المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌(مباحث الإجماع) قال: (الإجماع: العزم والاتفاق، وفى الاصطلاح: اتفاق المجتهدين من - شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي ومعه حاشية السعد والجرجاني - جـ ٢

[عضد الدين الإيجي]

فهرس الكتاب

- ‌ ابتداء الوضع

- ‌(مسألة: الواجب على الكفاية

- ‌(مسألة: الأمر بواحد من أشياء

- ‌(مسألة: من أخر مع ظن الموت قبل الفعل

- ‌(مسألة: ما لا يتم الواجب إلا به

- ‌(مسائل الحرام)

- ‌(مسائل المندوب)

- ‌(مسائل المكروه)

- ‌(مسائل المباح)

- ‌(خطاب الوضع)

- ‌(المحكوم فيه)

- ‌(مسألة: لا تكليف إلا بفعل

- ‌(المحكوم عليه)

- ‌(مسألة: يصح التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه

- ‌(مباحث الأدلة الشرعية)

- ‌(مباحث الكتاب)

- ‌(مسألة: العمل بالشاذ غير جائز

- ‌(مباحث السنة)

- ‌(مسألة: إذا علم بفعل ولم ينكره

- ‌(مباحث الإجماع)

- ‌(مسألة: لا يختص الإجماع بالصحابة

- ‌(مسألة: التابعى المجتهد معتبر

- ‌(مسألة: إجماع أهل المدينة من الصحابة والتابعين حجة

- ‌(مسألة: الإجماع لا يكون إلا عن مستند

- ‌(مسألة: المختار امتناع ارتداد كل الأمة

- ‌(مسألة: يجب العمل بالإجماع المنقول بخبر الآحاد

- ‌(مباحث الخبر)

- ‌(مباحث خبر الواحد)

- ‌(مسألة: التعبد بخبر الواحد العدل جائز

- ‌(مسألة: مجهول الحال لا يقبل

- ‌(مسألة: الصحابى من رأى النبى عليه الصلاة والسلام

- ‌(مسألة: الأكثر على جواز نقل الحديث بالمعنى

- ‌(مسألة: إذا كذب الأصل الفرع

- ‌(مسألة: حذف بعض الخبر جائز

- ‌(مباحث الأمر)

- ‌(مسألة: صيغة الأمر بمجردها لا تدل على تكرار

- ‌(مسألة اختيار الإمام والغزالى رحمهما اللَّه أن الأمر بشئ معين

- ‌(مسألة: صيغة الأمر بعد الحظر للإباحة

- ‌(مسألة: إذا أمر بفعل مطلق فالمطلوب الفعل

- ‌(مباحث النهى)

- ‌(مسألة: النهى عن الشئ لعينه يدل على الفساد شرعًا

- ‌(مباحث العام والخاص)

- ‌(مسألة: العموم من عوارض الألفاظ

- ‌(مسألة: الجمع المنكر ليس بعام

- ‌(مسألة: المشترك يصح إطلاقه على معنييه مجازًا

- ‌(مسألة: خطابه لواحد لا يعم

- ‌(مسألة: جمع المذكر السالم

الفصل: ‌ ‌(مباحث الإجماع) قال: (الإجماع: العزم والاتفاق، وفى الاصطلاح: اتفاق المجتهدين من

(مباحث الإجماع)

قال: (الإجماع: العزم والاتفاق، وفى الاصطلاح: اتفاق المجتهدين من هذه الأمة فى عصر على أمر، ومن يرى انقراض العصر يزيد: إلى انقراض العصر، ومن يرى أن الإجماع لا ينعقد مع سبق خلاف مستقر من ميت أو حى جوز وقوعه يزيد: لم يسبقه خلاف مجتهد مستقر).

أقول: هذا ثالث الأدلة الشرعية وهو الإجماع، والإجماع لغة: يطلق لمعنيين: أحدهما: العزم {فَأَجْمِعوا أَمرَكُمْ} [يونس: 71]، أى اعزموا ومنه:"لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل".

وثانيهما: الاتفاق وحقيقة أجمع صار ذا جمع كألبن وأتمر.

وفى الاصطلاح: اتفاق خاص، وهو اتفاق المجتهدين من أمة محمد عليه الصلاة والسلام فى عصر على أمر مّا فلا يعتبر المقلد مخالفةً وموافقة، والمراد بقولنا: فى عصر: فى زمان ما قل أو كثر، وبقولنا: فى أمر ما: يتضاول الدينى والدنيوى ثم إنه قد اختلف فى أنه هل يشترط فى الإجياع وانعقاده حجة انقراض عصر المجمعين؟ فمن اشترط ذلك لا يكفى عنده الاتفاق فى عصر بل يجب استمراره ما بقى من المجمعين أحد فيزيد فى الحدّ: إلى انقراض العصر ليخرج اتفاقهم إذا رجع بعضهم فإنه ليس بالإجياع المقصود وهو ما يكون حجة شرعًا، وأيضًا فقد اختلف فى أنه هل يجوز حصول الإجماع بعد خلاف مستقر من حى أو ميت أم لا؟ فإن جاز فهل ينعقد أم لا؟ فمن قال لا يجوز أو يجوز وينعقد فلا يحتاج إلى إخراجه عن الحدّ ومن يرى أنه يجوز ولا ينعقد فلا بد أن يخرجه عن الحدّ بأن يزيد فيه: لم يسبقه خلاف مجتهد مستقر وسيتضح لك هذا زيادة وضوح عند وقوفك على هذه المسائل.

قوله: (ليس بالإجماع المقصود) يريد أن التعريف لما هو من الأدلة الشرعية وهو المعرف بالشرائط.

قوله: (فمن قال لا يجوز) يعنى أنه على الأول لا يدخل فى الجنس فلا يحتاج

ص: 312

إلى الأخرى، وعلى الثانى من أفراد الحدود فلا وجه لإخراجه، وأما من يرى أنه يتحقق مثل هذا الاتفاق ولا يكون إجماعًا وهو حجة شرعية فلا بد عنده من قيد يخرجه ومبنى هذا الكلام على أن الشروط المذكورة شروط لماهية الإجماع المتعارف كما فى شروط القياس فى المنطق.

المصنف: (اتفاق المجتهدين) أى جميعهم وقوله: على أمر أى أى أمر كان دينيًا كالصلاة والزكاة أو دنيويًا كترتيب الجيوش والحروب وأمور الرعية أو عقليًا لا تتوقف حجته عليه كحدوث العالم ووحدة الصانع أما ما تتوقف حجته عليه كثبوت البارى والنبوة فلا يحتج فيه بالإجماع وإلا لزم الدور.

المصنف: (ومن يرى انقراض العصر) قيل كلهم وقيل غالبهم.

الشارح: (هل يجوز الإجماع بعد خلاف مستقر) أى بأن طال الزمن ومضى زمن البحث عن المأخذ فإذا استقر فى المسالة قولان فلا يجوز لأصحاب القولين فيها الاتفاق على أحد القولين، لأن استقرار الخلاف بينهم يتضمن الاتفاق منهم على جواز الأخذ بكل من القولين باجتهاد أو تقليد وعليه الآمدى وقيل يجوز؛ لأن تضمن الاتفاق المذكور مشروط بعدم الاتفاق منهم على أحد القولين فإن وجد فلا اتفاق والخلاف مبنى على أنه لا يشترط انقراض العصر أما على اشتراط انقراض العصر فلا يأتى هذا الخلاف بل يجوز الإجماع بعد الخلاف المستقر قولًا واحدًا؛ لأنهم لما وقع منهم الاختلاف فى العصر الذى استقر فيه الخلاف لم يكن اختلافهم إجماعًا على تجويز الأخذ بكل من القولين لعدم انقراض العصر ولم يكن اتفاقهم بعد الاختلاف المستقر رفعًا للمجمع عليه، وأما الاتفاق من غيرهم بعد استقرار الخلاف فالأصح أنه ممتنع إن طال الزمان زائدًا على ما يستقر به الخلاف إذ لو انقدح وجه فى سقوطه لظهر للمختلفين بخلاف ما إذا قصر فقد لا يظهر لهم ويظهر لغيرهم، وقيل يجوز مطلقًا لجواز سقوط الخلاف لغير المختلفين دونهم وأما الاتفاق قبل استقرار الخلاف على أحد القولين فجائز سواء كان الاتفاق منهم أو ممن بعدهم لأنه يجوز أن يظهر مستند جلى يجمعون عليه وقد أجمعت الصحابة رضى اللَّه عنهم على دفنه فى بيت عائشة بعد اختلافهم الذى لم يستقر.

قوله: (على الأول) هو أنه لا يجوز الإجماع بعد استقرار الخلاف فلا يحتاج

ص: 313

إلى الإخراج لأن الممتنع لا يحترز عنه لعدم دخوله فى الجنس كما قال.

قوله: (وعلى الثانى) وهو أنه يجوز وينعقد.

قوله: (وهو حجة شرعية) أى مع كونه ليس إجماعًا هذا ويحتمل أن لفظ هو زائد والأصل: وحجة شرعية عطف على إجماعًا المنفى ويظهر أن الاحتمال الثانى هو المتعين.

ص: 314

قال: (قال الغزالى رحمه الله: اتقاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من الأمور الدينية ويرد عليه أنه لا يوجد ولا يطرد بتقدير عدم المجتهدين ولا ينعكس بتقدير اتفاقهم على عقلى أو عرفى).

أقول: حدّ الغزالى الإجماع بأنه اتفاق أمة محمد عليه الصلاة والسلام على أمر من الأمور الدينية وترد عليه إشكالات:

أحدها: أنه يوجب أن لا يوجد إجماع أصلًا وأنه باطل بالاتفاق بيانه أنه يشعر بالاتفاق من لدن بعثته إلى يوم القيامة وحينئذٍ لا يفيد.

ثانيها: أنه لو أريد به اتفاقهم فى عصر ما فلا يطرد بتقدير اتفاد الأمة مع عدم المجتهدين فيهم فإنه لا يكون إجماعًا مع صدق الحدّ عليه.

ثالثها: أنه لا ينعكس على تقدير أن يتفقوا على أمر عقلى أو عرفى لتقييد الأمر بالدينى وقد يدفع الأولان بالعناية باتفاق المجتهدين فى عصر ويسبق ذلك إلى فهم المتشرعة فى نحو: لا تجتمع أمتى على الضلالة مع ما فيه من المحافظة على لفظ الحديث، والأخير بأنه إن تعلق به عمل أو اعتقاد فهو أمر دينى وإلا فلا يتصور حجية.

قوله: (وحينئذ لا يفيد) فلا يكون الإجماع المقصود أعنى ما يتمسك به فى إثبات الأحكام الشرعية فصح أنه لا يوجد إجماع أصلًا واندفع الاعتراض بأنه ينبغى أن يقال بدل لا يوجد لم يوجد.

ص: 315

قال: (وخالف النظام وبعض الروافض فى ثبوته قالوا: انتشارهم يمنع نقل الحكم إليهم عادة وأجيب المنع لجدّهم وبحئهم، قالوا: إن كان عن قاطع فالعادة تحيل عدم نقله والظنى يمتنع الاتفاق فيه عادة لاختلاف القرائح وأجيب بالمنع فيهما فقد يستغنى عن نقل القاطع بحصول الإجماع وقد يكون الظنى جليًا).

أقول: يجب على القائل بحجية الإجماع النظر فى ثبوته وفى العلم به وفى نقله وفى حجيته.

المقام الأول: النظر فى ثبوته، وخالف فيه النظام وبعض الشيعة وزعموا أنه محال.

قالوا: أولًا: اتفاقهم فرع تساويهم فى نقل الحكم إليهم وانتشارهم فى الأقطار يمنع ناقل حكم إليهم وذلك مما تقضى به العادة.

الجواب: منع كون الانتشار يمنع ذلك مع جدهم فى الطلب وبحثهم عن الأدلة إنما يمتنع ذلك عادة فيمن قعد فى قعر بيته لا يبحث ولا يطلب.

قالوا: ثانيًا: الاتفاق إما عن قاطع أو عن ظنى، وكلاهما باطل، أما القاطع فلأن العادة تحيل عدم نقله، فلو كان لنقل فلما لم ينقل علم أنه لم يوجد، كيف ولو نقل لأغنى عن الإجماع، وأما الظنى فلأنه يمتنع الاتفاق فيه عادة لاختلاف القرائح وتباين الأنظار، وذلك كاتفاقهم على أكل الزبيب الأسود فى زمان واحد فإنه معلوم الانتفاء بالضرورة، وما ذلك إلا لاختلاف الدواعى.

الجواب: منع ما ذكر فى القاطع والظنى، أما القاطع فلأنه لا يجب نقله عادة إذ قد يستغنى عن نقله بحصول الإجماع الذى هو أقوى منه وارتفاع الخلاف المحوج إلى نكتل الأدلة، وأما الظنى فلأنه قد يكون جليًا، واختلاف القرائح والأنظار إنما يمنع الاتفاق فيما يدق ويخفى مسلكه.

قوله: (قالوا: انتشارهم وقالوا إن كان كلاهما) استدلال على عدم الثبوت، وقوله قالوا: يستحيل على امتناع العلم به وقوله: ولو سلم على امتناع نقله إلى المجتهد ليحتج به وليس إنكارًا بعد التسليم على ما توهم لأن المعنى لو سلم ثبوته عنهم وعلم نقله بإجماعهم فنقلهم إياه إلى المجتهد مستحيل فلفظ قالوا فى المواضع الثلاثة ليس على ما تقرر فى هذا الكتاب من أن تكون أدلة على مطلوب

ص: 316

واحد وكذا لفظ لو سلم ليس على قانون استدلالاته وبالجملة فضبط كلام المخالف على ما قرره الشارح المحقق هو أن يمتنع ثبوته ولو ثبت يمتنع العلم به ولو علم يمتنع نقله إلى المجتهد ولو نقل يمتنع الاحتجاج به والمراد الامتناع العادى على ما يشر به الاستدلالات وقد صرح به فى المتن والشرح لا فى الثبوت فإن ظاهر لفظ المتن أن المخالف ينكر ثبوته والشرح بأنه يدعى استحالته.

قوله: (الذى هو أقوى) يعنى يجوز أن يكون سند الإجماع قطعيًا لكن يكون الإجماع أقوى من حيث لا يحتمل النسخ وحينئذٍ يستغنى عنه بالإجماع دون العكس.

قوله: (وليس إنكارًا بعد التسليم) يعنى أن منع نقله ليس إنكارًا للنقل بعد تسليمه لأن الذى سلم هو مجرد نقله عنهم وعلم حصول الاتفاق والإجماع والذى أنكر هو نقله إلى المجتهد ليحتج به وقوله: وكذا لو سلم. . . إلخ؛ لأنه انتقال إلى رد دعوى أخرى.

ص: 317

قال: (قالوا: يستحيل ثبوته عنهم عادة لخفاء بعضهم أو انقطاعه أو أسره أو خموله أو كذبه أو رجوعه قبل قول الآخر، ولو سلم فنقله مستحيل عادة لأن الآحاد لا تفيد والتواتر بعيد، وأجيب عنهما بالوقوع فإنا قاطعون بتواتر النقل بتقديم النص القاطع على المظنون).

أقول: المقام الثانى: النظر فى ثبوته عنهم، وهو العلم باتفاقهم وقد زعم منكرو الإجماع أنه على تقدير ثبوته فى نفسه فثبوته عنهم محال.

قالوا فى بيانه: إن العادة قاضية بأنه لا يتفق أن يثبت عن كل واحد من علماء الشرق والغرب أنه حكم فى المسألة الفلانية بالحكم الفلانى، ومن أنصف من نفسه جزم بأنهم لا يعرفون بأعيانهم فضلًا عن تفاصيل أحكامهم، هذا مع جواز خفاء بعضهم عمدًا لئلا تلزمه الموافقة أو المخالفة أو انقطاعه لطول غيبته فلا يعلم لى خبر أو أسره فى مطمورة أو خموله فلا يعرف له أثر أو كذبه فى قوله، رأى فى هذه المسألة كذا، والعبرة بالرأى دون اللفظ، وإن صدق فيما قال لكنه لم يمكن السماع منهم فى آن واحد بل فى زمان متطاول فربما يتغير اجتهاد بعض فيرجع عن ذلك الرأى قبل قول الآخر به فلا يجتمعون على قول فى عصر.

المقام الثالث: النظر فى نقل الإجماع إلى من يحتج به، وقد زعم منكروه أنه مستحيل عادة لأن الآحاد لا تفيد إذ لا يجب العمل به فى الإجماع كما سيأتى فيتعين التواتر ولا يتصور إذ يجب فيه استواء الطرفين والواسطة ومن البعيد جدًا أن يشاهد أهل التواتر جميع المجتهدين شرقًا وغربًا، ويسمعوا منهم وينقلوا عنهم إلى أهل التواتر هكذا طبقة بعد طبقة إلى أن يتصل بنا الجواب عن شبهة المقامين واحد، وهو أنه تشكيك فى مصادمة الضرورة فإنه يعلم قطعًا من الصحابة والتابعين الإجماع على تقديم الدليل القاطع على المظنون وما ذلك إلا بثبوته عنهم، وبنقله إلينا فانتقض الدليلان.

قوله: (فإنه يعلم قطعًا من الصحابة) يعنى تواتر ذلك بحيث لا شبهة فيه.

ص: 318

قال: (وهو حجة عند الجميع ولا يعتدّ بالنظام وبعض الخوارج والشيعة، وقول أحمد رحمه الله: من ادعى الإجماع فهو كاذب استبعاد لوجوده الأدلة منها: أجمعوا على القطع بتخطئة المخالف، والعادة تحيل إجماع هذا العدد الكثير من العلماء المحققين على قطع فى شرعى من غير قاطع يوجب تقدير نص فيه وإجماع الفلاسفة وإجماع اليهود وإجماع النصارى غير وارد، لا يقال أثبتم الإجماع بالإجماع، إذ أثبتم الإجماع بنص يتوقف عليه لأن المثبت كونه حجة ثبوت نص عن وجود صورة منه بطريق عادى لا يتوقف وجودها ولا دلالتها على ثبوت كونه حجة فلا دور ومنها: أجمعوا على تقديمه على القاطع فدل على أنه قاطع وإلا تعارض الإجماعان لأن القاطع مقدم فإن قيل: يلزم أن يكون المحتج عليه عند التواتر التضمن لدليلين ذلك قلنا إن سلم فلا يضر).

أقول: المقام الرابع: النظر فى حجيته وأنه حجة عند جميع العلماء، فإن قيل: فقد خالف النظام والشيعة وبعض الخوارج، قلنا: لا عبرة بمخالفتهم لأنهم قليلون من أهل الأهواء والبدع قد نشئوا بعد الاتفاق، فإن قيل: فقد قال أحمد وهو من جملة الأئمة: من ادعى الإجماع فهو كاذب، قلنا: هو منه استبعاد لوجوده أو للاطلاع عليه ممن يزعمه دون أن يعلمه غيره لا إنكار لكونه حجة، والأدلة على حجيته كثيرة منها: أنهم أجمعوا على القطع بتخطئة المخالف للإجماع، فدل على أنه حجة فإن العادة تحكم بأن هذا العدد الكثير من العلماء المحققين لا يجمعون على القطع فى شرعى بمجرد تواطؤ أو ظن بل لا يكون قطعهم إلا عن قاطع فوجب الحكم بوجود نص قاطع بلغهم فى ذلك فيكون مقتضاه، وهو: خطأ المخالف له حقًا، وهو يقتضى حقية ما عليه الإجماع، وهو المطلوب، وأورد عليه نقضًا إجماع الفلاسفة على قدم العالم وإجماع اليهود على أنه لا نبى بعد موسى وإجماع النصارى على أن عيسى قد قتل، ووجه وروده ظاهر.

والجواب: أن إجماع الفلاسفة عن نظر عقلى وتعارض شبه واشتباه الصحيح والفاسد فيه كثير، وأما فى الشرعيات فالفرق بين القطعى والظنى بين لا يشتبه على أهل المعرفة والتمييز، وإجماع اليهود والنصارى عن الاتباع لآحاد الأوائل لعدم تحقيقهم، والعادة لا تحيله بخلاف ما ذكرنا، وبالجملة فإنما يرد نقضًا إذا وجد فيه ما ذكرنا من القيود، وانتفاؤه ظاهر، لا يقال على أصل الدليل إنكم إن قلتم:

ص: 319

أجمعوا على تخطئة المخالف فيكون حجة فقد أثبتم الإجماع بالإجماع، وإن قلتم: الإجماع دل على نص قاطع فى تخطئة المخالف فقد أثبتم الإجماع بنص يتوقف على الإجماع ولا يخفى ما فيه من المصادرة على المطلوب، لأنا نقول: المدعى كون الإجماع حجة والذى ثبت به ذلك هو وجود نص قاطع دل عليه وجود صورة من الإجماع يمتنع عادة وجودها بدون ذلك النص، سواء قلنا: الإجماع حجة أم لا، وثبوت هده الصورة من الإجماع ودلالتها العادية على وجود النص لا يتوقف على كون الإجماع حجة فما جعلنا وجوده دليلًا على حجية الإجماع لا يتوقف على حجيته لا وجوده ولا دلالته فاندفع الدور، ومنها أنهم أجمعوا على أنه يقدم على القاطع وأجمعوا على أن غير القاطع لا يقدم على القاطع بل القاطع هو المقدم على غيره، فلو كان غير قاطع لزم تعارض الإجماعين، وأنه محال عادة، فإن قيل على الدليلين مقتضاهما أن الإجماع حجة إذا بلغ المجمعون عدد التواتر فإن غيره لا يقطع بتخطئة مخالفه، ولا يقدم على القاطع إجماعًا فالجواب أن الدليل ناهض فى إجماع المسلمين من غير تقييد ولا اشتراط فإنهم خطئوا المخالف وقدموه على القاطع مطلقًا من غير تعرض لعدد التواتر وإن سلم فلا يضرنا إذ غرضنا حجية الإجماع فى الجملة وقد صح على أن أكثر ما يستدل به من الإجماع كإجماع الصحابة والتابعين كذلك ولأن حجية غيره ثبتت بالظواهر وثبتت حجية الظواهر بإجماع من هذا القبيل فيندفع الدور.

قوله: (وأورد عليه) أى على ما ذكرتم من القاعدة المبنى عليها استدلالكم ومن أن العادة حاكمة بأن مثل هذا الاتفاق لا يكون إلا عن قاطع أنها منقوضة بالاتفاقات المذكورة فإن كلًا منها قد اشتمل على جميع ما ذكرتم من القيود مع أن العادة لا تحكم باستناده إلى قاطع والجواب أنه لا يشتمل على القيود لانتفاء الشرعية فى الأول والتحقيق فى الأخيرين.

قوله: (فاندفع الدور) إشارة إلى أن بطلان المصادرة من جهة أنها دور لتوقف المدعى على الدليل المتوقف عليه، فإن قيل: لو صحت القاعدة المذكورة لكفت فى حجية كل إجماع من غير احتياج إلى توسط الإجماع على تخطئة المخالف ولاستلزمت وجود قاطع فى كل حكم وقع الإجماع عليه وفساده ظاهر قلنا: ليس

ص: 320

كل إجماع إجماعًا على القطع بالحكم لتحكم العادة بوجود قاطع كما فى الإجماع على القطع بتخطئة المخالف بل ربما يكون حكم كل من أهل الإجماع ظنيًا مستندًا إلى أمارة لكن يحصل لنا من اتفاق الكل القطع بالحكم فلهذا قال: قد أجمعوا على القطع بتخطئة المخالف ولم يقل على تخطئة المخالف.

قوله: (يقدم على القاطع) أى من الكتاب والسنة بناء على أنه يحتمل النسخ بخلاف الإجماع.

قوله: (وأنه محال عادة) إشارة إلى وجه بطلان تعارض الإجماعين هو أن العادة قاضية بامتناعه على ما صرح به فى المنتهى لا ما قيل: إن الأصل عدم تعارض الدليلين لاستلزامه ترك أحدهما أو أن تعارض إجماعين يستلزم خطا أحدهما وخطأ الإجماع محال وأن العادة قاضية بامتناع اتفاق العدد الجم الغفير على التناقض.

قوله: (فإن غيره) أى غير الإجماع الذى بلغ مجمعوه حدّ التواتر.

قوله: (على أن أكثر) يعنى أن غرضنا حجية الإجماع فى الجملة فتكفى صورة واحدة وقد ثبت فى أكثر الإجماعات فيكون المطلوب حاصلًا مع الزيادة فقوله: كذلك أى بلغ مجموعه عدد التواتر وقوله: ولأن حجية غيره عطف على قوله: إذ غرضنا يعنى تثبت حجية ما لم يبلغ مجموعه عدد التواتر بالظواهر من الكتاب والسنة على ما سيجئ، وحجية الظواهر بإجماع بلغ مجموعه عدد التواتر ولا يكون مصادرة وإثباتًا للشئ بما يتوقف على ثبوته لأن الإجماع المثبت غير الإجماع المثبت به نعم تكون حجية أحد قسمى الإجماع ظنية لا قعطعية.

المصنف: (ولا يعتد بالنظام) تقدم أنه يخالف فى ثبوت الإجماع ومقتضى ما ذكره هنا أنه يخالف فى كون الإجماع حجة لا فى ثبوته فى ذاته فلعله نقل عنه الأمران فأشار إلى ذلك المصنف.

المصنف: (أثبتم الإجماع بالإجماع إذ أثبتم الإجماع بنص. . . إلخ) الصورة الأولى توسيع فى دائرة الإشكال وإلا فصريح المصنف إنما هو الصورة الثانية.

المصنف: (وإجماع اليهود والنصارى عن الاتباع لآحاد الأوائل) أى فالعادة قاضية بوجود خطئهم أما اليهود فلأن بختنصر قد أفناهم حتى لم يبق منهم إلا نزر يسير لا يعتد بنقلهم ولا إجماعهم ودفنت التوراة بالقدس والموجود الآن من إملاء

ص: 321

العزير بعد انقضاء أمر الفتنة، وأما النصارى فلأنه وقع بينهم اختلاف كثير فى أمر الديانة بعد رفع سيدنا عيسى عليه السلام ولم يزل الاختلاف واقعًا بينهم حتى الآن وتفرق الإنجيل على أربع كلها متناقضة فى نصوصها قال العلامة ابن حزم الظاهرى الأندلسى: نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبى عليه الصلاة والسلام مع الاتصال مما اختص اللَّه به هذه الأمة دون سائر غيرها وأما مع الإرسال والإعضال فيوجد فى كثير من اليهود لكن لا يقربون فيه من موسى قربنا من محمد صلى الله عليه وسلم بل يقفون بحيث يكون بينهم وبينه أكثر من ثلاثين عصرًا، وإنما يبلغون إلى شمعون ونحوه وأما النصارى فليس عندهم من صفة هذا النقل إلا تحريم الطلاق وأما النقل بالطريقة المشتملة على كذاب أو مجهول العين فكثير فى نقل اليهود والنصارى وأما أقوال الصحابة والتابعين فلا يمكن اليهود والنصارى أن يبلغوا إلى صاحب نبى أو تابع.

ص: 322

قال: (استدل الشافعى رحمه الله: {. . . وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115]، وليس بقاطع لاحتمال متابعته أو مناصرته أو الاقتداء به، أو فى الإيمان فيصير دور لأن التمسك بالظاهر إنما يثبت بالإجماع بخلاف التمسك بمثله فى القياس).

أقول: استدل الشافعى رحمه الله على حجية الإجماع بقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، أوعد باتباع غير سبيل المؤمنين بضمه إلى مشاقة الرسول التى هى كفر فيحرم إذ لا يضم مباح إلى حرام فى الوعيد وإذا حرم اتباع غير سبيلهم فيجب اتباع سبيلهم، إذ لا مخرج عنهما والإجماع سبيلهم فيجب اتباعهم، وهو المطلوب، واعتراض عليه بوجوه كثيرة وانفصلوا عنها أصعبها ما نذكره وهو أن هذا ليس بقاطع لأن قوله:{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 113]، يحتمل وجوهًا من التخصيص لجواز أن يريد سبيلهم فى متابعة الرسول أو فى مناصرته أو فى الاقتداء به أو فيما به صاروا مؤمنين وهو الإيمان به، وإذا قام الاحتمال كان غايته الظهور والتمسك بالظاهر إنما يثبت بالإجماع، ولولاه لوجب العمل بالدلائل المانعة من اتباع الظن فيكون إثباتًا للإجماع بما لا تثبت حجيته إلا به فيصير دورًا، وإذا سلكنا فى الاعتراض هذا السبيل لا أنه إثبات لأصل كلى بدليل ظنى فلا يجوز لم يرد علينا القياس نقضًا للاحتجاج عليه بالظواهر إذ لا يلزم دور.

قوله: (استدل الشافعى رحمه الله التقرير الواضح أنه جمع بين مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين فى الوعيد فيحرم إذ لا يجمع بين الحرام والمباح فى الوعيد كالكفر وأكل الخبز مثلًا، والشارح جعل الضم إلى الكفر دليل على الإيعاد على اتباع غير سبيل المؤمنين لأن مجرد ترتب الوعيد على أمرين لا يقتضى الإيعاد على كل منهما كما إذا قيل: من ترك الإطعام والكسوة والإعتاق فى الكفارة فله نار جهنم وقال الآمدى: توعد على اتباع غير سبيل المؤمنين ولو لم يكن حرامًا لما توعد عليه ولما حسن الجمع بينه وبين الحرام فى التوعد وقد يتوهم من عبارته أن الإيعاد عليه وضمه إلى المشاقة فى الوعيد وجهان فى تحريمه وليس كذلك.

قوله: (إذ لا مخرج عنهما) إشارة إلى أن حرمة اتباع غير سبيلهم وإن كانت أعم

ص: 323

من وجوب اتباع سبيلهم بحسب المفهوم لكن لا مخرج بحسب الوجود من اتباع غير سبيلهم واتباع سبيلهم لأن ترك اتباع سبيلهم اتباع لسبيل غيرهم إذ معنى السبيل ههنا ما يختار الإنسان لنفسه من قول أو فعل.

قوله: (فيجب اتباعهم) أى اتباع المؤمنين الذين هم أهل الإجماع فإن هذا معنى اتباع سبيلهم الذى هو الإجماع.

قوله: (واعترض عليه بوجوه كثيرة) مثل أنا لا نسلم أن من للعموم ولو سلم فلا نسلم أن اتباع غير سبيل المؤمنين محظور مطلقًا بل بشرط الاقتران لمشاقة الرسول، ولو سلم فغير سبيل المؤمنين هو سبيل الكافرين وهو الكفر ولو سلم فالمؤمنون عام لكل مؤمن ولو خص فى كل عصر فهو عام فى العالم والجاهل ولو خص بأهل الحل والعقد فلفظ السبيل مفرد لا عموم له ولو سلم فيحتمل التخصيص بسبيلهم فى متابعة الرسول أو مناصرته أو الاقتداء به أو الإيمان به ولو سلم أنه أريد ما يعم اتفاقهم فى الأحكام الشرعية لكنه مشروط بسابقة تبين كل هدى إلى غير ذلك ووجه الانفصال عنها مذكور فى أحكام الآمدى إلا أن وجه الانفصال عن اعتراض تخصيص عموم السبيل وهو أنه تخصيص من غير دليل فلا يقبل لما كان ضعيفًا جعل المصنِّفُ الاعتراض قادحًا وبين ضعف الجواب بأنه مستلزم الدور لأن الدليل المعتدّ به فى جواز التمسك بالظواهر ووجوب العمل بمقتضياتها هو الإجماع لا غير لما سيجئ من القدح فى باقى الأدلة وهذا بخلاف التمسك بالظواهر فى حجية القياس فإنه لا يستلزم الدور لأن حجية الظواهر لا تثبت بالقياس بل بالإجماع نعم لو اعترض بأن حجية الإجماع أصل كلى فلا تثبت بالظواهر كان ورود النقض بالقياس ظاهرًا لأن حجيته أصل كلى وأما الاعتراض الثانى وهو منع حرمة اتباع غير سبيل المؤمنين مطلقًا بل بشرط المشاقة فقد جعله الشارح العلامة واردًا وبين ضعف أجوبة القوم عنه وتفاصيل ذلك فى شرحه.

قوله: (فى متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام أى مطاوعته، وترك مناقشته (أو مناصرته) أى معاونته فى النصر على الأعداء (أو الاقتداء به) أى التأسى به فى الأعمال.

المصنف: (إنما يثبت بالإجماع) رد بأنه يجوز أن يكون هناك نص قاطع دال على

ص: 324

كون الظاهر حجة أو أن العمل بالراجح واجب.

المصنف: (بخلاف التمسك بمثله فى القياس) كالتمسك بقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2].

قوله: (لأن مجرد ترتب الوعيد. . . إلخ) علة لجعل الشارح الضم إلى الكفر دليلًا على الوعيد وما قاله الشارح هو فى المآل راجع إلى التقرير الذى قاله غير أن التقرير أوضح.

قوله: (وقد يتوهم من عبارته. . . إلخ) إنما قال: يتوهم لاحتمال أن قوله: ولما حسن الجمع. . . إلخ. عطف علة على معلول.

قوله: (فالمؤمنون عام لكل مؤمن) أى فلا يكون الإجماع سبيلًا لأنه خاص بالمجتهدين فى عصر.

قوله: (فهو عام فى العالم والجاهل) يقال فيه ما قيل فى الذى قبله.

قوله: (فلفظ السبيل مفرد لا عموم له) أى فيحتمل غير الإجماع احتمالًا بدليًا.

قوله: (جعل المصنف الاعتراض قادحًا) أى الاعتراض باحتمال التخصيص.

قوله: (وبين ضعف الجواب) أى عن اعنراض احتمال التخصيص والجواب هو الإجماع على اعتبار الظاهر وقوله: بأنه أى الجواب مستلزم للدور هو ثبوت حجية الإجماع بالظاهر المتوقف على الإجماع.

قوله: (فوقع الإجماع على إباحته) أى فيكون متابعة الإجماع حينئذ موقعًا فى الضرر.

ص: 325

قال: (الغزالى رحمه الله بقوله لا تجتمع أمتى من وجهين: أحدهما: تواتر المعنى لكثرتها كشجاعة على، وجود حاتم، وهو حسن، الثانى: تلقى الأمة لها بالقبول، وذلك لا يخرجها عن الآحاد).

أقول: استدل الغزالى على حجية الإجماع بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تجتمع أمتى على الخطأ"، من وجهين:

أحدهما: تواتر المعنى وهو أنه جاء بروايات كثيرة نحو: "لا تجتمع أمتى على الضلالة"، "لا تزال طائفة من أمتى على الحق حتى تقوم الساعة حتى يجئ المسيح الدجال"، "يد اللَّه على الجماعة"، "من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية" إلى غير ذلك، والآحاد وإن لم تتواتر فقد تواتر القدر المشترك وحصل العلم به، كما فى شجاعة على، وجود حاتم، واستحسنه المصنِّفُ.

ثانيهما: تلقى الأمة لها بالقبول، فلولا أنها صحيحة قطعًا لقضت العادة بامتناع الاتفاق على قبولها وبامتناع تقديمه بها على القاطع، وهذا لم يستحسنه لأن قبول الأمة لها لا يخرجها عن الآحاد، فلا يصح إسناد الإجماع إليها ولعل تقديم الإجماع على القاطع بغيرها لا بها.

قوله: (فلا يصح إسناد الإجماع إليها) لأنها وإن كثرت وقبلت لم تكن إلا ظنية فلا تصلح أصلًا ومبنى للقطعى إذ المبتنى على الشئ أو المستند إليه لا يكون أعلى حالًا منه فإن قيل هى تفيد ظن حجية الإجماع فيجب العمل به لأن دفع الضرر المظنون واجب قلنا: مبنى على قاعدة الحسن العقلى ولو سلم ربما يكون إيقاعًا فى الضرر لا دفعًا كما إذا دل ظنى على وجوب شئ أو حرمته فوقع إجماع على إباحته على أنه لو صح لكفى خبر واحد من غير كثرة أو تلق بالقبول.

الشارح: (لا يخرجها عن الآحاد) قال ابن السبكى فى شرحه على هذا الكتاب: ولقائل أن يقول تلقى الأمة بالقبول وإن لم يخرجه عن الآحاد فلا يلزم أن يكون مظنونًا لأن خبر الواحد قد تقترن به قرينة تصيره مقطوعًا، وجاز أن تكون القرينة هى تلقيهم له بالقبول فيستدل به على الإجماع ولم يدع الغزالى غير هذا فتأمل.

ص: 326

قال: (واستدل إجماعهم يدل على قاطع فى الحكم لأن العادة امتناع اجتماع مثلهم على مظنون، وأجيب بمنعه فى الجلى وأخبار الآحاد بعد العلم بوجوب العمل بالظاهر).

أقول: استدل إمام الحرمين على حجيته بأن الإجماع يدل على وجود دليل قاطع فى الحكم المجمع عليه لأن العادة تقضى بامتناع اجتماع مثلهم على مظنون فيكون الحكم حقًا وهو المطلوب.

والجواب: لا نسلم قضاء العادة بذلك، وإنما يمتنع اتفاقهم على مظنون إذا دق فيه النظر، وأما فى القياس الجلى وأخبار الآحاد بعد العلم بوجوب العمل بالظواهر فلا.

قوله: (بعد العلم بوجوب العمل) إنما قَيَّد بذلك لأنه لو لم يعلم ذلك لامتنع الاتفاق على مقتضى الظواهر عادة سواء علم جواز العمل أو لم يعلم والمراد بالقياس الجلى ما قطع فيه بنفى الفارق.

الشارح: (وأما فى القياس الجلى وأخبار الاحاد بعد العلم. . . إلخ) أى فلا مانع من أن يكون الإجماع بناء على ذلك فلا يلزم أن يكون دليل الحكم مقطوعًا به ولقائل أن يقول: علمهم بوجوب العمل إن كان مستنده الإجماع ففاسد للزوم الدور وإن كان غيره صح أن يقال فى استدلال الشافعى: إن العمل بالظاهر فيه ليس بالإجماع حتى يلزم الدور فلم يصح اعتراض المصنف عليه.

ص: 327

قال: (المخالف تبيانًا لكل شئ فردوه ونحوه وغايته الظهور وبحديث معاذ حيث لم يذكره رضى اللَّه عنه وأجيب بأنه لم يكن حينئذٍ حجة).

أقول: المخالفون احتجوا بوجهين:

قالوا: أولًا: قال اللَّه تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، فلا مرجع فى تبيان الأحكام إلا إليه، والإجماع غيره، وقال أيضًا:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، فلا مرجع غير الكتاب والسنة ويمكن منع ظهوره فيما أراد بأن الأول لا ينافى كون غيره أيضًا تبيانًا ولا كون الكتاب تبيانًا لبعض الأشياء بواسطة الإجماع، والثانى: بأنه يختص بما فيه النزاع والمجمع عليه ليس كذلك، أو يختص بالصحابة وإن سلم فغايته الظهور ولا يقاوم القاطع، قوله: ونحوه إشارة إلى قول: {وَلَا تَأْكُلُوا} [الأنعام: 121]، {وَأَنْ تَقُولُوا} [الأعراف: 33]، {لَا تَقْتُلُوا} [الإسراء: 33]، مما ورد نهيًا عامًا للأمة، عن خطأ ما ولولا جوازه منهم لما أفاده.

والجواب: بعد كونه منعًا لكل واحد لا للكل وعدم استلزام النهى الجواز أنه ظاهر كما مر.

قالوا: ثانيًا: يدل عليه حديث معاذ، وهو أنه أهمل الإجماع عند ذكر الأدلة إذ سأله النبى عليه الصلاة والسلام عنها وأقره النبى صلى الله عليه وسلم، فدل على أنه ليس بدليل.

الجواب: أنه إنما لم يذكره لأنه حينئذٍ لم يكن حجة لعدم تقرر المأخذ من الكتاب والسنة بعد ولا يلزم أن لا يكون حجة بعد الرسول وتقرر المأخذ.

قوله: (الأول لا ينافى كون غيره أيضًا تبيانًا) اعترض بأن تبيان المبين محال.

قوله: (ونحوه) ذهب كثير من الشارحين إلى أنه إشارة إلى مثل قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، إلا أنه لما أورد الآمدى من أدلة نفى الإجماع النواهى العامة للأمة مثل قوله تعالى:{لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29]، وقوله:{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، وقوله:{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء: 33]، جعل العلامة قوله: ونحوه إشارة إلى هذا النوع من الاستدلال ووافقه المحقق والجواب من وجوه:

أحدها: أنه مع لكل أحد لا للكل فلا يستلزم إلا جواز الخطأ على كل أحد

ص: 328

دون الجميع.

وثانيها: أن النهى عن الشئ لا يستلزم جواز صدوره عن المكلف لجواز أن يمتنع لغيره فيكفى فى النواهى العامة إمكان خطأ الأمة بالذات وإن امتنع لغيره بالأدلة.

وثالثها: أنه ظاهر فلا يفيد القطع.

الشارح: (بواسطة الإجماع) أى الذى دل على الأخذ به الكتاب.

الشارح: (لعدم تقرر المأخذ من الكتاب والسنة بعد) أى الآن أى حين ذاك.

قوله: (جواز صدوره عن الكلف) يعنى الجواز الوقوعى لا مجرد الإمكان.

قوله: (أنه ظاهر فلا يفيد القطع) الأولى فلا يقاوم القاطع.

ص: 329

قال: (مسألة: وفاق من سيوجد لا يعتبر اتفاقًا والمختار أن المقلد كذلك وميل القاضى إلى اعتباره وقيل يعتبر الأصولى وقيل الفروعى. لنا لو اعتبر لم يتصور وأيضًا المخالفة عليه حرام فغايته مجتهد خالف وعلم عصيانه).

أقول: القائلون بالإجماع أجمعوا على أن لا عبرة بالخارج عن ملة الإِسلام ولا بوفاق من سيوجد من الأمة وإلا لم يعلم إجماع قط والأدلة المتقدمة السمعية والعقلية تدل على ذلك وأما المقلد فالأكثر على أنه لا يعتبر وإن حصل طرفًا صالحًا من العلوم التى لها مدخل فى الاجتهاد وميل القاضى إلى اعتباره وقيل يعتبر الأصولى دون الفروعى وقيل يعتبر الفروعى دون الأصولى لنا لو اعتبر وفاقهم لم يتصور إجماع إذ العادة تمنع وافقهم ولنا أيضًا أنه عند اتفاق المجتهدين يحرم على المقلد المخالفة قولًا وفعلًا قطعًا فغايته أنه مجتهد خالف وعلم عصيانه بالمخالفة ولا يعتد بمخالفة ذلك المجتهد حينئذٍ قطعًا مع اجتهاده وإمكان صحة نظره فهذا مع الجزم بقصوره وعدم العبرة بقوله أجدر.

قوله: (على ذلك) أى على أن إجماعًا وهو ظاهر أو على أنه لا عبرة بالخارج عن الملة وبمن سيوجد من الأمة لأن الاتفاق على القطع بتخطئة المخالف وعلى تقديمه على القاطع إنما هو فى إجماع مجتهدى الأمة من عصر وكذا وجوب اتباع سبيل المؤمنين لا يتصور فى جميع المؤمنين إلى يوم القيامة، إذ لا تكليف حينئذٍ ولا اتباع والذى تواتر معنى هو سلب الخطأ عن جمع من الأمة لا جميعهم إلى يوم القيامة.

قوله: (وميل القاضى إلى اعتباره) أى اعتبار المقلد عاميًا كان أو أصوليًا أو فروعيًا ولم يتعرض الشارح لهذا المذهب لبعد اعتبار العامى وأشار إلى أن المقلد المختلف فى اعتباره هو الذى حصل طرفًا من العلوم التى لها مدخل فى الاجتهاد وهو لا محالة يكون أصوليًا أو فروعيًا فينبغى أن يكون ميل القاضى إلى اعتبار الأصولى والفروعى جميعًا.

قوله: (تمنع وفاقهم) أى وفاق المقلدين عامة وكذا وفاق الأصوليين أو الفروعيين خاصة لكثرتهم وانتشارهم بخلاف المجتهدين فإن العادة لا تمنع وفاقهم، وإن كانت كثرتهم أيضًا مما ليس له حدّ معلوم.

ص: 330

قوله: (فغايته أنه مجتهد) خالف جمهور الشارحين على أن المراد مجتهد نشأ بعد تحقق الإجماع فخالف وعلم عصيانه لأن مخالفته الإجماع حرام فكأنه لا عبرة به فكذا بالمقلد الذى كان مع أهل الإجماع وخالفهم فإنه يعصى اتفاقًا وهذا إنما يتم عند من لا يشترط انقراض العصر وإلا فلا عصيان ولا يخفى أنه لا مدخل له على هذا التقرير لذكر العلم لأن عدم الاعتبار بذلك المجتهد ليس من جهة عصيانه بل من جهة انعقاد الإجماع وتمامه حين لم يكن هو مجتهدًا وأيضًا ذكر الغاية مشعر بأن هذا المجتهد يكون مع أهل الإجماع كالمقلد وإلى هذا يميل كلام الشارح، لكن يشكل بأنه كيف ينعقد الإجماع بدونه حتى يعصى بالمخالفة اللهم إلا أن يكون إجماعهم عن قاطع فهو يعصى لمخالفة ذلك بالقاطع لا للإجماع ثم مبنى الكلام على أن المقلد المخالف يعصى اتفاقًا وهو مشكل عند من يشترط فى حجية الإجماع موافقته وعلى أنه لا عبرة بالمجتهد الفاسق وسيجئ.

قوله: (أى على أن إجماعًا) هكذا فى النسخ وهو تحريف وأصله أى على أن هناك إجماعًا أى على وجود الإجماع.

قوله: (والذى تواتر معنى. . . إلخ) إشارة إلى دليل الغزالى.

قوله: (عند من لا يشترط انقراض العصر) أى حتى بتحقق الإجماع قبل هذا المجتهد ويعصى بالمخالفة.

قوله: (لذكر العلم) أى العلم بالعصيان.

قوله: (ذكر الغاية) أى بقوله فغايته مجتهد خالف، وقوله يشعر بأن هذا المجتهد يكون مع أهل الإجماع كالمقلد أى فيكون اجتهاده حين إجماعهم لا بعده.

قوله: (لا للإجماع) أى لا لمخالفة الإجماع والإجماع منعقد بدونه حيث كان عن قاطع.

قوله: (وعلى أنه لا عبرة بالمجتهد الفاسق) أى لمخالفته القاطع أما على اعتباره فلا ينعقد الإجماع بدونه فلا يقال فى المقلد غايته مجتهد خالف وعلم عصيانه.

ص: 331

قال: (مسألة: المبتدع بما يتضمن كفرًا كالكافر عند المكفر وإلا فكغيره وبغيره، ثالثها يعتبر فى حق نفسه فقط لنا أن الأدلة لا تنتهض دونه، قالوا فاسق فيرد قوله كالكافر والصبى وأجيب بأن الكافر ليس من الأمة والصبى لقصوره، ولو سلم فيقبل فى نفسه).

أقول: المجتهد المبتدع إن كانت بدعته تتضمن كفرًا كالمجسمة فإن قلنا بالتكفير فهو كالكافر فلا تعتبر موافقته ولا مخالفته وإن لم نقل بتكفيره فهو كغيره من أصحاب البدع الظاهرة ثم غيره كمن فسق فسقًا فاحشًا وأصر كالخوارج اجتاحوا الأنفس وأحرقوا الديار وسبوا الذرارى واستباحوا الفروج والأموال هل يعتبر؟ فيه ثلاثة مذاهب: أحدها: يعتبر مطلقًا، ثانيها: لا يعتبر مطلقًا، ثالثها: يعتبر فى حق نفسه لا فى حق غيره فلا يكون الاتفاق مع مخالفته حجة عليه ويكون حجة على من سواه. لنا الأدلة المذكورة لا تنتهض دونه إذ ليس من سواه كل الأمة والدليل إنما دل فيه وكل حكم شرعى لا دليل عليه وجب نفيه قالوا: فاسق فلا يعتبر قوله كالكافر والصبي بجامع عدم العدالة.

الجواب: منع علية الوصف للحكم بل إنما لم يعتبر الكافر لأنه ليس من الأمة، والصبى لقصوره عن النظر والاجتهاد، سلمنا ذلك لكن فسقه لا يمنع قبول قوله فى حقه كإقرار الفاسق والكافر كما هو الذهب الثالث، وقد يقال قوله هذا لو قيل كان له لا عليه.

قوله: (واستباحوا الفروج والأموال) أى تصرفوا فيها تصرف المبيحين وإلا فاستباحة الحرام القطعى كفر محض.

قوله: (وقد يقال) اعتراض على هذا الجواب وظاهره كلام على السند فتوجيهه أنه لا عبرة لكلام الفاسق فيما له وفاق كالكافر وهذا له ووجه كونه له لا عليه أنه يحصل له بهذا شرف الاعتداد به والاعتبار لمقالته وإلا فبالنظر إلى الحكم قد يكون عليه كما إذا أجمعوا على إباحة شئ فخالفهم إلى وجوبه أو حرمته.

المصنف: (قالوا فاسق فيرد قوله. . . إلخ) أى أن المبتدع فاسق والفسق مانع كالكفر والصبا، وقوله: فيقبل على نفسه أى كما يقبل إقرار الفاسق وهذا هو

ص: 332

المذهب الثالث، وفى الفاسق مذاهب: أحدها عدم اعتباره مطلقًا وعليه الجمهور، ثانيها: اعتباره مطلقًا وهو رأي الشيخ أبى إسحاق الشيرازى، ثالثها: يعتبر فى حق نفسه دون غيره وهو رأي إمام الحرمين، رابعها: يسأل عن مأخذه لجواز أن يحمله فسقه على الفتيا من غير دليل فإن ذكر ما يجوز أن يكون محتملًا اعتبر، وإلا فلا وهو رأى ابن السمعانى. اهـ من شرح ابن السبكى.

قوله: (كلام على السند) هو قوله: كإقرار الفاسق.

قوله: (لا يسلمون الإجماع على القطع بتخطئة المخالف) أى يمنعونه فى كل إجماع بل الذى يقطع بتخطئة مخالفه إنما هو إجماع الصحابة.

ص: 333