لقبح التكليف عقلًا وقد ثبت ما ينافى ذلك فلا يثبت الحسن والقبح عقلًا (وعن الرابع أنه إذا كان ما يجب الفعل عنده) وهو الاختيار (من اللَّه) ضرورة أن اختيار العبد ليس باختياره وإلا لزم التسلسل (بطل استقلال العبد به) فلا حسن ولا قبح عقليًا، وفى قوله يجب الفعل عنده تنبيه على أن الأولوية غير كافية وللجواب عن الرابع تقرير وافٍ فى علم الكلام.

قوله: (وقد يقال: إن أريد بالصفة الحقيقية) هذا القول ضعيف لأن المقدر الموهوم المذكور فى الشرح ليس معناه ما ليس بموجود حتى يظهر من المقابلة أن المراد: الصفة الحقيقية صفة وجودية بيان ذلك أن الشارح أورد قوله إذ المعدوم لا يكون له صفة إلا مقدرة موهومة لبيان أن الحسن لم يكن وصفًا ذاتيًا على تقدير أن يكون المعدوم حسنًا ومعنى قوله: وصفًا ذاتيًا وصف مستند إلى الذات كما يظهر ذلك من كلام هذا القائل وليس فى هذا القول اعتبار الوجود فلا معنى لقوله إذ المعدوم لا يكون له صفة إلا مقدرة موهومة أى معدومة إذ لا منافاة بين كون الصفة معدومة وبين كونها وصفًا ذاتيًا كما فى الصفات الاعتبارية الثابتة للموجودات الخارجية، وإن أريد المنافاة باعتبار الاستناد إلى الذات والمعدوم لا ذات له وجب أن يقال: إذ المعدوم لا يكون له ذات حتى يلزم أن لا يكون الحسن وصفًا ذاتيًا على تقدير أن يكون المعدوم حسنًا فالظاهر أنه بعدما ذكر فى المدعى سبب كونه وصفًا وكونه ذاتًا أراد بقوله: إذ المعدوم لا بكون له صفة بيان انتفاء كون الحسن وصفًا على تقدير المذكور وبقوله: وكيف بيان انتفاء كونه ذاتًا؟ فكأنه قال: فلم يكن الحسن وصفًا إذ المعدوم لا يكون له صفة إلا بأمر معدوم وموهوم كونه صفة ولم يكن صفة ذاتية إذ الصفة المستندة إلى الحقيقة والذات لا تكون لما

ص: 59

لا ذات ولا حقيقة له ويجوز أن يكون كون الحسن من الصفات المستندة إلى الذات والحقيقة بالمعنى الغالب مسلمًا؛ لأنهم قائلون بأن الحسن صفة للفعل والفعل معنى أى عرض كما صرح به فى قوله والفعل أيضًا معنى وهو ظاهر وإذا كان الحسن صفة للعرض فهو صفة مستندة إلى الحقيقة والذات لأن العرض من الموجودات.

قوله: (فى الممكن الثابت) أى فى الإمكان بل يجرى هذا الدليل فى القول بأن الأفعال تتصف بالحسن والقبح سواء كان ذاتيًا أو لا وقوله أى لذاته ليحصل الدليل فى الإمكان الذاتى فيصير

(1)

قوله: لو كان الإمكان ذاتيًا لزم قيام المعنى بالمعنى وإلا فلا مانع من الاكتفاء بأصل الاتصاف فى إيراد البعض.

قوله: (يعنى: إن النفى إنما يرد على الثبوت) يعنى أن قول الشارح إذ ليس كل منفى وجودًا بل قد يكون ثبوتيًا ليس معناه أن النفى قد يرد على الوجود وقد يرد على الثبوت بل معناه أن النفى إنما يرد على الثبوت؛ لأن أخذ النقيض إنما هو بالنظر إلى نفس المفهوم من غير نظر إلى الخارج واعتبار الثبوت كلى يتحقق فى الجميع والثبوت له أفراد من جملتها الوجود ولا شك أن اعتبار الوجود فى النقيض متأخر عن العلم بالوجود فإنا إذا أردنا أخذ نقيض لمفهوم لا يعلم وجوده لم يصح منا أخذ نقيضه باعتبار الوجود إذ لا يمكن أن يكون مفهومًا اعتباريًا فلا يتحقق ههنا إلا السلب؛ مثلًا مفهوم العمى ثابت لبعض الأشخاص ونفى ثبوته متحقق بالنسبة إلى بعض آخر وأما نفى وجوده فهو متحقق فى جميع الأشخاص وبعد العلم بوجوده يصح أخذ النقيض باعتبار الوجود مثل: مفهوم البياض والسواد وغيرهما من الموجودات فظهر الدور الذى ذكره الشارح وقوله: إذ ليس كل منفى وجودًا علة لبطلان الاستدلال لأن السائل زعم أن النفى لا يدخل إلا على الوجود وتوضيح كلام السائل على تقدير هذا الجواب أن نقيض الحسن لا حسن وهو نفى وجود الحسن وإن لم يكن نفى الوجود لم يكن نفيًا إذ لا نفى إلا متعلقًا بالوجود فاستلزم محلًا موجودًا لأن النفى قد انتفى فنفى الوجود كما كان قبل النفى فلم يصدق على المعدوم أنه ليس بحسن.

قوله: (فعلى تقدير وروده على الثانى) أى: هذا القدر كافٍ لنا فى هذا المقام

(1)

قوله: فيصير. . . إلخ. كذا فى الأصل وفى الكلام تحريف وسقط فليحرر. اهـ. كتبه مصحح طبعة بولاق.

ص: 60

ولا حاجة إلى اعتبار القسم الأوّل وبيان أن الثبوت فى نفسه وجود خارجى أو أعم من الوهمى والخارجى.

قوله: (وليس له ثبوت فى نفسه ليقصد سلبه) فإن قلت: قصد سلب ثبوته فى نفسه لا يقتضى تحقق هذا الثبوت إذ يصح أن يقال: شريك البارئ ليس بموجود قلت: الغرض أنه إذا أردنا أخذ نقيض الامتناع يجب اعتباره على وجه لا يثبت النقيض فى الجميع بل الواجب تحقق الامتناع فى غيره ولو اعتبر سلب ثبوته فى نفسه لتحقق اللاامتناع فى الممتنع وفى غيره على وجه واحد.

قوله: (وإن كان ظاهره سلب حمل الامتناع على شئ) فإن قولنا: هذا الشئ ليس امتناعًا معناه يصدق عليه الامتناع ولا يحمل عليه بخلاف قولنا: هذا الشئ لا يمتنع فإن معناه لا بثبت له الامتناع ولما ذكر الشارح أن اللَّه امتناع فيه سلب ثبوت الامتناع فى نفسه وأورد بعد ذلك قوله فمعناه. . . إلخ. ناسب أن يقصد بالأول سلب ثبوت الامتناع للغير وبالثانى سلب ثبوته فى نفسه ولو اعتبر أن الامتناع مذكور فى الثانى بطريق الحمل فى القضية السالبة وفى الأوّل بطريق المبدأ للمحمول لا بطريق الحمل وجعل الثبوت للغير مخصوصًا بالثانى لينتظر الكلام وقيل أراد الشارح بقوله: فمعناه كون الشئ لا يمتنع أن الامتناع معتبر لا بطريق الحمل، وبقوله: لا ما ليس امتناعًا أن الامتناع معتبر بطريق الحمل لكان قوله: فإن المعدوم قد يثبت للمعدوم ويحمل عليه مانعًا من ذلك فإن هذا القول منه اعتراف بأن الثبوت للغير قد وقع فيما يكون بطريق الحمل قيل: المراد بالمعدوم الأوّل فى قوله: فإن المعدوم قد يثبت للمعدوم وهو العلم المأخوذ فى المعدوم والحمل هو حمل الاشتقاق فلا يكون هذا القول مانعًا إذ ليس هنا الثبوت للغير بطريق الحمل بالموأطاة.

قوله: (ونحن نقول مع تعلق إرادته) يعنى أن السلسلة لا تنقطع باختيار قدم تعلق إرادته بل يجرى الكلام فيه يعنى ما ذكره

(1)

معنى كون الفعل مع المرجح لازمًا أن مجموع الفعل والمرجح لازم ومرجع اللزوم أى لزوم المرجح لأن الفعل قد فرض أنه غير لازم ويلزم من لزوم المرجح لزومه فعلى تقدير الشق الأوّل يكون

(1)

قوله: يعنى ما ذكره. . . إلخ. كذا فى الأصل السقيم وحرر التركيب فإنه غير مستقيم ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلى العظيم. كتبه مصحح طبعة بولاق.

ص: 61

اختياريًا إذ لا معنى للاختيارى إلا ما يترجح بالاختيار بدل على أن المراد من قوله: فمع المرجح يعود تقسيم أن الفعل على تقدير المرجح وكونه مجتمعًا مع إن كان الفعل لازمًا فاضطرارى فاللزوم وعدم اللزوم متعلق بالفعل فقط لا بالمجموع من الفعل والمرجح ولذا يصح الجواب الرابع، وتوضيح هذا الجواب أنا نختار أن الفعل يحتاج إلى مرجح وهو الاختيار وفى عود التقسيم مع المرجح نختار أن الفعل يجب بحسب المرجح ولازم معه وقول المعلل إن كان لازمًا فاضطرارى إذ لا معنى للاختيارى إلا ما يترجح بالاختيار.

المصنف: (لزم قيام المعنى بالمعنى) أى واللازم باطل لأنه يؤدى إلى كون الشئ حاصلًا غير حاصل لأن القيام معناه التبعية فى التحيز فيكون قيام العرض بالجوهر حلوله حيث الجوهر وتبعيته له فى التحيز وقيام العرض بالعرض لا معنى له حينئذٍ إلا أن العرض حيث العرض وحيث العرض هو حيث الجوهر فيكون قائمًا بالجوهر كالعرض المقوم به فهما معًا قائمان بالجوهر فلا قيام للعرض بالعرض والمصنف ترك بيان بطلان اللازم لشهرة بطلان قيام العرض بالعرض واقتصر على بيان الملازمة لكونها خفية فقال لأن حسن الفعل مثلا زائد عليه موجود فيكون معنًى وقد وصف الفعل به والفعل معنًى فيكون المعنى قائمًا بالمعنى وبين وجه زيادته ووجوده.

الشارح: (وإذا ثبت أن نقيضه سلب كان هو وجودًا وإلا ارتفع النقيضان) أى فقول المصنف لأن نقيضه سلب معناه ذلك، ويرد عليه أنه إن أراد بارتفاعهما ارتفاعهما بحسب الوجود الخارجى فلا نسلم بطلان اللازم، لأنه لا استحالة فيه اللاامتناع والامتناع، كان أراد ارتفاعهما بحسب الصدق فالملازمة ممنوعة.

الشارح: (وتحقيقه فى الكلام) حاصله أن أكثر العقلاء على عدم جواز قيام العرض بالعرض خلافًا للفلاسفة، والدليل على ذلك من وجهين الأول: أن قيام الصفة بالموصوف معناه تحيز الصفة تبعًا لتحيز الموصوف وهذا لا يتصور إلا فى المتحيز بالذات لأن المتحيز بتبعية غيره لا يكون متبوعًا لثالث إذ كونه متبوعًا لذلك الثالث ليس أولى من كونه تابعًا له والعرض ليس بمتحيز بالذات بل هو تابع فى التحيز للجوهر فلا يقوم به غيره، الثانى أن العرض القوم به إن قام بعرض آخر

ص: 62

عاد الكلام فيه وتسلسل وإلا فجميع تلك الأعراض المتسلسلة لا فى محل وقد عرف بطلانه لامتناع قيام العرض واحدًا أو أكثر بنفسه وإن انتهت إلى الجوهر فالكل قائم به لأن الكل تابع فى تحيزه لذلك الجوهر وحينئذٍ فلا يكون عرض قائمًا بعرض والفرض خلافه، وهذان الوجهان ضعيفان أما الأول فنمنع أن القيام هو التبعية فى التحيز بل هو الاختصاص الناعت وهو أن يختص شئ بشئ اختصاصًا يصير به الأول نعتًا لآخر والثانى منعوتًا به ألا ترى أن التحيز صفة للجوهر قائم به وليس تابعًا لتحيزه وإلا كان الشئ الذى هو التحيز مشروطًا بنفسه إن قلنا بوحدة التحيز القائم بذلك الجوهر إذ لا بد أن يقوم التحيز أولًا بالجوهر حتى يتبعه غيره فى التحيز فإذا كان ذلك الغير نفس التحيز فقد اشترط قيامه بالجوهر بقيامه بالجوهر وهو اشتراط الشئ بنفسه أو تسلسل إن قلنا بتعدد التحيز القائم بالجوهر وأيضًا صفات البارى قائمة به من غير شائبة تحيز، وأما الثانى فلأنه لا ينفى أن يقوم عرض بعرض وذلك بأن يقوم عرض بعرض مرتبًا إلى أن ينتهى إلى الجوهر فيكون بعضها تابعًا لذلك الجوهر ابتداء والبعض الآخر تابعًا للبعض الأول ولا يلزم أن الكل قائم بالجوهر وتابع له فى تحيزه ابتداء بل هناك ما يكون تابعًا بواسطة والقول بأن التابع لا يكون متبوعًا لآخر إذ ليس هذا أولى من عكسه ممنوع لجواز أن يكون أحدهما لذاته مقتضيًا لكونه متبوعًا ومحلًا والآخر لكونه تابعًا وحالًا ومحل النزاع هو قيام العرض بالعرض مع الانتهاء إلى الجوهر لا مع عدم الانتهاء فإنه مما لا يقول به أحد واحتج الفلاسفة بأن السرعة والبطء قائمان بالحركة فيقال: حركة سريعة وحركة بطيئة دون الجسم فلا يوصف بأنه سريع أو بطئ ما لم يلاحظ حركته ورد بأنهما ليسا عرضين ثابتين للحركة لا على مذهبنا ولا على مذهبهم أما على مذهبنا فإنهما من أوصاف الجسم المتحرك دون الحركة فمعنى البطء أن الجسم يسكن سكنات كثيرة فى زمان قطعه لمسافة ومعنى السرعة أن يسكن سكنات قليلة بالقياس إلى سكنات البطء وأما على مذهبهم فلجواز أن يكون طبقات الحركات ومراتبها المختلفة بالسرعة والبطء أنواعًا مختلفة بالحقيقة وليس ثم موجود إلا الحركة المخصوصة التى هى نوع من تلك الأنواع المختلفة الحقائق وأما السرعة والبطء فمن الأمور النسبية التى لا وجود لها فى الخارج ولذلك اختلف حال الحركة فيهما فإنها تكون سريعة بالنسبة إلى حركة بطيئة بالنسبة إلى أخرى. اهـ من المواقف

ص: 63

وشرحه.

الشارح: (بل قد يكون ثبوتًا) أى وقد يكون وجودًا كاللاموجود.

الشارح: (وأما عندنا فظاهر) وهو أنه لا دخل للعقل فى الحسن والقبح.

التفتازانى: (وهذا مما لا معنى له) أى لأنه لا يلزم من كون اللاحسن ليس سلبًا أن لا يكون ذاتيًا بل الأمر بالعكس.

التفتازانى: (ليس ههنا شئ يفيد عطفه عليه هذا المعنى) قد عطفه هذا البعض على قوله: لأن نقيضه وقدر فى المعطوف فصار هكذا لو لم يكن أى الحسن موجودًا لم يكن ذاتيًا.

التفتازانى: (فلأن الصفات السلبية قد تكون مما تقتضيه الذات) أى فلا نسلم أن العدمى لا يكون وصفًا ذاتيًا لأن كل أمر يكون مقتضيًا لاتصافه بنقيض مباينه فالإنسان مقتضٍ لاتصافه بكونه لا فرسًا فكونه لا فرسًا يقتضيه ذات الإنسان وليس كونه لا فرسًا موجودًا.

التفتازانى: (لا يكون وصفًا ثبوتيًا للذات) لأنه إذا كان سلبًا يصدق على المعدوم، والمعدوم لا يكون له صفة ثبوتية بل صفته تكون وهمية مقدرة كما ذكره الشارح، ويرد عليه أن الذاتى ليس بلازم أن يكون موجودًا وحينئذٍ لا مانع من أن يكون وصفًا ذاتيًا للمعدوم؛ كان لم يكن ثبوتيًا موجودًا والمعدوم ذات عند المعتزلة كما سيأتى فى العلاوة، وأشار إلى دفع هذا الإيراد بقوله: وهذا خلاف مذهبهم أى فمذهبهم: أن الحسن أو القبح وصف ثبوتى أى موجود؛ فكونه وجوديًا مسلم، ويرد عليه أنه لو كان الوجود مسلمًا لأدى إلى استدراك الاستدلال عليه المذكور.

التفتازانى: (لزم خلف الضرورة) هذا هو المعطوف عليه القدر وقوله ولم يكن الحسن ذاتيًا هو المعطوف وإنما لزم من عدم صدق اللاحسن على المعدوم أن الحسن ليس ذاتيًا لأنه إذا لم يصدق على المعدوم أنه ليس بحسن صدق عليه أنه حسن وإلا ارتفع النقيضان وإذا صدق عليه أنه حسن لم يكن ذاتيًا لأن المعدوم لا يوصف بالموجود.

التفتازانى: (على معنى أن الذاتى. . . إلخ) تحريف وصوابه على أن معنى الذاتى. . . إلخ. وهو ترقً فى الاعتراض فبعد أن اعترض بأن صدق اللاحسن

ص: 64

على المعدوم لا يحتاج إلى هذا البيان الخفى اعترض بأن الذاتى هنا معناه ما ليس إضافيًا بل أمر راجع إلى الذات سواء كانت الذات محققة أو مقدرة وحينئذ فلا نسلم أنه لو صدق على المعدوم أنه حسن لم يكن الحسن ذاتيًا وقوله بل: راجعة إلى الذات. . . إلخ. فيه سقط وحقه بل صفة راجعة إلى الذات أو بل أمر راجع إلى الذات.

التفتازانى: (والأظهر أن مقصود الشارح. . . إلخ) أى مع ورود اعتراض العلاوة المذكورة عليه.

التفتازانى: (وكأن الزائد مشعر بذلك) أى لأن معناه زائد على الموصوف قيشعر بأنه ليس قائمًا بنفسه بل بالموصوف.

التفتازانى: (أعنى كون المعنى قائمًا به) الأوضح أن يقول أعنى القيام كما قال السيد.

التفتازانى: (إنما يصح. . . إلخ) يعنى أن قيام الحسن بالفعل لا مانع منه على رأى الفلاسفة من أن قيام الصفة بالموصوف معناه الاختصاص الناعت لا التبعية فى التحيز وقوله فيتوجه قطعًا منع الملازمة أى فيقال لا نسلم لزوم قيام العرض بالعرض بمعنى التبعية فى التحيز أو منع بطلان اللازم أى لا نسلم أن قيام العرض بالعرض باطل بناء على أن القيام معناه الاختصاص الناعت.

التفتازانى: (مع أن كون الإمكان ثبوتيًا أى وجوديًا باطل بالاتفاق) أى فالدليلان على وجود الحسن قد وجدا فى الإمكان مع أنه ليس موجودًا اتفاقًا فقوله مع أن. . . إلخ. راجع للدليلين وبيان لتخلفهما فى الإمكان.

التفتازانى: (وهذا مع فساده وابتنائه على الفاسد) لعل قوله وابتنائه على الفاسد بيان لوجه فساده فكأنه قال وهذا فاسد لابتنائه على الفاسد وهو أن قول المصنف ولم يكن دليل ثانٍ على أن الحسن وجودى وتقدم أن الصفات السلبية قد تكون مما تقتضيه الذات فعلى تقدير أن الحسن عدمى لا يلزم أن لا يكون ذاتيًا.

التفتازانى: (فعلم. . . إلخ) أى من كلام الآمدى.

التفتازانى: (مع تحقيق إبطال دليله) أى بلزوم الدور وقوله على وجه يندفع به جواب الآمدى عن الاعتراض الأول ذلك الوجه هو أن صورة النفى لا تلزم أن تكون سلبًا أى عدم وجود فكون صورة النفى سلبًا موقوف على كون ما دخله

ص: 65

النفى وجودًا فلو استفيد كونه موجودًا من كون سورة النفى سلبًا لزم الدور وإنما اندفع به جواب الآمدى عن الاعتراض الأول لأنه قال فى الجواب استدلالًا على أن الإمكان وما معه من الأمور الاعتبارية أن مفهوم نقائضها سلب التقدير فيقال عليه إن الاستدلال على كون الإمكان وما معه من الأمور الاعتبارية بذلك دور إذ صورة النفى لا يلزم أن تكون سلبًا للتقدير فكون صورة النفى سلبًا للتقدير موقوف على كون ما دخله النفى تقديريًا فلو استفيد كون الإمكان تقديريًا من كون صورة النفى سلبًا للتقدير لزم الدور.

التفتازانى: (وتقريره) أى تقرير الاعتراض الثانى وقوله: على ما ذكره الجمهور إشارة إلى أن الشارح قد خالف فى تقريره الجمهور.

التفتازانى: (أو لأنها فى حكم النفى) تحريف وصوابه فى حكم النفى ومعنى كونها فى حكم النفى أنها النفى وأن الإضافة بيانية.

التفتازانى: (وهذا تقرير ظاهر) حاصله أن النفى ليس بلازم أن يكون سلبًا حتى يكون مقابله وجودًا فلا يعرف الوجود بالنفى إلا إذا عرف أن النفى سلب وهو موقوف على معرفة أن ما دخله النفى موجود فلو استفيد الوجود بالنفى لزم الدور وقوله والعدول عن الوجود إلى الثبوت أى فلم يقل قد يكون وجوديًا حتى يكون المعنى أن نفس النفى يكون وجوديًا كما فى اللامعدوم وقوله: وحمل الثبوت على معناه المصدرى أى لا على الوجود الذى هو الثبوت وقوله على ما هو رأى المعتزلة متعلق بقوله أعم.

قوله: (بالكنه) دفع به ما يقال من أنه لا يلزم من كونه ليس زائدًا على مفهوم الفعل أن يلزم من تعقل الفعل تعقله لجواز أن يتعقل الفعل بالعرضيات.

قوله: (لأن كل شئ يقتضى اتصافه بنقيض منافيه) كالإنسان فإنه يقتضى اتصافه بكونه ليس فرسًا كما تقدم.

قوله: (وليس لك أن تأخذه مسلمًا) أى كما يفيده قول السعد التفتازانى وهذا خلاف مذهبهم.

قوله: (كما أشير إليه) أى فى قوله: قيل لا حاجة إلى إثبات كونهما وجوديين هذا وقد قال الهروى على قول السيد: إن أريد بالصفة الحقيقية الصفة الوجودية هذا القول ضعيف لأنه لا يصح أن يريد الشارح ذلك وإنما أراد بقوله: إذ المعدوم

ص: 66

لا يكون له صفة بيان انتفاء كون الحسن وصفًا على التقدير المذكور، وبقوله: وكيف. . . إلخ. بيان انتفاء كونه ذاتيًا فكأنه قال: فلم يكن الحسن وصفًا إذ المعدوم لا يكون له صفة إلا بأمر معدوم وموهوم كونه صفة ولم يكن صفة ذاتية إذ الصفة المستندة إلى الذات والحقيقة لا تكون لما لا ذات ولا حقيقة له ويجوز أن يكون كون الحسن من الصفات المستندة إلى الذات والحقيقة بالمعنى الغالب مسلمًا لأنهم قائلون: بأن الحسن صفة للفعل والفعل معنًى أى عرض كما صرح به فى قوله: والفعل أيضًا معنًى وهو ظاهر وإذا كان الحسن صفة للعرض فهو صفة مستندة إلى الحقيقة والذات لأن العرض من الموجودات. اهـ بحذف. ولا يخفى أن هذا تكلف لا يغنى شيئًا فالظاهر ما قاله قدس سره.

قوله: (وما قيل من أنه لا يرد النقض بالإمكان) أى كما قال الآمدى وقوله فقد تبين بطلانه أى من أن وجود الحسن والقبح ليس مسلمًا عندهم وإلا لكان الاستدلال عليه مستدركًا.

قوله: (يعنى أن النفى إنما يرد على الثبوت وهو إما ثبوت الشئ فى نفسه. . . إلخ) يعنى أن المراد بالثبوت فى قول الشارح قد يكون النفى ثبوتًا الثبوت للغير وهو جزئى من مطلق الثبوت والجزئى الآخر ثبوت الشئ فى نفسه وهو الوجود فالمنفى على كل حال هو الثبوت الأعم لكن يرد أن الثبوت فى النفس ليس هو الوجود الخارجى بل أعم هذا وقرر الهروى كلام المحشى بأن قول الشارح ليس كل منفى موجودًا بل قد يكون ثبوتًا ليس معناه أنه قد يكون ثبوتًا وقد يكون وجوديًا بل معناه أن النفى لا يرد إلا على الثبوت.

قوله: (وليس له ثبوت فى نفسه ليقصد سلبه) قال الهروى: فإن قلت قصد سلب ثبوته فى نفسه لا يقتضى تحقق هذا الثبوت إذ يصح أن يقال: شريك البارى ليس بموجود قلت: الفرض، أنه إذا أردنا أخذ نقيض اللَّه امتناع يجب اعتباره على وجه لا يثبت النقيض فى المتنع بل الواجب تحقق اللَّه امتناع فى غيره ولو اعتبر سلب ثبوت الامتناع فى نفسه لتحقق اللاامتناع فى المتنع وغيره على وجه واحد. انتهى.

قوله: (ولو ذهبت. . . إلخ) أى لو ذهبت إلى ذلك وجعلت قوله لا ما ليس امتناعًا على ظاهره من سلب حمل الامتناع على شئ وجعلت الثبوت غير المنفى

ص: 67

فى اللاامتناع هو الثبوت الذى ليس بطريق الحمل كثبوت الامتناع للشريك فمعنى اللاامتناع نفى ثبوت الامتناع الذى هو ثابت للغير لا بطريق الحمل ومقابله هو الثبوت بطريق الحمل فمعنى اللاامتناع أن هذا الأمر ليس امتناعًا منعك قوله فإن المعدوم قد يثبت للمعدوم ويحمل عليه فإنه صريح فى أن الثبوت غير المنفى هو الثبوت بطريق الحمل فمقابله هو الثبوت للشئ فى نفسه فلا بد من تأويل فى قوله لا ما ليس امتناعًا.

قوله: (أى مطلقًا) أى سواء كان النفى للثبوت للغير أو لثبوت الشئ فى نفسه.

قوله: (وإن اشتهيت أن تعرف حقيقة الحال. . . إلخ) يشير إلى أن الجواب المذكور بلزوم الدور ليس فيه معرفة حقيقة الحال لأن المستدل لم يستدل بكون اللاحسن سلبًا على وجود المنفى بناء على أن مورد السلب لا يكون إلا وجودًا حتى يرد الدور بل استدل على وجود الحسن بكون اللاحسن سلبًا وأنه إذا لم يكن الحسن وجودًا ارتفع النقيضان فالمجيب إن سلم لزوم ارتفاع النقيضين لو لم يكن الحسن موجودًا تم الاستدلال ولا يلزم الدور وإلا فالجواب منع لزوم ارتفاع النقيضين على ما تقدم لك.

قوله: (ولا يجب ذلك) أى أن يكون النقيضان أحدهما وجوديًا والآخر عدميًا وقوله فى المعنى الأول تحريف أو أن فى بمعنى الباء والأصل بالمعنى الأول وهو أن الوجودى بمعنى الموجود والعدمى مقابله وقوله لجواز ارتفاعهما وذلك كالوجوب واللاوجوب فإنهما ليسا بموجودين فى الخارج قال فى المواقف: ارتفاع النقيضين بمعنى الخلو عنهما محال وأما بمعنى خلوهما عن الوجود فلا. اهـ. وكتب السيد على قوله محال أى مستحيل وأما يخلو مفهوم من الفهومات عنهما بأن لا يصدق شئ منهما عليه فلا يجوز أن لا يصدق على أمثلًا أنه واجب ولا أنه ليس بواجب أو لا يصدق عليه أنه ممتنع ولا أنه ليس بممتنع فكل مفهوم وجوديًا كان أو عدميًا مع نقيضه الذى هو رفعه يقتسمان جميع ما عداهما فلا يجتمعان فى شئ بأن يصدقا عليه معًا ولا يرتفعان عنه بأن لا يصدق عليه شئ منهما وكتب على قوله وأما بمعنى خلوهما عن الوجود فلا بل يجوز أن يكون الوجوب واللاوجوب وكذا الامتناع واللاامتناع معدومين معًا فى الخارج والسر فى ذلك أنك إذا اعتبرت ثبوت مفهوم الوجوب مثلًا لشئ كان نقيضه رفع ثبوته له فلا يجتمعان ولا

ص: 68

يرتفعان وإذا اعتبرت وجود مفهوم الوجوب فى نفسه كان نقيضه رفع وجوده فى نفسه فلا يجتمعان ولا يرتفعان أيضًا وليس نقيض وجود الوجوب فى نفسه وجود مفهوم اللاوجوب فى نفسه حتى يلزم من عدمية اللاوجوب أعنى ارتفاع وجوده فى نفسه أن يكون الوجوب موجودًا فى نفسه. اهـ.

قوله: (لدليل المقدمة والمدعى) يعنى أن الاعتراض الثانى نقض إجمالى للدليل على أن الفعل اضطرارى الذى هو إن كان صدوره. . . إلخ. لوجود هذا الدليل فى فعل البارى مع أنه ليس اضطراريًا فقد تخلف الحكم عن الدليل، والاعتراض الثالث نقض إجمالى للدليل على أن الحسن والقبح ليسا ذاتيين الذى هو أن فعل العبد اضطرارى وكل فعل اضطرارى لا يوصف بحسن ولا قبح ذاتيين لوجوده مع اتصاف الفعل بالحسن والقبح الشرعيين عند الخصم المستدل على نفى الحسن والقبح الذاتيين فقد تخلف الحكم عن الدليل وتخلف الحكم هنا من حيث إن الدليل ينفى الحسن والقبح الشرعيين أيضًا مع أنهما ثابتان فلا مانع من ثبوت الحسن والقبح العقليين أيضًا وهذا بعيد.

قوله: (ولهذا الجواب تقرير وافٍ فى الكلام) إشارة إلى ما ذكر فى مسألة خلق الأعمال من أن من قال: بأن العبد يخلق أفعال نفسه قائل: بأن صدور الفعل عن القادر يتوقف على أن يخلق اللَّه فيه الداعية للفعل وعند حصولها يجب حصول الفعل ولا يتمكن من الترك وهذا ينافى استقلال العبد بالفعل كان لم يناف تأثير قدرته فيه فلزم هذا القائل القول بأن العبد ليس موجودًا للفعل كما هو مذهب الأشاعرة وفى شرح مسلم الثبوت ما نصه بالاختصار وتحقيق المقام أنه عند إرادة العبد تتحقق الدواعى للفعل من التخيل الجزئى والشوق إليه فيصرف العبد اختياره المعطى من اللَّه سبحانه إلى الفعل وقد أجرى اللَّه عادته بإعطاء ما يصلح المادة إصلاحًا كاملًا وليس الشأن الإلهى أن يترك المادة المستعدة الطالبة بلسان الاستعداد عاربة عنه بإمساك الفيض عنه بل يخلق اللَّه تعالى الفعل فى المريد بجرى العادة فيتصف به هذا عند أهل الحق وأما عند المعتزلة فبعد تمام هذا الاستعداد يغلق العبد الفعل فليس الاختيار فى العبد إلا صرف القدرة والإرادة إلى الفعل سواء وجد بهذا الصرف كما هو عند المعتزلة أو لا كما هو عندنا وهذا لا ينافى الوجوب وأما فعل اللَّه تعالى فتحقيقه أن تتعلق إرادته فى الأزل بإيجاد ما علمه اللَّه تعالى صالحًا

ص: 69

للوجود على النظم الأتم فيوجد بهذا التعلق ما أراده مطابقًا لعلمه ويجب على اقتضائه وهذا التعلق هو الخلق بالاختيار ووجوب الإرادة لأجل الحكمة ووجوب الحكمة لكونها صفة كمالية واجبة الثبوت للبارى لا ينافى اختيار أنه مختار فيه وإن كان واجب الحصول لكونه على مقتضى إرادته وعلمه فى مسلم الثبوت بعد ذلك ما نصه فائدة فى تحقيق صدور الأفعال الاختيارية قال الجهمية الذين هم الجبرية حقًا: لا قدرة للعبد أصلًا وهذا سفسطة وعند المعتزلة له قدرة مؤثرة فى أفعاله وهم مجوس هذه الأمة وما فهموا أن الإمكان ليس من شأنه إفاضة الوجود وعند أهل الحق له قدرة كاسبة فعند الأشعرية ليس معنى ذلك إلا وجود قدرة متوهمة مع الفعل بلا مدخلية لها أصلًا قالوا ذلك كافٍ فى صحة التكليف والحق أنه كفء للجبر وعند الحنفية الكسب صرف القدرة المخلوقة إلى القصد المصمم إلى الفعل فلها تأثير فى القصد المذكور فيخلق اللَّه الفعل عقيب ذلك بالعادة والقصد من الأحوال غير موجود ولا معدوم فليس خلقًا بل إحداث ليس كالخلق بل أهون وقيل بل موجود فيجب حينئذٍ تخصيص القصد المصمم من عموم نصوص خلق اللَّه الفعل لأنه أدنى ما يتحقق به فائدة خلق القدرة ثم قال: وعندى أن العبد مختار بحسب الإدراكات الجزئية الجسمانية مجبور بحسب العلوم الكلية العقلية.

ص: 70

قال: (وعلى الجبائية لو حسن الفعل أو قبح لغير الطلب لم يكن تعلق الطلب لنفسه لتوقفه على أمر زائد، وأيضًا لو حسن الفعل أو قبح لذاته أو صفته لم يكن البارئ مختارًا فى الحكم لأن الحكم بالمرجوح على خلاف المعقول فيلزم الآخر فلا اختيار ومن السمع هو {وَمَا كُنَّا مُعَذّبينَ حَتَّى نبعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، لاستلزام مذهبهم خلافه).

أقول: الأدلة المذكورة لا تنتهض على الجبائية لأنه إذا كان بوجوه واعتبارات، اندفع الأول لجواز الاختلاف، والثانى لجواز الاجتماع، والثالث لأنه قد لا يكون معنى، والرابع لأن اللازم والاتفاقى قد يكون له جهات واعتبارات. فاحتج بما ينتهض عليهم وعلى غيرهم وهو من العقل والنقل. أما من العقل فوجهان:

أحدهما: أنه لو كان حسن الفعل وقبحه لأمر غير الطلب حاصل فى الفعل لم يكن تعلق الطلب لذاته واللازم باطل أما الملازمة فلتوقف تعلقه حينئذ على أمر زائد وما هو للشئ بالذات لا يتوقف على أمر زائد وأما بطلان اللازم فلأنا نعلم بضرورة العقل أن الطلب صفة ذات إضافة تستلزم مطلوبًا عقلًا ولا يعقل حقيقته إلا متعلقًا بمطلوب.

ثانيهما: أنه لو حسن الفعل أو قبح لذاته أو لصفة لم يكن البارئ مختارًا فى الحكم واللازم باطل بالإجماع.

بيان اللزوم أن الأفعال تكون حينئذ غير متساوية فى نفسها بالنسبة إلى الأحكام فإذا كان الفعل فيه أحد الحكمين راجحًا فالحكم بالمرجوح على خلاف المعقول، فيكون قبيحًا فلا يجوز عليه فيكون الحكم بالراجح متعينًا عليه وأنه ينفى الاختيار، وقد يقال: إن امتناع الفعل لقيام صارف القبح لا ينفى الاختيار.

وأما من السمع فقوله تعالى: {وَمَا كنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، ولو كان الأحكام مدركها العقل لزم خلف ذلك وهو التعذيب قبل البعثة لتحقق الوجوب والخرم وهما يستلزمان التعذيب عندهم لمنعهم العفو. قوله: لاستلزام مذهبهم خلافه؛ يحتمل أن يريد به استلزام حكم العقل خلاف ما تقتضيه الآية والأقرب حمله على أن مذهبهم فى عدم جواز العفو يستلزم التعذيب قبل البعثة بترك الواجبات العقلية إشارة إلى أنه إلزامى وأنه لا يمتنع أن يقال بالوجوب العقلى مع نفى التعذيب قبل البعثة لجواز العفو.

ص: 71

قوله: (وعلى الجبائية) سيتضح لك أن هذه الحجج الثلاث تنتهض على غير الجبائية أيضًا فيجب أن تكون الأدلة الأربعة السابقة مختصة بمن عداهم لا تنتهض عليهم وإلا لما كان لتخصيصهم بالذكر جهة أصلًا فلذا أشار إلى اندفاع الأدلة الأربعة عنهم أما الأول: فلجواز أن يختلف الفعل فيحسن تارة لتحقق الجهة الحسنة ويقبح تارة لتحقق الجهة المقبحة وأما الثانى: فلجواز اجتماع الحسن والقبح إذ لا تناقض عند اختلاف الاعتبار فيحسن الخبر المذكور من حيث إنه صدق ويقبح من حيث إنه مستلزم لكذب خبر آخر وأما الثالث: فلأن الحسن الذى ليس من الأوصاف الذاتية يجوز أن لا يكون وجوديًا بل اعتباريًا فلا يكون عرضًا وأما الرابع فلأن فعل العبد وإن كان لازمًا أو اتفاقيًا يجوز أن يشتمل على جهات واعتبارات بها يحسن ويقبح هذا وفى عدم انتهاض الأخيرين عليهم نظر.

قوله: (لو حسن الفعل أو قبح لغير الطلب) قد اعترف الشارح العلامة بتحيره فى تقرير هذا الدليل وقرره بوجهين أحدهما: ينتهض على جميع المعتزلة والآخر على القائلين بكون الحسن والقبح لصفات أو لجهات واعتبارات الأول: لو حسن الفعل أو قبح لغير الطلب أى لغير أمر الشارع أو نهيه سواء كان ذلك الغير ذات الفعل أو صفاته أو جهاته واعتباراته لم يكن تعلق الطلب لنفس الطلب ضرورة توقفه حينئذ على ذلك الغير واللازم باطل لأن تعلق الطلب بالمطلوب تعلق عقلى لا يتوقف على غيره لاستلزامه مطلوبًا عقلًا، فإذا حصل الطلب تعلق بنفسه بالمطلوب الثانى: لو حسن الفعل أو قبح لغير الطلب من الصفات والاعتبارات لم يكن الطلب لنفس الفعل المطلوب بل يتوقف على ما له من الصفات أو الجهات أو الاعتبارات لكنه تعلق عقلى لا يتوقف على شئ زائد على المطلوب، فبنى الأول على أن ضمير نفسه للمطلب والثانى على أنه للفعل ثم اعترض عليهما بما لا يخفى واختار بعض الشارحين التقرير الثانى لكن خص الغير بالجهات والاعتبارات ليكون حجة على الجبائية وحدهم وبين بطلان اللازم بأن التعلق نسبة بين الطلب والفعل والنسبة بين الأمرين لا تتوقف إلا على حصولهما والطلب قديم لا يتصور توقفه على حادث، فإذا حصل الفعل تعلق الطلب به من غير توقف على جهة واعتبار ثم اعترض بأنه يجوز أن يكون المطلوب هو ذلك الفعل بشرط مقارنة الجهة

ص: 72

الحسنة أو المقبحة فيتوقف التعلق على حصول المطلوب، أعنى الفعل المخصوص واختيار الشارح المحقق من الأول كون ضمير نفسه للطلب لأنه الملائم لقوله غير الطلب ومن الثانى تخصيص الغير بصفات الفعل واعتباراته دون ذاته؛ لأن توقف تعلق الطلب على ذات الفعل المطلوب مما لا سبيل إلى نفيه وحاصله أن تعلق الطلب بالفعل لو توقت على ما يعرض للفعل من الصفات أو يتعلق به من الجهات والاعتبارات لم يكن تعلق الطلب من لوازم الذات والجواب أنا لا نعنى أن الطلب يتحقق ولا يتعلق ما لم تعرض الصفات أو الاعتبارات، بل إنه لا يتحقق حينئذ فإن بنى ذلك على أن الطلب قديم فهو مع أنه لا ينتهض على المعتزلة يستلزم القول بقدم الفعل المطلوب أو بأنه قد يتحقق من غير تعلق بمطلوب متحقق.

قوله: (أو صفة) يعنى حقيقية لازمة أو اعتبارية عارضة لينتهض على الجبائية أيضًا.

قوله: (فيكون الحكم بالراجح متعينًا عليه) يعنى لابد فى الفعل من حكم البتة وإذا امتنع المرجوح تعين الراجح وحينئذ يندفع ما ذكره العلامة من أن هذا إنما يتم لو كان ترك الراجح مطلقًا قبيحًا وليس كذلك، إذ القبيح تركه مع الإتيان بالمرجوح.

قوله: (وقد يقال) اعتراض على الدليل المذكور بمنع المقدمة الفائلة بأن تعين الحكم بالراجح ينفى الاختيار والجواب عنه بأن أفعال اللَّه تعالى لا تعلل بالحكم والأعراض لا يستقيم على أهول المعتزلة فلا يقوم حجة عليهم.

قوله: (لتحقق الوجوب) أى بحكم العقل.

قوله: (وتحقق الخرم) أى الإخلال بالواجب بحكم الضرورة.

قوله: (استلزام حكم العقل) يعنى أن حكم العقل بحسن الأفعال وقبحها يستلزم التعذيب قبل البعثة والآية تقتضى عدم التعذيب وهو ثابت فينتفى حكم العقل.

قوله: (وأنه لا يمتنع) يعنى أن فى قوله لاستلزام مذهبهم خلافه إشارة إلى أن مجرد القول بالوجوب العقلى لا يستلزم القول بالتعذيب قبل البعثة بل هو مع القول بعدم جواز العفو.

قوله: (لأنه إذا كان) أى الحسن أو القبح (بوجوه واعتبارات) عقلية مختلفة

ص: 73

(اندفع) الدليل (الأول لجواز الاختلاف) حينئذ بحسب اختلاف الوجوه إنما لا يجوز ذلك إذا استند إلى الذات أو إلى الصفة اللازمة (و) كذا اندفع (الدليل الثانى جواز الاجتماع) بين الحسن والقبح بحسب الاعتبارات المختلفة ولا يجوز ذلك على تقدير الاستناد إلى الذات وهو ظاهر ولا على تقدير الاستناد إلى الصفة اللازمة لاستنادها إلى الذات فيرجع إلى الأول وكذا اندفع الثالث؛ لأن الحسن أو القبح المستند إلى الاعتبارات قد يكون أمرًا اعتباريًا لا موجودًا محققًا فلا يكون عرضًا قائمًا ليلزم المحذور (و) كذا (الرابع لأن) الفعل (اللازم والاتفاقى قد يكون له جهات واعتبارات) بحسبها يتصف بالحسن والقبح إنما لا يتصف بذلك من حيث ذاته ولا من حيثية راجعة إليه.

قوله: (لو كان حسن الفعل وقبحه لأمر غير الطلب) أى من الشارع بالأمر والنهى حاصل فى الفعل سواء كان ذلك الأمر ذات الفعل أو صفة له حقيقية أو اعتبارية لم يكن تعلق الطلب بالفعل لذات الطلب لتوقف التعلق حينئذ على أمر زائد على الطلب هو منشأ الحسن أو القبح أو على أمر زائد عليه هو الحسن أو القبح الحاصل من غيره، وباقى الكلام واضح وفيه بحث لأن تعلق الطلب بالفعل نسبة بينهما متوقفة عليهما قطعًا؛ لأن الطلب لا يمكن وجوده خارجًا ولا ذهنًا بدون المطلوب متعلقًا به فلذلك كان التعلق لازمًا له فلو فرضنا: أن ذات الفعل منشأ الحسن أو القبح، وأن تعلق الطلب متوقف عليه لم يكن فيه استحالة وأما أن التعلق ثابت له لذاته فإن أريد به أنه لا يتوقف على شئ مغاير للطلب فهو ممنوع، وإن أريد أنه مستلزم إياه بحيث يمتنع انفكاكه عنه فهو مسلم لكن توقفه على المطلوب لا ينافى ذلك لاستلزامه إياه أيضًا، كان فرض أن تعلقه باعتبار حسنه أو قبحه فإما أن يجعل الحسن مثلًا قيدًا للفعل المطلوب؛ بأن يكون المطلوب هو الفعل الموصوف بالحسن من حيث هو كذلك كان من تتمة المطلوب فلا يلزم من توقف التعلق عليه محذور، وإما أن يجعل غاية للطلب فلا امتناع أيضًا لأن وجود الطلب حينئذ متوقف عليه فضلًا عن تعلقه ولا يقدح ذلك فى الاستلزام لا يقال: حسن الفعل وقبحه، وما يستندان إليه أمور حادثة فلا يتوقت عليها الطلب وتعلقه القديمان، لأنا نقول: الطلب عند المعتزلة حادث على أنه متوقف على العلم بها لا على وجودها فى الخارج وقس على ذلك استناد الحسن إلى الصفة حقيقية كانت

ص: 74

أو اعتبارية ومنهم من خص الدليل بإبطال القول بالصفة؛ فقال: لو كان حسن الفعل وقبحه لغير الطلب من الاعتبارات لم يكن تعلق الطلب بالفعل لنفس الفعل بل لأجل ذلك الاعتبار، ثم منع أن الطلب يتعلق بالفعل من حيث هو لجواز تعلقه به من حيث هو على الجهة المذكورة.

قوله: (فإذا كان الفعل فيه أحد الحكمين راجحًا) يعنى: إذا كان أحد الحكمين راجحًا فى الفعل من الحكم الآخر كالأمر الراجح على النهي بالقياس إلى الحسن، فالحكم بالمرجوح أى الإتيان بالحكم المرجوح على خلف ما يقبله العقل ويرتضيه فيكون قبيحًا فلا يجوز عليه؛ فيكون الإتيان بالحكم الراجح متعينًا عليه إذ تركه أيضًا قبيح فلا اختيار وغيره قد اعتبر رجحان تعلق الحكم بفعل على تعلقه بآخر فقال: لا يجوز تعلقه بما هو مرجوح بالقياس إليه فيلزم أن يتعلق بما هو راجح بالنسبة إليه فيكون ضروريًا لا اختيار فيه.

قوله: (وقد يقال) حاصله: أن امتناع الإتيان بالحكم المرجوح لقيام صارف القبح العقلى لا ينفى اختيار الفاعل وقدرته عليه كما أن وجوب الإتيان بالحكم الراجح لقيام داعى الحسن إليه لا ينفيه أيضًا.

قوله: (لتحقق الوجوب والخرم) بفتح الخاء المعجمة أى: ترك الواجب من خرم منه شيئًا إذا نقصه أو من خرم الدليل عن الطريق إذا عدل عنه.

قوله: (سواء كان ذلك الأمر ذات الفعل) أى الأمر الذى هو غير الطلب وحاصل فى الفعل ووجه كونه فى الفعل على تقدير أن يكون ذات الفعل أن بعض الأفعال له حقيقة متركة بين الأشخاص يعرض له الحسن أو القبح باعتبار تلك الحقيقة كالصدق والكذب؛ فإن حقيقة الصدق مشتركة بين صدق هذا الخبر وذاك الخبر وبين هذا الشخص وذاك الشخص وهذه الحقيقة المشتركة علة للحسن لا مجموع الحقيقة والخصوصية فلا شك فى وقوع الشخص طرفًا للحقيقة المشتركة فهذه الطرفية معشرة بأن من قال حسن الفعل وقبحه لذاته لم يرد أن ذاته الشخصية علة لهما بل الذات والحقيقة المشتركة على الوجه الذى ذكر.

قوله: (وإما أن يجعل غاية للطلب) بأن يطلب شخص حسن الفعل وحينئذ يتوقف الطلب وتعلقه بالفعل على أن يكون ذلك الفعل مما له حسن وإلا لم

ص: 75

تحصل الغاية.

قوله: (وغيره قد اعتبر رجحان تعلق الحكم) بأن يقال تعلق الأمر مثلًا بالحسن راجح على تعلقه بالقبح وقد يجعل هذا الغير الأفعال راجحة ومرجوحة بالنسبة إلى الحكم فإن الفعل الحسن راجح على الفعل القبيح بالنسبة إلى الأمر والفعل القبيح راجح على الفعل الحسن بالنسبة إلى النهى على خلاف ما ذكر من أن الأمر راجح على النهى بالقياس إلى الفعل الحسن والنهى راجح على الأمر بالقياس إلى الفعل القبيح.

قوله: (لقيام صارف القبح العقلى لا ينفى اختيار الفاعل) وذلك لأن معنى كونه مختارًا أنه تعالى يصح منه الفعل والترك بالنظر إلى ذاته ونفس الفعل وذلك لا ينافى الوجوب والامتناع بالنظر إلى الغير والمعتزلة قائلون بذلك.

التفتازانى: (وفى عدم انتهاض الآخرين عليهم نظر) وذلك لأنهما ثابتان ولو كان الحسن والقبح لوجه واعتبار فى الفعل إذ يقال: إن الحسن موجود لأن نقيضه لا حسن وهو سلب. . . إلخ. ويقال: إن فعل العبد اضطرارى لأن صدوره. . . إلخ.

التفتازانى: (قد اعترف الشارح العلامة) أى الشيرازى شارح هذا المختصر.

التفتازانى: (أو جهاته واعتباراته) عطف اعتباراته على جهاته عطف تفسير.

التفتازانى: (لاستلزامه أى الطلب مطلوبًا) أى فلا بد من التعلق فيكون التعلق ذاتيًا.

التفتازانى: (ثم اعترض عليهما بما لا يخفى) لعله أنه إذا كان المطلوب هو الفعل الموصوف بالحسن كان الطلب متعلقًا بنفسه بالمطلوب.

التفتازانى: (ومن الثانى تخصيص الغير بصفات الفعل واعتبار أنه دون ذاته) أى لقوله حاصل فى الفعل فلا يشمل ذات الفعل وهو خلاف تقرير السيد كلام الشارح.

التفتازانى: (لم يكن تعلق الطلب من لوازم الذات) لتحقق الطلب بدونه عند عدم ما يعرض للفعل من الصفات أو يتعلق به من الاعتبارات، وقوله: والجواب أنا لا نعنى أن الطلب. . . إلخ. أى لا نعنى بتوقف الطلب على الصفات

ص: 76

والاعتبارات أن الطلب يتحقق ولا يتعلق إلا إذا عرضت الصفات أو الاعتبارات حتى ينافى كون تعلق الطلب من لوازم الذات بل نعنى أنه لا يتحقق الطلب، وقوله: فإن بناء ذلك أى بناء كون تعلق الطلب بالفعل لو توقف على ما يعرض للفعل من الصفات والاعتبارات لم يكن تعلق الطلب من لوازم الذات على أن الطلب قديم والتعلق إذا كان من لوازمه لم يتوقف على ما يعرض للفعل من الصفات والاعتبارات فلا ينتهض على المعتزلة لأن الطلب ليس قديمًا عندهم ويستلزم قدم الفعل أو أن الطلب يتحقق من غير مطلوب متحقق.

التفتازانى: (بحكم الضرورة) إذ لا شبهة فى أن العقلاء كانوا يتركون الواجبات.

قوله: (قد يكون أمرًا اعتباريًا لا موجودًا محققًا) يرد أن دليل كونه موجودًا محققًا متحقق أيضًا على هذا.

قوله: (بحسبها يتصف بالحسن والقبح) يرد أن كون الفعل الاضطرارى أو الاتفاقى لا يوصف بالحسن والقبح ثابت ولو كان وصفه بهما لوجه واعتبار ولذا قال السعد وفى عدم انتهاض الآخرين عليهم نظر.

قوله: (سواء كانت ذات الفعل) أى ماهيته المشتركة بينه وبين أمثاله كصدق أن زيدًا قائم فإن ذات الصدق الكلية مشتركة بينه وبين الأخبار الصادقة فهذه الذات المشتركة يصدق عليها أنها فى الفعل أى الجزئى فقول الشارح حاصل فى الفعل يشمل ذات الفعل لأنها حاصلة فيه وجرى السعد على الظاهر من قوله حاصل فى الفعل فقصره على الصفة حقيقية أو اعتبارية.

قوله: (فهو ممنوع) أى: لظهور توقفه على المطلوب أيضًا.

قوله: (أنه) أى الطلب مستلزم إياه أى التعلق.

قوله: (لكن توقفه) أى الطلب وقوله لا ينافى ذلك أى استلزام الطلب للتعلق وقوله لاستلزامه أى الطلب إياه أى المطلوب وقوله كان من تتمة المطلوب لو أبدل قوله فإما أن يجعل الحسن بقوله فإن جعل الحسن أو إبدال كان من تتمة المطلوب بقوله فيكون من تتمة المطلوب لكان أحسن.

قوله: (وأما أن يجعل غاية الطلب) أى أن الطلب له ففى الأول المطلوب الفعل الموصوف بالحسن وفى هذا الوجه المطلوب الفعل لما فيه من الحسن.

ص: 77

قوله: (على العلم بها) أى وهو متقدم فى التعقل.

قوله: (أن تركه أيضًا قبيح) رد على العلامة الشيرازى حيث قال: إن هذا إنما يعتبر لو كان ترك الراجح قبيحًا مطلقًا وليس كذلك إذ القبيح تركه مع الإتيان بالمرجوح.

قوله: (رجحان تعلق الحكم بفعل على تعلقه بآخر) أى كتعلق الأمر بالحسن على تعلقه بالقبح وقد يجعل هذا الغير الأفعال راجحة ومرجوحة بالنسبة إلى الحكم فإن الفعل الحسن راجح على الفعل القبيح بالنسبة إلى الأمر والفعل القبيح راجح على الفعل الحسن بالنسبة إلى النهى.

ص: 78

قال: (قالوا: حسن الصدق النافع والإيمان وقبح الكذب الضار والكفران معلوم بالضرورة من غير نظر إلى عرف أو شرع أو غيرهما والجواب المنع بل بما ذكر، قالوا: إذا استويا فى المقصود مع قطع النظر عن كل مقدر آثر العقل الصدق وأجيب بأنه تقدير مستحيل فلذلك يستبعد منع إيثار الصدق ولو سلم فلا يلزم فى الغائب للمقطع بأنه لا يقبح من اللَّه تمكين العبد من المعاصى ويقبح منا، قالوا: لو كان شرعيًا لزم إفحام الرسل فيقول لا أنظر فى معجزتك حتى يجب النظر ويعكس أو لا يجب حتى يثبت الشرع ويعكس، والجواب أن وجوبه عندهم نظرى فيقول بعينه على أن النظر لا يتوقف على وجوبه ولو سلم فالوجوب بالشرع نظر أو لم ينظر ثبت أو لم يثبت. قالوا: لو كان ذلك لجازت المعجزة من الكاذب ولامتنع الحكم بقبح نسبة الكذب إلى اللَّه قبل السمع والتثليث وأنواع الكفر من العالم بخلافه وأجيب بأن الأول إن امتنع فلمدرك آخر والثانى ملتزم إن أريد به التحريم الشرعى).

أقول: للمعتزلة فى إثبات حكم العقل وجوه:

قالوا: أولًا: حسن الصدق النافع والإيمان وقبح الكذب الضار والكفران معلوم بالضرورة من غير النظر إلى شرع أو عرف أو غيرهما من عادة أو مصلحة أو مفسدة ونحوها ولذلك اتفق عليه العقلاء من غير اختلاف مع اختلاف شرعهم وعرفهم وغرضهم وعادتهم وقال به من لا يتشرع فدل على أنه ذاتى.

الجواب: منع كونه معلومًا بالضرورة بل بأحد ما ذكر من الشرع أو العرف أو غيرهما أو نمنع الضرورة فى الحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه بل بأحد ما ذكر من التغيرات الثلاث.

قالوا: ثانيًا: إذا استوى الصدق والكذب فى جميع المقاصد مع قطع النظر عن كل مقدر يصلح مرجحًا للصدق آثر العقل الصدق ولولا أنه ذاتى ضرورى لما كان كذلك.

والجواب: أن يقال لا استواء فى نفس الأمر لأن لكل واحد منهما لوازم فإذًا تقدير تساويهما تقدير مستحيل فيمنع إيثار الصدق على ذلك التقدير وإن كان مما يؤثر فى الواقع وإنما يستبعد ذلك لأنه لا يلزم من فرض التساوى وقوعه وإنما يتبادر الذهن إلى الجزم بإيثار الصدق مع التقدير فيغلط ويظن أنه جزم بإيثاره عند وقوع

ص: 79

المقدر والفرق بينهما غير خفى ولو سلم ذلك فى الشاهد أى فى حقنا فلا يلزم فى الغائب أى فى حق اللَّه تعالى لتعذر القياس فيه فإنا نقطع بأن اللَّه تعالى لا يقبح منه تمكين العبد من المعصية وأنه منا قبيح إذ يحرم على السيد تمكين عبده من المعاصى إجماعًا.

قالوا: ثالثًا: لو كان شرعيًا لزم إقحام الرسل فلا تنهيد البعثة وبطلانه ظاهر بيانه إذا قال الرسول: انظر فى معجزتى كى تعلم صدقى فله أن يقول لا أنظر فيه حتى يجب على النظر وأنه لا يجب حتى أنظر أو يقول لا يجب علىّ حتى يثبت الشرع ولا يثبت الشرع حتى أنظر وأنا لا أنظر ويكون هذا القول حقًا ولا سبيل للرسول إلى دفعه وهو حجة عليه وهو معنى الإفحام.

الجواب: أما أولًا: فبأنه مشترك الإلزام لأنه وإن وجب عندهم بالعقل فليس ضروريًا لتوقفه على إفادة النظر للعلم مطلقًا وفى الإلهيات خاصة وعلى أن المعرفة واجبة وأنها لا تتم إلا بالنظر وأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب والكل مما لا يثبت إلا بالنظر الدقيق وإذا كان وجوبه نظريًا فللمكلف أن يقول: ما تقدم بعينه وهو أنه لا يجب ما لم أنظر ولا أنظر ما لم يجب أو لا يجب ما لم يحكم العقل بوجوبه ولا يحكم ما لم يجب.

وأما ثانيًا: فبالحل وهو أن قوله: لا أنظر حتى يجب؛ غير صحيح لأن النظر لا يتوقف على وجوب النظر وهو ظاهر وقد يقال: فلا يمكن إلزامه النظر وهو معنى الإفحام ولو سلم أن النظر يتوقف على وجوبه فقوله: لا يجب حتى أنظر أو حتى يثبت الشرع؛ غير صحيح، فإن الوجوب عندنا ثابت بالشرع نظر أو لم ينظر ثبت الشرع أو لم يثبت لأن تحقق الوجوب لا يتوقف على العلم به وإلا لزم الدور وليس ذلك من تكليف الغافل فى شئ فإنه يفهم التكليف وإن لم يصدّق به.

قالوا: رابعًا: لو كان ذلك أى لو تحقق كونه شرعيًا للزم محالان:

أحدهما: فى فعل اللَّه تعالى وهو أن لا يقبح مند فلا شئ يمتنع عليه شئ فيلزم جواز إظهار العجزة على يد الكاذب وفيه سد باب إثبات النبوة وأن يمتنع الحكم بقبح نسبة الكذب إليه قبل السمع ويلزم أن لا يجزم بصدقه أصلًا لأنه مما لا يمكن إثباته بالسمع لأن حجية السمع فرع صدقه تعالى إذ لو جاز كذبه لم يكن تصديقه للنبى دالًا على صدقه فينسد باب إثبات النبوة وترتفع الثقة عن كلامه.

ص: 80

ثانيهما: فى فعل العبد وهو أن لا يقبح التثليث ونسبة الزوجة والولد والكفء إليه تعالى وأنواع الكفر من العالم بخلافه قبل السمع وبطلانه ضرورى.

والجواب عن الأول لا نسلم امتناع إظهار العجزة على يد الكاذب والكذب على اللَّه تعالى امتناعًا عقليًا كنا نجزم بعدمه لأنهما من الممكنات وقدرته شاملة ولو سلم امتناعه فلا نسلم أن امتناع القبح العقلى يستلزم انتفاءه لجواز أن يمتنع لمدرك آخر إذ لا يلزم من انتفاء دليل معين انتفاء العلم بالمدلول.

وعن الثانى أنه لو أريد بقبح التثليث التحريم الشرعى وهو المنع عنه من قبل اللَّه تعالى الذى هو المتنازع فيه التزمنا عدم قبحه وإن أريد به معنى آخر فلا يضرنا لأنه إثبات لغير المتنازع فيه.

قوله: (بل بأحد ما ذكر) المعنى الأول هو الظاهر والثانى تكلف محض معناه لا نسلم أن حسن الصدق النافع والإيمان وقبح الكذب الضار والكفران بمعنى استحقاق الثناء والذم فى حكم الشارع أو بمعنى وجود الحرج وعدمه ضرورى؛ بل بمعنى موافقة الغرض ومخالفته فالأحد معين لكن أبهمه لكونه كافيًا فى المقصود أعنى عدم ثبوت المتنازع فيه الذى هو أحد الأخيرين بالتعيين ولا دلالة فى هذا على أنه بأى معنى يوجد لا يثبت المتنازع حتى يفهم منه أن محل النزاع غير التفسيرات الثلاث؛ وكأن فى قوله أو نمنع بلفظ الفعل إيماء إلى أن هذا ليس تفسير والكلام المتن بل منعًا آخر.

قوله: (فإذًا تقدير تساويهما) يعنى إذا كان لكل منهما لوازم مخالفة للوازم الآخر كان تقدير تساويهما من جميع الوجوه تقدير أمر مستحيل وحينئذ لا نسلم أن العقل يؤثر الصدق على ذلك التقدير أى عند وقوع التساوى بل لا يؤثر الصدق ولا الكذب، وإن كان يؤثره فى الواقع لعدم وقوع المقدر فإن قيل إيثار الصدق عند وقوع التساوى مما لا يكاد يجزم به العقل ويستبعد منعه قلنا: لأنه يلتبس عليه حال وقوع التساوى بحال فرضه وتقديره فيظن أن جزمه بإيثار الصدق عند فرض التساوى وتقديره جزم بإيثاره عند وقوع التساوى، وكما يستبعد منعه عند تقدير الوقوع يستبعد منعه عند وقوع المقدر والفرق بينهما غير خفى على المتأمل لأن الجزم مع التقدير جزم فى حال عدم التساوى بل نرجح الصدق والجزم عند وقوع

ص: 81

المقدر جزم فى حال التساوى وعدم الترجح، فالإيثار فى الأول لمرجح وفى الثانى لا لمرجح فقوله: لأنه لا يلزم من فرض التساوى وقوعه معناه أن توجه منع إيثار الصدق إنما هو حال وقوع التساوى لا حال فرضه فعند الفرض إنما كان يتوجه لو كان مستلزمًا للوقوع فحيث لم يستلزم يستبعد المنع وقوله فى المتن فلذلك يستبعد معناه أن منع إيثار الصدق إنما يستبعد؛ لأن تقدير التساوى تقدير أمر مستحيل لا يتصور وقوعه حتى لو كان أمرًا ممكنًا ربما يقع مع التقدير لم يستبعد معه المنع كما لا يستبعد مع الوقوع وشرح هذا المقام على ما ذكره المحقق مما لم يحم حوله أحد.

قوله: (ولو سلم ذلك) أى كون حسن الصدق ذاتيًا فى حقنا فلا يلزم كونه كذلك فى حق اللَّه حتى يصح حكم العقل قبل ورود الشرع أن فاعله يستحق الثناء فى حكم اللَّه تعالى.

قوله: (تمكين العبد) أى إقداره وترك قسره وإلجائه إلى الطاعة، فلا يرد ما ذكره العلامة من أن فعل العبد بقدرته لا بقدرة اللَّه تعالى فلا تمكين منه.

قوله: (ولا يثبت الشرع حتى أنظر) لم يقل حتى يجب النظر على ما هو صريح العكس لأن المنع عليه ظاهر بل أشار إليه بقوله: وأنا لا أنظر أى حتى يجب فلزم الإفحام وخفى المنع.

قوله: (والكل مما لا يثبت) إشارة إلى دفع الاعتراض بأن وجوب النظر من النظريات الجليلة التى تسمى فطرية القياس.

قوله: (وأما ثانيًا فبالحل) أشار إلى رد المقدمة الأولى أعنى لا أنظر حتى يجب ولما كان دفعه ظاهرًا وهو أن معنى الإفحام أنه لا يمكنه إلزام النظر إلا بعد الوجوب فله أن يقول لا أنظر ما لم يجب وإن جاز النظر بدون الوجوب أشار إلى رد المقدمة الثانية بأن قوله لا يجب النظر ما لم أنظر أو ما لم يثبت الشرع ليس بصحيح؛ لأن النظر إنما يكون للعلم بالشئ وثبوته عند الناظر لا لثبوته وتحققه فى نفس الأمر فالوجوب عندنا ثابت بالشرع نظر أو لم ينظر ثبت الشرع عندنا أو لم يثبت من غير توقف على العلم به؛ لأن العلم بالوجوب وقوف على الوجوب فلو توقف عليه لزم الدور ولما اعترض بعضهم بأن هذا تكليف للغافل وأجاب بأنه جائز فى هذه الصورة للضرورة أشار إلى إبطاله بقوله: وليس ذلك أى وجوب النظر قبل النظر وثبوت الشرع عنده من تكليف الغافل فى شئ لأن معناه أن لا

ص: 82

يفهم التكليف والخطاب وههنا قد فهمه وإن لم يصدق به ولم يعلم أنه مكلف.

قوله: (للزم محالان) ظاهر كلام المصنف وصريح كلام الآمدى هو أن الأول جواز إظهار المعجزة والثانى امتناع الحكم بقبح الأمور المذكورة وتكلف الشارح فجعل الأول جواز إظهار المعجزة وامتناع الحكم بقبح نسبة الكذب إليه والثانى عدم قبح التثليث ونحوه وجعل نسبة الكذب بمعنى انتسابه إلى اللَّه تعالى وكونه كاذبًا ليكون فعل اللَّه وإلا فظاهر أن نسبة الكذب إليه فعل العبد كنسبة الزوجة والولد والكفء. وذلك لأنه لو أجرى كلام المصنف على ظاهره لما كان لتوسيط قوله: قبل السمع بين نسبة الكذب والتثليث جهة بل كان المناسب تقديمه على الكل أو تأخيره عنه فليتأمل.

قوله: (من العالم بخلافه) أى ممن يعلم خلاف كل ما ذكر من المحالات وقيد بذلك لأنه ربما لا يحكم العقل بقبح صدور هذه الأمور من الجاهل.

قوله: (معلوم بالضرورة) أى معلوم بلا كسب، وهذا العلم الضرورى حاصل من غير نظر والتفات إلى شرع وغيره فيكون بديهيًا أو معلومًا بالبديهة فيكون قوله: من غير النظر بمنزلة التفسير مبالغة وتأكيدًا.

قوله: (ونحوها) أى من أخلاق تابعة لأمزجة، والحاصل أنه إذا نظرنا إلى الصدق النافع من حيث هو ونسبنا الحسن إليه وقطعنا النظر عن جميع ما عداه حكم العقل بأنه حسن حكمًا ضروريًا لا توقف فيه، فلو لم يكن الحسن له فى ذاته بل كان مستفادًا من شرع أو غيره لم يحكم بذلك لتوقفه حينئذ على ملاحظة ما استند إليه حسنه وكذا الحال فى قبح الكذب الضار وإذا ثبت كونهما عقليين فى هذه الأفعال ثبت فيما عداها؛ إذ لا قائل بالفصل، والجواب: منع كونه معلومًا بالضرورة مع قطع النظر عن المذكورات بل هو معلوم بأحدها، أو الجواب بمنع الضرورة؛ أى لا نسلم أن العقل مع قطع النظر عن الأمور المذكورة يحكم بالحسن أو القبح بالمعنى الذى وقع النزاع فيه وقد حققناه فى صدر الكتاب بل يحكم بهما بأحد المعانى الثلاثة المذكورة هناك.

قوله: (مع قطع النظر عن كل مقدر يصلح مرجحًا) أى: من الاعتقادات والشرائع والأقوال المستدعية للميل إليه والبرهان الدال على حسنه آثر العقل

ص: 83

الصدق، ولولا أن حسنه ثابت له فى ذاته ومعلوم بالضرورة لما كان كذلك، والجواب أن يقال: لا استواء بين الصدق والكذب فى نفسر الأمر من جميع الوجوه (لأن لكل واحد منهما لوازم) منافية للوازم الآخر أقلها المطابقة واللامطابقة (فإذًا تقدير تساويهما) فى جميع المقاصد والجهات (تقدير) أمر (مستحيل) فيتوجه منع التقدير (فيمنع إيثار الصدق على ذلك التقدير، وإن كان مما يؤثر فى الواقع وإنما يستبعد) منع إيثار الصدق على ذلك التقدير (لأنه لا يلزم من فرض التساوى) بينهما (وقوعه) فى نفس الأمر فهنا شيئان نفس التقدير وهو أمر واقع لا استحالة فيه ووقوع المقدر هو المستحيل ومنع الإيثار إنما هو على الثانى لا الأول وليس بمستبعد فى نفسه لجواز استلزام المحال للمحال (وإنما) يستبعده الذهن؛ لأنه (يتبادر إلى الجزم بإيثار الصدق مع) وجود (التقدير فيغلط ويظن أنه جزم بإيثاره عند وقوع المقدر والفرق) بين الجزمين الحاصل والمظنون أو بين نفس التقدير ووقوع المقدر (غير خفى ولو سلم ذلك) أى كون الحسن والقبح للفعل فى ذاته (فى حقنا) بما ذكرتم من الدليل (فلا يلزم ذلك فى حق اللَّه تعالى) وكلامنا فيه؛ لأن البحث عن الحسن والقبح بالإضافة إلى أحكام اللَّه تعالى لعدم جريانه فى حقه تعالى ولا يمكن القياس لأنا نقطع بالفرق إجماعًا لا يقال: إذا سلم أن الحسن مثلًا ذاتى للفعل وما يستند إلى ذات الشئ لا يختلف أصلًا فيلزم ثبوته فى حقه تعالى أيضًا، لأنا نقول: ما ذكرتم إنما يدل على أن للصدق حسنًا قائمًا بذاته، وأما إنه مقتضى ذاته من حيث هى فلا وحينئذ جاز الاختلاف بالمقايسة.

قوله: (لزم إفحام الرسل) أى: إسكاتهم وعجزهم عن إثبات النبوة.

قوله: (فله أن يقول: لا أنظر فيه) أى فى المعجز (حتى يجب علىَّ النظر) فيه إذ له أن يمتنع عما لم يجب عليه وأن النظر فيه لا يجب علىَّ حتى أنظر فيه إذ لا وجوب بالفرض إلا من الشرع فوجوب النظر فيه يتوقف على ثبوت الشرع المتوقف على النظر فيه فيتوقف كل من النظر فيه ووجوبه على الآخر، وله أن يقول: هذا المعنى بعبارة أوضح، فيقول: لا يجب علىَّ النظر فيه حتى يثبت الشرع لما عرفت ولا يثبت الشرع حتى أنظر وأنا لا أنظر ما لم يجب، وإذا بطل كونه شرعيًا ثبت كونه عقليًا إذ لا مخرج عنهما إجماعًا.

قوله: (أما أولًا فبأنه مشترك الإلزام لأنه) أى لأن النظر (وإن وجب عندهم

ص: 84

بالعقل فليس) وجوبه (ضروريًا لتوقف الوجوب على إفادة النظر للعلم مطلقًا) أى: فى الجملة وأنكرها السمنية فى الإلهيات خاصة وقد أنكرها المهندسون وعلى أن معرفة اللَّه تعالى واجبة وقد جحده الحشوية وأن المعرفة لا تتم إلا بالنظر وقد منعه الصوفية وأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وسيأتى ما قيل عليه، فإن قلت: ما ذكرتموه يتعلق بوجوب النظر فى معرفة اللَّه سبحانه والكلام فى النظر فى المعجزة قلت النظر فى معرفة الرسالة من اللَّه تعالى نظر فى معرفته من حيث الصفات الفعلية، أو نقول: وجوب النظر فى معرفة الرسالة منه تعالى متوقف على وجوب النظر فى معرفته فيتوقف على هذه المقدمات أيضًا ولك أن تحمل المعرفة المذكورة على معرفة الرسالة منه تعالى وباقى المقدمات على حالها فكل واحد منها لا يثبت إلا بالنظر الدقيق فبطل ما زعموا من أن وجوب النظر من القضايا الفطرية القياس، وإذا كان وجوب النظر نظريًا فللمكلف أن يقول: لا يجب علىَّ النظر فى المعجز ما لم أنظر فى وجوبه؛ لأن وجوبه مستفاد من النظر ولا أنظر فى وجوبه ما لم يجب علىَّ إذ ما ليس بواجب على لا أنظر فى وجوبه، فإن قيل: هو وإن لم يكن واجبًا لكن النظر فى وجوبه واجب فليس له الامتناع قلنا: ممنوع وإن سلم فبنظر آخر ويلزم التسلسل أو يقول: لا يجب على النظر فيه ما لم يحكم العقل بوجوبه ولا يحكم العقل به ما لم أنظر فيه وأنا لا أنظر فى وجوبه ما لم يجب على لما عرفت.

قوله: (فإن الوجوب) أى وجوب النظر فى المعرفة أو مطلق الوجوب الشامل له ولغيره. (ثابت) فى نفس الأمر (بالشرع نظر) المكلف (أو لم ينظر ثبت الشرع) عنده (أو لم يثبت لأن تحقق الوجوب) فى نفس الأمر (لا يتوقف على العلم به وإلا لزم الدور) لأن تحقق العلم به متوقف على تحققه فيه ضرورة وجوب مطابقته إياه، غاية ما فى هذا أن يقال: إنه تكليف بالوجوب للغافل عنه وإنه باطل إجماعًا؛ فيجاب بأنه ليس ذلك من تكليف الغافل المستحيل فى شئ فإن المكلف فى هذه الصورة يفهم التكليف وإن لم يصدق به وليس التصديق بالتكليف شرعًا لتحققه وإلا لزم الدور، وأما الغافل الذى لا يجوز تكليفه فهو من لا يفهم الخطاب كالصبيان أو يفهم لكنه لم يقل له: إنه مكلف كالذى لم تصل إليه دعوة نبى والحاصل أن الغافل عن التصور لا يجوز تكليفه لا الغافل عن التصديق،

ص: 85

وهذا هو الجواب المحقق عما فيه فى إيجاب معرفة اللَّه تعالى من أنه إما تكليف الغافل أو أمر بتحصيل الحاصل لا ما قيل من أن ذلك مستثنى من قاعدة تكليف الغافل إذ لا جواز للاستثناء فى الدلائل القطعية.

قوله: (وهو أن لا يقبح منه تعالى شئ) إذ لا قبح للأشياء عقلًا ليثبت بالقياس إليه، وأما القبح الشرعى فلا يتصور فى حقه سبحانه لترتبه على النواهى الشرعية المتعلقة بالعباد لا بالخالق تعالى وأيضًا الكلام قبل ثبوت الشرع وإذا انتفى القبح الصارف لم يمتنع عليه شئ فيلزم جواز إظهاره المعجزة على يد الكاذب فلا يحصل لنا الجزم بانتفائه فلا يلزم صدق مدعى الرسالة أصلًا، ويلزم أيضًا أن يمتنع منا الحكم بقبح نسبة الكذب إليه تعالى قبل السمع إذ لا قبح هناك فلا يعلم انتفاء الكذب عنه بل جوازه، ويلزم من ذلك أن لا يجزم بصدقه أصلًا لأن صدقه مما لا يمكن إثباته بالسمع لأن حجية السمع بل ثبوته فرع صدقه تعالى إذ لو جاز كذبه لم يكن تصديقه للنبى بإظهار المعجزة فإنه فى قوة قوله: هذا صادق فى دعواه دالًا على صدقه وإذا كان السمع متوقفًا على صدقه لم يكن إثباته به وقد عرفت أن لا جزم بصدقه من حيث العقل فينسد باب إثبات النبوة لتوقفه على الجزم بصدقه ويرتفع أيضًا الثقة عن كلامه.

قوله: (من العالم بخلافه) أى بخلاف ما ذكر من التثليث وغيره وفى بعض النسخ من العالم بحاله أى: الذى يعلم حاله تعالى وأنه ليس ثالث ثلاثة ولا زوجة له ولا ولد.

قوله: (وإن كنا نجزم بعدمه) أى بعدم إظهار المعجز على يد الكاذب وعدم الكذب إذ لا يلزم من جواز الشئ عقلًا عدم الجزم بعدمه كما سبق فى العلوم العادية.

قوله: (ولو سلم امتناعه) أى امتناع الإظهار والكذب فى نفس الأمر فلا نسلم أن انتفاء القبح العقلى يستلزم انتفاء امتناع وانتفاء العلم به لجواز أن يمتنع لمدرك آخر؛ أى يجوز أن يمتنع بسبب آخر ويدرك إذ لا يلزم من انتفاء سبب معين هو دليل معين انتفاء المسبب المدلول أو انتفاء العلم به.

قوله: (الذى هو المتنازع فيه) فيه بحث لأن القبح بهذا المعنى لا يتصور ثبوته قبل الشرع فكيف يتنازع فيه أنه ثابت قبله أو لا ومن ادعى قبح التثليث قبل السمع

ص: 86

لم يرد به المنع الشرعى بل كونه بحيث يستحق فاعله الذم عاجلًا والعقاب آجلًا وقد أوضحناه فيما سلف؛ ولذلك ترى بعضهم يقول: إن أريد التحريم الشرعى التزمنا عدمه ولذلك ترى التحريم القطعى

(1)

، وإن لم يتعرض له المصنف ويمكن أن يقال: معناه أنه لو أريد بقبح التثليث ما يترتب عندنا على التحريم الشرعى من الذم والعقاب وهو المتنازع فيه التزمنا عدم قبحه، وإن أريد بالقبح معنى آخر فلا يضرنا إثباته لأنه إثبات لغير المتنازع فيه.

قوله: (مبالغة وتأكيدًا) وذلك لأن البداهة تظهر بنفى الاحتياج إلى النظر وبترتيب المقدمات وإذا ذكر فى بيانها نفى الاحتياج إلى النظر والالتفات حصل المبالغة والتأكيد فيها لأن الثانى أعم من الأوّل.

قوله: (بل كان مستفادًا من شرع أو غيره) قيل: أى حاصلًا من شرع أو غيره إذ المقابلة تناسب ذلك وإذا كان كذلك فقوله: لتوقفه حينئذ على ملاحظة ما استند إليه حسنه محل تأمل؛ لأن حكم العقل بين الحسن والصدق النافع بمجرد ملاحظتهما لا ينافى ثبوت الحسن له من علة مباينة ولا يلزم ملاحظة علة الثبوت فى الحكم بالشئ الذى هو بين الثبوت لشئ آخر.

قوله: (ولولا أن حسنه ثابت له فى ذاته ومعلوم بالضرورة لما كان كذلك) صحة هذا الكلام مبنية على شيئين أحدهما: إخراج الحسن من الأحوال المستدعية للميل إليه فإن الحسن حالة تصلح أن تكون مرجحًا وثانيهما: أن إثبات العقل للصدق يتوقف على ملاحظة حسنة فإذا رفع النظر عن الأشياء المذكورة وآثر العقل الصدق ثبت كون حسنه معلومًا بالضرورة وثابتًا له فى ذاته.

قوله: (لتوقف الوجوب على إفادة النظر للعلم مطلقًا) أى توقفًا علميًا أو استدلاليًا ليلزم كونه نظريًا وإنما اعتبر توقفه على المطلق مع توقفه على الخاص لأن المقصود بيان احتياجه إلى أنظار دقيقة وباعتبار كل واحد من المطلق والخاص يحصل بيان احتياجه إلى النظر الدقيق.

قوله: (أو نقول وجوب النظر فى معرفة الرسالة منه تعالى) حاصل الجوابين: وجوب النظر فى معرفة الرسالة من اللَّه تعالى ومن جملته وجوب النظر فى معرفة

(1)

قوله: ولذلك ترى التحريم القطعى. هكذا فى الأصل وحرر. كتبه مصحح طبعة بولاق.

ص: 87

اللَّه لأن المراد بمعرفة اللَّه تعالى معرفته من حيث الذات والصفات التى من جملتها هذه الصفة الفعلية المخصوصة فإن أردنا اعتبرنا وجوب النظر وقلنا إنه متوقف على إفادة النظر للعلم مطلقًا إلى آخر المقدمات وإن أردنا اعتبرنا توقفه على وجوب النظر فى معرفته تعالى لكن يجب أن إثبات كون الوجوب نظريًا يحتاج إلى إثبات التوقف الاستدلالى فيلزم أن يجعل وجوب النظر فى معرفة الرسالة من اللَّه تعالى والتوقف العلمى بين هذين الوجهين على وجه يسند النظر له يحتاج بيانه إلى تأمل.

قوله: (هو وإن لم يكن واجبًا) اعتراض على قوله: ولا أنظر فى وجوبه أى وجوب النظر فى المعجزة ما لم يجب علىّ النظر فى المعجزة إذ ما ليس بواجب علىّ وهو النظر فى المعجزة لا أنظر فى وجوبه بأن يقال: هو أى النظر فى المعجزة وإن لم يكن واجبًا لكن النظر فى وجوبه واجب أى وجوب النظر فى الوجوب لا يتوقف على الوجوب وحاصل الجواب أنه إذا لم يكن النظر فى المعجزة واجبًا لم يكن النظر فى وجوبه واجبًا ولو سلم أن النظر فى وجوب النظر فى المعجزة واجب مع عدم وجوب النظر فى المعجزة فالنظر فى وجوب النظر فى المعجزة واجب مع عدم وجوب نظر آخر فى وجوب النظر فى المعجزة وتوضيح هذا الكلام بأنا نقرر الكلام هكذا لا يجب علىّ النظر فى المعجزة ما لم أنظر فى وجوبه ولا أنظر فى وجوبه ما لم يجب علىّ النظر فى وجوب النظر فى المعجزة ما لم أنظر فى وجوب

(1)

النظر فى وجوب النظر فى المعجزة ولا أنظر فى وجوب النظر فى المعجزة وجوب فى وجوب النظر فى وجوب النظر فى المعجزة ما لم يجب علىّ النظر فى وجوب النظر فى وجوب النظر فى المعجزة ولا يجب علىّ النظر فى وجوب النظر فى وجوب النظر فى المعجزة ما لم أنظر فى وجوب النظر فى وجوب النظر فى المعجزة وهكذا إلى أن تتسلسل الوجوبات والأنظار فإن كل وجوب يتوقف على نظر وكل نظر يتوقف على وجوب لكن يجب علىّ ادعاء النظر له فى كل وجوب واقع فى السلسلة.

(1)

قوله: ما لم أنظر فى وجوب. . . إلخ. هكذا فى الأصل والعبارة كما ترى غير مستقيمة وفيها تقديم وتأخير وسقط وتكرير فانظر وحرر. كتبه مصحح طبعة بولاق.

ص: 88

قوله: (فلا يعلم

(1)

صدق مدعى الرسالة) اعتبار عدم العلم بصدق النبى عليه الصلاة والسلام مناسب للتقرير الواقع فى انسداد باب إثبات النبوة وكأن الشارح قد قصد هنا شيئين: ثبوت النبوة وإثباته فقال: أوّلًا وفيه سد باب النبوة أى ثبوتها باعتبار أن ثبت النبوة موقوف على تصديق اللَّه تعالى للنبى عليه الصلاة والسلام وهذا التصديق ليس إلا بإظهار المعجزة وهذا الإظهار تصديق من اللَّه تعالى إذا كان محتفيًا بالنبى عليه الصلاة والسلام وإذا لم يكن محتفيًا لم يكن تصديقًا وإذا لم يكن للنبى عليه الصلاة والسلام تصديق من اللَّه تعالى لم تثبت له النبوة.

قوله: (ويلزم أيضًا) يعنى أن قول الشارح: أن يمتنع معطوف على قوله: جواز إظهاره وفيه تعسف لأن امتناع الحكم منا قبح نسبة الكذب إليه تعالى قبل السمع لا يتفرع على قوله: فلا يمتنع عليه عدم قبح

(2)

الكذب وجوازه من اللَّه تعالى والحكم والنسبة المذكوران فى قوله: وإن يمتنع الحكم بقبح نسبة الكذب إليه واقعان منا ولا يلزم من عدم قبح الكذب المذكور عدم قبح أمر واقع منا ألا يرى أن هذا الكذب ليس بقبيح قبل السمع وبعده على تقدير أن يكون القبح شرعيًا والنسبة المذكورة قبيحة بعد السمع والظاهر أن هذا القول من الشارح معطوف على قوله: أن لا يقبح منه شئ لأن هذا الامتناع متفرع على كون القبح شرعيًا لكن قوله: أحدهما فى فعل اللَّه تعالى يحتاج إلى تأويل على هذا التقدير بأن يقال أراد بكونه فى فعل اللَّه تعالى تعلقه بفعله فإن امتناع الحكم بقبح الكذب والإثبات بأمر غير مطابق له أنه متعلق بفعله تعالى.

قوله: (ويلزم من ذلك) أى من العلم بجوازه فإن قيل إذا كان المقصود لزوم عدم الجزم بصدقه وهو حاصل من جواز كذبه يجب أن يترك قول الشارح وأن يمتنع. . . إلخ. ويذكر مقامه وجواز كذبه معطوفًا على جواز إظهاره قلنا: عدم الجزم بالصدق لا يلزم من جواز الكذب فى نفس الأمر بل يلزم من الحكم بجواز الكذب فى هذا الحكم من ذلك الكلام ولذا قال: فلا يعلم انتفاء الكذب عنه بل جوازه.

(1)

قول: التقرير قوله: فلا يعلم عبارة السيد فلا يلزم.

(2)

قوله: فلا يمتنع عليه عدم قبح. . . إلخ. لعل فى الكلام سقطًا وحق العبارة فلا يمتنع عليه شئ إذ عدم قبح. . . إلخ. وقوله: فيما يأتى والإثبات بأمر. . . إلخ. عبارة لا تخلو من خلل وتحريف فحرر. كتبه مصحح طبعة بولاق.

ص: 89

قوله: (وقد عرفت أن لا جزم) يعنى أن قول الشارح أصلًا معناه لا من حيث السمع ولا من حيث العقل.

قوله: (فلا نسلم أن انتفاء القبح العقلى) هذا المنع متوجه إلى قوله: وهو أن لا يقبح منه شئ فلا يمتنع عليه شئ والقبح المذكور هنا غير مقيد بكونه عقليًا لكن قيد القبح بالعقلى فى الجواب لأن انتفاء القبح الشرعى من علة لا يدل على جواز ما ذكر وهو غاية الظهور والذى قرر توهم كونه دليلًا هو انتفاء القبح العقلى ولو قيد بكونه عقليًا وقيل: لو كان القبح شرعيًا لزم أن لا يقبح منه تعالى شئ بالقبح العقلى لم يبعد وقوله فيما سبق من توضيح هذه المقدمة وأما القبح الشرعى فلا يتصوّر فى حقه تعالى فلا يحتاج إلى نفيه.

قوله: (وانتفاء العلم به) وإنما زاد انتفاء العلم فى سنده ومراده ما ذكر.

المصنف: (قالوا إذا استويا فى المقصود. . . إلخ) المراد الاستواء فى المقصود مع جميع الأغراض وموافقة الجبلة لا الاستواء فى مقصود معين لجواز أن يكون الإيثار لمرجح آخر وأقله أن يكون لموافقة الاعتياد وقد رد هذا الدليل بأن الحسن فيه بمعنى صفة الكمال.

الشارح: (حتى يثبت الشرع) أى عندى.

الشارح: (إفادة النظر للعلم مطلقًا) أى ولو فى بعض الأشياء ثم لا بد أن يكون ذلك البعض خصوص الإلهيات وقد أنكر السمنية بضم السين وفتح الميم وهم قوم من عبدة الأوثان يقولون بالتناسخ إفادة النظر للعلم ولو فى بعض الصور وقالوا: لا طريق للعلم إلا الحس وأنكر الرياضيون إفادة النظر للعلم فى الإلهيات، وقالوا: إنها بعيدة عن الأذهان جدًا والغاية القصوى فيها الظن والأخذ بالأحرى وإلا خلق وقالوا إنما يفيد النظر العلم فى الهندسيات والحسابات لأنها علوم قريبة من الأفهام منتسقة منتظمة لا يقع فيها غلط وقال الملاحدة النظر لا يفيد العلم بمعرفته بلا معلم يرشدنا إلى معرفته ويدفع عنا الشبه.

الشارح: (وهو أنه لا يجب ما لم أنظر ولا أنظر ما لم يجب) أى لا يجب على النظر فى معجزتك عقلًا إلا إذا نظرت إذ وجوب النظر على عقلًا متوقف على ثبوت ذلك الوجوب بحكم العقل وهو متوقف على النظر وقوله أو لا يجب ما لم

ص: 90

يحكم العقل هو الثانى الواضح فالطريقان المتقدمان المفحمان على أن الوجوب بالشرع جاريان على أن الوجوب بالعقل.

الشارح: (أو حتى يثبت الشرع) أى كما هو الطريق الواضح فالمقدمة الثانية فى كل منوعة وهما متحدان معنًى.

الشارح: (ثبت الشرع أو لم يثبت) أى ثبت عند النظر الشرع أو لم يثبت عنده لأن المدار على ثبوته فى نفسه وقوله لأن الوجوب لا يتوقف على العلم به إشارة إلى وجه الغلط فى المقدمة الثانية القائلة ولا يجب على النظر ما لم أنظر أو لا يجب على النظر حتى يثبت الشرع وهو توقف الوجوب على العلم به مع أنه لا يتوقف وإلا كان دورًا ولزم وأن لا يجب شئ على الكافر بل الوجوب فى نفس الأمر يتوقف على ثبوت الشرع فى نفس الأمر وشرط التكليف التمكن من العلم بالمكلف به لا العلم به لكن فيه أن الوجوب وإن لم يتوقف على العلم به إلا أن الامتثال يتوقف عليه فيقال للرسول لا أمتثل أمرك حتى أعلم وجوب الامتثال إذ له أن يمتنع عما لم يعلم وجوبه فيلزم الإفحام، والحق فى الجواب أن إراءة المعجزة واجبة على اللَّه عقلًا لطفًا بعباده عند المعتزلة لقولهم بالوجوب العقلى أو واجبة عادة عند الأشعرى فإن اللَّه تعالى كريم جرت عادته بإراءة المعجزات وإذا كانت الإراءة واجبة عاقلًا أو عادة فيرى المكلف المعجزة بالضرورة عند إراءة الرسول ويقع العلم بثبوته ولا تتأتى الأسئلة والأجوبة، فالجواب بأن الوجوب ثابت فى نفسه وكذا الشرع إنما يدفع لزوم الدور المقول من طرف المرسل إليهم استدلالًا منهم على عدم التزامهم النظر فى المعجزة فالرسل مانعون تمام الاستدلال التحريم العقلى يعنى نلتزم عدمه والمراد بالتحريم العقلى التحريم الذى مستنده القبح العقلى.

الشارح: (وإن كنا نجزم بعدمه. . . إلخ) أى لأن دلالة المعجزة عادية فلا تتوقف على امتناع الكذب كما فى سائر العلوم العادية التى ليست نقائضها ممتنعة فنحن نجزم بصدق من ظهرت المعجزة على يده مع أن كذبه ممكن فى نفسه.

الشارح: (فلا نسلم أن امتناع القبح العقلى يستلزم انتفاءه) أى وجودًا أو علمًا فيجوز أن ينتفى القبح العقلى ولا ينتفى امتناع إظهار المعجزة على يد الكاذب بل يثبت امتناع الإظهار المذكور لسبب آخر ويعلم به لأن انتفاء سبب معين لا يستلزم انتفاء المسبب المعين وكذا العلم بانتفاء سبب معين لا يعلم منه انتفاء المسبب المعين

ص: 91

فهذا منع للملازمة والأول منع بطلان اللازم.

الشارح: (لمدرك آخر) هو أن إظهار المعجزة على يد الكاذب نقص والنقص محال عليه وأيضًا يلزم أن تكون أكمل منه فى بعض الأوقات أعنى وقت صدقنا فى كلامنا وهذا إنما يدل على أن الكلام النفسى الذى هو صفة قائمة بذات اللَّه تعالى يكون صادقًا ولا يدل على صدقه فى الحروف والكليات التى يخلقها فى الجسم الذى هو الفعل المدعى امتناع القبح فيه ولا يصح التمسك فى دفع الكذب عن الكلام اللفظى بلزوم النقص فى أفعاله لأن النقص فى الفعل هو القبح العقلى بعينه وإنما الخلاف فى العبارة وقيل: إن المدرك الآخر هو العادة وهو مشكل فى أول رسول.

الشارح: (التزامنا عدم قبحه) أى وحينئذٍ فلا نسلم بطلان التالى من قوله لو جاز ذلك لجاز التثليث وأنواع الكفر من العالم.

التفتازانى: (أى المعنى الأول) مراده معنى الجواب بالمنع وهو منع كون ما ذكر من حسن الصدق النافع والإيمان وقبح الكذب الضار والكفران معلومًا بالضرورة بل بأحد ما ذكر من العرف أو الشرع أو غيرهما وقوله والثانى تكلف أى أن كون معنى الجواب بالمنع منع الضرورة فى الحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه بل بغيره وهو الموافقة للغرض والمخالفة له تكلف فالمراد بالمعنى الأول والثانى المعنيان المذكوران فى الشارح بيانًا لجواب المصنف الذى ذكره بقوله والجواب المنع بل بما ذكر.

التفتازانى: (والفرق بينهما غير خفى) أى فليس المنع عند وقوع الثانى بمستبعد كالمنع عند تقديره.

التفتازانى: (لأن المنع عليه ظاهر) يعنى لو قال ولا يثبت الشرع ما لم يجب على النظر لكان منعه ظاهرًا إذ يقال: إن الشرع يثبت عندك بالنظر ولو لم يجب وقوله بل أشار إليه أى إلى العكس الذى هو قولنا لا يثبت الشرع ما لم يجب بقوله وأنا لا أنظر أى حتى يجب فإنما آل ذلك إلى أنه لا يثبت حتى يجب النظر فيلزم الإفحام وخفى المنع لعدم التصريح بالعكس.

التفتازانى: (إشارة إلى دفع الاعتراض. . . إلخ) فى المواقف وشرحه لا يقال قد يكون وجوب النظر فطرى القياس أى من القضايا التى قياساتها معها فيضع النبى

ص: 92

عليه الصلاة والسلام للمكلف مقدمات ينساق إليها ذهنه من غير تكلف وتفيده العلم بذلك ضرورة فيكون الحكم بوجوب النظر ضروريًا محتاجًا إلى تنبيه على طرفيه مع تلك المقدمات أو نظريًا قريبًا من الضرورى محتاجًا إلى أدنى التفات لأنا نقول: كونه فطرى القياس مع توقفه على ما ذكرتموه من المقدمات الدقيقة الأنظار باطل قطعًا وعلى تقدير صحته بأن يكون هناك دليل آخر للمكلف أن لا يستمع إليه ولا يأثم بتركه فلا تمكن الدعوى وإثبات النبوة.

التفتازانى: (لأن النظر إنما يكون للعلم بالشئ) أى فالحاصل من النظر العلم بالوجوب لا ثبوت الوجوب فى نفس الأمر.

قوله: (فيكون قوله من غير النظر والالتفات مبالغة وتأكيدًا) أى لأن البديهى هو ما لا يحتاج إلى شئ أصلًا بعد تصوره فإذا حمل الضرورى عليه كان قوله من غير النظر. . . إلخ. بمنزلة التفسير مبالغة وتأكيدًا وعطف التأكيد على المبالغة للتفسير.

قوله: (وقد ضعفناه فى صدر الكتاب) الأولى فى صدر المبحث وما حققه هناك هو أن المتنازع فيه الحسن والقبح بغير التفسيرات الثلاث وتقدم أن الظاهر مع السعد لأن ما أجعله منازعًا فيه راجع إلى الثانى والثالث.

قوله: (ثبوته موقوف على الشرع) أى: كما هو الفرض وذلك الثبوت متوقف على النظر.

قوله: (وأنكرها السمنية فى الإلهيات خاصة) هكذا فى النسخ التى بأيدينا وهى محرفة وأصل النسخة هكذا وأنكرها السمنية وفى الإلهيات فقد سقط من النسخ حرف العطف وهو معطوف على قوله مطلقًا وحكاية لما فى الشارح.

قوله: (وقد منعه الصوفية) فقالوا رياضة النفس بالمجاهدات وتجريدها من الكدورات البشرية والعوائق الجسمانية والتوجه إلى الحضرة الصمدانية والتزام الخلوة تفيد العقائد الحقة التى لا تحوم حولها شائبة ريبة وأما أصحاب النظر فتعرض لهم فى عقائدهم الشكوك والشبهات الناشئة عن شبه الخصم ورد بأن ذلك يحتاج إلى معونة النظر ألا ترى أن رياضة اليهود والنصارى تؤديهم إلى عقائد باطلة فلا بد من الاستعانة بالنظر.

قوله: (هو وإن لم يكن واجبًا. . . إلخ) أى النظر فى المعجزة وإن لم يكن واجبًا

ص: 93

لكن النظر فى وجوبه واجب فليس له الامتناع.

قوله: (قلنا ممنوع) أى لأنه لا يكون النظر فى وجوب النظر فى المعجزة واجبًا مع كون النظر فى المعجزة ليس بواجب.

قوله: (وإن سلم فبنظرآخر) أى إن سلم أن وجوب النظر فى وجوب النظر فى المعجزة لا يستلزم وجوب النظر فى المعجزة فيكون ذلك الوجوب بنظر آخر ووجوب ذلك النظر الآخر بنظر آخر ووجوبه بنظر آخر وهكذا فيقول المعاند لا أنظر فى المعجزة ما لم أنظر فى وجوب النظر فى المعجزة ولا أنظر فى وجوب النظر فى المعجزة ما لم أنظر فى وجوب النظر فى وجوب النظر فى المعجزة ولا أنظر فى وجوب النظر فى وجوب النظر فى المعجزة ما لم أنظر فى وجوب النظر فى وجوب النظر فى وجوب النظر فى المعجزة وهكذا لأن لوجوب كل نظر نظرًا.

قوله: (أو يقول) عطف على أن يقول لا يجب على النظر إشارة إلى الطريق الثانى الواضح.

قوله: (أما تكليف العاقل) أى إن كان المكلف بالمعرفة غير العارف.

قوله: (وأما تحصيل الحاصل) أى: إن كان المكلف بها هو العارف.

قوله: (ترى بعضهم) أى بعض الشارحين لهذا الموضع يقول فى بيانه: إن أريد التحريم الشرعى. . . إلخ.

قوله: (ولذلك ترى التحريم القطعى) تحريف وصوابه وكذلك إن أريد لأصل مذهب المعتزلة وليس مبنيًا على تسليم مذهبهم فكان الظاهر أن يقول: وهو أنه لا حكم للعقل فيما لا يقضى العقل فيه بحسن ولا قبح إلا أن يقال: إن المراد بأفعال العقلاء الأفعال التى لم يقض العقل فيها بحسن ولا قبح ويكون قوله: وقد قسم المعتزلة. . . إلخ. كالتعليل لثبوت هذا القسم عندهم.

ص: 94

قال: (مسألتان على التنزل: الأولى: شكر المنعم ليس بواجب عقلًا لأنه لو وجب لوجب لفائدة وإلا كان عبثًا وهو قبيح ولا فائدة للَّه تعالى لتعاليه عنها ولا للعبد فى الدنيا لأنه مشقة ولا حظ للنفس فيه ولا فى الآخرة إذ لا مجال للعقل فى ذلك، قولهم: الفائدة الأمن من احتمال العقاب فى الترك وذلك لازم الخطور مردود بمنع الخطور فى الأكثر ولو سلم فمعارض باحتمال العقاب على الشكر لأنه تصرف فى ملك الغير أو لأنه كالاستهزاء كمن شكر ملكًا على لقمة بل اللقمة بالنسبة إلى الملك أكثر).

أقول: إذا بطل حكم العقل فلا يجب شكر عقلًا ولا يكون قبل الشرع حكم لكن أصحابنا نزلوا عن ذلك الأصل.

وبتقدير تسليم حكم العقل أبطلوا هاتين المسألتين فاقتدى بهم المسألة الأولى شكر المنعم ليس بواجب عقلًا فلا إثم فى تركه على من لم تبلغه دعوة النبوة خلافًا للمعتزلة، لنا لو وجب لوجب لفائدة واللازم باطل، أما الأولى فلأنه لولا الفائدة لكان عبثًا وهو قبيح فلا يجب عقلًا أو كان إيجابه عبثًا وهو قبيح فلا يجوز على اللَّه، وأما الثانية فلأن الفائدة إما للَّه وإما للعبد، والثانى إما فى الدنيا وإما فى الآخرة، والثلاث منتفية، إما للَّه فلتعاليه عن الفائدة وإما للعبد فى الدنيا فلأن منه فعل الواجبات وترك المحرمات العقلية وأنه مشقة وتعب ناجز ولا حظ للنفس فيه وما هو كذلك لا يكون له فائدة دنيوية وأما للعبد فى الآخرة فلأن أمور الآخرة من الغيب الذى لا مجال للعقل فيه والذى ذهب إليه المعتزلة من هذه الأقسام وانفصلوا به عن هذا الإلزام هو أن الفائدة للعبد فى الدنيا وهو الأمن من احتمال العقاب لتركه وذلك الاحتمال لازم الخطور على بال كل عاقل فإنه إذا نشأ ورأى ما عليه من النعم الجسام التى لا تحصى حينًا فحينًا علم أنه لا يمتنع كون المنعم بها قد ألزمه الشكر فلو لم يشكره لعاقبه وقولهم هذا مردود لأنا نمنع لزوم خطوره بل معلوم عدمه فى أكثر الناس ولو سلم فخوف العقاب على الترك معارض بخوف العقاب على الشكر إما لأنه تصرف فى ملك الغير بدون إذن المالك فإن ما يتصرف فيه العبد من نفسه وغيرها ملك للَّه تعالى وإما لأنه كالاستهزاء وما مثله إلا كمثل فقير حضر مائدة ملك عظيم يملك البلاد شرقًا وغربًا ويعم العباد وهبًا ونهبًا فتصدق عليه بلقمة خبز فطفق يذكرها فى المجامع ويشكره عليها بتحريك أنملته

ص: 95

دائمًا لأجله فإنه يعدّ استهزاءً منه بالملك، فكذا ههنا بل اللقمة بالنسبة إلى الملك وما يملكه أكثر مما أنعم اللَّه به على العبد بالنسبة إلى اللَّه وشكر العبد بفعله أقل قدرًا فى جنبا اللَّه من شكر الفقير للملك بتحريك أصبعه.

قوله: (أبطلوا هاتين المسألتين) فيه تسامح لأن المسألة الأولى على ما ذكر: هى أن شكر المنعم ليس بواجب عقلًا والثانية: هى أن لا حكم لأفعال العقلاء ومعناه لا حكم لها أى فيما لا يقضى العقل فيه بحسن ولا قبح على ما صرح به فى المتن إذ لو أجرى على عمومه لم يكن مسألة على التنزل وقوله فى المتن بل اللقمة بالنسبة إلى الملك أكثر مما يؤكد أمر الاستهزاء وأما ما ذكره الشارح من أن شكر العبد أقل قدرًا من شكر الفقير فلا يؤكده بل ربما يخلّ به؛ لأن مبنى الاستهزاء على قلة النعمة وكثرة الشكر.

قوله: (تنزلوا عن ذلك الأصل) يعنى: بطلان حكم العقل إلى مذهبهم فالتنزل ههنا الانتقال من المذهب الحق الذى هو فى غاية العلو إلى المذهب الباطل الذى هو فى غاية الانخفاض، وكأن الفائدة فى تسليم القاعدة بعد إبطالها وبيان فساد هاتين المسألتين اللتين هما من فروعها المعتبرة إظهار سقوط كلامهم فى فرعهم بناء على أصلهم كسقوط كلامهم فى أصلهم.

قوله: (فلا إثم فى تركه على من لم تبلغه دعوة نبى) إشارة إلى فائدة الخلاف.

قوله: (لولا الفائدة لكان) أى الشكر (عبئًا وهو قبيح فلا يجب عقلًا أو كان إيجابه عبئًا وهو قبيح فلا يجوز على اللَّه سبحانه) يعنى أن ضمير كان فى قوله وإلا لكان عبئًا راجع إلى الشكر أو إيجابه فإن قلت: الوجوب العقلى هو أن يكون الفعل فى ذاته بحيث يستحق فاعله المدح والثواب وتاركه الذم والعقاب فلا يكون مستفادًا من الشرع والإيجاب من اللَّه سبحانه حينئذٍ بمعنى كشف الوجوب لا إثباته كما تحقق فيما سبق فإن حمل قوله: أو كان إيجابه على الكشف لم يكن له معنًى، وإن حمل على الإثبات لم يوافق القاعدة قلت: الظاهر من مذهب المعتزلة أن الوجوب وأخواته صفات ثابتة للأفعال فى ذواتها لا من الشرع بل هو كاشف عنها كما مر، ويمكن أن يحمل على أن للأفعال صفات فى ذواتها تقتضى الإيجاب

ص: 96

والتحريم وغيرهما من اللَّه سبحانه والعقل قد يطلع على ذلك بالضرورة أو بالنظر قبل الشرع فيثبت الوجوب عقلًا بهذا المعنى فلعله نظر إلى هذين الوجهين فأورد ذينك الوجهين.

قوله: (فلأن منه) أى من الشكر (فعل الواجبات وترك المحرمات العقلية) وذلك لأن الشكر عندهم ليس قول القائل الشكر للَّه أو الحمد للَّه أو ما يماثل ذلك كما يسبق إلى الوهم لأن العقل لا يوجب النطق بلفظ دون آخر، بل هو صرف العبد جميع ما أنعم اللَّه عليه فيما خلق وأعطاه

(1)

لأجله؛ كصرفه النظر إلى مصنوعاته والسمع إلى تلقى أوامره وإنذاراته وعلى هذا القياس قيل: وهذا معنى الشكر حيث ورد فى كتابه الكريم ولهذا وصف الشاكرين بالقلة، قال فى الأحكام: شكر اللَّه تعالى عند الخصوم ليس هو معرفة اللَّه سبحانه لأن الشكر فرع المعرفة وإنما هو عبارة عن إتعاب النفس وإلزام المشقة لها بتكليفها تجنب المستقبحات العقلية وفعل المستحسنات العقلية والتفسير الأول أشمل وبما فى الكتاب أنسب.

قوله: (ولا حظ للنفس فيه) أى فى فعل الواجبات وترك المحرمات وما هو كذلك أى ما هو مشقة بلا حظ لا يكون له فائدة دنيوية.

قوله: (لا مجال للعقل فيه) قيل: فيه نظر لأن المعتزلة لما قالوا باستقلال العقل بإدراك حسن بعض الأفعال الموجب للثناء والثواب، فقد قالوا باستقلاله بمعرفة الفائدة الأخروية فكيف يسلمون عدم المجال بالاستقلال؟ نعم، لو لم تسلم القاعدة سقط المنع، وقيل: الجزم بالفائدة الأخروية أعنى حصول الثواب أو دفع العقاب إنما يحصل لو لم يكن للإتيان بالشكر احتمال العقاب وهو ممنوع ولعل الشارح قدس اللَّه سره نظر إلى أن المعتبر من الحسن والقبح استحقاق المدح والذم فقط لا باعتبارهم إياهما بالقياس إلى اللَّه سبحانه لا يتصور فيه استحقاق ثواب وعقاب.

قوله: (وقولهم هذا) أى قولهم بحصول الأمن من احتمال العقاب بناء على كونه لازم الخطور فى أكثر الناس ولا يحصل من تسليم الخطور فى البعض مطلوبهم لإيجابهم الشكر على كل عاقل ولو سلم لزوم الخطور فى الكل فإزالة

(1)

قوله: وأعطاه. كذا فى الأصل ولعل هذه الكلمة من زيادة الناسخ، أو محرفة عن أعضائه فحرر. كتبه مصحح طبعة بولاق.

ص: 97

خوف العقاب على الترك الحاصل من الاحتيال اللازم الخطور ليست أولى من إزالة خوف العقاب على الشكر الحاصل من الاحتيال اللازم الخطور أيضًا فيكون ترك الشكر واجبًا وباقى الفصل مستغنٍ عن التوضيح.

قوله: (وصف الشاكرين بالقلة) فى قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، فإن الشكور أيضًا شاكر لكن لا دلالة فى صفة الشاكر على المبالغة، بل هى أعم والمبالغة فى الشكر بالمعنى المذكور معقولة باعتبار قوّة الأفراد وضعفها وأيضًا باعتبار كثرة الأفراد وقلتها فإن صرف كل نعمة له مراتب متفاوتة بحسب القوّة والضعف ويجب وقوعه فى الأوقات الكثيرة والقليلة مثلًا صرف النظر إلى دقائق مصنوعات عجيبة مثل الفلكيات وما فى الأبدايات

(1)

الإنسانية وصرف القلب إلى الاستدلال بها على الذات والصفات أقوى من الصرف إلى مصنوعات لا تكون كذلك وصرف القلب الكامل إلى الاستدلال أقوى من صرف قلب لا يكون كذلك وصرف الأعضاء إلى ما هى لأجله يحسن يمكن على المحرمات أقوى من صرف من ليس له كذلك وقوله ولهذا وصف الشاكرين بالقلة إشارة إلى أن الشاكرين لا يوصفون بالقلة على تقدير المبالغة وكونه بمعنى فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب إنعامه.

الشارح: (ولا يكون قبل الشرع حكم) أى فيما لا يتمضى العقل فيه بحسن ولا قبح.

الشارح: (وأما الثانية فلأن الفائدة إما للَّه. . . إلخ) قيل: إنه متى أدرك العقل حسن الشكر وقبح الكفران كما هو مقتضى تسليم الأصل فقد أدرك وجوب الشكر لا محالة وإذا ثبت الوجوب لم يبق لنا حاجة فى تعين فائدة بل نقطع بثبوتها فى نفس الأمر علم عينها أم لا وإذا منع الأشاعرة اتصاف الشكر بالحسن لم تكن مسألة الشكر مبينة على التنزل وفيه أن معنى كونها على التنزل أننا لو قلنا بالحسن والقبح العقليين فلا حسن فى الشكر فلا يجب إذ لو حسن لكان

(1)

قوله: وما فى الإبدايات وقوله فيما يأتى: يحسن يمكن. . . إلخ. كذا فى الأصل السقيم وحرر. مصحح طبعة بولاق.

ص: 98

لفائدة. . .إلخ.

الشارح: (وإما لأنه كالاستهزاء. . .إلخ) قيل: إن نعم اللَّه فى ذاتها أمور عظيمة كإيجاد الإنسان بقواه الظاهرة والباطنة والأعضاء السليمة التى لو اجتمع الخلائق على تحصيل واحد منها لعجزوا فالشكر على هذه النعم لا يعد استهزاء وكونها قليلة بالنسبة إلى اللَّه تعالى لا يقدح فى عظمها فى ذاتها بالنسبة إلينا وليس هذا كشكر الفقير للملك على لقمة خبز لأن اللقمة حقيرة فى العرف يقدر على إعطاء أمثالها غير الملك ممن هو دونه فكان شكره على ذلك استهزاء بخلاف نعم اللَّه على العبد وأيضًا النعمة إذا كان لها قدر يعتد به بالنسبة إلى حاجات المنعم عليه وإن لم يكن لها قدر بالنسبة إلى مالك النعم لا يعد شكرها استهزاء.

التفتازانى: (لأن المسألة الأولى على ما ذكر هى أن شكر المنعم ليس بواجب عقلًا) أى مع أنها ليست مبطلة إنما المبطل هو أن شكر المنعم واجب عقلًا بناء على قاعدة حكم العقل وقوله والثانية هى أن لا حكم لأفعال العقلاء. . . إلخ. أى مع أن الذى أبطلناه على التنزل هو ثبوت الحكم فيها من حظر وإباحة وقوله: لم تكن مسألة على التنزل أى بل تكون إبطالًا لأصل القاعدة.

قوله: (لم يكن له معنى) إذ لا علاقة بين الوجوب بهذا المعنى وبين الكشف حتى يلزم أن الشكر الواجب إن لم يكن لفائدة كان الكشف عن الوجوب عبثًا وقوله: لم يوافق القاعدة هى أن الوجوب استحقاق الفعل المدح والحرمة استحقاقه الذم المقتضى أنه لا إيجاب من اللَّه تعالى.

قوله: (قلت الظاهر من مذهب المعتزلة. . . إلخ) ظاهر هذا الكلام أن الحاكم على مذهب بالمعتزلة هو العقل بمعنى أنه مثبت للحكم وتقدم لك أن الإجماع على أن اللَّه هو المثبت للحكم، تأمل.

قوله: (وأعطاه عطف على أنعم) ولا حاجة إليه ويظهر أنه تحريف.

قوله: (وهذا معنى الشكر حيث ورد. . . إلخ) أى لا معناه اللغوى الذى هو فعل ينبئ عن تعظيم المنعم لإنعامه.

قوله: (ولهذا وصف الشاكرين) إذ لو كان بالمعنى اللغوى لم يوصف بالقلة والوصف بالقلة فى قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، لكن يرد أن الشكور صيغة مبالغة فتفيد الآية أن كثير الشكر قليل والكلام فى أصل الشكر إلا

ص: 99

أن يحمل على أنه لأصل الشكر ولا يرد أن الشكر بهذا المعنى لا تفاوت فيه لأنه يتفاوت ضعفًا وقوة وبحسب وقوعه فى الأوقات الكثيرة والقليلة.

قوله: (وقيل الجزم بالفائدة الأخروية. . . إلخ) أى فمعنى لا مجال للعقل فيه أنه لا جزم للعقل فى حصول الفائدة الأخروية لأن الجزم بذلك إنما يكون إذا جزم العقل بحصول الثواب أو دفع العقاب على الإتيان بالشكر وهو ممنوع لاحتمال العقاب على الشكر، هذا وقوله: ولعل الشارح. . . إلخ. هو جواب آخر عن النظر على قوله لا مجال للعقل.

قوله: (لا باعتبارهم) تحريف وصوابه لاعتبارهم.

قوله: (لازم الخطور فى أكثر الناس) فيه سقط والأصل وهو معدوم فى أكثر الناس.

قوله: (ولا يحصل من تسليم الخطور. . . إلخ) جواب عما يقال يكتفى بالخطور للبعض.

ص: 100

قال: (الثانية: لا حكم فيما لا يقضى العقل فيه بحسن ولا قبح وثالثها لهم الوقف عن الحظر والإباحة وأما غيرها فانقسم عندهم إلى الخمسة لأنها لو كانت محظورة وفرضنا ضدين لكلف بالمحال. الأستاذ: إذا ملك جواد بحرًا لا ينزف وأحب مملوكه قطرة فكيف يدرك تحريمها عقلًا، قالوا: تصرف فى ملك الغير قلنا: يبتنى على السمع ولو سلم ففيمن يلحقه ضرر ما ولو سلم فمعارض بالضرر الناجز وإن أراد المبيح أن لا حرج فمسلم وإن أراد خطاب الشارع فلا شرع وإن أراد حكم العقل بالتخيير فالفرض أنه لا مجال للعقل فيه، قالوا: خلقه وخلق المنتفع به فالحكمة تقتضى الإباحة قلنا معارض بأنه ملك غيره وخلقه ليصبر فيثاب وإن أراد الواقف أنه وقف لتعارض الأدلة ففاسد).

أقول: هذه هى المسألة الثانية من مسألتى التنزل وهو أنه لا حكم لأفعال العقلاء قبل الشرع وقد قسم المعتزلة الأفعال الاختيارية إلى ما لا يقضى العقل فيها بحسن لا وقبح. ولهم فيها ثلاثة مذاهب الحظر والإباحة والوقف عنهما وإلى غيرها وهو ينقسم عندهم إلى الأقسام الخمسة المشهورة: من واجب ومندوب ومحظور ومكروه ومباح لأنه لو اشتمل أحد طرفيه على مفسدة فأما فعله فحرام أو تركه فواجب وإن لم يشتمل عليها فإن اشتمل على مصلحة فأما فعله فمندوب أو تركه فمكروه وإن لم يشتمل عليها أيضًا فمباح أما الحاظر فنقول له لو كانت محظورة وفرضنا ضدين لا ثالث لهما كالحركة والسكون لزم التكليف بالمحال. قال الأستاذ: من ملك بحرًا لا ينزف واتصف بغاية الجود وأحب مملوكه قطرة من ذلك البحر فكيف يدرك بالعقل تحريمها والتقريب واضح.

قالوا: تصرف فى ملك الغير بغير إذنه فيحرم.

الجواب: أن حرمة التصرف فى ملك الغير عقلًا ممنوع فإنها تبتنى على السمع ولولا ورود السمع بها لما علم ولو سلم أنها عقلية فذلك فيمن يلحقه ضرر ما بالتصرف فى ملكه ولذلك لا يقبح النظر فى مرآة الغير والاستظلال بجداره والاصطلاء بناره والمالك فيما نحن فيه منزه عن الضرر ولو سلم فمعارض بما فى المنع من الضرر الناجز. ودفعه عن النفس واجب عقلًا وليس تحمله لدفع ضرر الخوف أولى من العكس وأما المبيح فنقول له: إن أردت أن لا حكم بحرج فى الفعل والترك فمسلم وإن أردت خطاب الشارع بذلك فلا شرع وإن أردت حكم

ص: 101

العقل فالمفروض أنه مما لا حكم للعقل فيه بحسن أو قبح فى حكم الشارع فإن ذلك معنى عدم حكم العقل بحسنه أو قبحه وقد فرضته كذلك فيلزمك التناقض ومثله آت فى المحرم.

قالوا: خلق اللَّه العبد وما ينتفع به فالحكمة تقتضى إباحته له تحصيلًا لمقصود خلقهما وإلا كان عبثًا خاليًا من الحكمة وإنه نقص.

والجواب: المعارضة بأنه ملك الغير فيحرم التصرف والحل بأنه ربما خلقهما ليشتهيه فيصبر عنه فيثاب عليه فلا يلزم من عدم الإباحة عبث وأما الواقف فنقول له: إن أردت أنك توقفت عن الحكم لتوقفه عن السمع فمسلم وإن أردت أنت توقفت لتعارض الأدلة ففاسد لأنا بينا بطلانها فلا تعارض وقد يقال من قبل الحاظر: لا نسلم أن الضدين بلا واسطة مما لا حكم للعقل فيه لأنه يحكم بإباحة أحدهيا قطعًا ومن قبل المبيح الفرض أن لا حكم فيه بخصوصه إذ لا يدرك صفة محسنة أو مقبحة ولا ينافى ذلك الحكم العام بالإباحة ومن قبل الواقت أريد أن ثمة حكمًا بأحدهما فى نفسه فالبعض مباح والبعض محظور ولا أدرى أيهما هو فى الفعل المعين وهو غير ما رددت فيه من الأمرين.

قوله: (ولو سلم فمعارض) يعنى أن ما ذكرتم من كونه تصرفًا فى ملك الغير وإن دل على الحرمة لكن كونه دفعًا للضرر الناجز تقتضى وجوبه فضلًا عن الإباحة فتنتفى الحرمة وليس تحمل الضرر الناجز لدفع ضرر خوف العقاب المرتب على التصرف فى ملك الغير أولى من تحمل ضرر الخوف لدفع الضرر الناجز وإن رجح ضرر الخوف بكونه أشد رجح الآخر بكونه ناجزًا مقطوعًا به عند العقل.

قوله: (أن لا حرج) فسره الشارح بأن لا حكم بالحرج إذ لو حمل على ظاهره لكان حكمًا بعدم الحرج فلا يكون مسلمًا؛ فإن قيل: الحكم بعدم الحكم أيضًا حكم قلنا نعم لكن لا بأن الفعل فى نظر الشرع محظور أو مباح أو غيرهما على ما هو المتنازع.

قوله: (ولهم) أى للمعتزلة فى الأفعال التى لا يحكم العقل فيها بحسن ولا قبح ثلاثة مذاهب: أحدها: الحظر أى الحرمة وثبوت الحرج فى حكم الشرع، وثانيها: الإباحة أى الإذن وعدم الحرج، وثالثها: التوقف وفسر تارة بعدم الحكم ورد بأنه

ص: 102

قطع لا توقف وتارة بعدم العلم بأن هناك حكمًا أم لا أو بأنه الحظر أو الإباحة، وإلى هذا تشير عبارة الشارح بقوله والوقف عنهما فإن قيل كيف يتصور القول بالحظر أو بالإباحة بالمعنى المذكور مع أنه لا شرع ولا حكم من العقل بحسن أو قبح قلنا معناه أن الفعل الذى لا يدرك العقل فيه بخصوصه جهة محسنة أو مقبحة كأكل الفواكه مثلًا ولا يحكم فيه بحكم خاص تفصيلى فى فعل فعل فحكم العقل فيها على الإجمال أنها محرمة عند الشارح وإن لم يظهر الشرع ولم يبعث النبى أو مباحة، وبهذا يظهر فساد اعتراض الشارحين على صورة التصرف فى ملك الغير وصورة الضرر الناجز وأمثال ذلك بأنها خارجة عن محل النزاع لاستلزام الحكم بالتحريم إدراك جهة القبح، ثم جوابهم بمنع ذلك وبأن المراد احتمال الضرر.

قوله: (لا ثالث لهما) إذ لو وجد لجاز تركهما جميعًا اشتغالًا بالثالث فلم لجزم التكليف بالمحال وفيه بحث؛ لأن الثالث أيضًا حرام يجب تركه؛ فإن قيل يجوز أن يكون الثالث مما تدرك فيه جهة حسن قلنا فكذا أحد الضدين ففى الجملة لا حاجة إلى نفى الثالث.

قوله: (والتقريب واضح) وهو أن تناول العبد للمستلذات التى خلقها اللَّه تعالى بمنزلة تناول المملوك قطرة من بحر مالكه بل أقل فكيف يحكم العقل بتحريمه.

قوله: (ومثله آت فى المحرم) بأن يقال إن أردت بالحرمة أن العقل يحكم بأنه قبيح حرام فى حكم الشارع لزم التناقض لأن المفروض أنه مما لا حكم للعقل فيه بحسن أو قبح فى حكم الشارع وسيجيء الجواب عن هذا وقد حققناه فى تحرير المبحث وهو أن المراد بعدم حكم العقل أنه لا يدرك فيه بخصوص جهة حسن أو قبح وهذا لا ينافى الحكم العام بالحرمة أو بالإباحة؛ بل الوجوب نظرًا إلى الدليل.

قوله: (المعارضة بأنه ملك الغير فيحرم) فإن قيل المعارضة بدليل المحرم تنافى تسليم أن لا حرج فى الفعل والترك قلنا هى من قبيل المحرم على أنها لا يجب أن تكون على وفق المعتقد بل يجب أن يكون نافيًا لما ادعاه الخصم.

قوله: (ومن قبل الواقف) يعنى أن المراد بالتوقف أن الفعل الذى لا يدرك العقل فيه بخصوصه جهة حسن أو قبح العقل بأن لذلك الفعل فى نفسه حكمًا من الشارع بالحظر أو الإباحة حتى إن بعض أفراده مباح وبعضها محظور، لكن فى أى

ص: 103

معين فرضت لا أدرى أن الحكم الحظر أو الإباحة وهذا غير الأمرين اللذين وقع فيهما الترديد أعنى التوقف عن الحكم لعدم السمع والتوقف فى الحكم لتعارض الأدلة وهذا فى التحقيق هو الأمر الثانى من الأمرين أعنى التوقف فى الحكم لكن لا لتعارض الأدلة بل لعدم الدليل على التعيين.

قوله: (وهو أنه لا حكم لأفعال العقلاء قبل الشرع) أى عند الأشاعرة إذ لا حاكم عندهم إلا الشرع كما مر وإذ لا شرع فلا حكم فلا حرج فى شئ من أفعالهم سواء كانت اضطرارية لا يمكن البقاء والتعيش بدونها أو اختيارية هى بخلافها، وذهبت المعتزلة إلى أن الاضطرارية جائزة عقلًا، وأما الاختيارية فقد قسموها إلى قسمين ما لا يقضى العقل فيه بحسن ولا قبح وإلى غيرها والمناقشة معهم بعد التنزل على ما فى الكتاب إنما هى فى القسم الأول لا فى الثانى ولا فى الاضطرارية فإنهم اكتفوا فى إبطال قولهم فيهما بإبطال قاعدة التحسين والتقبيح وما ذكره فى وجه الانقسام إلى الخمسة ظاهر قال فى الأحكام: ما حسنه العقل إن استوى فعله وتركه فى النفع والضر سموه مباحًا وإن ترجح فعله على تركه فإن لحق الذم بتركه سموه واجبًا وإلا فمندوبًا وما قبحه العقل فإن لحق الذم بفعله سموه حرامًا وإلا فمكروهًا وفيه تصريح بأن المكروه عندهم مندرج تحت القبيح وقد قيل بانحصاره عندهم فى الحرام وقد سبق إليه إشارة.

قوله: (أما الحاظر فنقول له: لو كانت) أى ما لا يقضى العقل فيها بحسن ولا قبح من الأفعال الاختيارية (محظورة وفرضنا) أن من جملتها (ضدين لا ثالث لهما) فلا يمكن خلو المحل عنهما (كالحركة والسكون) فإن الجسم بعدان، حدوثه لا يخلو عنهما فلو كانا محظورين على العاقل (لزم التكليف بالمحال) وأنه باطل على أصلكم.

قوله: (لا ينزف) أى لا ينزح ماؤه من قولهم: نزفت ماء البئر نزفًا، إذا نزحته كله أو لا يذهب ماؤه ولا ينقطع من قولهم: نزفت البئر، أى: ذهب ماؤها، فعلى الأول يقرأ مجهولًا وعلى الثانى معلومًا.

قوله: (والتقريب واضح) التقريب تطبيق الدليل على المدعى، وبعبارة أخرى هو سوق الدليل على وجه يفيد المطلوب فيقال ههنا: إذا لم يحكم العقل بالتحريم

ص: 104

فى هذه الصورة مع إمكان احتياج الجواد إلى تلك القطرة وتناهى جوده وما يملكه فبالأولى أن لا يحكم بالحرمة مثلًا فى الاستلذاذ بنعمة من نعمه سبحانه مع استغنائه عنها ولا تناهى جوده وما يملكه وعلى هذا يندفع ما قيل من أنه مثال اخترعه الأستاذ يفيد استبعاد الحظر ولا حجة فيه فلا حاجة إليه.

قوله: (تُبْتنَى) على صيغة المجهول لأن بنى وابتني بمعنًى، كذا فى الصحاح.

قوله: (لما علم) أى: تحريم التصرف فى ملك الغير.

قوله: (ولذلك لا يقبح) أى لأن حرمة التصرف بالعقل إنما هى بالقياس إلى من يلحقه ضرر بذلك التصرف لا مطلقًا لا تقبح ولا تحرم هذه الأمور المذكورة لعدم تضرر المالك بهذه التصرفات.

قوله: (ولو سلم فمعارض) يعنى: ولو سلم أن العقل يحكم بحرمة التصرف فى ملك الغير بغير إذنه مطلقًا بناء على أنه يوجب الخوف من العاقبة فدليلكم هذا معارض بما فى منع النفس عن تلك الأفعال كتناول الفاكهة مثلًا من الضرر الناجز ودفع هذا الضرر بل الضرر مطلقًا عن النفس واجب عندكم عقلًا ولا يندفع إلا بالتناول فلا يكون محظورًا، بل واجبًا وليس تحمل هذا الضرر الناجز لدفع ضرر الخوف الحاصل من التصرف أولى من العكس بل ربما كان العكس أولى، وما قيل من أنا نمنع كون صورة الضرر الناجز مما لا يقضى العقل فيها بحسن ولا قبح ليندرج تحت التنازع فيها فقد أجيب عنه بأن المراد جواز الضرر الحاجز فلا يخرج عنها، فإن العقل وإن لم يقض بحسن ولا قبح لكنه لم يجزم بعدم احتمال الضرر الناجز وقد يقال: الظاهر أن أكل الفواكه من صور النزاع أيضًا فاندفع المنع.

قوله: (وإن أردت خطاب الشارع بذلك) أى بعدم الحرج فى الفعل والترك.

قوله: (فالمفروض أنه) أى المتنازع فيه (مما لا حكم للعقل فيه بحسن أو قبح فى حكم الشارع) وبالقياس إليه (فإن ذلك) أى: عدم الحكم للعقل فيه بحسن أو قبح فى حكم الشارع هو (معنى عدم حكم العقل بحسنه أو قبحه وقد فرضته كذلك) أى لا حكم للعقل بحسنه أو قبحه فلا يثبت فيه شئ من تلك الأحكام ولو أثبت الإباحة به لزمك التناقض، وهو ثبوت الإباحة وعدمها بحكم العقل ومثله فى المحرم فيقال له: إن أردت خطاب الشارع بالحرمة فلا شرع قبل وروده، وإن أردت حكم العقل بالحرمة فالمفروض أن لا حكم للعقل فيه بحسن أو قبح

ص: 105

إلى آخر الدليل.

قوله: (والجواب المعارضة بأنه ملك الغير فيحرم التصرف) قيل هذه المعارضة مما ينافى تسليم المصنف الإباحة بمعنى أنه لا حرج فيه.

قوله: (فيثاب عليه) أى على الصبر عن المنتفع به المشتهى، وما يقال: من أن الاشتهاء لا يحصل إلا بالتناول فلا بد منه فممنوع.

قوله: (لتوقفه على السمع فمسلم) هذا التوقف فى معنى الجزم بعدم الحكم.

قوله: (وقد يقال) جواب عما رد به المصنف المذاهب الثلاثة فيقال (من قبل الحاظر لا نسلم أن) مجموع (الضدين بلا واسطة مما لا حكم للعقل فيه) بحسن ولا قبح لأن العقل يحكم بإباحة أحدهما لا على التعيين قطعًا فلا بد من إدراك حسنه (و) يقال (من قبل المبيح الفرض أن لا حكم فيه بخصوصه إذ لا يدرك) أى العقل (فيه بخصوصه صفة محسنة أو مقبحة) ولا ينافى عدم الحكم فيه بخصوصه الحكم العام بالإباحة لجواز أن لا يدرك العقل فى كل واحد من أشياء متعددة صفة محسنة فيحكم بالإباحة وبمثله يجاب إن أورد مثله على الحرم فاندفع ما يتوهم ههنا من أن الحكم بالحظر أو الإباحة ينافى محل النزاع (و) يقال (من قبل الواقف أريد أن ثمة حكمًا بأحدهما) من الحظ والإباحة (فى نفسه ولا أدرى أيهما هو الثابت فى الفعل المعين) فالتوقف بمعنى عدم العلم.

قوله: (إذ لا حاكم عندهم إلا الشرع) فإن قلت: لا يجوز أن يقال بعد التنزل عن بطلان حكم العقل لا حكم لأفعال العقلاء مطلقًا قبل الشرع إذ لا حاكم إلا الشرع لأنه ليس هنا تنزل وتسليم حكم العقل فى الجملة إذ لو وقع التنزل عن بطلان حكم العقل ليس حكم العقل فى شئ من أفعال العقلاء قبل الشرع، قلت: أراد الشارح بأفعال العقلاء أفعالًا مخصوصة هى ما لا يقضى العقل فيه بحسن ولا قبح بقرينة التفصيل والمحشى نظر إلى ظاهر كلامه وأوضح على ما هو مذهبهم ولذا قال فيما بعد والمناقشة معهم بعد التنزل على ما فى الكتاب إنما هى فى القسم الأوّل يعنى أن الشارح قد تسامح فى قوله وهو أنه لا حكم لأفعال العقلاء إذ ليس المذكور مسألة التنزل ولا نعنى لادعاء عدم الحكم فى شئ من أفعال العقلاء فى مقام المناقشة معهم فى القسم الأول فقط.

ص: 106

قوله: (بل ربما كان) ومع ذلك يعتبر

(1)

تلك الفاكهة ويضع إن لم تأكله ففى هذه الصورة تحمل ضرر الخوف لدفع ضرر النفس أولى ممنوع إذ الإباحة لا تتحقق إلا بالحكم بعدم الحرج فى الفعل والترك فالمنع متوجه إلى الحكم بأن الإباحة تتحقق بسبب عدم الحكم بحرج فى الفعل والترك.

قوله: (فى حكم الشارع) أراد بعدم حكم العقل فى حكم الشارع عدم حكمه فيما يتعلق به حكم الشارع من أفعال المكلفين كما سبق فى توضيح قول الشارح فى أوّل المبادئ؛ بل إنه لا يحكم بأن الفعل حسن أو قبيح فى حكم اللَّه، ومعنى ذلك أنه لا يحكم بحسن أو قبح فى أفعال المكلفين على طبق حكم اللَّه تعالى كما ذهب إليه المعتزلة فقالوا: إن الحاكم هو العقل والشرع كاشف ومعلوم أن كل فعل من أفعال المكلفين يحكم فيه العقل بأن الأحكام الشرعية

(2)

فهو حكم من العقل بحسن أو قبح فى حكم الشارع إذ الشرع كاشف عن حسن أو قبح من العقل.

قوله: (فلا يثبت فيه) أى هذا القسم من الأفعال (شئ من تلك الأحكام) أى من الأحكام الشرعية فلو أثبت الإباحة بحكم العقل فيه بالتخيير لزمك التناقض وهو ثبوت الإباحة لأن العقل قد حكم بالتخيير وعدم ثبوت الإباحة لأن المفروض أن تلك الأفعال لا يحكم العقل فيها بحسن أو قبح فى حكم الشارع.

الشارح: (وهو أنه لا حكم لأفعال العقلاء قبل الشرع) هذا إبطال من الخصم لا مستدلون ولم يفحموا، وفى المستصفى أن استقرار الشرع موقوف على أن يبعث اللَّه الرسول ويتمكن الشخص من النظر وليس له أن يقول: لا أنظر حتى يجب علىَّ ومثل من يقول ذلك كمثل من قال له أبوه: إن وراءك سبعًا يريد أن يهجم عليك إن غفلت عنه فليس له أن يقول: لا ألتفت حتى يجب علىّ. . . إلخ.

الشارح: (أحد طرفيه) أى الفعل والمراد به الفعل بالمعنى الحاصل بالمصدر وطرفاه الفعل بالمعنى المصدرى والترك وقوله فأما فعله الضمير فيه للفعل بالمعنى الحاصل بالمصدر والفعل المضاف بالمعنى المصدرى لكن يرد أن المصلحة والمفسدة

(1)

يعتبر. . . إلخ. كذا فى الأصل وفى الكلام تحريف وفساد ظاهر فليحرر. اهـ. كتبه مصحح طبعة بولاق.

(2)

بأن الأحكام الشرعية. كذا فى الأصل وانظر أين الخبر. كتبه مصحح طبعة بولاق.

ص: 107

ليس المشتمل عليها الفعل بالمعنى المصدرى بل بالمعنى الحاصل بالمصدر ويجاب بأن المعنى المصدرى اشتمل عليها باعتبار متعلقه.

التفتازانى: (رجح الآخر بكونه ناجزًا) فيه أن ضرر خوف العقاب المرتب على التصرف فى ملك الغير ناجز أيضًا وإنما العقاب المخوف هو الذى ليس بناجز.

التفتازانى: (أنها محرمة عند الشارع) ظاهر فى أن الحاكم هو اللَّه حتى على رأى المعتزلة.

التفتازانى: (وبأن المراد احتمال الضرر) أى فالتحريم لذلك لا للقبح.

قوله: (أى عند الأشاعرة. . . إلخ) يشير إلى أن الشارح قد تسامح فى جعل كون الأفعال لا حكم فيها قبل الشرع هى المسألة الثانية المبنية على التنزل.

قوله: (نمنع كون صورة الضرر الناجز مما لا يقضى العقل. . . إلخ) أى فالحكم بالحرمة لأنه تصرف فى ملك الغير فيحتمل أن يعاقب على ذلك التصرف ليس من محل النزاع كما أن الوجوب لدفع الضرر الناجز المعارض به ليس من محل النزاع، وقوله: أجيب بأن المراد جواز الضرر الناجز أى بالنسبة للوجوب العارض به كما أن المراد احتمال العقاب بالنسبة للقول بالحظر وقوله لم يجزم بعدم الضرر الناجز أى فحكم بالوجوب نظرًا لذلك الاحتمال كما حكم بالحرمة نظرًا لضرر احتمال العقاب وقوله: الظاهر أن أكل الفواكه من صور النزاع أيضًا أى باتفاق منا ومنهم أى فالحظر فيها من قبل الفرع لا يخرجها عن محل النزاع.

ص: 108

قال: (الحكم قيل خطاب اللَّه تعالى المتعلق بأفعال المكلفين فورد مثل {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]، فزيد بالاقتضاء أو التخيير فورد كون الشئ دليلًا وسببًا وشرطًا فزيد أو الوضع فاستقام وقيل بل هو راجع إلى الاقتضاء أو التخيير وقيل ليس بحكم).

أقول: قد بين الحاكم وأنه هو الشرع فشرع فى أبحاث الحكم وقد لزم مما بين أن الحكم إنما هو الحكم الشرعى فأخذ يتكلم فى حده وأقسامه ومسائل تتعلق بأقسامه فهذا حده قيل هو خطاب اللَّه تعالى المتعلق بأفعال المكلفين فالخطاب توجيه الكلام نحو الغير للإفهام وبإضافته إلى اللَّه خرج خطاب من سواه إذ لا حكم إلا حكمه والرسول والسيد إنما وجب طاعتهما بإيجاب اللَّه إياها وقوله المتعلق بأفعال المكلفين خرج ما ليس كذلك ولو قال بفعل المكلف لكان أحسن ليتناول ما لا يعم من أحكامه كخواص النبى، هكذا قيل فورد عليه مثل قوله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]، فإنه داخل فى الحد وليس بحكم فبطل طرده فزيد عليه قيد يخصصه ويخرج عنه ما دخل فيه من غير إفراد المحدود، وهو قولهم بالاقتضاء أو التخيير فقالوا: المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير ليندفع النقض فإن قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ليس فيه اقتضاء ولا تخيير وإنما هو إخبار بحال له، فورد عليه كون الشئ دليلًا وسببًا وشرطًا من أحكام لا اقتضاء فيها ولا تخيير فإنها تخرج من الحد مع أنها إفراد المحدود فبطل عكسه فزيد عليه ما يعممه فيدخل فيه ما خرج عنه من أفراد المحدود وهو قولهم: أو الوضع فقالوا: بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع فإن الأحكام التى ورد بها النقض كلها من وضع الشارع وتحصل بجعله وعند ذلك استقام الحد لاطراده وانعكاسه ومنهم من لم يزد هذا القيد وادعى أن هذه الأحكام لا ترد نقضًا فتارة يمنع خروجها عن الحد وتارة يمنع كونها من المحدود.

أما الأول فقيل: إنها لا تخرج بل خطاب الوضع يرجع إلى الاقتضاء أو التخيير إذ معنى جعل الشئ دليلًا اقتضاء العمل به وجعل الزنا سببًا لوجوب الجلد هو وجوب الجلد عند الزنا وجعل الطهارة شرطًا لصحة البيع جواز الانتفاع بالمبيع عندها وحرمته دونها وعليه فقس والحاصل أن مرادنا من الاقتضاء والتخيير أعم من الصريح والضمنى وخطاب الوضع من قبيل الضمنى.

ص: 109

وأما الثانى فقيل: إنه ليس بحكم ونحن لا نسمى هذه الأمور أحكامًا وإن سماها غيرنا به فلا مشاحة فى الاصطلاح.

واعلم أن الحد الأول للغزالى ويمكن الذب عنه بأن الألفاظ المستعملة فى الحدود تعتبر فيها الحيثية وإن لم يصرح بها فيصير المعنى المتعلق بأفعال المكلفين من حيث هم مكلفون، وقوله:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} لم يتعلق به من حيث هو فعل مكلف، ولذلك عم المكلف وغيره.

قوله: (ليتناول ما لا يعم) لا خفاء فى أنه إن أجرى على ظاهره لم يتناول شيئًا من الأحكام إذ لا يصدق على حكم ما أنه خطاب متعلق بجميع أفعال المكلفين فالمراد فى تعلقه بفعل منها وحينئذ تدخل الخواص وغيرها.

قوله: (فورد عليه) أى لا زيد قيد الاقتضاء والتخيير خرج عن التعريف أحكام الوضع ككون الشئ دليلًا مثل الإجماع والقياس لما يجب بهما أو سببًا مثل دلوك الشمس للصلاة والزنا لوجوب الجلد أو شرطًا كطهارة المبيع لصحة البيع فزيد قيد "أو الوضع" لتدخل ولم يذكر الآمدى فى أصناف خطاب الوضع جعل الأدلة حججًا وذكرهما فإن قيل هب أن ما خرج بقيد الاقتضاء أو التخيير دخل بقيد "أو الوضع" لكن من الأسباب والشروط ما ليس فعل المكلف كزوال الشمس وطهارة المبيع ونحو ذلك فكيف يستقيم الحد طردًا وعكسًا؟ قلنا: المراد بالتعلق الوضعى أعم من أن يجعل فعل المكلف سببًا أو شرطًا لشئ مثلًا أو يجعل شئ شرطًا أو سببًا له.

قوله: (يعتبر فيها حيثية التكليف) لا يخفى أن اعتبار حيثية التكليف فيما يتعلق به خطاب الإباحة بل الندب والكراهة موضع تأمل.

قوله: (وإنه هو الشرع) من قبيل أعجبنى زيد وكرمه.

قوله: (وقد لزم مما بين) أى من انحصار الحاكم فى الشرع وبطلان كون العقل إن استحكم إنما هو الحكم الشرعى فقط.

قوله: (والخطاب توجيه الكلام نحو الغير للإفهام) هذا مفهومه بحسب أصل اللغة ثم نقل إلى الكلام الموجه نحو الغير للإفهام وهو المراد ههنا اللهم إلا إذا أريد بالحكم المعنى المصدرى فيحمل الخطاب على المعنى الأصلى قال فى الأحكام:

ص: 110

الخطاب اللفظ المتواضع عليه المقصود به إفهام من هو متهيئ لفهمه فاحترز باللفظ عن الحركات والإشارات المفهمة بالمواضعة وبالمتواضع عليه عن الألفاظ المهملة وبالمقصود به الإفهام عن الكلام الذى لم يقصد به إفهام المستمع فإنه لا يسمى خطابًا وبقوله لمن هو متهيئ لفهمه عن الكلام لمن لا يفهم كالنائم، والظاهر عدم اعتبار القيد الأخير كما ينبئ عنه الشرح ولهذا يلام الشخص على خطابه من لا يفهم والكلام يطلق على العبارة الدالة بالوضع وعلى مدلولها القائم بالنفس فالخطاب إما الكلام اللفظى أو الكلام النفسى الموجه به نحو غير للإفهام وأريد به ههنا المعنى الثانى فإن الخطاب اللفظى ليس بحكم بل هو دال عليه فالكتاب وأخواته دلائل الحكم الذى هو الكلام النفسى على الوجه المخصوص فاندفع ما يقال من أن الفقه: هو العلم بالأحكام الشرعية عن الأدلة والدليل الشرعى ليس إلا خطاب اللَّه أو ما يقوم مقامه ولو كان الحكم أيضًا خطابه كان الفقه العلم بخطاب اللَّه الحاصل عن خطابه فإن الدليل هو الخطاب اللفظى والحكم هو الخطاب النفسى ولا استبعاد فى كون أقواله وأفعاله تعالى كاشفًا عن الحكم القائم بذاته سبحانه وكذا الإجماع وغيره.

قوله: (إنما وجب طاعتهما بإيجاب اللَّه تعالى إياها) كأن قائلًا يقول: إذا أمر الرسول المكلف أو السيد العبد وجب عليهما المأمور به فقد ثبت حكم الوجوب من غيره سبحانه فلا يصح أن لا حكم بالمعنى المقصود ههنا إلا حكمه فأجاب بأن ذلك الوجوب أيضًا بإيجاب اللَّه تعالى فإيجابهما كاشف عن إيجابه الذى هو الحكم.

قوله: (ليتناول ما لا يعم من أحكامه كخواص النبى عليه الصلاة والسلام مما ستأتى الإشارة إليه وكشهادة خزيمة وقد يجاب أنه من قبيل: زيد يركب الخيل وإن لم يركب إلا واحدًا منها وليس هناك مجاز بإطلاق الجمع على الواحد بل يفهم منه أن ركوبه متعلق بجنس هذا الجمع لا بجنس الحمار مثلًا فالمراد: تعلقه بجنس الفعل من جنس المكلف لا تعلقه بجميع أفعال جميع المكلفين فإنه ظاهر البطلان وكذا ما قيل من أنه يدفع بأنه من مقابلة الجمع بالجمع المفيدة للتوزيع لأنه إن أريد المقابلة بين الخطاب والأفعال فالخطاب ليس بجمع وإن أريد بين الأفعال والمكلفين فلا يفيده التوزيع ههنا كما لا يخفى.

ص: 111

قوله: (هكذا قيل) أى فى حد الحكم (فورد عليه قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96])، وكذا قوله:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، فإنه داخل فى الحد وليس بحكم شرعى اتفاقًا.

قوله: (ليس فيه اقتضاء) أى لفعل المكلف (ولا تخيير) بالقياس إليه (إنما هو إخبار بحال له) أى لفعل المكلف وهو كونه مخلوقًا للَّه سبحانه إن جعلت ما مصدرية أو للمكلف وهو نسبة العمل إن جعلت موصولة.

قوله: (فورد عليه) الفاء للإيذان بأن الزيادة الحافظة للطرد هى سبب بطلان العكس أى فورد على الحد بهذه الزيادة كون الشئ دليلًا كالدلوك للصلاة وكون الشئ سببًا كالزنا لوجوب الجلد وكون الشئ شرطًا كالطهارة للصلاة وقوله: من أحكام لا اقتضاء فيها ولا تخيير سببان لما سبق وقوله فإنها تخرج تعليل للورود.

قوله: (فزيد عليه ما يعممه) فإن قيل زيادة القيد على ما فى حيز النفى توجب العموم وأما فى الإثبات فلا قلت: هذه الزيادة ليست قيدًا للمزيد عليه بل هى عند التحقيق فى قوة حد آخر فالحد معه فى قوة ثلاثة حدود.

قوله: (وتحصل بجعله) فإن الدلوك مثلًا إنما صار دليلًا للصلاة بوضع الشارع له وجعله إياه دليلًا وكذلك السبب والشرط وهذا القسم يسمى خطابًا وضعيًا والأول خطابًا تكليفيًا.

قوله: (إذ معنى جل الشئ دليلًا اقتضاء العمل به) فمعنى كون الدلوك دليلًا للصلاة وجوب الإتيان بالمدلول عنده فقد رجع إلى الاقتضاء، فإن قلت: الدلوك سبب لوجوب الصلاة على ما سيأتى لا دليل عليه قلت: سببيته عند التحقيق راجعة إلى الدلالة ولذلك لم يذكر هناك الدليل فيصح التمثيل ومعنى جعل الزنا سببًا لوجوب الحد هو وجوب الجلد عند الزنا فقد رجع إلى الاقتضاء، ومعنى جعل الطهارة شرطًا لصحة البيع جواز الانتفاع بالبيع عند الطهارة وحرمة الانتفاع به دون الطهارة فقد رجع إلى التخيير والاقتضاء، ومعنى جعل النجاسة مانعة عن الصلاة وحرمتها معها وجوازها دونها.

قوله: (وأما الثانى فقيل إنه) أى ما ذكر من الخطاب الوضعى ليس بحكم بل هى علامات معرفة الأحكام.

قوله: (ولذلك) أى ولأن تعلقه بفعل المكلف ليس هو من حيث فعل المكلف

ص: 112

وغيره لشموله جميع أولاد آدم وأعمالهم وإن جعل من باب التغليب شمل سائر الحيوانات وأفعالها أيضًا، وقد يقال: يرد على الحد بعد اعتبار الحيثية المذكورة قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]، فإنه لكونه وعيدًا يتعلق بفعل المكلف من حيث هو مكلف وليس بحكم شرعى اتفاقًا.

قوله: (من قبيل أعجبنى زيد وكرمه) يعنى أن المعنى الواضع

(1)

بالدليل المفرد الذى هو الحاكم بل مضمون قضية هى قوله: إنه هو الشرع كما أن المعجب زيد من حيث الذات بل صفته التى هى الكرم يؤيد ذلك التوجيه قول الشارح: قد لزم مما بين أى من أن الحاكم هو الشرع.

قوله: (المعنى المصدرى) أى إيراد الحكم الشرعى فهذا الإيراد هو التوجيه المخصوص المتعلق بأفعال المكلفين، ولهذا يلام الشخص على خطابه من لا يفهم فلو كان القيد الأخير أى من هو متهيئ لفهمه معتبرًا فى مفهوم الخطاب لم يصح أن يقال فى حق شخص قد وجه الكلام للإفهام إلى من لا يفهم إنه مستحق أن يلام على خطابه من لا يفهم بل يجب أن يقال: من يستحق أن يلام على هذا التوجيه من غير تعبير بلفظ الخطاب.

قوله: (بإطلاق الجمع على الواحد) اعتبار الجنس أولى من اعتبار الواحدى فى مقام القصد إلى التعميم لأن الواحدى قد يقابل الكثير فى الإثبات والنفى وإنما احتاج إلى حمل المكلفين على الجنس لأن جنسية الفعل إنما هى باعتبار أحدى مفهوميه مضافًا إلى المكلف فلو أريد بالمكلفين جميعًا كما هو الظاهر يخرج ما هو فعل متعلق بمكلف واحدى لا يصدق عليه إنه فعل المكلفين جميعًا بخلاف ما إذا أريد الجنس.

التفتازانى: (أنه لا يصدق على حكم ما أنه خطاب. . . إلخ) أى فالإيجاب ليس متعلقًا بجميع أفعال المكلفين وكذا غيره من الأحكام.

التفتازانى: (ولم يذكر الآمدى فى أصناف خطاب الوضع جعل الأدلة حججًا وذكره ههنا) لعل الآمدى لم يذكره فى أصناف خطاب الوضع لأن كون الإجماع

(1)

قوله: الواضع. . . إلخ. فى الكلام ركة وتحريف ومعناه غير ظاهر. كتبه مصحح طبعة بولاق.

ص: 113

مثلًا حجة ليس من الحكم فى شئ وذكره ههنا لأنه باعتبار وجوب العمل بما أدى إليه يرجع إلى الحكم.

التفتازانى: (يعتبر فيه حيثية التكليف) ليس هذه العبارة التى كتب عليه التفتازانى فى الشارح إذ الذى فيه: ويمكن الذب عنه بأن الألفاظ التى تستعمل فى الحدود تعتبر فيها الحيثية.

التفتازانى: (لا يخفى أن اعتبار. . . إلخ) فهم السعد أن الحيثية إذا كانت للتقييد تفيد أن المراد الخطاب التعلق على وجه الإلزام فكيف يشمل الندب والإباحة فلذا قال محل تأمل مع أن كون الحيثية للتقييد لا يفيد ذلك بل يفيد التعلق من جهة كون المكلف ملزمًا ما فيه كلفة إما بنفس ذلك الخطاب المتعلق كما إذا كان التعلق على وجه الاقتضاء الجازم أو بغيره كما إذا كان لا على وجه الاقتضاء الجازم وإنما كان هذا من جهة الإلزام لأنه تابع له مرتب عليه إذ لولاه لما وجد ودفع ما قاله السعد بعضهم بأن كلامه مبنى على جعل الحيثية للتقييد فقط مع أنها له وللتعليل أيضًا استعمالًا للمشترك فى معنييه وبعضهم جعل المراد من حيث التكليف نفيًا أو إثباتًا فالحيثية مع كونها للتقييد تشمل الكل.

قوله: (من قبيل أعجبنى زيد وكرمه) أى فى أن محل القصد هو المعطوف فقوله بين الحاكم المراد به بيان صفة له وهى أنه الشرع.

قوله: (فإن الدليل هو الخطاب اللفظى. . . إلخ) علة لاندفاع ما يقال من أن الفقه. . . إلخ. على أن التحقيق أن الأحكام فى تعريف الفقه عبارة عن النسب التامة وإلا لزم استدراك قيد الشرعية وأن الفقه من باب التصور وقد نصوا على أنه عبارة عن التصديق المتعلق بالمسائل.

قوله: (فإنه ظاهر البطلان) أى لاقتضائه أنه لا يتحقق الحكم إلا إذا تعلق الخطاب بكل فعل لكل مكلف.

قوله: (لا يفيده التوزيع ههنا) أى لاقتضائه أنه لا يتعلق الخطاب بفعل الأكثر من واحد بل يكون كل مكلف مكلفًا بفعل غير ما كلف به الآخر.

قوله: (إن جعلت ما مصدرية) هذا ممنوع فقد قال التفتازانى فى شرح العقائد النسفية: الثانى أى من الوجوه التى احتج بها أهل الحق على أن اللَّه هو الخالق

ص: 114

لأفعال العباد النصوص الواردة فى ذلك كقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]، أى عملكم على أن "ما" مصدرية لئلا يحتاج إلى حذف الضمير أو معمولكم على أن ما موصلة ويشمل الأفعال لأنا إذا قلنا: أفعال العباد مخلوقة للَّه تعالى أو للعبد لم نرد بالفعل المعنى المصدرى الذى هو الإيجاد والإيقاع، بل الحاصل بالمصدر من الحركات والسكنات مثلًا، وللذهول عن هذه النكتة يعنى شمول المعمول للأفعال قد يتوهم أن الاستدلال بالآية موقوف على كون "ما" مصدرية. اهـ.

قوله: (توجب العموم) أى كما فى قوله: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24].

ص: 115

قال: (وقيل: الحكم خطاب الشارع بفائدة شرعية تختص به أى لا تفهم إلا منه لأنه إنشاء فلا خارج له).

أقول: قال الآمدى: الحكم خطاب الشارع بفائدة شرعية، فخرج خطابه بغيرها كالإخبار بالمحسوسات والمعقولات.

قال فى المنتهى: إن فسر أى الفائدة الشرعية بمتعلق الحكم فدور ولو سلم فلا دليل عليه أى فى اللفظ وإلا ورد على طرده الإخبار بما لا يحصى من المغيبات فزيد: تختص به أى لا تحصل إلا بالاطلاع عليه ولا دور لأن حصول الشئ غير تصوره وهذا حكم إنشائى إذ ليس له خارجى.

واعلم أن له أن يفسرها بتحصيل ما حصولها بالشرع دون ما هو حاصل ورد الشرع به أم لا لكنه يعلم بالشرع وحينئذ يكون كما قال وهو مطرد ومنعكس لا غبار عليه وأما قوله: تختص به. . . إلخ. فاعلم أن الخبر كما ستعلم له لفظ ومعنى يدل عليه ثابت فى النفس ومتعلق لذلك المعنى يشعر بوقوعه فى الخارج فإن كان واقعًا فصادق وإلا فكاذب ومثله يمكن أن يعلم وقوع به متعلقه بطريق غير ذلك الخبر وأما الإنشاء نحو قم فلا يدل على أن لنفسه متعلقًا واقعًا فلا خارج له عن النفسى يراد إعلامه إنما يراد به إعلام النفسى وهو الطلب مثلًا وذلك مما لا يعلم إلا باللفظ الدال عليه توقيفًا عليه وإذا عرفت هذا فمثل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، مما يصلح للإنشاء والإخبار عن إيجاب سابق متردد بين كونه حكمًا وعدمه.

قوله: (تختص به) أى لا تحصل تلك الفائدة إلا بالاطلاع على ذلك الخطاب ثم استشعر اعتراضًا بأن الاطلاع على الشئ معتبر فيه فتلك الفائدة تتوقف على معرفة الخطاب المخصوص الذى لا تعرف خصوصيته إلا بمعرفة الفائدة فيدور؛ أو يتوقف على معرفة الخطاب الذى هو الحكم فيكون تعريف الحكم به دورًا فأجاب بأن المتوقف على الاطلاع على الخطاب المخصوص أعنى الحكم هو حصول الفائدة لا تصوّرها، والمعتبر فى معرفة الخصوصية أو الحكم تصورها لا حصولها فلا دور فإن قيل تصور مفهوم الفائدة المختصة بالخطاب يتوقف على تصور الخطاب ضرورة، قلنا: نعم لكن على تصور مفهوم الخطاب الذى هو جزء مفهوم الحكم لا

ص: 116

المخصوص الذى هو نفس الحكم والتحقيق أن تصور مفهوم الحكم لا الحكم وحصول ذات الفائدة يتوقف على حصول ذات الحكم ومعرفتها لا على تصور مفهومه.

قوله: (وهذا حكم إنشائى) هكذا وقع فى النسخ وقد سقط عن القلم لفظ "كل" لأن عبارة المنتهى: وهذا حكم كل إنشائى إذ ليس له خارجى يعنى أن ما ذكرنا فى الحكم الشرعى من أن فائدته لا تحصل إلا بذلك الخطاب حكم كل كلام إنشائى فإن فائدته لا تحصل إلا منه إذ ليس له نسبة خارجية غير ما يقوم بالنفس ويفهم من اللفظ ليمكن حصولها بطريق آخر.

قوله: (واعلم أن له) يعنى للآمدى أن يفسر الفائدة الشرعية بما يتوقف على الشرع حصولها وثبوتها فى نفس الأمر لا بما فهمه المعترض وهو الحاصل الذى يتوقف العلم به على الشرع سواء توقف عليه حصوله أم لا وهذا معنى قوله: دون ما هو حاصل ورد به الشرع أم لا لكنه يعلم بالشرع يعنى يكون معنى نسبتها إلى الشرع أن يستند إليه حصولها إلا مجرد العلم بها وحينئذ يخرج الأخبار بالمغيبات مثل قوله تعالى {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 1، 2]، فإنها فائدة حاصلة فى الواقع لكنها تعلم بالشرع هذا ولكن لا أدرى لزيادة لفظ "التحصيل" فى قوله: بتحصيل ما حصولها زيادة فائدة.

قوله: (فاعلم أن الخبر) شرح وتفسير لاختصاص الفائدة بالخطاب فى الإنشاء دون الأخبار، وتحقيقه أن للخبر لفظًا هى الأصوات والحروف المخصوصة ومعنى ثانيًا فى نفس المتكلم يدل عليه اللفظ فيرتسم فى نفس السامع هو مفهوم الطرفين والحكم ومتعلقًا لذلك المعنى هو النسبة بين الطرفين يشعر اللفظ بوقوعه فى الخارج لكن الإشعار بوقوعه لا يستلزم وقوعه بل قد يكون واقعًا فيكون الخبر صادقًا، وقد لا فيكون الخبر كاذبًا وفى هذا إشارة إلى أن مدلول الخبر إنما هو الصدق والكذب احتمال عقلى ومثل هذا المعنى لا يختص بالكلام الدال عليه إذ قد يعلم وقوع متعلقه بطريق آخر كالإحساس فى المحسوسات والضرورة والاستدلال فى المعقولات والإلهام مثلًا فى المغيبات والإنشاء له لفظ ومعنى يدل عليه لكن ليس لمعناه متعلق يقصد الإشعار والإعلام به بل إنما يقصد به الإشعار بنفس ذلك المعنى الثابت فى النفس كالطلب مثلًا فى الإنشاءات الطلبية ومثل هذا

ص: 117

المعنى لا يعلم إلا باللفظ بطريق جعل السامع واقفًا على ثبوته فى النفس فيختص بالخطاب الدال عليه فمثل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، إن قصد به الإعلام بنسبة واقعة سابقة كان خبرًا فلا يكون حكمًا بالمعنى الذى نحن فيه، وإن قصد به الإعلام بالطلب القائم بالنفس كان إنشاء فيكون حكمًا.

قوله: (قال فى المنتهى إن فسر) أى الآمدى (الفائدة الشرعية بمتعلق الحكم الشرعى) فالتعريف دورى لأن تصور متعلق الحكم الشرعى موقوف على تصوره فلو عرف الحكم بمتعلقه كان دورًا ولو سلم أن لا دور من حيث إن تصور المتعلق يتوقف على تصور الحكم الشرعى بوجه ما لا على تصوره بهذا الوجه المخصوص واللازم حينئذ أن تصوره بهذا الوجه يتوقف على تصوره بوجه ما ولا استحالة فيه فلا دليل فى اللفظ على متعلق الحكم الشرعى فإن الفائدة الشرعية لا يفهم منها ذلك أصلًا فيفسد الحد وإن لم يفسد الآمدى الفائدة الشرعية بالمتعلق بل بما لا تكون حسية ولا عقلية على ما أشعر به كلامه حيث قال: هذا القيد احترازًا عن خطابه بما لا يفيد فائدة شرعية كالإخبار عن المعقولات والمحسوسات ورد على طرد الحد إخبار الشارع بالمغيبات كقوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 3]، وأمثاله فزيد على الحد الذى ذكره الآمدى ى قيد: يخصه بالإنشاء ويخرج عنه ما أورد عليه من الأخبار، وهو قولنا: تختص به أى لا تحصل تلك الفائدة إلا بالاطلاع على الخطاب وبهذا القيد اندفع النقض لأن فائدة الإخبار عن المغيبات قد يطلع عليها لا من حيث الخطاب الشرعى فإن له مدلولًا خارجيًا قد يعلم إذا وقع بدون اطلاع عليه، قال فى المنتهى: والحد مع الزيادة يرد عليه قوله تعالى: {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذاريات: 48]، {نِعْمَ الْعَبْدُ} [ص: 30]، وقوله: ولا دور دفع لما يتوهم من أن معرفة الخطاب المفيد فائدة مختصة به موقوفة على تصور الفائدة المختصة ضرورة توقف الكل على تصور أجزائه وهى متوقفة على الخطاب كما ذكرتم من أنها لا تحصل إلا بالاطلاع عليه، وتقريره: أن المتوقف على الخطاب حصول الفائدة وما توقف عليه الخطاب تصورها وحصول الشئ غير تصوره فلا دور، فإن قلت: قولكم لا تحصل إلا بالاطلاع عليه دل على أن معرفة الفائدة موقوفة على معرفة الخطاب فالدور لازم نعم لو قيل: لا تحصل إلا به لزم ما ذكرتم قلت العلم

ص: 118

بحصولها متوقف على العلم بحصول الخطاب وتصوره متوقف على تصورها فلا دور أصلًا وهذا أى اختصاص فائدة الخطاب به حكم كل خطاب إنشائى فإنه لا يطلع على فائدته إلا به إذ ليس له خارجى يطلع عليه لا من الخطاب بخلاف الإخبار على ما سيأتى تحقيقه.

قوله: (واعلم) نصرة للآمدى بأن له أن يفسر الفائدة الشرعية بتحصيل ما حصولها بخطاب الشرع دون ما هو حاصل فى نفسه ولو فى المستقبل ورد خطاب الشرع به أم لا لكنه يعلم خطابه كالمغيبات فإن الإخبار عنها لا يحصلها بل يفيد العلم بها فلا حاجة إلى زيادة قيد تختص به لإخراجه بل الحد حينئذ كما قال الآمدى وهو مطرد ومنعكس لا غبار عليه فإن قيل: إن حمل الخطاب على اللفظ كانت فائدته مدلوله الذى هو الخطاب النفسى فيلزم أن يكون الأول الحادث محصلًا للثانى القديم ويشكل أخذ الحكم بهذا المعنى فى تعريف الفقه وإن حمل على الخطاب النفسى فما فائدته التى تحصل به قلنا: الإيجاب الذى هو الخطاب النفسى مثلًا يحصل وجوب الفعل الذى لا يستفاد إلا منه وستسمع فى هذا كلامًا عن قريب، وأما قول المصنف: تختص به أى لا تفهم إلا منه لأنه إنشاء فلا خارج له فاعلم فى الحقيقة أن الخبر كما ستعلم فيما بعد له لفظ ومعنى يدل اللفظ عليه ثابت أى ذلك المعنى فى النفس، وقوله: ومتعلق بفتح اللام وإن جاز كسرها عطف على معنى وقوله يشعر على بناء الفاعل مسندًا إلى اللفظ ويجوز أن يقرأ على بناء المجهول مسندًا إلى ما بعده وعلى التقديرين الجملة صفة للمتعلق يعنى وللخبر متعلق لمعناه يشعر لفظه بوقوع دلك المتعلق فى نفس الأمر فاللفظ يدل أولًا وبالذات على المعنى النفسى وثانيًا وبالعرض على وقوع المتعلق وإنما قال: يشعر دون يدل لأن المتبادر إلى الفهم امتناع تخلف المدلول عن الدليل لكنه جائز ههنا لكون الدلالة اللفظية غير قطعية وفى الإشعار تنبيه على جواز ذلك فهو أولى ومثله على طريق الكناية مبالغة أى ومثل الخبر فى أن يكون لمعناه النفسى متعلق خارج عنه يشعر لفظه بوقوعه يمكن أن يعلم وقوع متعلقه بطريق غير ذلك الخبر اللفظى والمعنوى كالحس والعقل وأما الإنشاء نحو: قم فله لفظ ومعنى قائم بالنفس ولا يدل على أن لنفسه متعلقًا واقعًا فى نفس الأمر فلا مدلول خارج له عن المعنى النفسى يراد به إعلام ذلك الخارج كما فى الخبر إنما يراد بالإنشاء إعلام

ص: 119

المعنى النفسى وهو الطلب مثلًا والمعنى النفسى مما لا يعلم إلا باللفظ الدال عليه الصادر من التكلم توقيفًا عليه فالخطاب الإنشائى تختصر فائدته به أى لا يحصل العلم بها إلا بالاطلاع عليه وكما أن معناه لا يفهم إلا منه كذلك ما يتفرع عن معناه كالوجوب المترتب على الإيجاب لا يحصل إلا به ولا يستفاد إلا منه فلا يتوهمن من هذا الكلام كون الخطاب فى التعريف محمولًا على اللفظ وإذا عرفت أن الحكم هو الخطاب الإنشائى فمثل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، مما يصلح للإنشاء استعمالًا للخبر فيه مبالغة وللإخبار عن إيجاب سابق على هذا الخطاب إجراء له على أصله متردد بين كونه حكمًا على التقدير الأول لاختصاص فائدته به وبين عدمه إذ لمعناه متعلق خارجى يمكن أن يعلم لا من هذا الخطاب.

قوله: (بمتعلق الحكم الشرعى) توضيح المقام أن الفائدة الشرعية ههنا يجب أن توجد على وجه لا يصدق إلا على مثل الوجوب والحرمة مما يتعلق بأفعال المكلفين وحينئذ يكون خطاب الشارع بالجنس بالفائدة الشرعية أى المفيد لها عبارة قد يكون فى الاعتقاديات وقد يكون فى العمليات ولا شئ هنا يخصص الفائدة الشرعية عما هو المراد إلا بتقييدها بالحكم الشرعى ولذا قال: إن فسر الفائدة الشرعية بمتعلق الحكم الشرعى.

قوله: (على ما أشعر به كلامه) هذا الإشعار ضعيف حاصل بسبب ذكر المحسوسات والمعقولات فى مقابلة الشرعيات فالمفهوم هنا فائدة شرعية وفائدة حسية وفائدة عقلية والحسية مدركة بالحس والعقلية مدركة بالعقل والشرعية ما لم تدرك بهما بل من الشارع فصح قول الشارح وإلا ورد على طرده الإخبار بما لا يحصى من المغيبات لأن ذلك الإخبار يفيد الفائدة الشرعية بهذا المعنى.

قوله: (وهو مطرد ومنعكس لا غبار عليه) فإنه يصدق

(1)

هذا الحد على الخطابات المتعلقة بالاعتقادات نحو: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [النساء: 171]، و {لَا تُشْرِكْ

(1)

قوله: فإنه يصدق. . . إلى آخر القول. كذا فى الأصل وانظر فى هذا التركيب الذى تلاعبت به أيدى النساخ فأفسدوا ألفاظه ومعناه وأسقطوا وحرفوا الكلم عن مواضعه والأمر للَّه. كتبه مصحح طبعة بولاق.

ص: 120

بِاللَّهِ} [لقمان: 13]، وغير ذلك الأساميات هى خطابات شرعية مفيدة للعقائد الدينية التى لا تحصل إلا من خطاب الشارع مليًا قد وقع التعميم فى أفعال المكلفين على وجه يتناول أفعال القلب أيضًا وإطلاق الحكم على الخطاب الاعتقادى أيضًا.

الشارح: (أى لا تحصل إلا بالاطلاع) أى لا يحصل علمها إلا بعلمه لأن تحققها فى نفس الأمر موقوف على تحققه فى نفس الأمر.

الشارح: (بتحصيل ما حصولها بالشرع) اعتبر التحصيل لأن الفائدة ما استفيد وأنث الضمير العائد على "ما" لوقوعه على الفائدة ثم إن التحصيل يكون من المكلف إذ هو المستفيد للفائدة.

الشارح: (وحينئذ يكون كما قال) أى من أن الحكم خطاب بفائدة شرعية من غير احتياج إلى زيادة قيد تختص به.

التفتازانى: (بأن الاطلاع على الشئ معتبر فيه) أى فى الشئ أى أن الاطلاع على الخطاب معتبر فى الخطاب المخصوص الذى هو الحكم فالخطاب المخصوص الذى هو الخطاب بفائدة مختصة بالاطلاع عليه موقوف على الفائدة لأنها جزؤه والكل يتوقف على الجزء والفائدة متوقفة على معرفة ذلك الخطاب فتوقف الخطاب على نفسه أو أن الفائدة متوقفة على الخطاب الذى هو الحكم فأخذه فى تعريف الحكم يوجب الدور لتوقف الحكم على الفائدة المتوقفة على الحكم فالدور يصور بهذين الوجهين.

التفتازانى: (هو حصول الفائدة) أى الحصول فى الذهن والتصديق بثبوتها فى نفس الأمر.

التفتازانى: (فى معرفة الخصوصية) أى الخطاب المخصوص كما هو المعتبر فى وجه الدور الأول وقوله: أو الحكم أى كما فى الوجه الثانى.

التفتازانى: (لا الحكم) أى لا ذات الحكم وهنا سقط والأصل موقوف على تصور الفائدة وهو خبر عن قوله: إن تصور مفهوم الحكم وقوله: ومعرفتها أى معرفة ذات الحكم أى التصديق بوجودها، والمراد أن العلم بحصول الفائدة موقوف على العلم بوجود ذات الحكم كما أن حصول الفائدة فى نفس الأمر موقوف على حصول الحكم فى نفس الأمر ثم إن هذا التحقيق الذى ذكره التفتازانى هو حاصل

ص: 121

الجواب المتقدم ولا يدفع الإشكال الذى ذكره بقوله فإن قيل: تصور مفهوم الفائدة. . . إلخ. بل لا بد من الجواب الذى ذكره بقوله قلنا: نعم إلخ.

التفتازانى: (ولكن لا أدرى لزيادة لفظ التحصيل فى قوله: بتحصيل ما حصولها زيادة فائدة) لعل الفائدة الإشارة إلى اعتبار الاستفادة التى هى المراد بالتحصيل فى مفهوم الفائدة كما ذكرناه قبل.

التفتازانى: (والحكم) أى الذى هو الإيقاع والانتزاع.

التفتازانى: (وفى هذا) أى اعتبار الإشعار فى معنى الخبر.

التفتازانى: (ومثل هذا المعنى لا يختص) شرح لقول الشارح: ومثله يمكن أن يعلم وقوعه.

قوله: (يرد عليه قوله تعالى: {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذاريات: 48]، و {نِعْمَ الْعَبْدُ} [ص: 30] أى لأنه خطاب بفائدة شرعية لا يطلع عليها إلا بذلك الخطاب لأنه إنشاء فمقتضى تعريف الحكم بما ذكره أن يكون ذلك حكمًا.

قوله: (يشكل أخذ الحكم بهذا المعنى فى تعريف الفقه) أى لأنه بهذا المعنى يكون الفقه: هو العلم بالكلام اللفظى الحاصل عن الكلام اللفظى؛ لأن الحكم عليه: بمعنى الخطاب اللفظى وهو حاصل عن الدليل الذى هو الخطاب اللفظى وفيه أن الحكم فى تعريف الفقه ليس بمعنى الخطاب النفسى ولا اللفظى بل: بمعنى النسبة التامة كما تقدم التنبيه عليه.

قوله: (يحصل وجوب الفعل) أى بناء على أن الوجوب غير الإيجاب وأنه أمر اعتبارى كما سيأتى له بل ويصح أيضًا على أنه متحد مع الوجوب لاختلافهما اعتبارًا فالإيجاب باعتبار ينشأ عنه الإيجاب باعتبار آخر وهو المسمى بالوجوب.

قوله: (وأما قول المصنف تختص به. . . إلخ) شروع فى شرح قول الشارح أما قوله: تختص به. . . إلخ. وقوله: ومثله شروع فى شرح قول الشارح: ومثله يمكن أن يعلم وقوله: على طريق الكناية مبالغة، معناه: أن قول الشارح ومثله كناية عن نفس الخبر فكأنه قال: ومعنى الخبر يمكن أن يعلم وعبر عن ذلك بقوله: مثله على وجه الكناية والمبالغة كقولك: مثلك لا يبخل تريد به أنت لا تبخل.

قوله: (والمعنوى) هو الخبر النفسى وقوله: كالحس والعقل تمثيل للطريق الذى هو غير الخبر.

قوله: (فلا يتوهمن. . .إلخ) تفريع على قوله: وكما أن معناه. . . إلخ.

ص: 122

قال: (فإن كان طلبًا لفعل غير كف ينتهض تركه فى جميع وقته سببًا للعقاب فوجوب وإن انتهض فعله خاصة للثواب فندب وإن كان طلبًا للكف عن فعل ينتهض فعله سببًا للعقاب فتحريم ومن يسقط غير كف فى الوجوب يقول طلبًا لنفى فعل فى التحريم وإن انتهض الكف خاصة للثواب فكراهة وإن كان تخييرًا فإباحة وإلا فوضعى وفى تسمية الكلام فى الأزل خطابًا خلاف).

أقول: هذا أول تقسيم للحكم والحكم إما طلب أو غير طلب أما الطلب فإنما يكون لفعل لأنه المقدور دون عدم الفعل وسيأتى والفعل إما كف وإما غير كف وعلى التقديرين لا بد أن ينتهض الإتيان به سببًا للثواب لأنه طاعة وأما تركه فى جميع وقته فقد ينتهض سببًا للعقاب وقد لا ينتهض فهذه أربعة أقسام فإن كان طلبًا لفعل غير كف ينتهض تركه فى جميع وقته سببًا للعقاب فوجوب وإن انتهض فعله خاصة سببًا للثواب فندب وإن كان طلبًا للكف عن فعل ينتهض ذلك الفعل سببًا للعقاب فتحريم وإن انتهض الكف خاصة سببا للثواب فكراهة وأما غير الطلب فإن كان تخييرًا بين الفعل والكف عنه فإباحة وإلا فوضعى وههنا نكتة وهى: أن الحكم كما علمت نفس خطاب اللَّه تعالى فالإيجاب هو نفس قوله: افعل وليس للفعل منه صفة حقيقية فإن القول ليس لمتعلقه منه صفة لتعلقه بالمعدوم وهو إذا نسب إلى الحاكم سمى إيجابًا وإذا نسب إلى ما فيه الحكم وهو الفعل سمى وجوبًا وهما متحدان بالذات مختلفان بالاعتبار فلذلك تراهم يجعلون أقسام الحكم الوجوب والحرمة مرة والإيجاب والتحريم أخرى وتارة الوجوب والتحريم كما فعله المصنف.

وقد نبه المصنف على فائدتين:

إحداهما: أن ما ذكرنا بناء على أن الطلب دائمًا لفعل فنفى النهى الكف وفى غيره غيره وأما من يرى أن الترك نفى الفعل وهو أن لا يفعل فيطرح فى الوجوب قوله: غير كف لأنه كان لإخراج التحريم معتقدًا أنه طلب فعل لكنه كف ويقول فى التحريم إن كان طلبًا لنفى فعل.

الثانية: أن الواجب إذا كان وقته موسعًا فستعلم أنه لا ينتهض تركه سببًا للعقاب إلا إذا تركه فى جميع الوقت، فنبه عليه بقوله: فى جميع وقته لئلا يتوهم أنه قد يترك ولا عقاب فلا يكون سببًا له على أنه لو لم يذكره لم يخل لأن انتهاض تركه

ص: 123

سببًا فى الجملة لا يوجب انتهاضه دائمًا ثم ذكر أن فى تسمية الكلام فى الأزل خطابًا خلافًا وهو مبنى على تفسير الخطاب فإن قلنا: إنه الكلام الذى علم أنه يفهم كان خطابًا وإن قلنا: هو الكلام الذى أفهم لم يكن خطابًا ويبتنى عليه أن الكلام حكم فى الأزل أو يصير حكمًا فيما لا يزال فإن قلت: ما معنى سببية الفعل للعقاب وأنتم لا توجبون العقاب به كما تقول المعتزلة قلت معناه أنه لو عوقب به وقيل إنما عوقب لكذا للاءم العقل ولم يستقبح فى مجارى العادات.

واعلم بعد هذا كله أنه يرد عليه وجوب الكف فى قوله: كف نفسك فعلى حد الوجوب عكسًا وعلى حد التحريم طردًا والتحقيق أنه إيجاب للكف تحريم للفعل فلا بد من اعتبار الإضافة فيهما بأن يقال: الطلب إما أن يعتبر من حيث يتعلق بفعل أو من حيث يتعلق بالكف عنه. . . إلخ. ولو حمل عليه كلامه فلا يبقى قوله: غير كف محتاجًا إليه.

قوله: (وإن كان طلبًا للكف عن فعل) كان مقتضى المناسبة أن يقول: طلبًا للفعل هو كف ينتهض تركه إلا أنه اقتصر على المقصود مع زيادة الوضوح وأقام ذلك الفعل مقام فعله فى عبارة المتن لئلا يتوهم عود الضمير إلى الكف، وللإشارة إلى قلة الفرق بين قولنا: ينتهض الفعل أو الكف وقولنا: فعل الفعل وفعل الكف إذ معناه إيقاعه والإتيان به وهذا ما يقال: إن التأثير عين حصول الأثر بحسب الوجود.

قوله: (وههنا نكتة) قد اعترض على تعريف الحكم بأن مثل الوجوب والحل والحرمة من صفات أفعال المكلفين فكيف يكون خطاب اللَّه وكلامه؟ فقال الإمام فى المحصول: قولهم الحل والحرمة من صفات الأفعال ممنوع إذ لا معنى عندنا لكون الفعل حلالًا مجرد كونه مقولًا فيه رفعت الحرج عن فعله ولا معنى لكونه حرامًا إلا كونه مقولًا فيه: لو فعلته لعاقبتك فحكم اللَّه هو قوله والفعل متعلق القول وليس لمتعلق القول من القول صفة؛ وإلا لحصل للمعدوم صفة ثبوتية بكونه مذكورًا ومخبرًا عنه ومسمى بالاسم المخصوص؛ فالشارح المحقق أضاف إلى ذلك زيادة تحقيق وتدقيق وهو أن الخطاب صفة للحاكم متعلق بفعل المكلف فباعتبار إضافته إلى الحاكم يسمى إيجابًا وإلى الفعل وجوبًا والحقيقة واحدة والتغاير اعتبارى؛ وحينئذ يندفع ما يقال: إن الحكم هو الأثر الثابت بالخطاب لا

ص: 124

نفس الخطاب وأن فى جعل الوجوب والحرمة من أقسام الحكم تسامحًا وأنه كان ينبغى للمصنف أن يذكر فى مقابلة التحريم الإيجاب دون الوجوب؛ فإن قيل فعلى هذا لا تغاير بين الحكم والدليل لأنه نفس قوله: افعل قلنا: الحكم هو القول النفسى على ما يناسب معناه المصدرى والدليل هو القول اللفظى المناسب لمعنى المفعول.

قوله: (وقد نبه المصنف) أما التنبيه على الفائدة الأولى فبقوله: ومن يسقط غير كف. . . إلخ. وأما على الثانية فبتقييد الترك بجميع الوقت مع أنه مستغنى عنه فى تمام التعريف لأنا إذا قلنا: الوجوب طلب فعل غير كف ينتهض تركه سببًا للعقاب كان الواجب الموسع داخلًا فيه إذ ينتهض تركه سببًا فى الجملة كما إذا تركه فى جميع الوقت وإن لم ينتهض دائمًا كما إذا تركه فى بعض أجزاء الوقت وهذا معنى قوله على أنه لو لم يذكره لم يخل وأما قوله: فستعلم أنه لا ينتهض فلا يخفى أن لفظ فستعلم أنه زائد لا معنى له.

قوله: (يرد عليه) أى على المصنف وجوب الكف فى قول الشارع إذا قال: كف نفسك عن كذا فإنه إيجاب ولا يصدق أنه طلب فعل غير كف فقد انتفى حدّ الإيجاب ولم ينتف المحدود فبطل طرد تعريف التحريم، وكذا الكلام فى مثل امكث واترك الحركة وصم ونحو ذلك من إيجاب التروك، وأما نحو: لا تكفف فهو طلب كف عن فعل لا طلب فعل غير كف فلا يرد وقد أورد هذا الاعتراض على تعريف الأمر بطلب فعل غير كف ولا يخفى أن المراد الفعل الذى هو مأخذ صيغة الطلب والكف عن ذلك الفعل وحينئذ لا إشكال، أما فى اللفظى فظاهر وأما فى النفسى فتعبير باللفظى.

قوله: (والتحقيق) يعنى إن أجرى التعريفان على ظاهرهما بطلا عكسًا وطردًا بمثل اكفف، وإن حملا على أن الإضافة معتبرة فيهما بناء على أن قيد الحيثية لا بد منه فى تعريف الأمور التى تختلف باختلاف الإضافات، وكثيرًا ما يحذف من اللفظ لظهوره حتى يكون المراد أن الوجوب طلب يعتبر من حيث تعلقه بفعل، والحرمة طلب يعتبر من حيث تعلقه بالكف عن فعل، فيكون اكفف عن فعل كذا من حيث تعلقه بالكف إيجابًا وبالفعل المكفوف عنه تحريمًا لم يكن قوله غير كف محتاجًا إليه فى تمام حدّ الوجوب، ويكفى طلب فعل ينتهض تركه سببًا اللهم إلا أن يقصد زيادة الوضوح والتنبيه.

ص: 125

قوله: (وسيأتى) يعنى فى مسألة: لا تكليف إلا بفعل.

قوله: (وههنا نكتة) وهى أن الحكم الشرعى كما علمت نفس خطاب اللَّه تعالى الموصوف بما ذكر فالإيجاب مثلًا هو نفس معنى قوله: افعل وهو قائم بذاته سبحانه وليس للفعل من الإيجاب المتعلق به صفة حقيقية قائمة به تسمى وجوبًا فإن القول لفظيًا كان أو نفسيًا ليس لمتعلقه منه صفة حقيقية أى لا يحصل لما يتعلق به القول بسبب تعلقه به صفة موجودة لأن القول يتعلق بالمعدوم كما يتعلق بالموجود فلو اقتضى تعلقه تلك الصفة لكان المعدوم متصفًا بصفة حقيقية وهو أى معنى قوله: افعل إذا نسب إلى الحاكم تعالى لقيامه به سمى إيجابًا وإذا نسب إلى ما فيه الحكم وهو الفعل لتعلقه به سمى وجوبًا وهما أى الإيجاب والوجوب متحدان بالذات لأنهما ذلك المعنى القائم بذاته تعالى المتعلق بالفعل مختلفان بالاعتبار لأنه باعتبار القيام إيجاب وباعتبار التعلق وجوب، وكذا الحال فى التحريم والحرمة فلذلك أى فللاتحاد ذاتًا ترى الأصوليين يجعلون أقسام الحكم الوجوب والحرمة مرة والإيجاب والتحريم أخرى وتارة الوجوب والتحريم كما فعله المصنف تنبيهًا على هذه النكتة فإن قيل: الوجوب مترتب على الإيجاب يقال: أوجب الفعل فوجب وذلك ينافى الاتحاد أجيب بجواز ترتب الشئ باعتبار على نفسه باعتبار آخر إذ مرجعه إلى ترتب أحد الاعتبارين على الآخر وبهذا يجاب أيضًا عما قيل: إن الإيجاب من مقولة الفعل والوجوب من مقولة الانفعال ودعوى امتناع صدق المقولات على شئ باعتبارات مختلفة محل مناقشة نعم يتجه أن يقال: ما ذكرتم إنما يدل على أن الفعل من حيث تعلق به القول لم يتصف بصفة حقيقية تسمى وجوبًا لكن لِمَ لا يجوز أن يكون صفة اعتبارية هى المسماة بالوجوب أعنى كونه بحيث تعلق به الإيجاب بل هذا هو الظاهر ليكون كل من الموجب والواجب متصفًا بما هو قائم به ولا شك أن القائم بالفعل ما ذكرناه لا نفس القول وإن كان هناك نسبة قيام باعتبار التعلق ولو ثبت أن الوجوب صفة حقيقية لتم المراد إذ ليس هناك صفة حقيقية سوى ما ذكر إلا أن الكلام فى ذلك.

واعلم أن هذه المنازعة لفظية إذ لا شك فى خطاب نفسانى قائم بذاته تعالى متعلق بالفعل يسمى إيجابًا مثلًا، وفى أن الفعل بحيث يتعلق به ذلك الخطاب

ص: 126

الإيجابى فلفظ الوجوب إن أطلق على ذلك الخطاب من حيث تعلق بالفعل كان الأمر على ما قرر فى الشرح ولا بد من المساهلة فى وصف الفعل حينئذ بالوجوب وإن أطلق على كون الفعل تعلق به ذلك الخطاب لم يتحدا بالذات ويلزم المسامحة فى عبارتهم حيث أطلقوا أحدهما على الآخر.

قوله: (إن ما ذكرنا بناء) يريد أن ما ذكرناه من تعريف الأقسام الأربعة: الوجوب والندب والحرمة والكراهة مبنى على أن الطلب دائمًا لفعل كما أشير إليه فى صدر التقسيم وسيأتى تفصيله فالمطلوب بالنهى هو الكف وفى غير النهى غير الكف، وأما من يرى أن الترك المطلوب بالنهى هو نفى الفعل وعدمه لكونه مقدورًا عنده بأن لا يفعل الفعل لا أن يفعل عدمه فهو يطرح حينئذ من تعريف الوجوب والندب، قوله: غير كف لأنه كان لإخراج التحريم والكراهة وكذا لفظ الكف عن تعريفهما لأن المطلوب بهما حينئذ هو نفى الفعل.

قوله: (فنبه عليه) أى على عدم انتهاض الترك سببًا للعقاب إلا إذا كان فى جميع الوقت بقوله: فى جميع الوقت لئلا يتوهم أن الواجب الموسع قد يحرك فى بعض أجزاء الوقت ولا عقاب على تركه بل لا استحقاق أيضًا فلا يكون تركه سببًا للعقاب فيخرج عن التعريف.

قوله: (على أنه) بيان لكون القيد المذكور غير محتاج إليه إذ لا يخل عدم ذكره بالتعريف لأن المعتبر فيه حينئذ هو انتهاض ترك الفعل سببًا فى الجملة للعقاب وهو أعم من انتهاضه سببًا له دائمًا وعلى جميع التقادير ومن انتهاضه سببًا له على بعض الوجوه فالواجب الموسع بل وجوبه داخل فى التعريف بدون ذلك القيد نعم فيه تنبيه على زيادة تفصيل وفائدة.

قوله: (علم أنه يفهم) اعتبر العلم ولم يقل ما من شأنه أن يفهم لفائدتين، إحداهما أن العبارة الثانية يتبادر منها كون الإفهام بالقوة فيخرج عنه الخطاب المفهم بالفعل، وثانيتهما أن المعتبر فيه العلم بكونه مفهمًا فى الجملة فما لا يفهم فى الحال ولم يعلم إفهامه فى المآل لا يكون خطابًا بل إن كان مما يخاطب به يكون لغوًا بحسب الظاهر على التقدير وليس المراد من صيغة "يفهم" معنى الحال أو الاستقبال بل مطلق الاتصاف بالإفهام الشامل لحال الكلام وما بعده وكذلك لم يرد بصيغة "أفهم" فى التعريف الآخر معنى المضى بل الإفهام الواقع بالفعل أعم من

ص: 127

الماضى والحال.

قوله: (ما معنى سببية الفعل للعقاب) لم يتعرض لسببية الفعل للثواب لأنها تعرف بالمقايسة فيقال: معنى كونه سببًا للثواب أنه لو أثيب به وقيل إنما أثيب لكذا للاءم العاقل أى وافقه كما فى قولك: أحسن فلان إلى محسنه ولم يتنفر عنه كما فى قولك: أساء إليه ولم يستقبح فى مجارى العادات والحاصل أن الأفعال ليست أسبابًا موجبة للثواب والعقاب واستحقاقهما عند الأشاعرة إنما هى أمارات معرفة لهما ملائمة فى ذلك وفى ترتبهما عليها للعقول فى مجارى العادات.

قوله: (واعلم بعد هذا كله) إشارة إلى أن المصنف وإن بالغ فى المحافظة على هذه التعريفات كما عرفت لكنها لم تخل عن خلل فإن وجوب الكف المستفاد من قوله: كف يخرج عن حد الوجوب فيبطل عكسه ويدخل فى حد التحريم فيبطل طرده وكذا ينتقض حد الندب والكراهة عكسًا وطردًا بالندب المستفاد من كف إذا استعمل فيه ولا كان الحال فى كف ملتبسًا لاحتماله الإيجاب والتحريم حقيقة فإن كف إيجاب بالنظر إلى الكف وتحريم للفعل الذى نسب إليه الكف فهما ههنا متحدان بالذات مختلفان بالاعتبار فلا بد فى التمييز بينهما من اعتبار الإضافة فيهما بأن يقال: الطلب إما أن يعتبر من حيث يتعلق بفعل ثم يقسم إلى الوجوب والندب أو يعتبر من حيث يتعلق بالكف عنه ثم يقسم إلى التحريم والكراهة وعلى هذا فقد امتازت الأقسام بعضها عن بعض ولو حمل كلام المصنف على اعتبار الإضافة لزم أن يكون قوله: غير كف فى حدى الوجوب والندب مستدركًا ومنهم من اعترض على حد الوجوب بأنه يلزم منه أن لا يكون الصوم واجبًا لأن "صوموا" طلب لفعل هو كف وأجاب بأنه يمكن أن يمنع كونه كفًا لأن جزأه أعنى النية غير كف.

قوله: (على طريق الكناية مبالغة) من باب مثلك لا يبخل.

قوله: (إذ ليس هناك صفة حقيقية سوى ما ذكر) أى سوى معنى قوله: افعل والوجوب على تقدير ثبوت كونه صفة حقيقية نفس الإيجاب إلا أن الكلام فى ذلك أى فى أن الوجوب هل هو صفة حقيقية أو اعتبارية.

قوله: (كون الإفهام بالقوّة) أى القوّة التى تقابل الفعل فإن ما من شأنه قد يكون بمعنى القوّة وقد يكون أعم من الفعل والقوّة.

ص: 128

قوله: (بل إن كان مما يخاطب به) أى إن كان الكلام من جنس اللفظ والعبارة لأن الكلام النفسى يكون لغوًا بحسب الظاهر أى باعتبار الظاهر الذى هو عدم فائدته والاستغناء عنه على ذلك التقدير أى على تقدير عدم الإفهام فى الحال وعدم العلم بالإفهام فى الحال.

قوله: (أعم من الماضى والحال) فإن قيل: فيلزم أن يكون الكلام خطابًا فى الأزل لأنه يصدق عليه فى الأزل أنه يفهم فى وقت مّا قلنا: الإفهام الواقع فى التعريف غير مقيد بزمان من الأزمنة وتسمية الكلام بالخطاب تابع لتحقق الإفهام فإن كان الإفهام فى الماضى يكون الكلام خطابًا فى الماضى وإن كان فى زمان آخر يكون الكلام خطابًا فى ذلك الزمان.

قوله: (كما فى قولك أحسن فلان إلى محسنه) أى كالملاءمة الواقعة فى قولك: أحسن فلان إلى محسنه، وقوله: لم يتنفر عنه عطف على قوله: ملائم كما فى قولك: أساء إليه أى تنفرًا مسل التنفر الواقع فى قولك أساء إليه وقوله: لم يستقبح عطف على قوله: لم يتنفر عنه.

الشارح: (واعلم بعد هذا كله أنه يرد عليه وجوب الكف فى قولك كف نفسك) هذا الإيراد مدفوع بأن الكف فى نحو كف نفسك مقصود لذاته وإن ذكر معه المتعلق نحو عن الزنا بخلاف الكف فى نحو لا تفعل فإنه ليس مقصودًا لذاته بل المقصود المتعلق والكف حال من أحواله لأنه مدلول للحرف فقولهم فى تعريف الإيجاب: طلب فعل غير كف أى غير كف ملحوظ لغيره بأن كان فعلًا غير كف رأسًا وفعلًا هو كف ملحوظ لذاته وقولهم فى تعريف التحريم: طلب فعل هو كف أى كف ملحوظ لتعرف حال المتعلق.

التفتازانى: (إلا أنه اقتصر على المقصود مع زيادة الوضوح) وذلك أن المقصود من فعل هو كف نفس الكف فلذا قال: وإن كان طلبًا للكف عن فعل وإنما لى يقل ينتهض تركه لأن ترك الكف عن الفعل هو الفعل والتعبير به واضح عن التعبير بترك الكف وقوله: وأقام ذلك الفعل مقام فعله فى عبارة المتن أى أن مقتضى المتن أن يقول فعله لأن ذلك عبارته لكنه أقام الشارح قوله ذلك مقام قول المصنف: فعله لئلا يتوهم. . . إلخ.

التفتازانى: (وليس لمتعلق القول. . . إلخ) جواب عما يقال: نجعل قوله افعل

ص: 129

إيجابًا ونجعل الوجوب إنزاله، ولا نجعل قوله: افعل وجوبًا فلا ينافى أن الوجوب صفة للفعل وكذا أخواته فيكون الحكم هو أثر الخطاب لا الخطاب وقوله: ثبوتية أى سواء كانت موجودة أو لا فكلام الإِمام أعم من كلام الشارح لأن الشارح نفى الحقيقة فقط.

التفتازانى: (على ما يناسب معناه المصدرى) هو التكلم بالكلام النفسى وهو كان قديم الكلام.

التفتازانى: (والدليل هو القول اللفظى) أى سواء كان كتابًا أو سنة أو إجماعًا أو قياسًا فهى كاشفة وإن كان لا يقال فى القرآن كاشف سدًا لطريق التحريف والنفى إذ يقال: إنه ليس بكلامه بل هو كاشف عنه فيتطرق إلى ما لا يليق فلذا قيل: إن القرآن مثبت ولم يقل كاشف عن كلامه النفسى.

التفتازانى: (وهذا معنى قوله على أنه. . . إلخ) هو محط بيان أن التقييد بجميع الوقت مجرد فائدة.

التفتازانى: (فلا يخفى أن لفظ فستعلم أنه زائد لا معنى له) أى لأن الفائدة التى نبه المصنف عليها هى مجرد أن الواجب الموسع إذا كان وقته موسعًا فلا ينتهض تركه سببًا للعقاب إلا إذا تركه فى جميع الوقت لا أنه سيعلم ذلك ويمكن أن يقال لعله زاد قوله فستعلم للإشارة إلى أن ذلك ليس مجرد دعوى بل أمر مدلل عليه معلوم كما سيأتى فتدبر.

التفتازانى: (فبطل طرد تعريف التحريم) فيه سقط والاصل: فبطل عكس تعريف الإيجاب ويصدق أنه طلب فعل هو كف فقد وجد حد التحريم ولم يوجد التحريم فبطل طرد تعريف التحريم.

التفتازانى: (وقد أورد هذا الاعتراض) أى الذى ذكره الشارح بقوله: واعلم بعد هذا كله إلخ.

التفتازانى: (الفعل الذى هو مأخذ صيغة الطلب والكف عن ذلك الفعل) فكف عن الزنا مثلًا أمر لأنه طلب فعل غير كف عن الفعل الذى هو مأخذ الصيغة بخلاف لا تزن فإنه طلب فعل هو كف عن الفعل الذى هو مأخذ الصيغة فإنه طلب الكف عن الزنا وهو مأخذ الصيغة.

التفتازانى: (وأما فى النفسى فيعتبر باللفظى) أى أن اللفظى هو داله فيقال فيه طلب فعل هو أخذ لصيغة الطلب فى داله الذى هو الأمر اللفظى وليس ذلك

ص: 130

الفعل كفًا عن فعل هو مأخذ الصيغة لذلك الدال.

قوله: (وبهذا يجاب أيضًا عما قيل: إن الإيجاب من مقولة الفعل. . . إلخ) فيقال فى جوابه: لا بأس يكون الشئ من مقولة باعتبار ومن مقولة أخرى باعتبار آخر فقول: افعل باعتبار نسبته إلى الحاكم من مقولة الفعل وباعتبار نسبته إلى الفعل وتعلقه به من مقولة الانفعال.

قوله: (ودعوى امتناع صدق المقولات. . . إلخ) لم يرد المحشى بمقولة الفعل والانفعال المقولة الحقيقية لأن صفات البارى لا يصدق عليها المقولة بمعنى الجنس العالى من الأعراض كما لا يصدق عليها مقولة الجوهر بل أراد المقولة الاعتبارية التى يعتبرها العقل وإن لم تكن أجناسًا هى أعراض ومعنى قوله: وامتناع صدق المقولات على شئ باعتبارات مختلفة محل مناقشة لأنه ليس هنا تصادق مقولات حقيقية وتصادق المقولات الاعتبارية باعتبارات مختلفة ليس بممتنع.

قوله: (سوى ما ذكر) أى سوى قوله افعل.

قوله: (إلا أن الكلام فى ذلك) أى فى أن الوجوب هل هو صفة حقيقية أو اعتبارية.

قوله: (كون الإفهام بالقوة) أى القوة التى تقابل الفعل لأن ما من شأنه أن يكون قد يكون بمعنى القوة التى تقابل الفعل وقد يكون أعم فيشمل ما بالفعل.

قوله: (وثانيتهما أن المعتبر فيه العلم. . . إلخ) قال فى شرح مسلم الثبوت: إن اكتفى فى الخطاب بالصلوح للإفادة فالكلام فى الأزل خطاب وإن أريد الإفهام الحالي فلا وأما أخذ العلم بإفهامه فى الجملة كما قال السيد فغير ظاهر ولا يفهم من لفظ الخطاب وما يأتى فى الحاشية من أن المعتبر فى كون الكلام خطابًا أحد أمرين الإفهام بالفعل أو العلم فى الحال بالإفهام فى المآل وأما الفهم بالقوة مع عدم العلم فى الحال بكونه مفهمًا فى المآل فليس إلا خطابًا بالقوة عند الفريقين فادعاء محض بل الكلام الذى هيئ للإفهام خطاب عند من يكتفى بالصلوح للإفهام فى المآل علم أنه يفهم مآلًا أم لا، نعم يشترط للعلم بأنه خطاب علم كونه مفهمًا فظهور الخطابية إنما هو بالعلم وأما نفس الخطابية فالتهيؤ ولتوجه للإفهام ولو مآلًا فتأمل. اهـ.

قوله: (ولم يتنفر عنه) عطف على قوله وافقه، وقوله: كما فى قولك أساء إليه راجع للمنفى وهو يتنفر عنه، وقوله: ولم يستقبح عطف على قوله: لا أم العقل، وقوله ملائمة فى ذلك أى فى كونها معرفة.

ص: 131

قال: (الوجوب الثبوت والسقوط، وفى الاصطلاح ما تقدم، والواجب الفعل المتعلق للوجوب كما تقدم، وما يعاقب تاركه مردود لجواز العفو وما أوعد بالعقاب على تركه مردود بصدق إيعاد اللَّه تعالى وما يخاف مردود بما يشك فيه القاضى ما يذم تاركه شرعًا بوجه ما وقال بوجه ما ليدخل الواجب الموسع والكفاية حافظ على عكسه فأخل بطرده إذ يرد الناسى والنائم والمسافر فإن قال يسقط الوجوب بذلك قلنا ويسقط بفعل البعض والفرض والواجب مترادفان، الحنفية: الفرض المقطوع به والواجب المظنون).

الأول: الوجوب فى اللغة الثبوت قال عليه الصلاة والسلام: "إذا وجب المريض فلا تبكين باكية"(*)، وأيضًا السقوط يقال: وجبت الشمس ومنه {وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] وجبت جنوبها وفى الاصطلاح ما تقدم: وهو خطاب بطلب فعل غير كف ينتهض تركه فى جميع وقته سببًا للعقاب والواجب هو الفعل المتعلق للوجوب فهو فعل غير كف تعلق به خطاب بطلب بحيث ينتهض تركه فى جميع وقته سببًا للعقاب ومنه يعلم حد الأقسام الأخر وحد متعلقاتها. وقيل: الواجب ما يعاقب تاركه وهو مردود لجواز العفو فيخرج عنه الواجب العفو عن تركه، وقيل: ما أوعد بالعقاب على تركه ليندفع ذلك وهو غير مندفع، لأن إيعاد اللَّه تعالى صدق فيستلزم العقاب على تركه ويعود ما قلنا وقيل: ما يخاف العقاب على تركه وهو مردود بما يشك فى وجوبه ولا يكون واجبًا فى نفسه فإنه يخاف العقاب على تركه فيبطل طرده وقال القاضى أبو بكر: ما يذم شرعًا تاركه بوجه ما والمراد بالذم شرعًا نص الشارع به أو بدليله، وذلك أنه لا وجوب إلا بالشرع وقال: بوجه ما ليدخل من الواجبات ما لا يذم تاركه كيفما تركه بل يذم تاركه بوجه دون وجه وهو الموسع فإنه يذم تاركه إذا تركه فى جميع وقته ولو تركه فى بعض الوقت وفعله فى بعض لا يذم وكذا فرض الكفاية فإنه يذم تاركه إذا لم يقم به غيره فى ظنه وكذا الخير إذا قلنا كل واحد واجب فإنه يذم تاركه إذا ترك معه الآخر وأما إذا قلنا هو

(*) أخرجه ابن حبان (7/ 461)(ح 3189)، والحاكم فى المستدرك (1/ 503) (ح 1300) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والبيهقى فى الكبرى (4/ 69)(ح 6945)، والشافعى فى مسنده (1/ 362)، وأبو داود (3/ 188)(ح 3111)، والنسائى (4/ 13)(ح 1846)، والإمام مالك فى الموطأ (1/ 233)(ح 554)، والطحاوى فى شرح معانى الآثار (4/ 291)، والطبرانى فى الكبير (2/ 191)(ح 1779).

ص: 132

أحدهما مبهمًا كما يراه المصنف فيذم تاركه بأى وجه فرض فلذلك لم يذكره كغيره وبهذا القيد حافظ على عكسه فلم يخرج من الحدّ ما هو من المحدود أعنى الموسع والكفاية لكنه أحل بطرده فدخل فيه ما ليس من المحدود وهو صلاة النائم والناسى والمسافر فإنه يذم تاركه بتقدير انتفاء العذر فإن قال القاضى: لا نسلم أن هذه غير واجبة بل واجبة وسقط الوجوب فيها بالعذر قلنا: وكذلك فى الكفاية يقال: يذم بتركه شرعًا، أى يجب الذم لكنه يسقط وجوب الذم بفعل البعض الآخر، وإذا اعتددت بالوجوب الساقط فى الفعل فلِمَ لا تعتد بالوجوب الساقط فى الذم فلا يكون إلى قوله بوجه ما حاجة وكذلك الموسع. وللقاضى أن يقول: ترك أحدنا الكفاية متردد بين أن يترك غيره فيذم وأن لا يترك فلا يذم وهذا الترك بحاله لم يتغير وقد تغير خارجى بخلاف ترك النائم فإن عدم النوم تقديرى ولا يبقى حينئذ هذا الترك بحاله والمتغايران إذا أريد أحدهما لم يرد الآخر نقضًا عليه إذا عرفت معنى الواجب فمن أسمائه الفرض وهما مترادفان عند الجمهور وقالت الحنفية يفترقان بالظن والقطع فما ذكره إن كان ثبت بقطعى ففرض كقراءة القرآن فى الصلاة الثابتة بقوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] وإن ثبت بظنى فهو الواجب نحو تعيين الفاتحة الثابت بقوله: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وهو آحاد ونفى الفضيلة محتمل ظاهر والنزاع لفظى.

قوله: (والواجب الفعل) إشارة إلى أن ما وقع فى عبارة البعض من أن الواجب والمندوب ونحوهما أقسام للحكم ليس على ظاهره.

قوله: (خطاب بطلب فعل) قد تقدم أن الوجوب طلب فعل وأن الطلب نفس الخطاب وكأنه أراد أنه خطاب بطريق أن يكون طلبًا لفعل.

قوله: (فيستلزم العقاب) قد ذهب بعض المتكلمين إلى أن الخلف فى الوعيد جائز دون الوعد.

قوله: (بما يشك فيه) يحتمل أن يريد الواجب الذى يشك بل يظن أو يعتقد أنه غير واجب؛ فلا يخاف تاركه العقاب فيصدق المحدود بدون الحدّ فيبطل انعكاسه، وأن يريد غير الواجب الذى يشك أو يظن أو يعتقد أنه واجب فيخلف تاركه العقاب فيوجد الحدّ بدون المحدود فيبطل اطراده؛ إلا أن المصنف لما اقتصر على ذكر الشك الذى هو أدنى ليعلم الحكم فى الظن والاعتقاد بطريق الأولى ذهب

ص: 133

الشارح المحقق إلى الثانى لأن مجرد احتمال الوجوب كاف فى الخوف فكيف يحكم فى الواجب المشكوك وجوبه بعدم الخوف؟ وبطلان الانعكاس.

قوله: (والمراد بالذم) إشارة إلى دفع ما ذكره فى المنتهى من أنه إن أريد بذم الشارع نصه عليه فلا يوجد فى الجميع إذ لا نص فى كل واجب وإن أريد نص أهل الشرع فدور لأنه موقوف على تحقق الوجوب؛ فلو تحقق الوجوب عنه لدار، ثم قال: والرسم وإن صح بتابع الماهيات فلا يصح بما لا يتحقق إلا بعد تحققها، واعترض العلامة بأن الوقوف على الوجوب هو تحقق الذم لا تصوره وبأن توابع الماهيات كلها مما لا يتحقق إلا بعد تحققها، والجواب أن المراد تابع الماهية قد يتأخر عنها بالزمان كذم أهل الشرع بالنسبة إلى الواجب ومثله لا يصلح للتعريف لعدم اللزوم وإن الغرض كان تعريف الواجب أن يعرف أن أى فعل واجب فيذم تاركه فإذا عرف بذم أهل الشرع وهم لا يذمون ما لم يعرفوا الوجوب، ولا يعرف الوجوب ما لم يعرف الذم؛ فيكون دورًا كما ذكره المصنف فى تعريف المعرب بما يختلف آخره باختلاف العوامل، نعم لو قصد مجرد التمييز بالنسبة إلى غير من يذم لكان وجهًا.

قوله: (فلذلك لم يذكره) يعنى لما كان رأى المصنف أن الواجب فى المخير هو أحد الأمرين مبهمًا لم يتصوّر تركه إلا بترك الجميع وحينئذ يلحقه الذم قطعًا؛ فلذلك لم يذكر المصنف الواجب المخير فى جملة ما يتوقف دخوله فى الحدّ على التقييد بقوله: بوجه بها كغيره أى كما ذكره غير المصنف، أو كما ذكره المصنف غير الواجب الخير وهو الواجب الوسع والكفاية، ولا يخفى ورود مثل هذا على الواجب الموسع فإن من لم يأت فى أوّل الوقت لم يكن تاركًا للواجب إلا على رأى من يجعل وقته أوّل الوقت؛ فظهر أن الاحتياج فى دخول الواجبات الثلاث إلى التقييد بقوله: بوجه ما إنما هو على تقدير أن الوسع واجب فى أوّل الوقت، والكفاية فرض على الكل، وفى المخير كل واحد واجب، أما إذا جعلنا الموسع واجبًا فى جزء ما من الوقت والكفاية واجبة على البعض وفى المخير الواجب واحدًا مبهمًا لم نحتج إلى هذا التقييد، وكان على المصنف أن لا يذكر الموسع أيضًا لا يقال: المقصود تقرير كلام القاضى ومذهبه فى الموسع أنه يجب فى أوّل الوقت الفعل أو العزم فتارك الفعل لا يذم مطلقًا بل إذا ترك العزم أيضًا لأنا نقول فحينئذ لا يكون تاركًا للواجب ما لم يتركهما جميعًا كما فى الواجب المخير بعينه.

ص: 134

قوله: (إذ يرد الناسى والنائم والمسافر) الظاهر أن المراد صلاة الناسى والنائم وصوم المسافر على ما فى بعض الشروح لا صلاة المسافر الفاقد الطهورين على ما ذكره العلامة لأنه لا جهة لذكر السفر حينئذ ووجه الورود أنه يصدق على كل منهما أنه يذم تاركه على تقدير عدم القضاء بعد التذكر والتنبه والإقامة، ولا يخفى أن المراد أنه يذم تاركه على تقدير ترك الفرض معه وفى الصور المذكورة ليس الذم على تركه الصلاة حال النسيان والنوم والصوم والصلاة حال السفر بل على ترك القضاء، ولذا ذهب الشارح المحقق إلى أن المراد صلاة النائم والناسى والمسافر يعنى الركعتين فى القصر فإنها ليست بواجبة عليهم مع أنهم يذمون على تركها لو لم يكن بهم النوم والنسيان والسفر وهذا معنى تقدير انتفاء العذر فليتأمل، وبهذا التحقيق يتمكن من دفع الاعتراض عن القاضى على ما سيجئ.

قوله: (فإن قال القاضى) قد اضطرب فى تقرير هذا السؤال، والجواب كلام الشارحين طرأ لاختلال كلام المصنف؛ لأن الواجب الذى سقط وجوبه؛ إما أن يكون المقصود إدراجه فى الحدّ أو إخراجه؛ فإن قصد إدراجه لم يستقم الجواب، وإن قصد إخراجه لم يستقم السؤال؛ أما الأول فلأن مثل الكفاية والموسع إذا كان من قبيل الواجب، وإن سقط وجوبه كان التقييد بقوله: بوجه ما مقيدًا لا مستدركًا، وأما الثانى فلأن مثل صلاة النائم إذا لم يكن من قبيل الواجب لسقوط وجوبه كان قوله: فإن قال: يسقط الوجوب بذلك تقريرًا لما أورد من اختلال طرد التعريف لصدقه على ما ليس بواجب كصلاة النائم؛ لا دفعًا له فمبنى السؤال على أن ما سقط وجوبه واجب، ومبنى الجواب على أنه ليس بواجب والشارح العلامة قد اعترف بورود هذا الإشكال وقال بعضهم: أخل بطرده لأن الناسى والنائم والمسافر يجب عليهم القوم بالنص ولا نذمهم على تركه بوجه ما فإن قال القاضى: الوجوب يسقط بالعذر فلا يذمون لعدم الوجوب عليهم، قلنا: فالواجب على الكفاية يسقط بفعل البعض، وأنت خبير بأن ما ذكر إخلال بالعكس لا بالطرد، وبعضهم لم يتحاش فقرر السؤال بأنا لا نسلم أن صلاة النائم ليست بواجبة سقط وجوبها، والجواب بأنه يلزم حينئذ أحد الأمرين؛ لأنها إن كانت واجبة لزم الإخلال بالطرد؛ وإن لم تكن واجبة لزم استدراك بوجه ما؛ لأن الغرض منه دخول الكفاية والموسع، ولا نسلم أنهما واجبان لسقوط وجوبهما بفعل بعض المكلفين وبعض أجزاء الزمان، وبعضهم قرر الجواب بأنكم إذا جوزتم

ص: 135

سقوط وجوب مثل صلاة النائم بسبب فلا حاجة إلى زيادة قيد: بوجه ما لأنه حينئذ يقال: إن الواجب على الكفاية إنما لا يذم تاركه؛ لأن الوجوب سقط بفعل البعض، وكذا فى الموسع ولا يخفى أن هذه مجمجة فى الكلام؛ لأن ما سقط وجوبه إما واجب يجب إدراجه، أو غير واجب يجب إخراجه، ويعود المحذور، ولما كان من دأب الشارح المحقق الفحص عن الدقائق، والتقصى عن المضايق أعمل الحيلة فى توجيه المقام، وأظهر الزينة لتمويه الكلام، وجعل ضمير "يسقط" لوجوب الذم على معنى أن تارك الكفاية يستوجب الذم، وكذا تارك الموسع فى أول الوقت؛ لكن يسقط وجوب ذمهما فى الكفاية بفعل البعض الآخر من المكلفين، وفى الموسع بفعله فى البعض الآخر من أجزاء الوقت، وكما لا يخرج مثل صلاة النائم بسقوط الوجوب عن كونه واجبًا لا يخرج تارك مثل الكفاية بسقوط وجوب ذمه عن كونه مستوجبًا للذم فيدخل فى الحدّ وإن لم يقيد بقوله: بوجه ما هذا والكلام فى أن ذمه على من يجب وبماذا يجب.

قوله: (وللقاضى) قد سبق أن وجه ورود صلاة النائم والناسى والمسافر على طرد حد القاضى، وهو أن تاركها يستحق الذم على تقدير عدم النوم والنسيان والسفر؛ لا على تقدير ترك القضاء بعد زوال العذر، لما أن هذا لا يكون ذمًا لتارك الصلاة فى تلك الأحوال؛ بل لتارك القضاء، فعلى هذا يتوجه للقاضى أن يقول: المراد بالترك هو الترك الذى يبقى بحاله عند الوجه الذى يلحق فيه الذم؛ كما فى ترك زيد صلاة الجنازة مثلًا فإنه بحالة من غير تغير سواء تركها عمرو أو لم يترك، وإنما يقع التغيير فى الأمر الخارجى الذى هو ترك عمرو مثلًا فإنه قد يتحقق وقد لا يتحقق؛ بخلاف ترك النائم فإنه على التقدير الذى يلزمه الذم وهو عدم النوم لا يبقى بحاله لأنه لا يكون حينئذ ترك النائم وكذا فى النسيان والسفر فلا يصدق أنه يذم تاركه على تقدير يتحقق معه هذا الترك.

قوله: (والنزاع لفظى) عائد إلى التسمية، فنحن نجعل اللفظين اسمًا لمعنى واحد، تتفاوت أفراده، وهم يخصون كلًا منهما يقسم من ذلك المعنى ويجعلونه اسمًا له، وقد يتوهم أن من جعلهما مترادفين جعل خبر الواحد الظنى؛ بل القياس المبنى عليه فى مرتبة الكتاب القطعى حيث جعل مدلولهما واحدًا وهو غلط ظاهر.

ص: 136

قوله: (إذا وجب المريض) أى ثبت واستقر وزال عنه الاضطراب فلا تبكين باكية لأن ذلك علامة اشتغاله بمشاهدة أمر من أمور الآخرة.

قوله: (وهو خطاب لطلب فعل) يناسب ما سبق من تعريف الحكم بالخطاب ولا يخالف ما يفيده نفس التقسيم من أنه الطلب فإن الخطاب النفسى أعم من الطلب وكما يجوز إضافة العام إلى الخاص يجوز اعتبار ملابسته إياه فيصح أنه طلب وأنه خطاب طلب وأنه خطاب يلتبس بطلب وقد وقع فى عبارة المتن بعد قوله: والواجب الفعل المتعلق للوجوب، قوله: كما تقدم وهو إشارة إلى مضى معنى الواجب ههنا كما أن قوله: ما تقدم إشارة إلى معنى الوجوب صريحًا ومنهم من قال: معناه كما تقدم من معنى الوجوب أو كما تقدم كان أن المشتق يدل على ذات متصفة بالمشتق منه وأنت تعلم أن الأول تكرار والثانى بعيد.

قوله: (ومنه يعلم حد الأقسام الأخر وحد متعلقاتها) فيقال مثلًا: الندب خطاب بطلب فعل غير كف بحيث ينتهض فعله خاصة سببًا للثواب وعلى هذا فقس البواقى.

قوله: (وهو مردود لجواز العفو) لا يكفى مجرد الجواز بل لا بد من اعتبار الوقوع فلهذا قال: فيخرج عنه الواجب المعفو عن تركه، فإن قيل: لو أريد بقولهم ما يعاقب تاركه ما يستحق تاركه العقاب بتركه وفسر الاستحقاق بنحو ما فسر السببية به لم يتوجه النقض قلنا: ما ذكرتم تعريف المصنف لكن تفسير الألفاظ فى التعريفات بخلاف ظواهرها بلا قرينة غير ظاهرة غير جائز وقد ذكر فى الأحكام هذا واعترض عليه بانتفاء الاستحقاق عندنا قال وإن أريد به أنه لو عوقب به لكان ذلك ملائمًا لنظر الشارع فلا بأس به.

قوله: (لأن إيعاد اللَّه تعالى صدق) لأن الإيعاد بالعقاب خبر وأخبار اللَّه تعالى صادقة قطعًا فيستلزم العقاب على الترك لذلك وإن كان تركه فى حق غيره تعالى بعد كرمًا وفضيلة.

قوله: (والمراد بالذم شرعًا نص الشارع به) أى بالذم كأن يقول ذموا أو ليذم تارك الفعل الفلانى أو هو مذموم أو نص الشارع بدليل الذم كقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [الجن: 23]، إلى غير ذلك من الآيات

ص: 137

الدالة على ذم تارك المأمور به ولم يرد بصيغة يذم معنى الحال أو الاستقبال بل ثبوت الذم بالفعل على أحد الوجهين فاندفع ما قيل من أنه إن أريد الذم بالفعل فلا ينعكس الحد لتخلفه عمن لم يشعر بتركه الواجب وإن أريد الشارع يذمه بطل العكس أيضًا لأنه لا يذم تارك الواجب بل ذمه ويندفع ما أورده المصنف فى المنتهى قائلًا: إن أريد بذم الشرع نص الشارع عليه فلا يوجد فى الجميع يعنى أن الشارع ما نص على ذم كل تارك أى واجب كان وإن أريد نص أهل الشرع يلزم الدور يعنى لتوقف ذم أهل الشرع بالترك على وجوب الفعل هذا مع أن الدور ظاهر الاندفاع.

قوله: (وذلك أنه لا وجوب) ذلك إشارة إلى تقييد الذم بالشرع على المعنى المذكور يعنى أن تقييده به لأنه لا وجوب عندنا إلا بالشرع فلا ذم إلا من جهته.

قوله: (وهو الموسع) قيل الموسع داخل فى الحد وإن لم يقيده بهذا القيد فإن الواجب الموسع هو الظهر مثلًا فى جزء من أجزاء الوقت فتركه إنما يتحقق بتركه فى جميع الوقت وتاركه فى بعض الوقت ليس تاركًا للواجب وبالجملة ما ذكره فى المخيرات ههنا فلو اعتبر مذهب من قال: إنه واجب فى أول الوقت مع أنه لا يذم بتركه فيه أو يقال: كل واحدة من الأفراد المتفقة الحقائق الواقعة فى أجزاء الوقت واجب كما قيل فى المخير احتيج فى إدخاله إلى قوله: بوجه ما فظهر أن الاحتياج إليه فى الموسع والمخير إنما هو على المذهب المردود وأما على المختار فلا، بخلاف فرض الكفاية فإنه على العكس.

قوله: (فلذلك) أى فلأن الواجب فى المخير عند المصنف يذم تاركه على تركه بأى وجه فرض لم يذكر الخير ههنا ولم يقل: إن القيد لإدخاله كما ذكره غيره من أصحاب الفن.

قوله: (فإن قال القاضى لا نسلم أن هذه) أى الصلاة على هؤلاء المذكورين غير واجبة بل هى واجبة لكنه سقط الوجوب فيها بالعذر الذى هو النوم والنسيان والسفر فيكون من أفراد الواجب فلا يخل دخولها فى حده بالاطراد.

قوله: (أى يجب الذم) إن أراد وجوب الذم بالقياس إلى المكلفين يفهم منه أن الذم على ترك الواجب بالقياس إليهم ولا شك أن ذلك على تقدير علمهم بتركه وإن أراد بالقياس إلى الشارع فلا وجوب عليه ولا منه ويمكن أن يفسر وجوب

ص: 138

الذم بالمعنى اللغوى أعنى الثبوت وإن وإن بعيدًا جدًا، ولو لم يتعرض فى الذم للوجوب وجعل الضمير المستتر فى لفظ يسقط المذكور فى المتن ثانيًا راجعًا إلى الذم لا إلى وجوبه لكان أولى وحينئذ يقال وإذا اعتددت بالوجوب الساقط فى الفعل لأجل العذر حتى جعلته من أفراد الواجب فلا ينقدح تعريفه بدخوله فيه فلِمَ لم يقيد الذم الساقط على ترك فرض الكفاية بإتيان الغير فيصدق عليه حينئذ أنه يذم تاركه ويندرج فى الحد ولا حاجة فى ذلك إلى قوله: بوجه ما وكذا الحال فى الموسع فالقيد مستدرك هذا غاية ما يوجه به كلام المتن وقد وقع فى بعض نسخ الشرح هكذا وكذلك يقال: الوجوب يسقط بفعل البعض فإذا اعتددت بالوجوب الساقط بالعذر فلِمَ لا يعتد بالوجوب الساقط بفعل البعض فلا يكون إلى قوله: بوجه ما حاجة كأن هذه العبارة وقعت فى الأصل أولًا ثم غيرت لأن المراد بالوجوب فى قوله: الوجوب يسقط بفعل البعض إن كان وجوب الذم فالمعنى واحد والعبارة الثانية ظاهرة الدلالة عليه فتكون أسد وأولى وإن كان وجوب الفعل أعنى فرض الكفاية لم يكن هذا اعتراضًا على القاضى بل بقوله: كما لا يخفى.

قوله: (وللقاضى أن يتقول. . . إلخ) إذا ترك واحد فهناك ترك مخصوص وتارك موصوف به فالتارك تارك للواجب بذلك الترك المخصوص والذم إنما يلحقه بسببه فإذا قلنا: الواجب ما يذم تاركه فالمعنى ما يذم تاركه بسبب ذلك الترك الذى هو تارك له به وتارك الكفاية يذم فى الجملة بسبب تركه الذى هو تارك الكفاية بذلك الترك لأن تركه الكفاية ترك واحد لا يتغير فى نفسه بإتيان الغير وعدمه وإذا لم يأت به غيره لحقه الذم بذلك الترك وإن أتى به لم يلحقه فهناك ترك واحد يلحق بسببه الذم على وجه دون وجه فلو لم يقيد الحد بقوله: بوجه ما لتبادر منه العموم إلى الفهم وخرج الكفاية فإذا قيد دخل قطعًا وأما التارك الذى هو النائم فإن تركه فى حال النوم مغاير لتركه حال عدمه ولا يلحق بسبب الترك الأول ذم أصلًا فلا يصدق على صلاته أنه فعل يذم تاركه بسبب ذلك الترك الذى هو تارك له به بل يصدق عليها أنه يذم تاركها بترك آخر وهو الترك الحاصل عند عدم العذر فعلم أن ترك الكفاية وترك النائم أمران متغايران بالوجه المذكور أعنى التغير وعدمه فإذا أريد إدخال أحدهما أعنى غير المتغير فى تعريف بزيادة قيد يناسبه فقط لم يرد الآخر أعنى المغير نقضًا على ذلك التعريف بوساطة ذلك القيد الذى لا يناسبه إذ ما عداه

ص: 139

آب عن دخوله فيه وملخصه: أن فرض الكفاية وصلاة النائم خارجان عن الحد بدون ذلك القيد لكن خروج الأول بسبب العموم فى الذم وخروج الثانى بسبب اعتبار لحوق الذم للتارك بالترك الذى هو تارك له به فإذا زيد القيد ارتفع العموم فقط فيدخل الأول دون الثانى لبقاء مخرجه على حاله هكذا حقق المقال.

قوله: (ثبت بقطعى) أى دلالة وسندًا والظنى يقابله فلا قطع فى أحدهما أو فيهما وقوله: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" ظنى فيهما كما أشار إليه قوله: والنزاع لفظى إذ لا خلاف فى أن المعنى المذكور قد ثبت بدليل قطعى من جميع الجهات وقد ثبت بدليل ظنى بحسب ذلك قد تفاوتت مراتبه وأحكامه إن اشترك الكل فى لحوق الذم على ما ذكر إنما النزاع فى إطلاق هاتين اللفظتين على الكل أو بالتقسيط قالت الحنفية: الفرض هو التقدير قال اللَّه تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]؛ أى قدرتم والوجوب عبارة عن السقوط فخصصنا اسم الفرض بما علم بدليل قاطع إذ هو الذى عرف أن اللَّه قدره علينا وما علم بدليل ظنى سميناه واجبًا لأنه ساقط علينا لا فرضًا إذ لم يعلم أن اللَّه قدره علينا قال الإِمام فى المحصول: وهذا الفرق ضعيف لأن الفرض هو القدر مطلقًا أعم من أن يكون مقدرًا علمًا أو ظنًا وكذا الواجب هو الساقط أعم من أن يكون ساقطًا علمًا أو ظنًا فالتخصيص تحكم محض.

قوله: (ومنهم من اعترض على حد الوجوب) أى الحدّ المذكور فى المتن وأما الحدّ المذكور فلا ورود لهذا الاعتراض عليه وأنت تعلم أن الأوّل تكرار أى باعتبار استناد المتقدم إلى معنى الوجوب مرتين وإلا فلا يظهر التكرار فيما إذا قيل الواجب الفعل المتعلق للوجوب كما تقدم ومعنى الوجوب أى مثل معنى الوجوب والمماثلة تكون باعتبار أن كل واحد من معنى الواجب ومعنى الوجوب شئ يعتبر تعلقه بالآخر ويندفع ما أورده المصنف أى ثبت التعميم فى نص الشارع بأن يكون ذلك النص به أو بدليله وهذا المقام يوجد فى الجميع.

قوله: (مع أن الدور ظاهر الاندفاع) وذلك لأن العلم بالوجوب على تقدير اعتبار نص أهل الشرع فى التعريف يتوقف على العلم بذم أهل الشرع بالترك والعلم بذم أهل الشرع لا يتوقف على العلم بالوجوب؛ بل نفس ذم أهل الشرع

ص: 140

يتوقف على الوجوب وعلى العلم به.

هذا آخر ما ظهر على خاطر الفقير الحقير المدعو بالحسن الهروى والمرجو من اللَّه العلم الحكيم أن يجعله عند السالكين طريق الحق على الإنصاف وليس لهم الأثر من النفس بكمالات يصل إليها قليل من الناس وأن يحفظه من أيدى جماعة يمشون على الأرض مع الاعتساف وليس لهم إلا التوجه إلى تعظيم العمامة وتفخيم البدن بتكثير اللباس اللهم اشغل الظالمين بالظالمين واجعل المسلمين من بينهم سالمين، آمين

(1)

.

الشارح: (وللقاضى أن يقول ترك أحدنا. . . إلخ) يعنى أن للقاضى أن يقول فى دفع إيراد خلل التعريف بعدم طرده لأنه يرد صلاة الناسى والنائم والمسافر وجهًا غير ما قاله عنه المصنف بقوله: فإن قال يسقط الوجوب بذلك وهو أن المراد بالترك فى تعريف الواجب الترك الذى يبقى بحاله عند الوجه الذى يلحق فيه الذم وإنما يقع التغير من خارج عنه فتخرج صلاة الناسى وما معه من تعريف الواجب ويكون قيد: بوجه ما لا بد منه لإدخال فرض الكفاية والموسع كما قال وحينئذ لا يرد عليه شئ.

التفتازانى: (أنه خطاب بطريق) أى فالباء للملابسة والملابسة هى ملابسة العام للخاص.

التفتازانى: (قد ذهب بعض المتكلمين. . . إلخ) وعليه فالإيعاد لا يستلزم العقاب فلا يخرج الواجب المعفو عنه، وقد يقال أيضًا: إن الإيعاد مقيد بعدم العفو فلا خلف ولا إيراد بخروج الواجب المعفو عنه لا يقال: إن التقييد عدول عن الظاهر بلا موجب لأنا نقول: الموجب هو ثبوت جواز العفو لأهل الكبائر غير المشركين ثبوتًا جليًا مثل الشمس فى رابعة النهار.

التفتازانى: (لما اقتصر على ذكر الشك. . . إلخ) أى فلو ذكر الظن والاعتقاد لكان يصح أن يقال: إنه اعترض بالواجب الذى لا يخاف من تركه العقاب لظنه أنه غير واجب أو اعتقاده ذلك.

(1)

إلى هنا انتهت القطعة التى عثرنا عليها من تقرير العلامة الشيخ حسن الهروى على حاشية المحقق السيد فليعلم. كتبه مصحح طبعة بولاق.

ص: 141

التفتازانى: (وبطلان الانعكاس) عطف على قوله فى الواجب أى كيف يحكم ببطلان الانعكاس وكان حقه أن يقول: وببطلان الانعكاس.

التفتازانى: (لا تصوره) أى والموقوف عليه الوجوب تصوره فالجهة منفكة.

التفتازانى: (وبأن توابع الماهيات كلها. . . إلخ) أى فمقتضاه أن لا يصح الرسم بالتابع أصلًا مع أنه ليس كذلك.

التفتازانى: (والجواب أن المراد أن تابع الماهية. . . إلخ) أى فمراد المنتهى بما لا يتحقق إلا بعد تحققها ما يتأخر عن الماهية بالزمان وليس كل تابع كذلك إذ منه ما يلزم الماهية ولا يتحقق بدونه ومنها ما ليس كذلك.

التفتازانى: (وأن الغرض) جواب عن دفع الدور وحاصله أن تعريف الشئ بفائدته وما يترتب عليه دور لأن فائدة الشئ تتوقف على معرفته فلو توقفت معرفته عليها لزم الدور كما ذكره المصنف فى تعريف العرب بما يختلف آخره باختلاف العوامل فإن معرفة اختلاف الآخر باختلاف العوامل فائدة مترتبة على معرفة المعرب فأخذها فى تعريفه دور كتعريف الفاعل بأنه الاسم المرفوع فإن الغرض من تعريف الفاعل أن يعرف ليثبت له الرفع فأخذه فى تعريف الفاعل موجب للدور.

التفتازانى: (نعم لو قصد. . . إلخ) أى فذم التارك ليس فائدة لمعرفة الواجب بالنسبة إلى غير من يذم فالتعريف بالنسبة لغيره فقط.

التفتازانى: (وكان على المصنف أن لا يذكر الموسع أيضًا) أى كما لم يذكر الواجب المخير لأن مذهبه فى الوسع أنه واجب فى جزء ما من الوقت وأما الكفائى فذكره فى محله لأن مذهبه أنه واجب على الكل.

التفتازانى: (إن يرد الناسى والنائم) هذه العباره عبارة المصنف لا عبارة الشارح وعبارة الشارح فدخل فيه ما ليس من الحدود وهو صلاة النائم والناسى والمسافر وكان حق التفتازانى حيث هو الآن فى حل الشارح أن يقول قوله فدخل فيه ما ليس من المحدود. . . إلخ. والمؤدى واحد.

التفتازانى: (لا جهة لذكر السفر حينئذ) أى لأن المدار على فقد الطهورين.

التفتازانى: (يعنى الركعتين فى القصر) أى اللتين سقطتا بالسفر وقوله فإنها أى الصلاة ممن ذكر وقوله: وبهذا التحقيق وهو أن المراد أنه يذم تاركه من حيث إنه

ص: 142

تارك له لا من حيثية أخرى كترك القضاء وقوله يتمكن من دفع الاعتراض عن القاضى أى بأن يقال: إن الترك فيما ذكر من صلاة النائم والساهى والمسافر لا يبقى بحاله عند لحوق الذم للتارك إذ هو حينئذ ليس ترك النائم وما معه بخلاف الترك فى فرض الكفاية فإنه بأن بحاله عند لحوق الذم للتارك وإنما التغير فى أمر خارجى وهو ترك الغير فعند حصوله يذم تارك فرض الكفاية وعند عدم حصوله بأن حصل فعل من الغير فلا يذم ذلك التارك أما لو اعتبر أنه يذم تاركه فى حال مطلقًا ولم يعتبر تاركه من حيث إنه تارك له بهذا الترك فلا يتمكن من دفع الاعتراض عن القاضى.

التفتازانى: (لاختلال كلام المصنف) الأولى لخفاء كلام المصنف.

التفتازانى: (لأن الواجب الذى سقط وجوبه) أى كصلاة النائم والساهى إما أن يكون المقصود إدراجه فى الحد أى حتى يكون الاعتراض الذى ذكره المصنف بقوله: فأخل بطرده إذ يرد الناسى والنائم والمسافر مدفوعًا، وقوله: أو إخراجه أى وعليه لا يكون الإيراد مدفوعًا، وقوله: فإن قصد إدراجه فى الحد أى فقوله: فإن قال: يسقط الوجوب بذلك معناه أن صلاة الناسى والنائم والمسافر وإن ساقط وجوبها بالعذر فهى واجبة؛ فيندفع الإيراد بإخلال الطرد بها إذ دخولها هو اللازم وقوله: لم يستقم الجواب أى الذى هو قوله: قلنا: ويسقط بفعل البعض لأن معناه أن الواجب الكفائى يسقط وجوبه بفعل البعض ولا يخرج بذلك عن كونه واجبًا وكذا الموسع لا يخرج عن الوجوب بسقوطه بفعله آخر الوقت وحينئذ يكون القيد الذى هو: بوجه ما محتاجًا إليه فى إدخالهما فى التعريف لا مستدركًا لأنا بنينا على أن الواجب الذى سقط وجوبه فى بعض الأحيان مقصود إدراجه فى التعريف مع أن مقصود الجواب أن القيد مستدرك ولا يتأتى استدراكه إلا إذا كان الجواب مبنيًا على أن الواجب الذى يسقط وجوبه ليس بواجب حتى لا يحتاج إلى إدخاله فى التعريف وقوله فبنى السؤال على أن ما سقط وجوبه واجب، أى لأن الغرض من السؤال دفع إيراد خلل الطرد بما سقط وجوبه لعذر فدفعه بهذا السؤال الذى هو قوله: فإن قيل: يسقط. . . إلخ إنما ينبنى على أن ما سقط وجوبه واجب، وقوله: مبنى الجواب أى الذى هو قوله قلنا: ويسقط بفعل البعض على أنه ليس بواجب حتى يكون القيد مستدركًا ولا حاجة له كما هو مراد المجيب

ص: 143

وحيث كان مبنى الجواب غير مبنى السؤال لم يتطابقا؛ فكان الكلام مشكلًا.

التفتازانى: (يجب عليهم الصوم بالنص) كقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].

التفتازانى: (فإن قال القاضى. . . إلخ) السؤال والجواب عليه ظاهر لو كان الاعتراض بإخلال العكس لا الطرد.

التفتازانى: (وبعضهم لم يتحاش) أى لأنه قرر الكلام بغير ما يفيده، وقوله: فقرر السؤال. . . إلخ. تقرير السؤال بذلك ظاهر إذ معناه أن صلاة النائم ونحوه واجبة فدخولها فى التعريف غير مخل بطرده.

التفتازانى: (إن كانت واجبة لزم الإخلال بالطرد) ممنوع.

التفتازانى: (وإن لم تكن واجبة) كيف هذا الترديد مع فرض أنها واجبة.

التفتازانى: (بأنكم إذا جوزتم. . . إلخ) على هذا التقرير يكون ما سقط وجوبه لعذر ليس بواجب وعليه يكون قوله: فإن قيل ليس دفعًا للإيراد بخلل التعريف طردًا بل هو مقرر له.

التفتازانى: (مجمجة فى الكلام) أى إبهام وعدم تبيين فيه، فى القاموس: مجمج فى خبره لم يبينه ومجمج بفلان ذهب معه مذهبًا غير مستقيم.

التفتازانى: (وجعل ضمير يسقط. . . إلخ) وعلى ما قاله الشارح صار كل من السؤال والجواب مبنيًا على أن ما سقط وجوبه لعذر واجب، فالسؤال الذى هو قوله: فإن قيل. . . إلخ. دفع لإيراد خلل الطرد، والجواب الذى هو قوله: قلنا: ويسقط بفعل البعض إيراد على هذا الدفع بأنه يلزمه أن يكون قيد على وجه ما، مستدركًا لدخول فرض الكفاية، والموسع بدونه وإن كلًا يذم تاركه وإن سقط الذم إذ سقوطه لا ينافى الاعتداد به كما اعتد بوجوب صلاة الناسى مع سقوط الوجوب.

التفتازانى: (فنحن نجعل اللفظين اسمًا لعنى واحد. . . إلخ) فى العطار على جيع الجوامع بعد ذكر ذلك ما نصه: وفيه تأييد لما ذكره كثير كالسيوطى فى طبقات النحاة من أن السعد التفتازانى شافعى المذهب وكلامه فى حاشية التلويح يؤيد ذلك فإنه كثيرًا ما ينتصر للشافعية وأما السيد فحنفى باتفاق. اهـ.

قوله: (وقد ذكر فى الأحكام هذا) وهو ما استحق تاركه العقاب.

ص: 144

قوله: (بانتفاء الاستحقاق عندنا) بنى الاستحقاق على الحسن والقبح العقليين وقد تقدم أننا لا نقول بهما.

قوله: (معنى الحال أو الاستقبال) أى الحال بالنسبة لزمن الترك والاستقبال بالنسبة له فالذم فى الحال أى فى حال الترك والذم فى الاستقبال أى بعد الترك وقوله: على أحد الوجهين ليس المراد بالوجهين الحال والاستقبال بل ما نص الشارع به وما نص على دليله وقوله: عمن لم يشعر بتركه أى كالناسى والنائم بناء على أن تركه ترك للواجب وأنه يذم بوجه ما وهو ما إذا ترك بعد زوال العذر وقوله: لا يذم تارك الواجب أى بعد تركه بل ذمه على تقدير الترك.

قوله: (مع أن الدور ظاهر الاندفاع) أى لأن معرفة الواجب وتمييزه بالنسبة لغير من يذم متوقفة على معرفة أن أهل الشرع بذمون تاركه الموقوفة على معرفة الواجب لأهل الشرع بغير ذم أهل الشرع.

قوله: (كل واحدة من الأفراد المتفقة الحقيقة) أى كل جزء من الوقت الموسع يجب فيه فرد من الصلاة المخصوصة كالظهر بحيث لو حصل فرد سقط عنه الطلب.

قوله: (كما أشار إليه) أى بقوله: وهو آحاد ونفى الفضيلة محتمل ظاهر.

قوله: (أن المعنى المذكور) هو الفعل المتعلق للطلب الذى ينتهض تركه فى جميع الوقت سببًا للعقاب.

ص: 145

قال: (الأداء ما فعل فى وقته المقدر له شرعًا أولًا والقضاء ما فعل بعد وقت الأداء استدراكًا لما سبق له وجوب مطلقًا آخره عمدًا أو سهوًا تمكن من فعله كالمسافر أو لم يتمكن لمانع من الوجوب شرعًا كالحائض أو عقلًا كالنائم وقيل لما سبق وجوبه على المستدرك ففعل الحائض والنائم قضاء على الأول لا الثانى إلا فى قول ضعيف والإعادة ما فعل فى وقت الأداة ثانيًا لخلل وقيل لعذر).

أقول: تقسيم آخر للحكم وهو أن الفعل قد يوصف بكونه أداء وقضاء وإعادة.

فالأداء: ما فعل فى وقته المقدر له شرعًا أولًا، فخرج ما لم يقدر له وقت كالنوافل أو قدر لا شرعًا كالزكاة يعين له الإمام شهرًا وما وقع فى وقته المقدر له شرعًا ولكن غير الوقت الذى قدر له أولًا كصلاة الظهر فإن وقته الأول هو الظهر والثانى إذا ذكرها بعد النسيان فإذا أوقعها فى الثانى لم تكن أداء وليس قوله أولًا متعلقًا بقوله: فعل فيكون معناه فعل أولًا لتخرج الإعادة لأن الإعادة قسم من الأداء فى مصطلح القوم وإن وقع فى عبارات بعض المتأخرين خلافه.

والقضاء: ما فعل بعد وقت الأداء وهو المقدر له شرعًا أولًا استدراكًا لا سبق له وجوب مطلقًا فخرج ما فعل فى وقت الأداء وإعادة المؤداة خارج وقتها وما لم يسبق له وجوب كالنوافل وقيد الوجوب بقوله مطلقًا تنبيهًا على أنه لا يشترط الوجوب عليه ثم لا فرق بين تأخيره عن وقت الأداء سهوًا أو عمدًا مع التمكن من فعله أولًا أو مع عدم التمكن لمانع من الوجوب شرعًا كالحيض أو عقلًا كالنوم وقيل هو ما فعل بعد وقت الأداء استدراكًا لما سبق له وجوب على المستدرك والفرق بين التعريفين أن فعل النائم والحائض قضاء على الأول إذ سبق له وجوب فى الجملة وليس بقضاء على الثانى إذ لم يجب على المستدرك لقيام المانع من الوجوب إلا فى قول فإن بعضهم قال بوجوب الصوم عليهما نظرًا إلى عموم قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وهو ضعيف لأن جواز الترك مجمع عليه وهو ينفى الوجوب قطعًا.

والإعادة: ما فعل فى وقت الأداء ثانيًا لخلل وقيل لعذر، فالمنفرد إذا صلى ثانية مع الجماعة كانت إعادة على الثانى وإن طلب الفضيلة عذر دون الأول إذا لم يكن فيها خلل.

والحاصل: أن الفعل لا يقدم على وقته فإن فعل فيه فأداء أو بعده فإن وجد

ص: 146

سبب وجوبه فقضاء وإلا فغيرهما ومن الأداء الإعادة لخلل أو عذر.

قوله: (تقسيم آخر للحكم) يعنى باعتبار متعلقها إذ الأداء والقضاء والإعادة أقسام للفعل الذى تعلق به الحكم وظاهر كلام المتقدمين والمتأخرين أنها أقسام متباينة، وأن ما فعل ثانيًا فى وقت الأداء ليس بأداء ولا قضاء ولم نطلع على ما يوافق كلام الشارح صريحًا، نعم كلام الإمام الغزالى رحمه الله أن الأداء ما يؤدى فى وقته ربما يشعر بذلك لو لم يناقش فى إطلاق التأدية على الإعادة ولو سلم فحمل كلام المصنف عليه تكلف ظاهر الظهور أن أوّلًا فى تفسير الأداء مقابل لثانيًا فى تفسير الإعادة وهو متعلق بفعل قطعًا ثم التقييد بقوله شرعًا ينبغى أن يكون للتحقيق دون الاحتراز عما ذكره الشارح لأن إيتاء الزكاة فى الشهر الذى عينه الإمام أداء قطعًا، اللهم إلا أن يقال: المراد ليس أنه أداء من حيث وقوعه فى ذلك الوقت بل فى الوقت الذى قدره الشارع حتى لو لم يكن الوقت مقدرًا فى الشرع لم يكن أداء كالنوافل المطلقة بل النذور المطلقة وأما على ظاهر كلام المصنف فهو احتراز عما إذا عين المكلف لقضاء الموسع وقتًا وفعله فيه وما قيل: إنه احتراز عن الصلاة الفاسدة فى وقتها بعيد جدًا ومبنى على أن شرعًا متعلق بفعل لا بالمقدر أى فعل حال كونه مشروعًا.

قوله: (خارج وقتها) ظرف للإعادة أو المؤداة أى إن أدى الصلاة فى وقتها ثم أعادها بعد الوقت لإقامة الجماعة مثلًا أو أداها خارج الوقت قضاء ثم أعادها بجماعة لا يكون فعله الثانى قضاء لأنه ليس استدراكًا كما لا يكون أداء أو إعادة لأنه ليس فى الوقت.

قوله: (وإلا فغيرهما) أى وإن لم يوجد له سبب وجوب وقد فعل بعد وقته فليس بأداء لعدم وقت الأداء ولا قضاء لعدم سبق الوجوب وذلك كإعادة القضاء وإعادة الأداء بعد الوقت والنوافل المؤقتة فى وقتها أداء وبعد وقتها ليست بقضاء فإن قيل مقتضى قوله: إن وجد سبب وجوبه فقضاء أن يكون إعادة الأداء بعد الوقت قضاء قلنا فعله الثانى ليس بواجب فلا يتصوّر له سبب وجوب.

قوله: (تقسيم آخر للحكم) هذا التقسيم للفعل المحكوم به أولًا وبالذات

ص: 147

وللحكم ثانيًا وبالعرض فيقال الحكم إما متعلق بأداء وإما بقضاء وإما بإعادة.

قوله: (الأداء ما فعل) لم يقل واجب ليتناول النوافل المؤقتة.

قوله: (فخرج ما لم يقدر له وقت كالنوافل) أى المطلقة إذ لم يقدر لها وقت بخلاف الحج فإن وقته مقدر معين لكنه غير محدود فيوصف بالأداء ولا يوصف بالقضاء لوقوعه دائمًا فيما قدر له شرعًا أولًا وإطلاق القضاء على الحج الذى يستدرك به حج فاسد مجاز من حيث المشابهة مع المقضى فى الاستدراك.

قوله: (والثانى إذا ذكرها بعد النسيان) مأخوذ من قوله عليه الصلاة والسلام: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها" ولا يرد أن القضاء موسع وقته العمر فلا يتقدر بزمان التذكر لأنه لا يدعى انحصار الوقتية فيه بل المراد أن زمان التذكر وما بعده زمان قد قدر له ثانيًا فإن قلت: فالنوافل على هذا لها وقت مقدر أولًا هو وقت العمر كما أن قضاء الظهر له وقت مقدر، ثانيًا هو بقية العمر قلت: البقية قدرت وقتًا له بالحديث المذكور إذا حمل على ذلك وما بعده وقت لها وأما إن العمر وقت للنوافل فمن قضية العقل لا من تقدير الشرع فإن أجيب بأن التقدير يقتضى التعبير ولو بوجه والبقية ممتازة عما عداها يدفع بأن العمر أيضًا كذلك متميز عما سواه فلا فرق بهذا الوجه فإن قيل لعله ذهب إلى ظاهر الحديث فجعل القضاء مضيقًا وقته زمان التذكر قلت ذلك خلاف المختار.

قوله: (وليس قوله أولًا متعلقًا بقوله فعل) رد لما ذهب إليه غيره من الشراح فإنهم جعلوا الإعادة قسيمة للأداء وجعلوا قوله أولًا احترازًا عنها.

قوله: (وإعادة المؤداة) يعنى وخرج بقيد الاستدراك إعادة الصلاة المؤداة فى وقتها خارج وقتها فإنها ليست قضاء ولا أداء ولا إعادة اصطلاحًا وإن كانت إعادة لغة.

قوله: (وما لم يسبق له وجوب كالنوافل) أى المؤقتة فإن إطلاقه عليها مجاز.

قوله: (تنبيهًا على أنه لا يشترط) أى فى كون الفعل قضاء الوجوب على الفاعل بل المعتبر مطلق الوجوب وحاصله ما سيصرح به من انعقاد سبب وجوبه وقد يعترض على قوله: ثم لا فرق بين تأخيره عن وقت الأداء سهوًا أو عمدًا بأن التأخير مشعر بالقصد فلا يصح تقييده بالسهو وهذه مناقشة لا طائل تحتها.

قوله: (مع التمكن من فعله) يتعلق بالعمد كما هو الظاهر ولهذا أخر العمد عن

ص: 148

السهو فى الشرح وعلى عبارة المتن يجعل متعلقًا بالأبعد أو تقسيمًا ابتداء.

قوله: (والحاصل أن الفعل) يريد أن الفعل إذا كان مؤقتًا من جهة الشرع لا يجوز تقديمه لا بكله ولا ببعضه على وقته لأدائه إلى تقدم المسبب على السبب فإن فعل الفعل فى وقته فهو أداء أو فعل بعده، فإن وجد فى الوقت سبب وجوبه سواء ثبت الوجوب معه أو تخلف عنه لمانع فهو قضاء وإن لم يوجد فى الوقت سبب وجوبه لم يكن أداء ولا قضاء، ومن جملة الأداء الإعادة لخلل أو لعذر فهى أخص مطلقًا من الأداء، فإن قلت: الزكاة المعجلة قد تقدمت على وقتها فلا يصح قولكم أن الفعل لا يقدم على وقته قلنا: قد جعل ههنا ملك النصاب الذى هو جزء سببها قائمًا مقامه وجعل وقتها بذلك موسعًا فلا تقديم فإن قيل إذا وقعت ركعة من الصلاة فى وقتها وباقيها خارجه فهل هو أداء أو قضاء قلنا: ما وقعت فى الوقت أداء والباقى قضاء فى حكم الأداء تبعًا وكذا الحال فيما إذا وقع فى الوقت أقل من ركعة عند من يجعله أداء ومن لم يجعله أداء لم يعتد بما هو أقل منها قيل: قد خالف الشارح هنا فى ثلاثة مواضع سائر الشراح، الأول أنهم جعلوا الإعادة قسيمة للأداء وقد جعلها قسمًا منه، والثانى أنهم علقوا كلمة أولًا بقوله فعل وعلقه بالمقدر، والثالث أنهم حصروا العبادات فى الثلاثة ولم يحصرها وهذا الأخير ليس صحيحًا إذ قد صرح بعضهم أنه ما لم يقدر له وقت كالنوافل المطلقة والأذكار لا يوصف بشئ من الأداء والإعادة والقضاء.

المصنف: (الأداء ما فعل فى وقته. . . إلخ) إطلاق الأداء على المفعول المذكور حقيقة عرفية فلا يرد أن ما فعل هو المؤدى لا الأداء وكذا يقال فى تعريف القضاء والإعادة.

المصنف: (استدراكًا لما سبق له وجوب) موافق لمذهبه من عدم قضاء المندوب إلا أنه يرد عليه أن الفجر مندوب ويقضى للزوال إلا أن يقال: إن إطلاق القضاء عليه مجاز ومعنى الاستدراك الوصول للشئ وإدراكه ولا يرد على هذا التعريف الصلاة بعد وقتها لكونها كانت أديت فى الوقت بطهارة مظنونة ثم تبين انتفاؤها لسقوط المقتضى بالفعل الأول فلم يتوصل بالفعل الثانى إلى ما سبق له مقتض هو قضاء اتفاقًا لأنه لما تبين بانتفاء الطهارة عدم إجزاء الصلاة المفعولة فى الوقت صار الطلب

ص: 149

كأنه لم يسقط وحينئذ يكون فعلها بعد الوقت استدراكًا لما سبق له مقتضى حكمًا.

المصنف: (أو عقلًا كالنائم) فيه أن هذا لا يصح جعله من أقسام التأخير عمدًا.

التفتازانى: (ولو سلم) أى: أن الإعادة يطلق عليها تأدية قال الأبهرى قال الغزالى فى المستصفى: الواجب إن أدى فى وقته سمى أداء وإن أدى بعد وقته الموسع أو المضيف سمى قضاء وإن فعل مرة على نوع من الخلل ثم فعل ثانيًا فى الوقت سمى إعادة وهو صريح فيما قاله الشارح وكذا عبارة القرافى فى المحصول.

التفتازانى: (وهو متعلق بفعل قطعًا) أى أن ثانيًا فى تعريف إعادة متعلق لفعل قطعًا.

قوله: (إذا حمل على ذلك وما بعده وقت له) أى إذا حمل قوله فى الحديث: فإن ذلك وقت لها على معنى ذلك وما بعده وقت لها.

قوله: (فمن قضية العقل) لأنه لا بد للفمعل من زمان يقع فيه وليس بعض منه أولى من بعض.

قوله: (فإن أجيب) أى عن إيراد النوافل المطلقة على اعتبار بقية العمر وقتًا للقضاء الموسع وقوله بأن العمر أيضًا كذلك أى لأنه متميز عما كان فى وقت مخصوص.

قوله: (فإن قيل لعله) أى الشارح ذهب إلى ظاهر الحديث أى ظاهر قوله: فإن ذلك وقتها وعليه فلا يرد إشكال النوافل المطلقة.

قوله: (والثانى أنهم علقوا. . . إلخ) هو مبنى الوجه الأول.

قوله: (وهذا الأخير ليس صحيحًا) أى حصر العبادة فى الثلاثة.

ص: 150